آثار الإباحة التكليفية
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ويترتّب على
إباحة عمل تكليفاً آثار عديدة:
حيث لا يكون المكلّف آثماً إذا صدر منه فعل مباح ولا مستحقاً للوم أو
العقوبة عليه، سواء في ذلك حكم الشارع بالإباحة على فعل بعنوانه، أو طروّ عنوان من العناوين المبيحة والمعذّرة.قال
العلّامة الحلّي : «لا إثم على قاتلي
أهل البغي إذا لم يندفعوا إلّا به ولا
ضمان مال ولا كفّارة؛ لأنّه امتثل
الأمر بقتل مباح الدم؛ لقوله تعالى: «فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي»».
وقال
المحقق الأردبيلي : «إنّ الشيء المباح لا قبح فيه فيبعد منعه وقدحه في
العدالة ».
وهذا الأثر كما يترتّب على
الإباحة التكليفية الواقعية كذلك يترتّب على ثبوت الإباحة الظاهرية أيضاً، بل يكفي في ترتّب هذا
الأثر ثبوت الإباحة العقليّة ولو لم يكن خطاب أو موقف شرعي بالاباحة أو المعذورية، كما في موارد
البراءة العقليّة أو العلم بالترخيص مع كونه واقعاً محرماً شرعاً.
وهذا الأثر إنّما يترتّب في موارد الإباحة الواقعية بالمعنى الأعم، أي سواء كان من جهة حكم الشارع بالاباحة واقعاً أو من جهة
ارتفاع خطاب الحرمة الواقعية؛ لطروّ عنوان موجب له
كالاضطرار أو
الاكراه أو
الاشتغال بالأهم والمساوي أو ارتفاع بعض شرائط التكليف.ولا يترتّب هذا الأثر على موارد العذر العقلي، بل والعذر الشرعي المستوجب لخطاب بالاباحة ظاهري كموارد الجهل المجعول فيها الإباحة الظاهرية؛ إذ المعذورية العقليّة لا تنافي ثبوت خطاب الحرمة واقعاً، كما انّ الجعل الظاهري يجتمع مع الحرمة الواقعية ولا ينافيها، على ما حقق في محلّه من
علم الأصول .
ويترتّب على ارتفاع الحرمة الواقعية
إجزاء العمل المأتي به إذا كان المانع عن صحته تعلق خطاب الحرمة به، كما في العبادات حيث تكون حرمتها مانعة عن صحتها، فإذا ارتفعت الحرمة واقعاً صحت كالاضطرار إلى الصلاة في المغصوب، بخلاف الصلاة فيه جهلًا؛ فانّه ذهب جملة من المحققين إلى
بطلان الصلاة ولزوم
الإعادة والقضاء في مورد الجهل بالغصبية، وفي قباله قول مشهور بالصحة. يراجع تفصيل ذلك في (صلاة).
فانها أيضاً ترتفع بارتفاع الحرمة إذا كانت مترتّبة على
ارتكاب الحرام، كما انّها إذا كانت مترتّبة على عنوان الاثم ارتفعت بالاباحة الظاهرية والعقليّة أيضاً، كما في كفّارة
الإفطار في شهر رمضان المترتب على العلم بوجوب
الصوم وتنجّزه على المكلّف.وأمّا إذا كانت مترتّبة على عنوان ينطبق على الفعل المباح أو المعذور فيه كما في كفارة القتل خطأً ترتّبت لا محالة.وقد يعدّ منه كفّارة حلق الرأس ولبس المخيط وغيرهما للمحرم المضطر أو
الجاهل أو
الناسي بأن يكون ارتكاب الفعل حال
الإحرام - ولو مع وجود الترخيص الشرعي فيه- موجباً لها.
ولا يرتفع بمجرّد الإباحة التكليفية الضمان
والدية ونحو ذلك من الآثار والتبعات الوضعية، إلّا إذا دلّ عليه دليل خاص في مورد العذر أو الإباحة التكليفية؛ لأنّ ضمان الأموال أو النفوس ليس أثراً مشروطاً بحرمة التصرف تكليفاً، بل بكونه غير مستحق للتصرف ومحترماً لصاحبه، فلا يجوز هدره عليه.فأدلّة الإباحة الثانوية أو الأولية الواقعية أو الظاهرية لا تستلزم إلّا رفع الحرمة التكليفية، لا
احترام مال الغير أو نفسه، فلو أكل مال الغير جهلًا أو اضطراراً كان ضامناً لقيمته.
قال
السيد الحكيم : «ومجرد الإباحة الشرعية لا تقتضي نفي الضمان، لعدم التنافي بينهما، بل الإباحة المالكية لو قيل بها في المقام لا تنافيه، وإنّما المنافي له الإباحة شرعية أو مالكية بقصد المجّانية».
وقال
السيد الإمام الخميني : وأمّا الإباحة الشرعية الثابتة
بالاجماع فلا تلازم عدم الضمان. والمتيقن منه ثبوت الإباحة لا سلب الضمان، نظير إباحة أكل مال الغير لدى الضرورة، فإنّ مجرّدها لا يوجب نفي ضمان
الإتلاف ولا ضمان اليد... فمقتضى ضمان اليد ضمانهما (المتعاملين) بالمثل أو القيمة».
نعم، قد يوجب ثبوت الإباحة لفعل ارتفاع سبب الضمان لما يخسره الغير بذلك، كما إذا أحدث في الطريق ما أباحه اللَّه له وكان من حقّه، فانّه إذا أوجب تلف مال الغير فلا يكون ضامناً؛ لأنّه لا يوجب
انتساب التلف إليه بل إلى المباشر.وإن شئت قلت: إنّه لا يوجب أن يصدق قاعدة «السبب أقوى من المباشر» ليكون ضامناً.قال
الشيخ المفيد : «فإن أحدث فيه (الطريق) ما أباحه اللَّه تعالى إيّاه وجعله وغيره من الناس فيه سواء فلا ضمان عليه».
وفي
اللمعة وغيرها نحو ذلك.
وقال
فخر المحققين : «وإذا كان السبب مباحاً تعمّده للمكلّف بأصل الشرع لا يتعقّب الضمان».
وكذلك إذا دلَّ دليل على إباحة الأكل أو التصرّف بمقدار محدود من مال الغير؛ فانّه يكون ظاهراً عرفاً في الإباحة الوضعية بمعنى ارتفاع الضمان أيضاً، من قبيل ما ابيح للمارّة من ثمار الأشجار على الطريق أو ما ابيح من الأكل من بيوت بعض الأقارب وغيره ممّا حلّ التصرّف فيه بإباحة شرعية؛ فإنّ ظاهرها جواز الأكل مطلقاً المساوق مع نفي الضمان أيضاً، بل وكذا ما يُبيحه ولي المسلمين فيما للمسلمين فيه حق، ولذا صرّح
المحقق النجفي في نصب الميازيب على الطرق بعدم الضمان، قال: «ولا ريب في أنّ الأوّل ( عدم الضمان) أشبه باصول المذهب وقواعده التي منها أصل البراءة بعد
الإذن شرعاً في النصب، فهو كمن بنى في دار الغير بإذنه ثمّ ترتب عليه ضرر؛ إذ قد عرفت مكرّراً أنّ الإذن الشرعية أقوى من الإذن المالكية بالنسبة إلى ذلك، وليس ذا من الإباحة الشرعية الصرفة، بل هو ذلك مع الإذن من
الولي العام فيما للمسلمين فيه حق».
ومثل ذلك ما يبيحه المالك غير مضمون ولا بعوض، فإنّ الضرر الحاصل بسبب
الانتفاع أو التصرف الحاصل بإذنه غير مضمون قطعاً؛ لأنّ ظاهر الاذن في الأكل أو التصرّف المتلف أو
إطلاق الاذن انتفاء الضمان في هذه الموارد.ولذا أفتى الفقهاء بعدم ضمان الضرر الحاصل بسبب إباحة المالك لشخص التصرف في ماله كما في
العارية وتقديم الطعام للضيف للأكل ومناولة متاعه للغير ليلقيه في البحر لمصلحة.
وكذلك لا تقتضي الإباحة التكليفية في باب المعاملات صحتها، فلو اضطرّ إلى المعاملة الربوية أو اكره عليها أو جهل بها لم يحكم بصحتها؛ لأنّ الحرمة التكليفية للربا وإن ارتفعت واقعاً أو ظاهراً في حقه، إلّا أنّ بطلانه وعدم مشروعيته لا ترتفع بذلك؛ إذ ليس بطلان المعاملات غير المشروعة من جهة حرمتها التكليفية، كما هو واضح.نعم، لو فرض أنّ بطلان معاملة كانت من جهة الحرمة التكليفية لها فسوف تكون صحيحة إذا فرض ارتفاع خطاب الحرمة لسبب مبيح، ولكن
الأمر ليس كذلك، لما حقق في محلّه من أنّ الحرمة في المعاملات لا تقتضي فسادها. وتفصيل ذلك في مصطلح (فساد).
وكذلك الحال في صحة العبادات والأوامر، فإنّ إباحة ترك جزء أو شرط منها لعذر لا يوجب صحة المأتي به وإجزائه ما لم يقم عليه دليل، كما إذا اضطرّ أو اكره على ترك السورة في
الصلاة أو الافطار قبل المغرب، فانّه لا يوجب سقوط
الإعادة أو
القضاء إذا تمكّن منه.وما ورد في كثير من العبادات من صحة العمل الناقص وإجزائه مع العذر إنّما هو من باب ورود أدلّة خاصة في تلك الموارد، وليس من باب
استفادة ذلك من نفس طروّ العذر الموجب لإباحة ترك جزء الواجب أو شرطه. بل لو لا
الدليل الخاص كان مقتضى القاعدة الحكم بسقوط الأمر بالمركب بتعذّر جزئه أو شرطه.وقد بحث الفقهاء هذه المسألة في الأصول مفصّلًا تحت عنوان
الإجزاء ، فليطلب في مصطلح (إجزاء).
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۱۲۹-۱۳۳.