البينة في قصاص النفس
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
البينة: شاهدان عدلان، ولا تثبت
بشاهد ويمين، ولا بشاهد وامرأتين؛ ويثبت بذلك ما يوجب الدية: كالخطأ، ودية الهاشمة، والمنقلة، والجائفة، وكسر العظام؛ ولو شهد اثنان أن القاتل زيد، وآخران أن القاتل عمرو، قال
الشيخ في
النهاية يسقط
القصاص ووجبت الدية نصفين؛ ولو كان خطأ كانت
الدية على عاقلتهما، ولعله احتياط في عصمة الدم لما عرض من تصادم البينتين؛ ولو شهد بأنه قتله عمدا، فأقر آخر أنه هو القاتل دون المشهود عليه، ففي رواية
زرارة عن
أبي جعفر (عليه السلام): للولي قتل المقر، ثم لا سبيل على المشهود عليه، وله قتل المشهود عليه ويرد المقر على أولياء المشهود عليه نصف الدية، وله قتلهما ويرد على أولياء المشهود عليه خاصة نصف الدية؛ وفي قتلهما اشكال، لانتفاء العلم بالشركة؛ وكذا في الزامهما بالدية نصفين لكن
الرواية من المشاهير.
فهي شاهدان عدلان ويثبت بهما اتّفاقاً، فتوًى ونصّاً ولا يثبت بشاهد ويمين اتفاقاً، كما مرّ في كتاب
القضاء ولا بشهادة رجل وامرأتين مطلقاً، على أصحّ الأقوال، المتقدمة هي مع تمام التحقيق في المسألة في كتاب
الشهادات.
وإنّما يثبت بذلك أي بكلّ من
الشاهد واليمين، ومنه وامرأتين ما يوجب الدية لا
القود كال قتل خطأ، ودية الهاشمة، والمنقّلة، والجائفة، وكسر العظام وبالجملة: ما لا قود فيه، بل الدية خاصّة؛ لأنّها مال، وقد مرّ في الكتابين ثبوته بل كلّ ما يقصد به المال بهما، مع ما يدل عليه من
النصّ والفتوى، ولا وجه لإعادته هنا.
ولو شهد اثنان بأنّ القاتل زيد مثلاً وآخران بأنّه هو عمرو دونه قال
الشيخ في
النهاية والمفيد والقاضي: إنّه يسقط القصاص ووجبت الدية عليهما نصفين لو كان القتل المشهود عليه عمداً أو شبيهاً به ولو كان خطأً كانت الدية على عاقلتهما ومستندهم من النصّ غير واضح ولعلّه الاحتياط في عصمة الدم لما عرض من الشبهة بتصادم البيّنتين.
وتوضيح هذه الجملة مع بيان دليل لزوم
الدية عليهما بالمناصفة ما ذكره
الفاضل في
المختلف حيث اختار هذا القول وشيّده، وهو أنّه: ليس قبول إحدى البيّنتين أولى من قبول الأُخرى، ولا يمكن العمل بهما، فيوجب قتل الشخصين معاً، وهو باطل إجماعاً، ولا العمل بإحداهما؛ لما قلنا من عدم المرجّح، فلم يبق إلا سقوطهما معاً فيما يرجع إلى القود؛ لأنّ التهجّم على الدماء المحقونة بغير سبب معلوم أو مظنون ممنوع شرعاً؛ لأنّ كل واحدة من البيّنتين مكذِّبة للأُخرى. وإنّما أوجبنا الدية عليهما لئلاّ يطلّ دم امرئ مسلم قد ثبت أنّ قاتله أحدهما، لكن لجهلنا بالتعيين أسقطنا القود الذي هو أقوى العقوبتين وأوجبنا أخفّهما
.
ولمانع أن يمنع سقوط البيّنتين عند تعارضهما بعدم إمكان العمل بهما وعدم المرجّح للعمل بإحداهما، بل هنا احتمال ثالث، وهو تخيير الوليّ بينهما، كما ذكروه في تعارض الإقرارين بالقتل عمداً في أحدهما وفي الثاني بالخطإ، ودلّ عليه النص الذي مضى، مع تأيّده بما عليه
الأصحاب ودلّ عليه بعض الأخبار.
مضافاً إلى الاعتبار من
التخيير بين الخبرين المتعارضين مثلاً بحيث لا يترجّح أحدهما على الآخر أصلاً.
ومن جميع ما ذكر ولو بضمّ بعضه إلى بعض لعلّه يحصل
الظن بجواز قتل من شهدت عليه إحدى البيّنتين ممن اختاره الأولياء، فليس فيه التهجّم على الدماء الممنوع عنه شرعاً، وحينئذٍ فلا يبعد المصير إلى ما عليه
الحلّي من التخيير، وإن كان ما ذكره من الأدلّة كلّها أو جلّها لا يخلو عن مناقشة.
لكن شهرة ما عليه الشيخان مع قوّة احتمال استنادهما إلى رواية كما هو السجيّة لهما والعادة، ونبّه عليه
شيخنا في
المسالك، وادّعى وجودها لهما الحلّي في
السرائر والفاضل في
التحرير، أوجب التردّد في المسألة، فينبغي الرجوع فيها إلى مقتضى
الأصل، وهو عدم القود، بل وعدم الدية أيضاً، كما حكي عن الشيخ أنّه احتمله، قال: لتكاذب البيّنتين، ووجود
شبهة دارئة للدعوى
.
ولكن احتمال دعوى عدم القول بالفصل بين القول بعدم التخيير والدية وبين القول به مع عدمها؛ لكون ذلك من الشيخ احتمالاً لا فتوًى، يعيّن القول بثبوت الدية، سيّما مع التأيّد بما ذكره الفاضل في المختلف
لإثباتها، وإن كان في صلوحه لذلك حجة نوع مناقشة، فالعمل على ما في النهاية.
ثم إنّ مقتضى إطلاقه كعبائر أكثر الأصحاب عدم الفرق بين أن يدّعي أولياء المقتول القتل على أحدهما، أو عليهما، أو لا يدّعوا شيئاً منهما.
خلافاً
للماتن في
النكت، فخصّ الحكم بالصورة الثالثة، وأثبت في الأُولى تسلّط الأولياء على المدّعى عليه، قال: لقيام
البيّنة بذلك، وثبوت السلطنة شرعاً بالآية
، فلهم
القتل في العمد والدية في الخطأ وشبهه، وليس لهم على الآخر شيء منهما، واحتمل في الثانية ثبوت اللوث فيهما، قال: لأنّ الأربعة يتفقون أنّ هناك قاتلاً ومقتولاً وإن اختلفوا في التعيين، فيحلف الأولياء مع دعوى
الجزم، ويثبت حينئذٍ القصاص مع ردّ فاضل الدية عليهما، وإليه يميل الشهيدان وغيرهما
، لكن لم يذكروا عنه حكم الصورة الثانية، وناقشهم في ذلك بعض الأجلّة
بما لا يخلو عن قوّة، ويطول الكلام بذكره.
وبالجملة: المسألة من المشكلات، فلا يترك
الاحتياط فيها حيث يمكن على حال.
ولو شهدا بأنّه قتل عمداً فأقرّ آخر أنّه هو القاتل كذلك دون المشهود عليه، ففي رواية
زرارة الصحيحة عن
أبي جعفر (علیهالسّلام) أنّ للوليّ قتل المقرّ، ثم لا سبيل له ولا لورثة المقرّ على المشهود عليه، وله قتل المشهود عليه ولا سبيل له على المقرّ ويردّ المقرّ على أولياء المشهود عليه نصف الدية، وله قتلهما معاً ويردّ على أولياء المشهود عليه خاصّة دون أولياء المقرّ نصف الدية ثم يقتل به، قال زرارة: قلت: فإن أرادوا أن يأخذوا الدية؟ فقال: «الدية بينهما نصفان؛ لأنّ أحدهما أقرّ والآخر شُهد عليه» قلت: وكيف جُعل لأولياء الذي شُهد عليه على الذي أقرّ نصف الدية حين قُتل، ولم يُجعل لأولياء الذي أقرّ على أولياء الذي شُهد عليه ولم يقرّ؟ فقال: «لأنّ الذي شهد عليه ليس مثل الذي أقرّ، الذي شُهد عليه لم يقرّ ولم يبرئ صاحبه، والآخر أقرّ وبّرأ صاحبه، فلزم الذي أقرّ وبرّأ ما لم يلزم الذي شُهد عليه ولم يبرئ صاحبه»
.
وفي ما تضمّنته من جواز قتلهما معاً إشكال؛ لانتفاء العلم بالشركة المجوّزة لذلك، فإنّ القاتل ليس إلاّ أحدهما.
وكذا في إلزامهما بالدية بينهما نصفين لما ذكر، ولعلّه لذا ردّه الحلّي مضافاً إلى قاعدته وحكم بالتخيير، كالمسألة السابقة، فقال: لي في قتلهما جميعاً نظر؛ لعدم
شهادة الشهود وإقرار المقرّ بالشركة، قال: أمّا لو شهدت البيّنة بالاشتراك وأقرّ الآخر به جاز قتلهما، ويردّ عليهما معاً دية
.
واستقر به
فخر الدين في
الإيضاح صريحاً كوالده في التحرير، وهو ظاهره في
القواعد والإرشاد.
وقوّاه الماتن في
الشرائع لكن قال: غير أنّ الرواية من المشاهير وبشهرتها صرّح الفاضل في كتبه المتقدمة وغيره من الجماعة، مشعرين ببلوغها درجة
الإجماع.
ولعلّه كذلك، فقد أفتى به الشيخ وأتباعه
والإسكافي والحلبي وغيرهم
، بل لم نر لهم مخالفاً عدا من مرّ، وعبائرهم غير صريحة في المخالفة عدا الحلّي وفخر الدين، وهي مشكلة؛ لصحة الرواية، واعتضادها بعمل
الطائفة، فيخصَّص بها القاعدة، وليس هذه بأوّل قارورة، فكم من أُصول قويّة وقواعد كلّية خصّصت بمثل هذا الرواية، بل وبما دونها، كما لا يخفى على ذي اطّلاع وخبرة.
ولكن المسألة مع ذلك لعلّها لا تخلو عن شبهة،
فالأحوط الاقتصار فيها بقتل أحدهما خاصّة؛ لعدم الخلاف فيه ظاهراً، فتوًى وروايةً، وحكى الإجماع عليه الحلّي في السرائر
صريحاً.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۶، ص۲۶۷-۲۷۲.