التنازع في كون العقد إجارة أو عارية
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
قال
السيد اليزدي في
العروة الوثقى : «لو اتفقا على أنّه أذن للمتصرّف في استيفاء المنفعة إلّا أنّهما اختلفا في أنّه كان على وجه
الإجارة أو
الإذن بالضمان أو أنّه على وجه العارية، ففي تقديم أيّهما وجهان، بل قولان، من
أصالة البراءة بعد فرض كون التصرف جائزاً، ومن أصالة
احترام مال
المسلم الذي لا يحلّ إلّا بالإباحة، و
الأصل عدمها، فثبتت
أجرة المثل بعد التحالف ولا يبعد ترجيح الثاني، وجواز التصرّف أعم من
الإباحة ».
والمستفاد من كلماتهم أنّ المحتملات في المسألة ثلاثة:
أحدها: أنّ مدّعي الإجارة هو المدّعي وعليه
الإثبات ، ومدعي العارية هو المنكر؛ لأصالة
البراءة عن
اشتغال ذمته بعد فرض كون تصرفه جائزاً.
الثاني: عكس ذلك وأنّ مدعي العارية هو المدّعي وعليه الإثبات؛
لأصالة احترام مال الغير.
الثالث: أنّ المورد من التداعي باعتبار أنّ كل واحد منهما يدّعي عقداً ينكره الآخر فيتحالفان، فإذا حلفا معاً ثبتت اجرة المثل على المتصرّف بقاعدة
الاحترام المتقدمة.
وهذا يرجع بحسب الحقيقة إلى
الاختلاف في أمرين:
الأوّل: أنّ المقام هل يكون من التداعي فيجب فيه التحالف أم أنّه من المدّعي والمنكر فالحلف يكون على المنكر فقط؟
الثاني: فيما يقتضيه
الأصل من ضمان اجرة المثل وعدمه.
و
الأمر الأوّل مربوط بما هو المعيار في تشخيص المدّعي والمنكر في باب القضاء، فإذا جعل الميزان في تشخيص ذلك ما هو مصب الدعوى والنفي والإثبات فحيث إنّ كلّاً منهما في المقام يدّعي عقداً غير ما يدعيه الآخر كان المقام من التداعي، فيجب فيه التحالف، فإذا تحالفا فلا يثبت شيء منهما، فيرجع إلى مقتضى الأصل بلحاظ
الأثر الشرعي المترتّب في المسألة.
وإذا جعل الميزان في ذلك أنّ من يكون قوله هو الموافق مع الأصل الشرعي بلحاظ النتيجة والأثر الشرعي المترتّب في المسألة هو المنكر ومن يدعي ما يخالف الأصل ولا بد من إثباته فهو المدّعي، فهذا يقتضي تنقيح ما هو مقتضى الأصل بحسب النتيجة والأثر الشرعي المترتّب في المسألة؛ ليرى هل أنّ قول أحدهما هو الموافق مع الأصل فيكون هو المنكر ومقابله المدعي، أو أنّ قول كلٍ منهما مخالف مع الأصل، فيكون من التداعي فيجب التحالف أيضاً. وتحقيق ما هو الحق في البحث الأوّل متروك إلى محلّه في مصطلح (مدّعي ومنكر).
وإنّما المهم هنا بحث الأمر الثاني: أي تشخيص ما يقتضيه الأصل العملي الجاري في المقام، فهل يقتضي نفي اشتغال ذمة المتصرف بالاجرة أو يقتضي العكس؟
ومحل البحث فيما إذا وقع التنازع والدعوى بعد استيفاء المتصرف للمنفعة بتمامها أو بمقدار منها، وأمّا إذا كان ذلك قبل استيفاء شيء من المنفعة فإذا تحالفا- بناءً على كونه من التداعي أو لم يثبت دعوى
الإجارة - فالنتيجة جواز
استرداد المالك للعين كما لا يثبت الاجرة على المتصرّف؛
لاستصحاب عدم الإجارة النافي لحق
الأجرة على المتصرّف- إذا كان المالك هو المدّعي للإجارة- أو النافي لاستحقاق المتصرّف للمنفعة بالاجرة- إذا كان هو المدعي لها- فيحق للمالك استرداد العين قبل أن يتصرّف فيها المتصرف، ولا يعارض باستصحاب عدم العارية؛ لأنّه لا يثبت
استحقاق المالك للُاجرة، أو استحقاق المتصرّف للمنفعة بها كما هو واضح.
فمحلّ الكلام ما إذا كانت الدعوى بعد
الاستيفاء للمنفعة كلًا أو بعضاً، ويكون الأثر والنتيجة الشرعية المنظور إليها استحقاق المالك لُاجرة المنفعة المستوفاة من قبل المتصرّف وعدمه. وهنا تارة يكون مدعي الإجارة هو المتصرّف، واخرى يكون المالك، فإن كان الأوّل خرج ذلك عن باب الدعوى واندرج في باب تعارض الاقرارين؛
إذ لا يدعي أي منهما شيئاً على الآخر، بل يعترف كل منهما بشيء على نفسه حيث يعترف المتصرّف باشتغال ذمته بالاجرة كما يعترف المالك بأنّه لا يستحق على المتصرّف شيئاً. وقد تقدم حكمه فيما سبق.
وإن كان الثاني- كما هو الغالب حيث يطالب المالك بأُجرة ما استوفاه المتصرّف وينكره المتصرّف مدّعياً كونه عارية- فقد اختلفت أنظار الفقهاء في تقديم قول أيّ منهما- ولو بعد التحالف- على قولين:
ذهب جماعة من الفقهاء منهم الشيخ و
ابن زهرة وبعض المتأخّرين
إلى أنّ القول قول المتصرّف مع يمينه؛ لأصالة براءة ذمته عن
الاشتغال بالاجرة.
وقد استدل عليه بأنّه مقتضى
أصالة البراءة وعدم اشتغال ذمة المتصرّف بالاجرة، ولا موجب للضمان؛ لأنّه ينحصر موجبه في أحد أمرين: إمّا اليد و
الاستيلاء بغير إذن، أو
الالتزام العقدي من إجارة أو غيرها، والأوّل غير محتمل في المقام بعد فرض صدور الإذن، وأمّا الضمان العقدي الذي يدعيه المالك فهو غير ثابت فيكون منفياً بالأصل، ولا يمكن
الاستدلال عليه بقاعدة الاحترام؛ لأنّها مقيّدة بعدم
الإذن ، والمفروض أنّ التصرّف كان باذن من المالك سواء كان على سبيل الإجارة أو العارية.
ذهب الحلّي والقاضي والمحقق وجملة من الفقهاء
إلى أنّ القول قول المالك في استحقاق الاجرة والضمان، ولعلّ هذا هو المشهور،
فحينئذٍ إذا حلف المالك سقطت دعوى المتصرّف فيثبت المسمّى إن نكل المتصرّف عن الحلف على عدم الإجارة بناءً على التحالف، وإلّا فإن تحالفا معاً أو نكلا معاً فيثبت اجرة المثل،
نظراً إلى أصالة احترام مال
المسلم ، وعدم خروج ماله من يده مجاناً وهدراً عليه إلّا إذا كان ذلك بإذنه، وما تقدّم في القول السابق من إذن المالك في التصرّف على كل حال لا يرفع الضمان، وإنّما يرفع حرمة التصرّف تكليفاً فحسب؛ لأنّ الضمان موضوعه الإذن على سبيل المجانية لا مطلق الإذن، وما هو محرز إنّما هو مطلق الإذن وهو رافع للحكم التكليفي بحرمة التصرّف فحسب لا أكثر، فباستصحاب عدم الإذن المجاني أو عدم الإذن في هدر المالية يثبت ضمان اجرة المثل.
وقد استدل بعض
الأعلام بنحو آخر فقال: «وهو الأقوى لكن لا لما ذكر- أي قاعدة الاحترام- بل لأنّ إتلاف المنافع لم يكن مأذوناً فيه، والأصل بقاؤها كما كان، والمنافع مسبوقة بملكية المالك، والأصل بقاؤها كما كانت، فقاعدة
الإتلاف تقتضي الضمان. واحتمال التخصّص أو التخصيص ينتفي بالأصل الموضوعي».
وهذا التعبير بظاهره غير وجيه ما لم يرجع إلى ما ذكرناه؛ إذ على تقدير بقاء ملكية المالك للمنفعة- وهو فرض العارية- يقطع بالإذن في إتلاف المنافع من قبل المالك، وفي التقدير الذي لا إذن من المالك في الإتلاف يقطع بعدم بقاء ملك المنفعة لانتقالها إلى المتصرّف بالإجارة، فالجمع بين الأصلين معاً الذي جعله موضوعاً للضمان مما يقطع بعدمه فكيف يحكم بجريانهما معاً؟! والصحيح ما أشرنا إليه من أنّ موضوع الضمان الأعم من المسمّى، والمثل أمر واحد، وهو عدم رضا المالك وإذنه في المجانية وهدر مالية ماله سواء كان مع تعيين مسمّى بعقد من عقود المعاوضة أو من دونه كما في موارد الإذن في الإتلاف على وجه الضمان أو موارد
الإتلاف بلا إذن أصلًا. وهذا الإذن أعني- الإذن في المجانية- غير محرز في المقام؛ لاحتمال كون العقد إجارة، فيجري استصحاب عدم الإذن في هدر المالية مجاناً، وهذا وإن لم يكن يكفي لإثبات استحقاق اجرة المسمّى أو استحقاق المتصرّف للمنفعة أي لا يثبت تحقق عقد الإجارة، إلّا أنّه يكفي لإثبات أصل ضمان مالية المال المتلَف وقيمته لمالكه.
ويمكن أن يؤيّد ذلك أو يستدل عليه بما في معتبرة
اسحاق بن عمار قال: سألت
أبا الحسن عليه السلام عن رجل استودع رجلًا ألف درهم فضاعت فقال الرجل: كانت عندي وديعة وقال الآخر: إنّما كانت لي عليك قرضاً؟ فقال: «المال لازم له إلّا أن يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة».
فإنّ المستفاد منها أنّ حرمة مالية مال المسلم تحت يد الغير باقية حتى مع العلم بالإذن من قبله في بقائه تحت يده ما لم يحرز أنّه قد أذن في هدر ماليته مجاناً حتى في التلف، فضلًا عن الإتلاف، فما لم يحرز إذن المالك في المجانية وهدر مالية ماله يكون مقتضى الأصل الضمان لها، وهذا هو مقصود الفقهاء من التمسك بقاعدة حرمة مال المسلم لاثبات الضمان.
ثمّ إنّ هذا كلّه إذا كانت اجرة المثل مساوية للمسمّى أو أقل منه لا فيما إذا كانت أزيد؛
لاعتراف المالك حينئذٍ بدعواه المسمّى عدم استحقاقه لها، وإن انتفت دعواه بيمين المستأجر لكن انتفاؤها بالنسبة إلى إلزامه بها لا بالنسبة إلى ما يعود منها إلى المدّعي الذي يكون ذلك مقتضى التزامه باقراره.
وأمّا إذا كانت الاجرة المدعاة من قبل المالك عيناً مخصوصة فقد يقال بأنّ لازم ذلك
إقرار المالك واعترافه بعدم استحقاق اجرة المثل فعلًا، ومعه لا يجري أصالة عدم المجانية؛ لإثبات استحقاق اجرة المثل، بل يجري استصحاب عدم استحقاق تلك العين المخصوصة من قبل المالك فيكون القول قول المتصرف.
والجواب: أنّ الاجرة المسمّاة التي يدعيها المالك تنحل إلى أصل المالية وإلى خصوصية كونها من الجنس المعيّن وما لا يمكن إثباته بالأصل إنّما هو استحقاق الخصوصية لا أصل المالية وضمان الاجرة، فإذا تعذّر عليه أخذ الخصوصية في مقام
الإثبات كان له الحق في المطالبة بما تتضمنه دعواه ويثبته الأصل من ضمان المالية المتمثلة في اجرة المثل والقيمة، فهذا بابه باب
الأقل والأكثر بحسب
الارتكاز العقلائي. هذا، ولكن ذكر صاحب الجواهر بأنّ للمالك جواز أخذ اجرة المثل من باب
المقاصة .
ولو تلفت العين بعد أخذها وقبل مضي مدّة لمثلها اجرة وكان المتصرّف مدعياً للإجارة والمالك للعارية المضمونة فإنّ لصاحبها أن يدّعي عليه ضمان قيمتها؛ لأنّها عارية بشرط الضمان، والمتصرّف يدعي أنّها كانت مستأجرة فتلفت وحيث إنّها
أمانة بيده فلا قيمة عليه ولا اجرة؛ لعدم مضي شيء من المدة، قال الشيخ
: يقدم قول المتصرّف مع يمينه؛ لأنّ صاحبها يدّعي الضمان في العارية، فتكون البينة عليه حينئذٍ.
إلّا أنّ العلّامة
حكم بتقديم قول المالك؛ لأنّ الأصل تضمين مال الغير؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «على اليد ما أخذت...».
وهذان نفس القولين المتقدمين، ولكن هنا بلحاظ مالية العين وقيمتها لا الاجرة؛ لعدم المنفعة بحسب الفرض. ثمّ إنّ للشيخ وبعض من تبعه قولًا آخر في المسألة حيث حكم بالقرعة لتعيين المنكر منهما الذي يقدم قوله بيمينه، واستدلّ عليه باجماع الفرقة؛ لأنّ القرعة لكلّ أمر مجهول مشتبه فيه، وهذا منه.
لو قال المالك: (آجرتك الدار سنة بدينار) فقال الساكن: (بل استأجرتني على حفظها بدينار) قدّم قول المالك؛ لأنّ الساكن استوفى منافع الدار، فعلى المالك أن يحلف أنّه لم يستأجره على حفظها، ويحلف الساكن أنّه لم يستأجر الدار، فيلزمه اجرة المثل عوضاً عن سكناه؛
لتحقق السكنى من
المستأجر ، وهي تفتقر إلى بيّنة تزيل الضمان.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۴۱۶- ۴۲۲.