الإعانة المحرمة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
و هي الإعانة على الإثم، لو كان فعل شخصٍ مؤثّراً في تحقّق الإثم و وقوعه من شخص آخر كانت هذه إعانة على الإثم. هذا بالنسبة لمفهوم
الإعانة، و أمّا بالنسبة لمفهوم
الإثم فقد قيل: إنّه عبارة عن مطلق مخالفة التكاليف الإلزاميّة أي ترك ما هو
الواجب أو فعل ما هو
الحرام وجوبية كانت أو تحريمية، فالمراد من الإعانة على الإثم مساعدة الآثم في الإثم الذي يصدر منه، و ذلك بإيجاد جميع مقدّمات الحرام الذي يرتكبه أو بعضها.
و اختلف
الفقهاء في جواز الإعانة على الإثم و عدمه، فاختار المشهور حرمة الإعانة على الإثم، و قالوا: إنّ الدور الذي يقوم به المعان و إن كان مهمّاً- باعتباره مباشراً للمخالفة الشرعية- إلّا أنّ ذلك لايبرّر توجيه المسؤولية إليه حتى في تهيئة المقدّمات بعد أن كان المعين هو الذي تصدّى لتهيئتها، فكلّ منهما يحتمل وزر ما قام به، «و لا تزر وازرة وزر اخرى»، و إن كان فعل المعان أكثر قبحاً من فعل المعين.
و استدلوا على حرمة الإعانة على الإثم بما يلي:
عموم النهي عن التعاون على الإثم و العدوان، كقوله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَ لَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ»
، فإنَّ ظاهر الجملة الثانية من
الآية دالّ على حرمة الإعانة على الإثم و العدوان؛ لظهور
النهي في الحرمة
، كما هو مقرّر في محلّه من
علم الاصول، فلا مانع من الأخذ بظهورها و العمل على طبقه بمقتضى
أصالة الظهور.
واورد عليه إشكالان:
أنّ المستفاد من النهي في الآية الحكم التنزيهي الكراهتي دون التحريمي، بقرينة المقابلة و
وحدة السياق بين النهي عن الإعانة على الإثم و
الأمر بالإعانة على
البرّ، الذي ليس الحكم فيه إلزامياً قطعاً
، إلّا في موارد خاصة، كحفظ النفس و
الأمر بالمعروف و اجيب عنه:
أوّلًا: بأنّ التمسّك بوحدة السياق إنّما يصحّ فيما إذا كان بين الجملتين اتّحاد في
البعث أو
الزجر، دون ما إذا كان في إحدى الجملتين أمر و في الاخرى نهي، كما في الآية الكريمة التي استدلّوا بها على حرمة الإعانة
.
و ثانياً: بأنّ مناسبة
الحكم و الموضوع في المقام بالإضافة إلى حكم العقل بقبح الإعانة شاهدان على أنّ النهي في الآية للتحريم و ليس للتنزيه.
و ثالثاً: بأنّ مقارنة الإثم مع العدوان- الذي هو
الظلم- لا تدع مجالًا لحمل النهي في الآية على
الحكم التنزيهي .
أنّ التعاون عبارة عن اجتماع عدّة أشخاص لإيجاد أمرٍ من
الخير أو
الشرّ ليكون صادراً من جميعهم، كنهب الأموال و قتل النفوس و بناء المساجد و القناطر؛ لأنّ التعاون من باب التفاعل، بخلاف الإعانة التي هي من باب الإفعال، و التي لا دلالة فيها إلّا على تهيئة المعين للمقدّمة، مع استقلال المعان بإيجاد ذي المقدّمة، ممّا يعني أنّ النهي عن التعاون يختلف عن النهي عن الإعانة؛ لاقتضاء الأوّل صدور الفعل من جميع الأطراف، و اقتضاء الثاني صدوره من طرف واحد فقط
، فالنهي عن المعاونة على الإثم لايستلزم النهي عن الإعانة عليه، فلو عصى أحد فأعانه الآخر فإنّه لايصدق عليه التعاون إطلاقاً.
و اجيب عنه بأنّ إطلاق التعاون إنّما هو بلحاظ مجموع القضايا التي يكون كلّ شخص معيناً للآخر في قضية مع قيام الآخر بإعانته في قضية اخرى تختلف عن تلك القضية، فيكون كلّ منهما معيناً للآخر على الإثم و العدوان. فلو كان زيد معيناً لعمرو على
القتل- مثلًا- و كان عمرو معيناً له على
السرقة صحّ اعتبارهما متعاونين على الإثم و العدوان
.
فلا ضرورة لافتراض الاشتراك الفعلي بين الأطراف المتعاونة، خصوصاً و أنّ هناك موارد متعدّدة استعملت فيها صيغة التفاعل من دون اشتراك، كما في التراحم و التضامن و التكاذب، فإنّ التراحم يتحقّق بين شخصين يرحم كلّ منهما صاحبه في قضية تختلف عن القضية التي يرحمه فيها الآخر. و لو كان المراد من حرمة التعاون على الإثم هو
الشركة فيه يكون مقتضى الجمود على ظاهر الآية هو حرمة شركة جميع المكلّفين في إتيان محرّم، و هو كما ترى
.
الأخبار المتعدّدة التي وردت في موارد خاصّة تدلّ على حرمة الإعانة على الإثم.
منها: قوله (علیهالسّلام): «من أعان على قتل مسلم و لو بشطر كلمة، جاء
يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة اللَّه»
بتقريب: أنّه لا شكّ في أنّ قتل المسلم إثم، و قد توعّد الحديث على الإعانة عليه بالعقاب و
اليأس من رحمة اللَّه، ممّا يعني حرمة الإعانة على كلّ إثم. و اورد عليه بأنّ الإعانة على قتل المسلم هي بنفسها إثم و حرام، لا من جهة كونها إعانة على مطلق الإثم
.
و منها: الأخبار الواردة في حرمة معونة الظالمين في ظلمهم، و هي كثيرة مذكورة في بابها
.
و منها: ما ورد عن
الإمام الصادق (علیهالسّلام) في حرمة إجارة الدار لمن يبيع فيه خمراً، كما في خبر
جابر، قال: سألت أباعبداللَّه (علیهالسّلام) عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه
الخمر، قال (علیهالسّلام): «حرام أجره»
.
و منها: قول
أبيجعفر الباقر (علیهالسّلام): «لعن
رسولاللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) في الخمر عشرة: غارسها، و حارسها، و عاصرها، و شاربها، و ساقيها، و حاملها، و المحمولة إليه، و بائعها، و مشتريها، و آكل ثمنها»
. فإنّ حرمة ما عدا شاربها و آكل ثمنها من هذه العشرة لأجل كونها إعانة على الإثم.
و الإنصاف: أنّ
الفقيه يستظهر من مجموع هذه الأخبار المتفرّقة في أبواب الفقه المختلفة حرمة الإعانة على الإثم في
المعاصي الكبيرة . اللهمّ إلّا إذا كان للقتل و معونة الظالم و
الخمر خصوصية يصعب إلغاؤها، لشدّة تحذير
الشارع منها.
شمول أدلّة النهي عن المنكر للإعانة على الإثم، فإنّ ترك الإعانة على الإثم دفع للمنكر، و دفع المنكر كرفعه واجب. و قد أشار
المحقّق الأردبيلي إلى هذا الدليل عند محاولته إثبات حرمة بيع العنب ممّن يعمله خمراً
و تؤيّده رواية
علي بن أبي حمزة عن أبيعبداللَّه (علیهالسّلام) قال: «لولا أنّ
بني اميّة وجدوا من يكتب لهم و يجبي لهم الفيء و يقاتل عنهم و يشهد جماعتهم، لما سلبونا حقّنا»
.
و نوقش فيه:
أوّلًا: بأنّ الاستدلال بدفع المنكر إنّما يتّجه إذا علم المعين بانحصار دفع المنكر بترك الإعانة، و أمّا مع
الجهل بالحال أو
العلم بوقوع الإثم بإعانة غيره عليه فلا يتحقّق مفهوم الدفع.
و ثانياً: بأنّ دفع المنكر إنّما يجب إذا كان المنكر ممّا يهتمّ الشارع بعدم وقوعه، كقتل النفس المحترمة، و هدم أساس الدين، و كسر شوكة المسلمين، و ترويج بدع المضلّين، و نحو ذلك ممّا يجب دفعه بضرورة العقل و اتّفاق المسلمين، بل دلّت على منعه بعض الأحاديث الكاشفة عن اهتمام الشارع بدفعه، و أمّا غير هذه الموارد فلا دليل على وجوب دفعه.
و ثالثاً: بأنّ رفع المنكر والنهي عنه و إن كان سبيل
الأنبياء و نهج الصلحاء و
فريضة عظيمة، و به تقام الفرائض و تحلّ المكاسب و تردّ المظالم، إلّا أنّه لا دليل على مساواة دفع المنكر لرفعه؛ لأنّ الدافع عبارة عن تعجيز الغير عن القيام به، سواء كان مرتدعاً عنه باختياره أم لم يكن مرتدعاً كذلك. و
النهي عن المنكر ليس إلّا ردع الفاعل و زجره عن المنكر على مراتبه المقرّرة في
الشريعة.
و رابعاً: بأنّ
الرواية التي ذكرت للتأييد في هذا المجال ضعيفة سنداً، مع كونها أجنبية عن رفع المنكر فضلًا عن دفعه؛ لاختصاصها بإعانة الظالمين
.
العقل، فإنّ العقل الحاكم بقبح الإعانة على معصية المولى و إتيان ما يبغضه، يستقلّ كذلك بقبح مساعدة الغير بقصد إتيان ذلك المبغوض عن طريق تهيئة مقدّماته و أسبابه، فيستحقّ المعين لذلك العقوبة و إن كان من المقدّمات البعيدة، فلو تزوّج بقصد أنّه يولد له ولد يبيع الخمر أو يكون عشّاراً- مثلًا- يكون تزويجه إعانة على الإثم، و إن كان من المقدّمات البعيدة
و لهذا كانت القوانين العرفية متكفّلة لجعل
الجزاء على معين الجرم و إن لم يكن شريكاً في أصله، فلو أعان أحد السارقَ على سرقته و هيّأ أسبابه و ساعده في مقدّماته، يكون مجرماً في نظر العقل و العقلاء و في
القوانين الجزائية .
و لم يخالف الشارع هذا النوع من القوانين العرفية، بل شرّع نظيرها في مورد شخص أمسك آخر ليقتله ثالث مع مشاهدة شخص رابع لهما، حيث حكمت الشريعة على القاتل بالقود (القود: هو القتل و
القصاص.
) ، و على الماسك بالحبس مدى الحياة، و على الناظر تسميل (سمل العين: فقأها بحديدة محماة، أو غيرها، أو بالشوك.
) العين
.
إذاً فالعقل يحكم بقبح الإعانة على الإثم، و استحقاق المعين العقوبة على إعانته. إلّا أنّ هناك من رفض التمسّك بهذا الدليل؛ لأنّ العقل و إن كان يحكم بذلك في موارد خاصة كإعانة الظالمين، إلّا أنّه لا يحكم بذلك في كلّ مورد تحقّقت فيه الإعانة على الإثم، بل رفض بعضهم التمسّك أساساً بدليل العقل، معتبراً الإعانة على الإثم من العناوين التي يعجز العقل عن الحكم بقبحها إذا لم يحكم
الشارع بتحريمها
.
و في مقابل نظرية حرمة الإعانة على الإثم، ذهب
السيّد الخوئي إلى جواز الإعانة
بعد مناقشته في أدلّة الحرمة، و اعتمد في ذلك على أدلّة يرجع روح بعضها إلى بعض المناقشات السابقة التي ردّت على أدلّة الحرمة، و ما اعتمد عليه السيد الخوئي هو الأدلّة التالية:
أنّ المحرّم باعتقادهم خصوص تعاون الآخرين المباشر لإيجاد
المعصية، كما لو اجتمع عدّة أفراد على قتل شخص يضربه كلّ منهم بسلاحه حتى
الموت، فإنّ عملية القتل تكون حينئذٍ صادرة من الجميع و منسوبة إلى الجميع، بخلاف الإعانة التي لا يكون الفعل فيها صادراً إلّا من المعان، فلا تكون محرّمة لذلك
و كأنّ هذا الدليل يرجع إلى التمييز بين مفهوم
التعاون و الإعانة كما تقدّم.
أنّ مقتضى الأصل نفي حرمة الإعانة على الإثم بعد انتفاء ما يدلّ على خلافه
. و هذا الدليل موقوف على تمامية المناقشات المتقدمة على أدلّة القائلين بالحرمة.
الروايات المستفيضة الدالّة على جواز بيع
العنب و
التمر ممّن يعمله خمراً، و جواز بيع الخشب ممّن يصنعه بربطاً (البربط: آلة لهو تشبه العود.
) ، مع أنّ فيها إعانة على الإثم، فلو جازت الإعانة فيها لجازت في غيرها؛ لعدم القول بالفصل. على أنّ في بعض الروايات إشعاراً بكلّية الحكم و عدم اختصاصه بالامور المذكورة، كرواية
أبي بصير عن
الصادق (علیهالسّلام) قال: سألت أباعبداللَّه (علیهالسّلام) عن ثمن
العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمراً، قال: «إذا بعته قبل أن يكون خمراً و هو
حلال فلا بأس»
. فإنّ الظاهر منها أنّ المناط في صحّة البيع حلّية المبيع لمالكه حين بيعه، و إن كان في بيعه إعانة على الحرام
.
و قد حاول البعض الردّ على الاستدلال بهذه الرواية و الإشكال عليه:
أوّلًا: أنّها مخالفة للكتاب الصريح في النهي عن التعاون على الإثم و العدوان.
و ثانياً: أنّها معارضة لروايات النهي عن المنكر، بل روايات اخرى ورد المنع فيها عن نفس الامور المذكورة في الروايات المجوّزة، فقد ورد في رواية
عمرو بن حريث أنّه سأل أباعبداللَّه (علیهالسّلام) عن التوت أبيعه يصنع للصليب و
الصنم، قال: «لا»
و ثالثاً: معارضتها لُاصول المذهب و قداسة ساحة المعصومين؛ لما ورد في بعضها أنّ
الأئمّة (علیهمالسّلام) كانوا يبيعون تمرهم ممّن يعمله خمراً، و لا يبيعوه من غيره
، مع أنّ هذا النوع من التصرّف لا يتناسب صدوره من متوسّطي
المؤمنين فضلًا عن أئمّتنا المعصومين (علیهمالسّلام). و قد تقول: إنّ من المحتمل اشتمال بيع التمر ممّن يعمله خمراً على مصلحة غالبة، أو اشتمال تركه على مفسدة فائقة دعت الأئمّة إلى الإقدام على بيعه و التعامل مع هؤلاء في خصوصه. و الجواب: من المستبعد جدّاً تضمّن هذا النوع من المعاملات الاعتبارية على مصالح ذاتية يعجز العقل عن دركها.
و رابعاً: أنّها مخالفة لحكم العقل بقبح الإعانة على الإثم
. و من الواضح أنّ الردّ الأوّل و الرابع مرجعهما إلى عين أدلّة القائل بالحرمة.
أنّ الإعانة على الإثم لو كانت غير جائزة لما جاز سقي
الكافر ماء؛ لتنجّسه بمجرد
الشرب و المباشرة، مع أنّ ذلك مخالف لقوله (علیهالسّلام): «إنّ اللَّه يحبّ إبراد الكبد الحرّاء»
؛ إذ المستفاد منه جواز الإعانة في أمثال هذه الامور التي هي من الإثم. و أمّا الاعتذار بعدم قدرة الكافر على شرب الماء الطاهر في حال كفره، فهو في غير محلّه؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار
و من الواضح بناء هذا الدليل على القول بنجاسة الكافر لا غير.
قيام
السيرة على معاملة الملوك و الامراء الذين يصرفون ما يرجّحون على أعوانهم و عساكرهم، بل إجارتهم البيوت و المساكن و المراكب.
و كذا قامت السيرة على بيع المطاعم و المشارب للكفّار في نهار شهر
رمضان الذين لا يتورّعون عن
الأكل و الشرب في هذا الشهر، بل على بيع بساتين العنب لمن يصرف بعضها في صناعة الخمر، بالإضافة لبيعهم
اللحم غير المذكّى و
العجين النجس. و أيضاً قامت السيرة على إعطاء الضرائب لحكّام الجور عند
التجارة أو
الحجّ، رغم استغلالهم لها في دعم سلطتهم و زيادة طغيانهم. و كذا على بيع
القرطاس لمروّجي كتب الضلال، و الساعين لنشر الأفكار المخالفة للإسلام.
و كذا على جواز عقد الأندية و المجالس لتبليغ الأحكام و إقامة شعائر الأفراح و الأحزان، بل على وجوبها إذا توقّف عليها إحياء الدين و تعظيم الشعائر، مع العلم بوقوع بعض المعاصي فيها من
الغيبة و
الاستهزاء و
الكذب و
الافتراء و نظر كلّ من النساء و الرجال إلى ما لا يجوز النظر إليه، و غيرها من المعاصي. و أيضاً قضت الضرورة بجواز إجارة الدوابّ و السفن و السيّارات و الطائرات إلى المسافرين مع العلم إجمالًا بأنّ فيهم من يقصد في ركوبه معصية
.
و اورد على هذا الدليل:
أوّلًا: بأنّ بعض ما ادّعي عليه السيرة خارج عن عنوان الإعانة أو تهيئة مقدّمات المعصية؛ إذ لا معصية و لا إثم غالباً بسبب عدم اعتقاد الأعم الأغلب منهم بحلّية
النجس و
الميتة و
الخمر، و مع قصورهم عن إدراك
الحكم الواقعي لا يعدّ عملهم إثماً حتّى تكون الإعانة عليه ممنوعة.
و ثانياً: بأنّ السيرة التي استدلّوا بها في بعض الأمثلة المتقدّمة غير معتبرة، لسببين:
الأوّل: صدورها من غير المبالين بالدين؛ لعدم توقّع صدورها من المتديّنين، كما في بيع القرطاس لمروّجي كتب الضلال، خصوصاً مع اهتمام الشارع بعقائد الناس و محافظته عليها من الانحراف.
السبب الثاني: أنّ قيمة السيرة في كشفها عن
الحكم الشرعي، فإذا زالت عنها هذه الخصوصية بسبب موافقتها للتقية مثلًا، فسوف تكون ساقطة عن الاعتبار، كما في السيرة المدّعاة في معاملة سلاطين الجور، حيث كان المؤمنون يتخوّفون من الامتناع عن معاملتهم؛ لما يستتبعه ذلك من أضرار عظيمة و مشكلات جسيمة.
و ثالثاً: بأنّ بعض الموارد التي قامت عليها سيرة المسلمين مردوعة بالروايات المستفيضة المانعة عن التعامل مع الامراء و السلاطين
.
هذا، و على تقدير ثبوت حرمة الإعانة على الإثم تطرح بعض العناوين، مثل أثر هذه الحرمة على المعاملات من حيث الصحّة و الفساد، و كذلك العلاقة بين حرمة الإعانة و قانون عدم الملازمة بين حرمة ذي المقدمة و حرمتها فهنا بعض التفريعات:
إذا كان في بعض المعاملات إعانة على الإثم- كبيع العنب ممّن يعمله خمراً، أو بيع الخشب بقصد أن يعمله صنماً أو صليباً و نحوهما- فهل يؤدّي النهي عنها و تحريمها إلى فسادها أم لا؟
ذهب عدّة من الفقهاء إلى عدم الفساد
؛ لعدم الملازمة بين
الحرمة التكليفية و
الحرمة الوضعية في
المعاملات، كالبيع وقت النداء فإنّه يقع صحيحاً رغم حرمته بالاتّفاق، و لأنّ الإعانة عارضة على
البيع خارجة عن حقيقته، فمع تعلّق الحرمة بالإعانة فإنّ ذلك لا يبرّر تسريتها إلى عنوان آخر، كالبيع مثلًا، فالمحرّم في جميع الحالات هو نفس هذا العنوان، و أمّا عنوان البيع فهو محكوم بحكمه الأوّلي، و هو
الجواز، فلا مجال لأن يصير باطلًا لأجل الحرمة بعد كون متعلّق الحرمة هو عنوان الإعانة دون المعاملة
.
و احتمل بعض الفقهاء الفساد
لرواية
تحف العقول، عن
أبيعبداللَّه (علیهالسّلام) قال: «... و كذلك كلّ بيع ملهوّ به و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللَّه، أو يقوى به
الكفر و
الشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب من الأبواب يقوى به باب من أبواب
الضلالة، أو باب من أبواب
الباطل، أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم، حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته و جميع التقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك»
.
و لكن ناقش في ذلك بعض الفقهاء، لضعف الرواية سنداً بالإرسال، فيما ناقش آخرون بضعف الدلالة. و على فرض التلازم بين الحرمة و البطلان لن يكون هناك فرق بين علم المتبايعين بأنّ المعاملة إعانية، و بين علم أحدهما و جهل الآخر؛ لأنّ حقيقة البيع عبارة عن المبادلة بين العوض و المعوّض في جهة الإضافة، فإذا بطل من أحد الطرفين بطل من الطرف الآخر؛ إذ لا يعقل التبعيض من حيث الصحّة و الفساد في بيع واحد
.
ثمّ إنّه اختلف الفقهاء في إمكان تخصيص حرمة الإعانة على الإثم و أنّها كحرمة الكذب قابلة للتخصيص و التقييد، أو أنّها لا تختلف في ذلك، بل هي كحرمة
الظلم غير قابلة للتخصيص و التقييد، فاختار بعضهم أنّها كحرمة
الكذب قابلة للتخصيص؛ لأنّها تكون مباحة في حالتي الإكراه و الاضطرار، فلو كانت كالظلم لما جاز ارتكابها بحال
.
قال السيّد الخوئي: «إنّ حرمة ذلك كحرمة الكذب تقبل
التخصيص و التقييد، و تختلف بالوجوه و الاعتبار، و ليست هي كحرمة الظلم التي لا تختلف بذلك... و من هنا لو أكره الجائر أحداً على الإعانة على الإثم أو اضطرّ إليها فإنّه لا شبهة حينئذٍ في جوازها، و لو كانت حرمتها كحرمة الظلم لا تختلف بالوجوه و الاعتبار، و لا تقبل التخصيص و التقييد لما كانت جائزة في صورتي
الإكراه و
الاضطرار أيضاً»
و ذهب آخرون إلى أنّها كحرمة الظلم و المعصية غير قابلة للتخصيص، فكما أنّ المعصية لا تجتمع مع
الإباحة، كذلك الإعانة لا تجتمع مع الجواز، فإذا دلّ دليل على جوازها دلّ في نفس الوقت على ارتفاعها و تبدّلها إلى عدم إعانة؛ لأنّ تبدّل الحكم كاشف عن تبدّل الموضوع.
قال
المحقّق النائيني: «لا إشكال في عدم إمكان تخصيصها بعد تحقّق موضوعها؛ لأنّ هذه من العناوين غير القابلة للتخصيص، فإنّها كنفس المعصية و كالظلم، فإنّه كما لا يمكن أن يكون معصية خاصة مباحة فكذلك لا يمكن أن تكون الإعانة على المعصية مباحة... لأنّه لو كان بيع العنب ممّن يعلم أنّه يعمله خمراً داخلًا في عنوان الإعانة فلا يمكن أن يدلّ دليل على جوازه، فمع ورود الدليل على الجواز نستكشف أنّه ليس داخلًا في هذا العنوان»
.
و ذهب ثالث إلى التفصيل بين ما كان الدليل على حرمة الإعانة حكم العقل بقبح الإعانة على المعصية فلا يجوز تخصيصها؛ لأنّ أحكام العقل غير قابلة للتخصيص، و بين ما كان دليل حرمتها الآية الشريفة فيجوز تخصيصها
.
إذا أخذنا بنظرية المشهور القائلة بعدم الملازمة عقلًا بين حرمة الشيء و حرمة مقدّمته فسوف يطرح سؤال عن مدى تأثير ذلك في نتيجة البحث، و هل تكون الإعانة التي هي مقدّمة للحرام غير محرّمة؟
الجواب: لا علاقة بين المسألتين؛ لأنّ سبب قبح الإعانة ليس مقدّمية الإعانة لفعل الحرام، بل قبح ارتكابها بحكم العقل، حتى مع عدم وجود ملازمة بين الحرام و مقدّمته.
قال
السيّد الخميني: «لا منافاة بين ذلك و بين ما حرّرناه في الاصول من عدم حرمة
مقدّمات الحرام مطلقاً؛ لأنّ ما ذكرناه في ذلك المقام هو إنكار الملازمة بين حرمة الشيء و حرمة مقدّماته، و ما أثبتناه ههنا إدراك العقل قبح العون على المعصية و الإثم، لا لحرمة المقدّمة، بل لاستقلال العقل على قبح الإعانة على ذي المقدّمة الحرام و إن لم تكن مقدّماته حراماً».
و نشير أخيراً إلى الموارد التي وردت في
الفقه بوصفها مصاديق للإعانة على الإثم على الشكل التالي:
•
إعانة الظالم: لا كلام بين الفقهاء في حرمة إعانة الظالمين في ظلمهم
،، بل في مطلق الحرام، كما صرّح به غير واحد منهم. المشهور بين الفقهاء
قصر التحريم على إعانتهم فيما يحرم في نفسه خاصّة و أخذ
الاجرة عليه، و أمّا إعانتهم في غير جهة ظلمهم بالامور السائغة، كإعانتهم على تحصيل أموالهم و خياطة ثيابهم ممّا هو مباح في نفسه فغير محرّم، كما هو صريح كلمات بعض الفقهاء
.
صرّح الفقهاء
بأنّه لا يحلّ للمحرم الإعانة على
الصيد ؛ مستنداً إلى أنّ الإشارة محرّمة فالإعانة أولى بالتحريم؛ لأنّ المشير سبب بعيد و المعين سبب قريب، و لأنّه إعانة على محرّم فحرم كالإعانة على قتل المسلم
، و لقوله (علیهالسّلام): «و اجتنب في إحرامك صيد البرّ كلّه...»
.
لا يجوز قتل النفس المحترمة، مباشرة أو إعانة؛ لأنّ قتل المؤمن ظلماً من أعظم الكبائر
، و لقوله تعالى: «وَ مَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً»
. و لروايات كثيرة
.
هذا بالنسبة إلى الحرمة و العقاب الاخروي. و أمّا العقاب الدنيوي فقد صرّح الفقهاء على عقوبة الإعانة بأنّه لو أمسك واحد و قتل الآخر فالقود على القاتل؛ لأنّه المباشر دون الممسك، لكنّ الممسك يحبس أبداً
، بل ادّعي عليه عدم الخلاف
، بل عليه دعوى
الإجماع ؛ و ذلك للأخبار المستفيضة
.
و كذلك لو كان معهما ردء ينظرهما عن الآخرين، فقد حكموا بسمل عيناه معاً، أي تفقئان بحديدة محمّاة
لا يجوز قتال النساء، فإن قاتلن المسلمين و عاونّ أزواجهنّ و رجالهنّ امسك عنهنّ، فإن اضطرّوا إلى قتلهنّ جاز حينئذٍ قتلهنّ، و لم يكن به بأس
؛ و ذلك لعموم الأدلّة
.
و لو أعان الذمّي البغاة في حرب المسلمين و ادّعى عذراً و ذكر شبهة فالقول قوله، و أمّا إن قاتل عالماً بذلك يكون قد خرق ذمّته و صار حربياً يجوز قتله و يجري فيه ما يجوز فعله بالحربي
.
و كذا إن استعان
البغاة في حرب المسلمين بمن له أمان إلى مدّة فقاتلوا معهم انتقض أمانهم، فإن ذكروا أنّهم اكرهوا على ذلك و أقاموا البيّنة على ذلك كانوا على
العهد، و إن لم يقيموا بيّنة انتقض أمانهم
.
لو هتك
الحرز جماعة و أخرج المال أحدهم فالقطع عليه خاصة؛ لانفراده بالسبب الموجب. و لو قرّبه أحدهم و أخرجه الآخر فالقطع على المخرج
. و كذا لو وضعها الداخل في وسط النقب و أخرجها الخارج، قال
الشيخ الطوسي: لا قطع على أحدهما؛ لأنّ كلّ واحد لم يخرجه عن كمال الحرز
.
و لو نقبا معاً فدخل أحدهما فأخذ نصاباً فأخرجه بيده و ناوله إلى رفيقه، فأخذه رفيقه و لم يخرج هو من الحرز، أو رمى به من داخل و أخذه رفيقه من خارج، أو أخرج يده إلى خارج الحرز و
السرقة فيها، ثمّ ردّه إلى الحرز، فالقطع في هذه المسائل الثلاثة على الداخل دون الخارج
؛ لقوله تعالى: «وَ السَّارِقُ وَ السَارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ»
، و هو على عمومه إلّا ما أخرجه الدليل.
من لم يباشر شيئاً من السرقة أو
القتل، مثل: أن كثّر أو هيّب أو كان ردءاً أو معاوناً فإنّما يعزّر و يحبس، و لا يقام عليه حدّ
المحارب .
الموسوعة الفقهية، موسسه دائرة المعارف الفقه الاسلامي، ج۱۴، ص۳۴۰-۳۵۹.