الاختلاف في الاستيجار
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لو تنازعا في أصل الاستيجار ، ولو اختلفا في ردّ العين المستأجرة، لو اختلفا في قدر العين المستأجرة، لو اختلفا في قدر الاجرة، لو ادعى الموجر التفريط، ثبوت اجرة المثل في الإجارة الباطلة، لو تعدى بالدابة المسافة المشترطة، لو اختلفا في قيمة الدابة أو أرش نقصها.
( ولو تنازعا في ) أصل (
الاستيجار ) فادّعاه أحدهما وأنكره الآخر ولا بيّنة ( فالقول قول المنكر مع يمينه ) بلا خلاف ؛
لأصالة عدمها ، ولا فرق بين كون المنكر المالك أم الآخر.
ثمّ إن كان النزاع قبل
استيفاء شيء من المنافع رجع كلّ مال إلى صاحبه. وإن كان بعد استيفاء شيء منها أو الجميع الذي يزعم من يدّعي وقوع
الإجارة أنّه متعلّق العقد وكان المنكر المالك ، فإن أنكر مع ذلك
الإذن في التصرّف وحلف استحقّ اجرة المثل ، وإن زادت عن المسمّى بزعم الآخر.
ولو كان المتصرّف يزعم تعيينها في مال مخصوص وكان من جنس النقد الغالب لزم المالك قبضه عن اجرة المثل ، ولا تسلّط له على إلزامه بأخذ النادر ؛ للأصل ، مع عدم الضرر ، فإن ساواها أخذه ، وإن نقص وجب على المتصرّف
الإكمال ، وإن زاد صار الباقي مجهول المالك ؛ لزعم المتصرّف
استحقاق المالك له وهو ينكر.
وإن كان مغايراً له ولم يرض المالك به وجب عليه الدفع من الغالب ، ولا يجوز له
إلزام المالك بأخذ النادر ؛ لما يترتّب عليه من الضرر ، ويبقى ذلك بأجمعه مجهولاً ، ويضمن العين
بإنكار الإذن ، ولو اعترف به فلا ضمان.
وإن كان المنكر المتصرف وحلف وجب عليه اجرة المثل ، فإن كانت أزيد من المسمّى بزعم المالك لم يكن له المطالبة به إن كان دَفَعَه ؛ لاعترافه باستحقاق المالك له ، ووجب عليه دفعه إن لم يكن دَفَعَه ، وليس للمالك قبضه ؛
لاعترافه بأنّه لا يستحق أزيد من المسمّى.
وإن زاد المسمّى عن
أجرة المثل كان للمنكر المطالبة بالزائد إن كان دَفَعَه، وسقط إن لم يكن، والعين ليست بمضمونه عليه هنا؛ لاعتراف المالك بكونها
أمانة بالإجارة.
(ولو اختلفا في ردّ العين) المستأجرة فادّعاه المستأجر ولا بيّنة (فالقول قول المالك مع يمينه) بلا خلاف في الظاهر ولا إشكال؛ لأصالة العدم السليمة عن المعارض من نحو ما قيل في الوديعة من
الإحسان المحض النافي للسبيل عليه بمطالبة البيّنة؛ لقبضه هنا لمصلحة نفسه، فلا إحسان منه يوجب قبول قوله فيه بلا بيّنة، مع مخالفته للأصل.
(وكذا) القول قول المالك مع يمينه (لو كان)
الاختلاف (في قدر الشيء المستأجَر) بفتح الجيم، وهو العين المستأجَرة، بأن قال : آجرتك البيت بمائة، فقال : بل الدار أجمع بها، ولا بيّنة، على المشهور بين المتأخّرين، وفاقاً للحلّي؛
لأصالة عدم وقوع الإجارة على ما زاد عمّا اتّفقا عليه.
وقيل : يتحالفان وتبطل الإجارة؛ لأنّ كلاًّ منهما مدّعٍ ومنكر.
ويضعف : بأنّ ضابطة التحالف عندهم أن لا يتّفقا على شيء، كما لو قال : آجرتك البيت الفلاني، فقال : بل الفلاني، وليس المقام كذلك؛ لاتّفاقهما على وقوع الإجارة على البيت وعلى استحقاق الأُجرة المعيّنة، وإنّما الاختلاف في الزائد، فيقدّم قول منكره.
(و) كذا (لو اختلفا في قدر
الأجرة ) بعد اتفاقهما على العين والمدّة، فادّعى المالك الزيادة والآخر النقصان (فالقول قول المستأجر مع يمينه) وفاقاً لمن تقدّم؛ لما مرّ.
خلافاً للخلاف والغنية،
فالرجوع إلى القرعة، فمن خرج
اسمه حلف وحكم له؛ للإجماع على أنّها لكلّ أمر مشكل.
وفيه نظر؛ إذ لا إشكال؛ لاتفاقهما على مطلق الإجارة، وإنّما اختلفا في قدر الأُجرة، والموجر يدّعي الزيادة وينكرها المستأجر، فيكون على المدّعى البيّنة، فإن عجز حلف المستأجر وبرئ من تلك الزيادة.
وللإسكافي و
المبسوط ،
فالتحالف إن كان الاختلاف قبل مضيّ المدّة، وإلاّ فالقول قول المستأجر، قال : وهذا هو الذي يقتضيه مذهبنا.
وللقاضي،
فالتحالف إن حلفا، وإلاّ فقول أحدهما مع يمينه إن نكل صاحبه، وإن نكلا أو حلفا جميعاً انفسخ العقد في المستقبل وكان القول قول المالك مع يمينه في الماضي، فإن لم يحلف كان له اجرة المثل.
ومرجعهما إلى
التحالف فيضعّف بما مرّ في المسألة السابقة، ومع ذلك هما كسابقهما شاذّان لم أرَ من المتأخّرين مفتياً بهما، وإن استوجه الفاضل في
المختلف القول بالتحالف بعد ردّه.
ثمّ ذا كلّه إذا لم يكن بيّنة، فلو كانت لأحدهما قيل
: حكم له بها مطلقا.
ولو أقامها كلّ منهما ففي تقديم قول المدّعى؛ لأنّ القول قول المنكر فلا حكم لبيّنته، أو التحالف؛ لأنّ كلاًّ منهما مدّعٍ باعتبار ومنكر بآخر، أو القرعة؛ لحصول
الإشكال مع البينة احتمالات، أوجهها الأوّل.
(وكذا) يقدّم قول المستأجر مع يمينه وعدم البينة (لو ادّعى) الموجر (عليه
التفريط ) فأنكره؛ للأصل، مضافاً إلى أمانته الموجبة لذلك بمقتضى النصوص المستفيضة.
(وتثبت اجرة المثل في كلّ موضع تبطل فيه الإجارة) مع استيفاء المنفعة أو بعضها مطلقا، زادت عن المسمّى أم نقصت عنه؛ لاقتضاء
البطلان رجوع كلّ عوض إلى مالكه، ومع استيفاء المنفعة يمتنع ردّها فيرجع إلى بدلها ، وهو اجرة المثل.
قيل
: إلاّ أن يكون البطلان باشتراط عدم الأُجرة، أو عدم ذكرها في العقد بالمرّة؛ لدخول الموجر على ذلك، واستحسنه في المسالك.
وهو كذلك في القسم الأوّل؛ للأصل ، ورجوعه إلى العارية وإن عبّر عنها بلفظ
الإجارة الظاهرة في عدم التبرّع ولزوم الأُجرة، فإنّ التصريح بعدمها بعده أقوى من الظهور المستفاد منها قبله، فالظاهر يدفع بالنص، سيّما مع
اعتضاده بالأصل، فيرجع إلى العارية بناءً على عدم
اشتراط لفظٍ فيها، وأنّه يكتفى فيها بما دلّ على التبرّع بالمنفعة، وقد تحقّق في فرض المسألة ويشكل في الثاني؛ لاندفاع
الأصل بظهور لفظ الإجارة في لزوم الأُجرة وعدم التبرّع، ولا معارض له يصرفه عن ذلك الظهور من نصّ أو غيره، فإنّ عدم ذكر الأُجرة لا يدل على التبرّع بالمنفعة بإحدى الدلالات الثلاث؛ لاحتمال
استناده إلى نحو النسيان والغفلة، فالأخذ بالظاهر متعيّن إلى تحقّق الصارف عنه إلى العارية، كما تحقّق في الشق الأوّل.
وأصالة
البراءة عن الأُجرة بعد ظهور لفظ الإجارة في لزومها وعدم التبرّع غير كافية، واشتراط الصراحة بلزوم الأُجرة لا يلائم ما ذكروه من لزومها بمجرّد
انتصاب الأجير للعمل بالأجر، كالسمسار والدلاّل، بل الحكم بلزومها ثمّة يوجب الحكم به هنا بطريق أولى، كما لا يخفى، فإذاً الحكم بلزوم اجرة المثل هنا أولى.
ثمّ إنّ كلّ ذا مع جهلهما بالفساد، وأمّا مع علمهما به فلا يستحق المؤجر شيئاً؛ لأن علمه به يصيّر دفعه المنفعة في حكم التبرّع والبذل من دون عوض وأُجرة، فيصير كالعاريّة.
ولا يجب على المستأجر دفع الأُجرة، فلو دفعها مع العلم بالفساد كان بمنزلة الهبة، له الرجوع فيها ما دامت العين باقية والمدفوع إليه غير
رحم .
ولو اختصّ بالجهل كان له الرجوع مطلقا ولو كانت تالفة أو كان المدفوع إليه رحماً، فإنّ الدفع هنا ليس بمنزلة الهبة، بل في مقابلة العمل المتوهّم للجهل بالفساد لزوم المدفوع بسببه، وحيث ظهر الفساد وعدم السببية كان له الرجوع بما دفعه، والعمل لا يوجب شيئاً؛ لعلم صاحبه بالفساد وكونه به متبرّعاً.
ولو انعكس فاختصّ الموجر بالجهل استحقّ اجرة المثل، كما إذا شاركه الآخر في الجهل، والعين مضمونة في يد المستأجر مطلقا، كما نسب إلى المفهوم من كلمات الأصحاب؛
ولعلّه لعموم الخبر بضمان ما أخذته اليد.
وربما يستشكل فيه في صورة جهله بالفساد؛
لإناطة التكليف بالعلم و
ارتفاعه مع الجهل.
وهو كما ترى، فإنّ التلف في اليد من جملة الأسباب لا يختلف فيه صورتا العلم والجهل حين السبب، والتكليف بردّ
البدل ليس حين الجهل، بل بعد العلم بالسبب.
نعم، ربّما يشكل الحكم في هذه الصورة بل مطلقا لو كان الموجر عالماً بالفساد؛ لكون ترتّب اليد على العين حينئذٍ بإذن المالك، فلا ينصرف إلى هذه الصورة
إطلاق الخبر المتقدّم.
مضافاً إلى ما عرفت من رجوع الإجارة في هذه الصورة إلى العارية، والحكم فيها عدم ضمان المستعير، كما تقدّم.
ولا كذلك لو كان جاهلاً به؛ لضمان المستأجر فيه ولو حصل الدفع فيه بالإذن أيضاً، فإنّه كعدمه؛ لابتنائه على توهم الصحّة فيكون كالإذن المشروط بها، فإذا ظهر الفساد لم يكن ثمّة إذن بالمرّة، ولعلّ مراد الأصحاب غير هذه الصورة.
(ولو تعدّى بالدابّة) بل مطلق العين المستأجرة فسار بها زيادة عن (المسافة المشترطة) في إجارتها (ضمن) قيمتها مع التلف، و
الأرش مع النقص (ولزمه في الزائد أُجرة المثل) له، مضافاً إلى المسمّى مطلقا، ولو مع الأمرين، وفاقاً للمبسوط والمختلف والتنقيح؛
للصحيح : «.. عليك مثل كراء البغل ذاهباً من
الكوفة إلى النيل، ومثل كراء البغل راكباً من النيل إلى بغداد، ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة توفّيه إيّاه».. فقلت : أرأيت لو عطب البغل أو نفق أوليس كان يلزمني؟ قال : «نعم، قيمة البغل يوم خالفته» قلت : فإن أصاب
البغل كسر أو دبر أو عقر، فقال : «عليك قيمة ما بين الصحيح والمعيب يوم تردّه»
الخبر، وهو طويل مشهور.
خلافاً للقاضي، فقال : يلزم مع التلف القيمة لا غير، ومع النقص أمّا الأُجرة أو قيمة الناقص.
وهو شاذّ محجوج بالصحيح المزبور، وأصالة عدم التداخل بناءً على أن كلاًّ منهما يثبت بسبب، فالنقص بالجناية والأُجرة باستيفاء المنفعة المملوكة، وما ذكره هو فتوى أبي حنيفة، وقد خطّأه عليه السلام في صدر الصحيحة، فقال : «في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع
الأرض بركتها».
ثمّ إنّ ظاهرها كما ترى أنّ المعتبر في القيمة قيمة يوم التفريط وعليه الأكثر هنا؛ لها، ولأنّه يوم تعلّقه بذمّته، كما أنّ الغاصب يضمن القيمة يوم الغصب، إلاّ أنّ الظاهر من قوله : «يوم تردّه» خلافه؛ مضافاً إلى عدم صراحة سابقه فيه.
وقد قدّمنا التحقيق في ضعف دلالتها عليه في كتاب
البيع ،
ولعلّه لذا قيل
: إنّ الأقرب ضمان قيمتها يوم التلف؛ لأنّه يوم
الانتقال إلى القيمة لا قبله وإن حكم بالضمان قبل التلف بسبب التفريط السابق عليه؛ لأنّ المفروض بقاء العين فلا تنتقل إلى القيمة.
وفيه مناقشةٌ ما ذكرت في بعض المباحث المذكورة ثمة.
وقيل
: يضمن أعلى القيم من حين العدوان إلى حين التلف.
وهو أوفق بالأصل الدالّ على لزوم تحصيل البراءة اليقينية، مع كونه أحوط في الجملة.
وكيف كان، موضع الخلاف ما إذا كان الاختلاف بتفاوت القيمة، أمّا لو كان بسبب نقص في العين فلا شبهة في
ضمان الناقص.
(فإن اختلفا في قيمة الدابة أو أرش نقصها فالقول قول
الغارم ) وفاقاً للحلّي وأكثر المتأخّرين، كالفاضلين والشهيدين والتنقيح والمفلح الصيمري وغيرهم،
بل لعلّه عليه عامّتهم؛ لأصالة عدم الزيادة؛ ولأنّه منكر فيكون القول قوله.
(وفي رواية) عمل بها
النهاية أن (القول قول المالك) وهي الصحيحة المتقدّمة، فإنّ في آخرها : قلت : فمن يعرف ذلك؟ قال : «أنت وهو، إمّا أن يحلف هو على القيمة فتلزمك، وإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود أن قيمة البغل حين أكرى كذا وكذا فيلزمك» الحديث.
ولو لا
إطباق متأخّري الأصحاب على العمل بالأصل العام وإطراح الرواية لكان المصير إليها لصحتها في غاية القوة. لكن لا مندوحة عمّا ذكروه؛ لقوة الأصل بعملهم فيرجّح عليها وإن كانت خاصّة، لفقد التكافؤ.
ولمخالفتها الأصل اقتصر في النهاية على موردها وهي الدابة، ووافق الأصحاب فيما عداه من
الأعيان المستأجرة .
رياض المسائل، ج۱۰، ص۴۰- ۴۸.