الإرسال بمعنى الإرخاء
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
الإرسال هو الإطلاق والإهمال والبعث والتوجيه والتخلية والتسليط، ويستعمل
الفقهاء كلمة الإرسال بإطلاقات متعدّدة تنشأ من إطلاقاتها اللغوية، فيطلقونها بمعنى الإرخاء كإرسال اليدين في
الصلاة وإرسال طرف العمامة.
يطلق الإرسال هنا ويراد منه تارة عدم
التكفير الذي هو وضع إحدى اليدين على الاخرى على النحو الذي يفعله بعض
أهل السنّة ،
واخرى بمعنى إرخائهما وإسبالهما بالكيفية التي ستسمع في مقابل الكيفيات الاخرى عدا صورة التكفير.
فأمّا
الإرسال بالمعنى الأوّل فيتّضح حكمه من حكم التكفير في
الصلاة الذي اتّفقت كلمة فقهائنا على عدم كونه سنّة، بل عدم مشروعيته في الصلاة حتى أصبح ذلك موقفاً واضحاً للمذهب.
نعم، اختلفت كلمتهم في حرمته و
بطلان الصلاة به- كما عليه المشهور- أو أنّه حرام تكليفاً فحسب، فمن فعله كان آثماً ولكن لا تبطل الصلاة به،
وتفصيل ذلك في مصطلح.
وأمّا الإرسال بالمعنى الثاني فقد ذكر الفقهاء
أنّه من المستحبّات حال القيام في الصلاة إرسال اليدين و
إسبالهما على الفخذين مضمومتي الأصابع؛ لما ورد في صحيحة
زرارة عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا قمت في الصلاة فلا تلصق قدمك بالاخرى، دع بينهما فصلًا-
إصبعاً أقلّ ذلك إلى شبر أكثره- وأسدل منكبيك، وأرسل يديك، ولا تشبك أصابعك، وليكونا على فخذيك قبالة ركبتيك...».
وقول
حمّاد في خبره: فأرسل (أي
الصادق عليه السلام ) يديه جميعاً على فخذيه قد ضمّ أصابعه.
ومن
الفقهاء من خصّ ذلك بالرجل، وأمّا
المرأة فإنّها تضمّ يديها إلى صدرها لمكان ثدييها؛
لما في صحيح آخر لزرارة : «إذا قامت المرأة في الصلاة جمعت بين قدميها ولا تفرّج بينهما، وتضم يديها إلى صدرها لمكان ثدييها».
وكذا عدّ بعض الفقهاء من مسنونات القيام
إسدال المنكبين بمعنى إرسالهما و
إرخائهما ،
كما ورد ذلك في رواية زرارة المتقدّمة.
عدّ بعض الفقهاء من مسنونات الركوع أن يكبّر له رافعاً يديه محاذياً بهما وجهه ثمّ يركع بعد إرسالهما.
وردت في كيفية لبس
العمامة طائفتان من الروايات، ظاهر إحداهما استحباب
التحنّك الذي هو عبارة عن
إدارة جزء من العمامة تحت الحنك من أحد الجانبين إلى الآخر، والمشهور
الإفتاء على طبقها في خصوص الصلاة ، وأنّه يكره الصلاة في عمامة لا حنك لها، بل قال
الصدوق في
الفقيه «سمعت مشايخنا رضي اللَّه عنهم يقولون: لا تجوز الصلاة في الطابقيّة، ولا يجوز للمعتم أن يصلّي إلّا وهو متحنّك». مع أنّه لم ينقل في كتابه إلّا ما دلّ على
استحباب التحنّك مطلقاً، أو عند التعمّم أو حال السفر والحاجة.،
إلّا أنّ ظاهرها العموم لحال الصلاة وغيرها، ولا خصوصيّة للصلاة في ذلك كما ستسمع بعضها وقد صرّح بذلك كثير من الفقهاء،
بل ذكر جملة منهم
الشيخ البهائي أنّهم لم يجدوا نصّاً على استحباب التحنّك حال الصلاة لكن تجدر
الإشارة هنا إلى أنّ بعض الفقهاء ادّعى
الإجماع على ذلك مستدلّاً به وبنبويّين وردا في
عوالي اللآلي في أحدهما: «من صلّى بغير حنك فأصابه داء لا دواء له فلا يلومنّ إلّا نفسه»، وفي الثاني: «من صلّى مقتعطاً فأصابه داء لا دواء له فلا يلومنّ إلّا نفسه»، مضافاً إلى تأييد ذلك بإطلاقات كراهة التعمّم من دون تحنّك، وبما نقله الصدوق عن مشايخه الذي نقلناه في هامش سابق..
نعم، دلّ بعضها على استحبابه في السفر، وبعضها على استحبابه في
السعي لقضاء الحاجة، وبعضها مطلقاً.
وظاهر الاخرى استحباب إرسال طرف العمامة وإسداله على الصدر أو على القفا أو عليهما معاً.
وبما أنّ التحنّك و
الإرسال كيفيتان مختلفتان لغةً وعرفاً وقع الكلام بين الفقهاء في كيفية الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات، وقد ذكرت لذلك عدّة وجوه نذكرها
إجمالًا بعد ذكر بعض النماذج من تلك الروايات- تاركين التفصيل إلى محلّه من مصطلح (تحنّك) فإنّه أنسب بذلك-:
ومن الروايات الدالّة على استحباب التحنّك وكراهة تركه للمعتمّ ما روي عن الصادق عليه السلام قال: «من تعمّم ولم يحنّك فأصابه داء لا دواء له فلا يلومنّ إلّا نفسه».
وقريب منه غيره.
وعنه عن أبيه عليهما السلام: «أنّ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الفرق بيننا وبين المشركين في العمائم
الالتحاء بالعمائم».
وغير ذلك من الروايات.
وأمّا الروايات الدالّة على استحباب إرسال طرف العمامة، فمنها:
ما رواه
الكليني في
الصحيح عن
أبي همام عن
الرضا عليه السلام : في قول اللَّه عزّ وجلّ: «مُسَوِّمِينَ»
قال: «العمائم، اعتمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فسدلها من بين يديه ومن خلفه، واعتمّ
جبرئيل عليه السلام فسدلها من بين يديه ومن خلفه».
وما رواه
جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كانت على الملائكة العمائم البيض المرسلة يوم
بدر ».
وما عن
علي بن أبي علي اللهبي عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «عمّم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم
عليّاً عليه السلام بيده فسدلها من بين يديه، وقصرها من خلفه قدر أربع أصابع، ثمّ قال: أدبر فأدبر، ثمّ قال: أقبل فأقبل، ثمّ قال: هكذا تيجان الملائكة».
وما عن
عبد اللَّه بن سليمان عن أبيه : أنّ
علي بن الحسين عليهما السلام دخل
المسجد وعليه عمامة سوداء قد أرسل طرفيها بين كتفيه.
وما نقل
السيد ابن طاوس في كتاب
الأمان عن
أبي العباس بن عقدة في كتابه المسمّى (بالولاية)
بإسناده قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يوم
غدير خم إلى علي عليه السلام فعمّمه وأسدل العمامة بين كتفيه، وقال: «هكذا أيّدني ربّي يوم
حنين بالملائكة معمّمين وقد أسدلوا العمائم، وذلك حجز بين المسلمين وبين المشركين ...».
وغير ذلك من الروايات.
وهذه الأخبار كلّها ظاهرة في أنّ السنّة في لبس العمامة دائماً إسدال أحد طرفيها على الصدر والآخر بين الكتفين أو
الاكتفاء بأحد الإسدالين دون
الإدارة تحت الحنك الذي هو التحنّك.
ما ذكره
المجلسي من
إرجاع التحنّك المأمور به في الطائفة الاولى إلى السدل؛ مدّعياً أنّ المفهوم من تلك الأخبار هو إرسال طرف العمامة من تحت الحنك وإسداله، ولم يُذكر في تعمّم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إلّا هذا، وأنّه لم يُتعرّض في شيء من تلك الروايات لإدارة العمامة تحت الحنك وغرزه في الطرف الآخر، بل ادّعى أنّ كلمات أهل اللغة لا تأبى عن ذلك.
وقال السيّد اليزدي في العروة الوثقى في سياق عداد ما يكره من اللباس حال الصلاة: «السادس: في العمامة المجرّدة عن السدل وعن التحنّك أي التلحّي، ويكفي في حصوله ميل المسدول إلى جهة الذقن، ولا يعتبر إدارته تحت الذقن وغرزه في الطرف الآخر، وإن كان هذا أيضاً أحد الكيفيّات له».
لكن اجيب عنه بأنّه خروج عن ظاهر الأخبار وكلام اللغويّين؛ ضرورة عدم صدق التحنّك لغة وعرفاً على مثل الإسدال،
فإنّ التحنّك ليس إلّا إدارة شيء من العمامة تحت الحنك على حسب ما هو المتعارف في الأعصار والأمصار،
بل قد أطنب
المحدّث البحراني في مناقشته بما لا داعي إلى ذكره هنا.
حمل الطائفة الاولى على التحنّك حين التعمّم والثانية على الإسدال بعده، حيث إنّ روايات التحنّك بعضها دلّ على استحبابه في السفر، وبعضها دلّ على استحبابه في السعي لقضاء الحاجة، وبعضها بمجرّد التعمّم، فيكون المنافي لأخبار السدل ظاهراً إنّما هو أخبار القسم الثالث حيث إنّها تدلّ على دوام ذلك و استمراره ما دام معتمّاً، وحينئذٍ يمكن القول ببقاء أخبار الفردين الآخرين على ظاهرهما من غير تأويل؛ إذ لا منافاة فيهما، فإنّ موردهما خاصّ بهذين الفردين فيخصّ بها أخبار الإسدال.
ووجه الجمع حينئذٍ هو حمل أخبار القسم الثالث على أنّ المراد التحنّك وقت التعمّم؛ بأن يدير العمامة حال التعمّم تحت حنكه لا دائماً.
احتمل هذا الجمع في
كشف اللثام ،
وجزم به صاحبي الوسائل
و
الحدائق ،
بل ادّعى الأخير أنّ ظاهر الأخبار يشعر بذلك، فإنّ ظاهر قوله عليه السلام: «ولم يتحنّك» من حيث كونه حالًا من الفاعل في قوله عليه السلام: «من تعمّم» - والحال قيدٌ في فاعلها- يعطي أنّ التحنّك وقت التعمّم، وأمّا
استمرار ذلك فيحتاج إلى دليل وهو ليس.
وحينئذٍ تبقى أخبار الإسدال على ظاهرها، فيكون المستحب دائماً هو الإسدال، والتحنّك مخصوص بهذه الصور الثلاث أي السفر والحاجة ووقت التعمّم.
واجيب عنه بأنّه يقرب ممّا ذكره المجلسي في الضعف،
بل في الجواهر: أنّه «ممّا ينبغي أن يقضى العجب منه، وكأنّ الذي ألجأه إلى ذلك الجمع بين أخبار التحنّك والسدل، وانسياق المعنى المزبور في بادئ النظر من نحو العبارة المزبورة، ولم يتفطّنوا لمنافاة ذلك للمعلوم من المذهب، وأنّ المراد من العبارة المزبورة (أي: من تعمّم ولم يتحنّك) ولو بقرينة ما سمعت لزوم التحنّك لوصف التعمّم لا فعله، ولو سلّم فالنصوص الاخر دالّة على
استحباب استمراره وأنّه الفارق بين المسلمين والمشركين...».
التخيير بين الأمرين، إمّا التحنّك أو السدل، ويكون مراد الفقهاء بكراهة ترك التحنّك كون العمامة طابقيّة لا تلحّي ولا سدل فيها. وربّما كان في النصوص ما يشهد لذلك، وأنّ المقصود عدم الطابقيّة و
الاقتعاط (الاقتعاط: هو شدّ العمامة على الرأس من غير إدارة تحت الحنك. )
الذي يحصل إمّا بالتلحّي أو السدل، وبهما يمتاز
المسلم من المشرك.
وغير ذلك من الوجوه، كتخصيص الاولى بحال يراد فيه التخشّع والسكينة، والثانية يراد بها الترفّع و
الاختيال كما احتمله في كشف اللثام.
أو تخصيص الاولى بالرعيّة والثانية بالرسول والعترة، بدعوى ورود أخبار الإسدال فيهم كما مال إليه سيد
الرياض .
أو الجمع بين الأمرين بالتحنّك بشيء من الوسط وإسدال أحد الطرفين؛ إذ الإسدال لا يكون إلّا بطرف العمامة، والتحنّك يتحقق بكلّ جزء منها فلا تنافي، كما اختاره
الشيخ النراقي .
أو يجمع بين النصوص بإرادة السدل الذي لا ينافي التحنّك بمعنى الميل بالطرف إلى ما يتحقّق معه مسمّى التحنّك، فهو حينئذٍ سدل وتحنّك، احتمله صاحب الجواهر بعد أن اختار التخيير.
وإليه أشار في العروة حيث قال: «(يكره الصلاة) في العمامة المجرّدة عن السدل وعن التحنّك أي التلحّي، ويكفي في حصوله ميل المسدول إلى جهة الذقن، ولا يعتبر إدارته تحت الذقن وغرزه في الطرف الآخر...».
إلى غير ذلك من الكلام والنقض و
الإبرام الذي يأتي تفصيله في مصطلح (تحنّك).
والمستخلص من مجموع ما تقدّم من الروايات ووجوه الجمع بينها أنّ إرسال العمامة وإسدالها في مقابل العمامة الطابقيّة مندوبٌ إليه، إمّا تخييراً بينه وبين التحنّك، أو في أوقات وحالات دون اخرى، أو بالتحنّك ببعضها وإرسال بعض، أو غير ذلك من الكيفيات التي ذكرت للجمع، إلّا على الوجه الذي خصّص ذلك بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم و
أهل بيته عليهم السلام، فإنّه تكون السنّة حينئذٍ بالنسبة إلى غيرهم استحباب التحنّك دون الإسدال.
قال الشيخ في
المبسوط : «يجوز لصاحب الميّت أن يتميّز من غيره بإرسال طرف العمامة أو أخذ مئزر فوقها على
الأب والأخ ، فأمّا على غيرهما فلا يجوز على حال».
وتبعه على ذلك بعض الفقهاء؛
لورود الروايات بجواز التميّز لصاحب الميّت عن غيره حتى يعلم الناس أنّه صاحب المصيبة فيقصدونه ويعزّونه، بل عمّم بعضهم الحكم للأب و
الأخ وغيرهما؛ لعموم الروايات،
بل ذهبوا إلى استحبابه له كذلك.
لكن خالف في ذلك
ابن إدريس مدّعياً أنّه لم يذهب إلى هذا الحكم سوى الشيخ قائلًا: «والذي يقتضيه اصول مذهبنا أنّه لا يجوز
اعتقاد ذلك وفعله، سواء كان على الأب أو الأخ أو غيرهما؛ لأنّ ذلك حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، ولا دليل على ذلك، فيجب
إطراحه ؛ لئلّا يكون الفاعل له مبدعاً؛ لأنّه اعتقاد جهل».
وردّه الفاضلان بأحاديث
الامتياز ،
بل في المعتبر أنّ «ما ذكره المتأخّر (أي ابن إدريس) غلط؛ لأنّ الشيخ لم يدّع استحبابه بل ادّعى جوازه، وكلّما لم يوجبه العقل والشرع ولم يحرّمه فإنّه جائز، فلا يجوز أن يعتقد إلّا ذلك. نعم، لو اوخذ على تحريمه على غير الأب والأخ أو على الفرق بين الأب والأخ وغيرهما كان مأخذاً».
ولعلّ الذي أنكره ابن إدريس هو هذا النوع من الامتياز، أي بإرسال طرف العمامة أو وضع الرداء فوقها؛ لعدم الدليل عليهما؛ لأنّ الروايات وردت في وضع
الرداء ، ولم نعثر على دليل للشيخ عليه ولا على تخصيص ذلك بالأب والأخ كما نبّه على ذلك الشهيد في
الذكرى والمحدّث البحراني في الحدائق و
المحقق النجفي في الجواهر.
لكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ الروايات وإن وردت بالامتياز بوضع الرداء إلّا أنّ عموم التعليل فيها بأنّه «حتى يعرفه الناس فيعزّونه» يدلّ على الجواز بكلّ ما يتميّز به عرفاً، ويعدّ عند العرف من علامات صاحب المصيبة، سواءً كان بوضع الرداء أو إرسال العمامة أو غير ذلك.
الموسوعة الفقهية، ج۹، ص۴۷۰- ۴۷۸.