الآنية المغصوبة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ومن المسائل التي يبحث عنها في أحكام الأواني من حيث الحالات الطارئة عليها، هي
حكم التطهّر بالآنية
المغصوبة.
لا إشكال ولا
خلاف في عدم جواز
التصرف في الآنية المغصوبة إلّا برضا صاحبها، كما هو الحال في كل مال مغصوب؛ لتسالم
المسلمين على
حرمة الغصب ودلالة
الأدلّة العقلية والنقلية على حرمة مال المسلم وعدم جواز التصرّف فيه إلّا بطيب نفسه.
ولا فرق في الحرمة بين أنحاء التصرّف سواء كان
بالأكل والشرب في الاناء المغصوب أو التطهّر منه أو غير ذلك، وتفصيل ذلك موكول إلى بحث «
غصب».
ولكن وقع البحث عند فقهائنا في حكم
التطهّر(
الوضوء والغسل) بالآنية المغصوبة.
من الواضح أنّه يحرم
تكليفاً التطهّر من الآنية المغصوبة، وإنّما البحث في حكمها وضعاً من ناحية
الصحة والبطلان فيما لو عصى وتطهّر بطهور
مباح موضوع فيها.
وللفقهاء في ذلك عدّة أقوال:
الصحّة وهو المشهور، وخالف ذلك بعض المتأخرين بين قائل بالبطلان مطلقاً أو على تفصيل.
وقد نقلنا كلمات الفقهاء عند البحث عن التطهّر من آنية الذهب والفضّة؛ فإنّ كثيراً منهم عطف الآنية المغصوبة عليها، فراجع.
ومبنى هذا القول رغم التسالم الفقهي على حرمة
التصرف في المغصوب وعدم اجتماع
العبادة( ومنها الطهارات الثلاث ) مع النهي والحرمة، هو دعوى عدم اتّحاد فعل الطهور مع الفعل المحرّم، وهو التصرف في
مال الغير؛ فإنّ ما يكون تصرّفاً في المقام إنّما هو أخذ
الآنية أو تفريغ الماء منها أو قلبها وتقليبها ونحو ذلك.
وأمّا فعل الوضوء بعد أخذ الماء منها بالاغتراف ونحوه فهو تصرّف في الماء لا في الاناء وإن صدق استعمال الاناء في
الوضوء.
وبهذا يمكن أن يفرّق بين استعمال الآنية المغصوبة في الوضوء واستعمال
آنية الذهب والفضة فيه حيث يمكن دعوى
النهي في الثاني متعلّقاً بالوضوء فيها أيضاً.
قال
المحقق النجفي في
جواهر الكلام: «ولعلّه من هنا يمكن الفرق بين الاناء المغصوب وبين ما نحن فيه ( الوضوء من آنية الذهب والفضّة ) - وإن ساوى بينهما في
الفساد العلّامتان المذكوران ( بحر العلوم وكاشف الغطاء )، كما أنّ غيرهما ساوى بينهما في عدمه - فيحكم بصحة الوضوء منه ( من المغصوب ) دونه؛ لعدم
النهي في شيء من الأدلّة عن استعماله في الوضوء أو
الانتفاع به فيه أو عن الوضوء فيه ليتمّ ذلك فيه، بل ليس إلّا حرمة التصرّف في مال الغير المعلومة
عقلًاونقلًا، وليس من التصرّف في
الاناء مثلًا غسل الوجه بالماء المملوك المنتزع من الاناء المغصوب قطعاً وإن صدق استعمال الاناء في الوضوء، لكن ذلك لا يقتضي فساداً بدون نهي عنه، فهو حينئذٍ
كسقف البيت وسور الدار المغصوبين إلّا أنّ
الاحتياط لا ينبغي
تركه».
واختاره جماعة منهم صاحب
العروة الوثقى.
قال في أحكام الأواني: «وكذا لا يجوز استعمال
الظروف المغصوبة مطلقاً، والوضوء والغسل منها مع
العلم باطل مع الانحصار بل مطلقاً. نعم، لو صبّ الماء منها في ظرف مباح فتوضّأ أو اغتسل صحّ وإن كان
عاصياً من جهة تصرّفه في المغصوب».
وقال في شرائط الوضوء: «الرابع: أن يكون الماء وظرفه ومكان الوضوء ومصبّ مائه مباحاً، فلا يصح لو كان واحد منها غصباً من غير فرق بين صورة الانحصار وعدمه؛ إذ مع فرض عدم الانحصار وإن لم يكن مأموراً
بالتيمم إلّا أنّ وضوءه
حرام من جهة كونه تصرّفاً أو مستلزماً للتصرّف في مال الغير، فيكون باطلًا. نعم لو صبّ الماء المباح من الظرف الغصبي في الظرف المباح ثمّ توضأ لا مانع منه وإن كان تصرّفه السابق على
الوضوء حراماً. ولا فرق في هذه الصورة ( صورة
التفريغ ) بين صورة الانحصار وعدمه؛ إذ مع الانحصار وإن كان قبل التفريغ في الظرف المباح مأموراً بالتيمم إلّا انّه بعد هذا يصير واجداً
للماء في الظرف المباح. وقد لا يكون التفريغ أيضاً حراماً كما لو كان الماء
مملوكاً له وكان إبقاؤه في ظرف الغير تصرّفاً فيه، فيجب تفريغه حينئذٍ، فيكون من الأوّل مأموراً بالوضوء ولو مع الانحصار».
ومبنى قول صاحب العروة ما أشار إليه من أنّ الفعل المستلزم للمحرّم يكون محرّماً أيضاً، فلا يمكن أن يشمله الأمر، وحيث إنّ الوضوء و
الغسل عبادة لا بدّ فيها من أمر، فيبطلان لا محالة.
واختاره أكثر المعلّقين على العروة، حيث فصّلوا بين صورة الانحصار وعدمه فحكموا بالبطلان في الأوّل وبالصحة في الثاني، وبعضهم حكم بالصحة في كلتا الصورتين واستثنى صورة
الارتماس والغمس في الماء.
قال السيد
الشهيد الصدر: «إذا كان المتوضّئ يغترف من هذا الاناء ( المغصوب ) ويتوضّأ به صح الوضوء وأثم المتوضئ، وأمّا إذا غمس وجهه في الاناء بقصد الوضوء ورأى العرف أنّ هذا
الغمس بالذات هو تصرّف في نفس الاناء المغصوب فعندئذٍ يكون الوضوء باطلًا. ولا يجب في صحة الوضوء أن يقع الماء المنفصل عن أعضاء المتوضّئ في مكان ( مصبّ ) مباح».
وقال السيد
الإمام الخميني: «وكذا ( أي من شرائط الوضوء ) إباحة المصبّ إن عدّ الصبّ تصرّفاً في المغصوب عرفاً أو جزء أخيراً للعلّة التامّة، وإلّا فالأقوى عدم البطلان، بل عدم البطلان مطلقاً فيه وفي غصبيّة المكان لا يخلو من قوّة وكذا إباحة الآنية مع الانحصار بل ومع عدمه أيضاً إذا كان الوضوء بالغمس فيها لا بالاغتراف منها».
وقال
السيد الخوئي: «والأظهر عدم اعتبار إباحة الاناء الذي يتوضّأ منه مع عدم الانحصار به، بل مع الانحصار أيضاً وإن كانت الوظيفة مع الانحصار التيمّم، لكنّه لو خالف وتوضّأ بماء مباح من إناء مغصوب أثم وصحّ وضوؤه من دون فرق بين الاغتراف منه دفعة أو تدريجاً والصبّ منه. نعم، لا يصحّ الوضوء في الاناء المغصوب إذا كان بنحو الارتماس فيه، كما أنّ الأظهر أنّ حكم المصبّ إذا كان وضع الماء على
العضو مقدّمة للوصول إليه حكم الاناء مع الانحصار وعدمه».
وقال
السيد الگلبايگاني: «إذا كان ماء مباح في إناء مغصوب لا يجوز الوضوء منه
بالرمس فيه مطلقاً، وأمّا بالاغتراف منه فلا يصح الوضوء مع الانحصار فيه، ويتعيّن التيمم. وأمّا مع عدم الانحصار- أي إذا تمكن من ماء آخر مباح- فيصح وضوؤه بالاغتراف منه وإن فعل حراماً من جهة التصرّف في الاناء، وكذا لو انحصر في المغصوب ولكن صبّ
الماء المباح من الاناء المغصوب في الاناء المباح، فيصحّ وضوؤه».
ومبنى القول بالصحة إذا كان بنحو الاغتراف أو الصبّ مطلقاً .
ومبنى القول بالبطلان إذا كان بنحو
الارتماس والغمس أنّه في صورة الارتماس يكون غسل العضو بنحو الغمس في الاناء متّحداً مع
الحرام؛ لأنّ الادخال في الماء الموضوع في الاناء بنفسه استعمال وتصرّف فيه فيكون محرّماً. وأمّا في صورة الاغتراف والصبّ فالوضوء أو
الغسل هو إيصال الماء إلى الأعضاء والاغتراف أو الصبّ فعل آخر يكون بمثابة المقدّمة لإيصال الماء، فالمقدّمة محرّمة دون ذي المقدمة وإن كان مستلزماً لها، وعندئذٍ لا
محذور في تعلّق الأمر به حتى على تقدير الانحصار بناءً على إمكان
الترتب والأمر بالواجب على تقدير فعل مقدّمته المحرّمة، سواء كانت المقدّمة
تفريغ الماء دفعة أو تدريجاً؛ فانّه لا فرق بينهما من هذه الناحية، وإنّما الفرق أنّه على تقدير عدم تفريغ الماء اللازم للوضوء أو
الغسل كلّه دفعة واحدة ( سواء أفرغ مقدار منه لبعض الوضوء أو الغسل أو لا ) لا أمر مطلق بالوضوء، فيمكنه الاجتزاء
بالتيمم، إلّا انّه لو عصى ذلك كان الفعل الواقع تدريجاً ( وهو الوضوء أو الغسل ) مأموراً به بالأمر الترتّبي المشروط بالعصيان بالنحو المذكور؛ إذ لا منافاة بحسب
الفرض بينه وبين النهي عن المقدّمة.
ومبنى القول بالتفصيل بين صورتي الانحصار وعدمه هو استحالة
الترتّب، فلا أمر بالوضوء أو الغسل في صورة الانحصار.
وأمّا في صورة عدم الانحصار ووجود ماء في إناء مباح فحيث إنّ الأمر بالطهور المائي فعليّ على كل حال ( لإمكانه بحسب الفرض ) فيبقى متعلّقه مطلق الطهور وجامعه المنطبق حتى على المستلزم للحرام؛ لعدم لزوم محذور منه بعد أن كان الفعل المحرّم غير متّحد معه، فلا موجب لتقييد متعلّق الأمر الفعليّ بالطهور المائي غير المستلزم للحرام.
ومنه يظهر حكم جعل الآنية المغصوبة مصبّاً لماء الوضوء أو الغسل حيث اشترط بعضهم
إباحة المصبّ، بناءً على أنّ صبّ الماء في الآنية تصرّف فيها، وهو لازم الوضوء أو الغسل.
إلّا أنّ هنا يظهر عنصر آخر استوجب القول بالبطلان حتى من القائل بإمكان الترتّب وصحة الوضوء أو الغسل بنحو الاغتراف حتى مع الانحصار-
كالسيد الحكيم في
منهاجه - فاستشكل في صحة الوضوء، وهذا العنصر هو أنّ انصباب الماء في الآنية يكون معلولًا للطهور، فيكون الطهور سبباً وعلّة تامة للحرام لا مقدّمة له، وسبب
الحرام محرّم، فتسري
الحرمة إلى الطهور، فلا يمكن أن يكون مأموراً به حتى بنحو الترتّب؛ لأنّ الترتّب إنّما يعقل مع تعدد المتعلّق، وأمّا مع وحدته، فيكون من
اجتماع الأمر والنهي في متعلّق واحد، وهو مستحيل.
ولم يقبل هذا الأمر بعض الأعلام- كالسيد الخوئي
والسيد الشهيد الصدر
- لأن الطهور إنّما يتحقق بمماسة الماء مع الأعضاء، وما هو علّة وسبب لتقاطر الماء في الآنية المغصوبة إنّما هو صبّ الماء على العضو وأخذه على الآنية، وكلاهما خارجان عن
حقيقة الطهور ومن لوازمه ومقارناته.
ثمّ إنّه يلحق بالوضوء أو الغسل بالآنية المغصوبة التيمم فيها فانّه إذا كان بنحو
الضرب على
التراب الموضوع فيها كان تصرّفاً
كالارتماس فيها فيبطل كما في العروة
وغيرها، وإلّا بأن أخذ التراب المباح منها ووضعه خارج الاناء ثمّ تيمم عليه كان
صحيحاً وإن أثم بالتصرف فيها.
هذا، والمستظهر من عبارة السيد
الإمام الخميني قدس سره في
حاشيته على العروة التشكيك في البطلان حيث قال: «الحكم في هذا
الشرط في غير الماء ( الظرف والمكان والمصبّ ) يبنى على
الاحتياط، والصحة في جميع فروض المسألة لا تخلو من وجه حتى مع الانحصار والارتماس أو الصبّ فضلًا عن الاغتراف مع عدم الانحصار. والتعليل الذي في المتن وغيره ممّا ذكر في محلّه غير وجيه. لكن الاحتياط بالاعادة خصوصاً فيما يكون
تصرّفاً أو مستلزماً له لا ينبغي أن يترك، بل لا يترك في الأخيرين».
ولعلّه بنكتة التشكيك في صدق التصرّف أو شمول الحرمة لهذا المقدار من التصرّف في
آنية الغير والاغتراف أو التفريغ منها خصوصاً في الأواني الكبيرة، بل لعلّ هذا واضح في التيمم بالتراب الموضوع فيها؛ ولعله لهذا علّق
السيد الإمام الخميني على العروة بعدم البطلان.
ثمّ إنّ الحرمة لو ارتفعت
بالاضطرار ونحوه صحّ الطهور بلا إشكال.
إلّا أنّ ما ذكره
صاحب العروة في ذيل المسألة من «أنّ التفريغ قد لا يكون حراماً، كما لو كان الماء مملوكاً له وكان إبقاؤه في ظرف الغير تصرّفاً فيه فيجب تفريغه حينئذٍ، فيكون من الأوّل مأموراً بالوضوء ولو مع الانحصار».
لا يتم على إطلاقه؛ فانّه إذا فرض أنّ جعل
الماء في آنية الغير بلا إذنه بفعله كان تفريغه أيضاً
مبغوضاً ومعاقباً عليه، بل ومحرّماً- على أصحّ القولين وإن كان المشهور خلافه- رغم أنّه يتعيّن عليه التفريغ عقلًا تخلّصاً من
الحرام الأكثر، نظير من توسّط الأرض المغصوبة بسوء اختياره حيث يتعيّن عليه الخروج مع أنّه مبغوض
للشارع؛ لأنّه كان بسوء اختياره. فإذا قيل باستحالة الترتّب وقيل باتّحاد الطهور مع التصرّف المذكور أو استلزامه له- كما في المثال- كان اللازم
الحكم ببطلان الطهور في هذا الفرض.
اللّهم إلّا أن يقول القائل باستحالة الترتّب بإمكانه في خصوص المقام؛ لأنّ الضدّ- وهو حرمة اللازم، أي حرمة التفريغ- لا اقتضاء له بالفعل من حيث التحريك، لوجوب التفريغ ولو عقلًا، ففي مثل ذلك من الواضح إمكان الأمر بلازم الحرام.
كما انّه إذا لم يكن صبّ الماء المملوك له في إناء الغير بفعله أو كان ابتداءً
برضا المالك ثمّ ارتفع رضاه
وإذنه وطلب منه تخليص إنائه ممّا له فيه، فحينئذٍ يتمّ ما أفاده
السيد اليزدي قدس سره.
هذا كلّه في فرض العلم
والعمد.
وأمّا مع فرض
الجهل بغصبية الإناء أو بحرمة التصرّف في الغصب فالمشهور ذهبوا إلى
الصحة حتى مع فرض اتحاد الطهور مع الفعل المحرَّم كما في الطهور بالماء المغصوب فضلًا عن المقام، واستثنى بعضهم صورة الجهل عن
تقصير.
وكأنهم حكموا بالبطلان في صورة العلم والعمد أو التقصير؛ لعدم إمكان
التقرب بالمبغوض، لا
لامتناع اجتماع
الأمر و
النهي في نفسه، والذي لا فرق فيه بين صورتي العلم والجهل، ولهذا من قال بالبطلان بملاك الامتناع كالسيد الخوئي في صورة الوضوء أو الغسل بنحو
الارتماس والغمس في الاناء ذهب إلى البطلان حتى مع فرض الجهل أيضاً.
نعم، في صورة
النسيان حيث لا تكليف للناسي يحكم بالصحة، إلّا إذا كان الغاصب هو الناسي فانّه عندئذٍ يكون الفعل مبغوضاً، فلا يمكن أن يكون مأموراً به أيضاً وإن كان خطاب النهي
ساقطاً بالنسيان.
الموسوعة الفقهية ج۱، ص۴۸۴-۴۹۱.