الحوالة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هي اسم من أحَال الغريمَ ، إذا دفعه عنه إلى غريم آخر و تحويل المال من ذمّة إلى ذمّة.
(القسم الثاني :) في (الحوالة).
(وهي مشروعة) بالنص والإجماع (لتحويل المال من ذمّة إلى ذمّة) أُخرى (مشغولة بمثله) جنساً ووصفاً، هذا هو القدر المتفق عليه منها، وإلاّ فالأظهر الأشهر جوازها على البري، بل عليه
الإجماع عن السرائر؛
وهو الحجة، مضافاً إلى عموم
الأمر بالوفاء بالعقود، وإطلاق بعض النصوص الآتية.
خلافاً لأحد قولي
المبسوط ،
فمنعها، وهو ظاهر العبارة؛ وحجّتهما عليه غير واضحة، عدا
الأصل الغير المعارض لما مرّ من الأدلّة المعتضدة بالشهرة العظيمة. ولكنه حينئذ يكون أشبه بالضمان؛
لاقتضائه نقل المال من ذمّة مشغولة إلى ذمّة بريئة، فكان المحال عليه بقبوله لها ضامناً لدين المحتال على المحيل، ولكنها لا تخرج بهذا الشبه عن أصل الحوالة فلتحقها أحكامها.
وفي اشتراط تماثل المالين في الأمرين قولان؛ للأول : كما عن الشيخ وجماعة،
وجعله مشهوراً بين الفقهاء في التذكرة
التفصّي من التسلّط على المحال عليه بما ليس في ذمّته.
وللثاني : كما عليه المفلح الصيمري وغيره
أصالة الجواز الناشئة عما مرّ من العموم
والإطلاق ، وفحوى ما دلّ على جوازها على البري فعلى من عليه بالمخالف أولى. وضرر التسلّط مدفوع باعتبارنا رضاء المحال عليه مطلقاً أو هنا قطعاً، فإذا رضي أن يدفع من غير الجنس الذي عليه فلا مانع، كما لو تراضيا بقبض غير الجنس.
(ويشترط) في الصحة كون المال معلوماً عند المحيل؛ لدفع
الغرر بالجهالة. وهو حسن إن كان الحوالة اعتياضاً. وأما لو كان
استيفاءً احتمل الصحة، كما عن التذكرة؛
لعين ما تقدّم في الضمان.
وثابتاً في ذمّته وإن لم يستقر، بلا خلاف، بل عليه الإجماع عن التذكرة،
فلا يجوز الحوالة من البري، بل هي وكالة إما في
اقتراض إن كانت على مثله، أو في استيفاء إن كانت على ضدّه.
ولا فرق فيه بين أن يكون مثليّا أو قيميّاً، وفاقاً لجماعة.
وخلافاً لآخرين
في الأخير، فمنعوا من الحوالة به؛ لجهالته. ويضعّف
بانضباطه بالوصف وانضباط قيمته تبعاً له، وهي الواجب فيه، فالمانع مفقود، وعموم الأدلة يشمله.
و (رضاء الثلاثة) المحيل والمحتال والمحال عليه، بلا خلاف في الأوّلين، بل عليه الإجماع في كلام جماعة، كالغنية والتذكرة والمسالك، وغيرها من كتب الجماعة؛
وهو الحجة، مضافاً إلى أن من عليه الحق مخيّر في جهات القضاء، فلا يتعيّن عليه بعض الجهات قهراً، والمحتال حقّه ثابت في ذمّة المحيل، فلا يلزمه نقله إلى ذمّة أُخرى إلاّ برضاه.
قيل : ويستثنى من اعتبار رضاء الأوّل ما لو تبرّع المحال عليه بالوفاء، فلا يعتبر رضاء المحيل قطعاً؛ لأنه وفاء دينه بغير
إذنه ، والعبارة حينئذ عنه أن يقول المحال عليه للمحتال : أحلتك بالدين الذي لك على فلان على نفسي، فيقبل، فيقومان بركن العقد.
انتهى.
ولعلّه ناظر إلى جواز الوفاء عنه بدون إذنه
بالاتفاق ، كما قدّمناه. وهو حسن، إلاّ أن في صلوحه
لإدراج مثل هذا في الحوالة التي هي من العقود اللازمة مناقشة؛ لاختصاص إطلاقات نصوصها بغيره، وعدم عموم في العقود التي أُمِرنا بالوفاء بها إلاّ بالنظر إلى أنواع العقود المتعارفة زمان الصدور كما قدّمناه، ومنها الحوالة، ولا بد من
الاقتصار فيها على ما يسمّى بها حقيقة لا مطلقاً، وكون ما ذكر منها محلّ إشكال، فللتوقف فيه مجال.
وعلى المشهور في الثالث، بل عليه الإجماع عن الشيخ والتذكرة
في مقامين منها؛ وهو الحجة. مضافاً إلى ما قيل من أنه أحد أركان الحوالة، مع
اختلاف الناس في
الاقتضاء سهولةً وصعوبة.
ويضعّف الأوّل : بأن الموجود في كلام الشيخ المحكي في المختلف
ليس إلاّ دعوى الإجماع على صحة الحوالة مع رضاء الثلاثة وعدم دعواه مع عدمه.
وهو أعم من
الإجماع المحكي هنا، ولم يحكه عنه هو ولا غيره سوى المسالك،
ولعلّه
اشتباه ، ويبعد غاية البعد وقوفه على كلام آخر له يدل عليه، مع أن كتابه الخلاف مما ديدنه ذكر الإجماع فيه ولم يحكه فيه هنا، ونحوه ابن زهرة في الغنية والحلّي في السرائر، فمع أن ديدنهما نقل الإجماعات في المسائل لم ينقلاه هنا أصلاً، بل اقتصرا على الموجود في المختلف من كلام الشيخ.
مع أن في الغنية حكى الإجماع على اشتراط رضاء الأوّلين ولم يحكه في الثالث ، ولو كان إجماعاً لنقله قطعاً، كما لا يخفى على الممارس لكتابة هذا جدّاً.
وأمّا التذكرة فالمحكي فيها ليس صريحاً في الإجماع؛ إذ غاية ما ذكر في عبارته في المقام الأوّل هو أنه قال أصحابنا، إلى آخره، وفي الثاني : يشترط رضاه عندنا.
وهما ليس نصّاً في حكاية الإجماع، بل ولا ظاهراً بعد ملاحظة ذكره نحو العبارتين في المختلف مما يتضمن نسبة الحكم إلى الأصحاب، مع أنه في صدر المسألة ذكر أنه مشهور بين الأصحاب.
وهو ظاهر في وقوع الخلاف وعدم الإجماع، مع أن ذكره أصل الحكم فيه يدلّ على عدم الإجماع عليه.
مضافاً إلى نقله الخلاف فيه عن ظاهر المفيد والنهاية، وحكايته فيه عبارة ابن حمزة المشعرة بل الظاهرة في وقوع الخلاف بيننا في المسألة في زمانه، ونحوها عبارة
السرائر والغنية،
بل هما صريحان في عدم الإجماع ووقوع الخلاف، هذا. مضافاً إلى مصيره في المختلف إلى تقوية ما حكاه عن الشيخين، وهو بعد معلوميّة تأخّر المختلف عن التذكرة نصّ في عدم
الاعتداد بما قاله في التذكرة مما ظاهره حكاية الإجماع، إما من حيث سلب ظهورها في دعوى الإجماع، أو ظهور تبين خلافه، وإلاّ لما صار إلى خلافه.
والثاني : بأن المحيل قد أقام المحتال مقام نفسه في القبض بالحوالة، فلا وجه
للافتقار إلى رضاء من عليه الحق، كما لو وكّله في القبض منه. واختلاف الناس في الاقتضاء لا يمنع من مطالبة المستحق ومن نصبه، خصوصاً مع
اتفاق الحقين جنساً ووصفاً. وما ربما يقال من أنه قياس للحوالة على
الوكالة مع كونها من العقود الجائزة دون الأُولى، فإنها من العقود اللازمة المترتب عليها كثير من الأحكام المخالفة للأُصول القطعية.
غير مفهوم، فإن المراد من تشبيهها بالوكالة ليس إلاّ لأجل دفع دليل
الاشتراط من اختلاف الناس في سهولة الاقتضاء وصعوبته، بناءً على أنه لو صلح للاشتراط
وإثبات المانعية عن الحوالة بدون رضاه لصلح لإثبات المانعية عن الوكالة مع عدم رضاه بالبديهة؛ لجريان دليل المنع على الحوالة فيها حينئذ بالضرورة. ومثله لا يسمّى قياساً، بل تنظيراً، وهو جائز إجماعاً حيث يحصل دليل آخر للحكم في المقيس غير نفس القياس، كما فيما نحن فيه، لأن الدليل فيه هو عموم
الأمر بالوفاء بالعقود، وإطلاق كثير مما سيأتي من النصوص. وأجود منه التنظير ببيع ما على المحال عليه من المحتال؛ لجوازه وإن لم يرض به المحال عليه إجماعاً إلاّ من الحلّي،مع أن دليل المنع جارٍ فيه أيضاً.
(و) لعلّه لذا (ربما اقتصر بعض على رضاء المحيل والمحتال) وأشار به في المهذب إلى الحلّي،
وليس كذلك، فإنه ممن يشترط رضاء الثلاثة
كما يستفاد من عبارته المحكية في شرح الشرائع للصيمري، وفي التنقيح نسبه إلى التقي،
وقد مرّ عن المختلف حكايته عن الشيخين، ومال إليه هو وشيخنا
الشهيد الثاني في كتابيه
كالفاضل المقداد في التنقيح.
ولا يخلو عن قوة؛ لما مرّ إليه
الإشارة من الأدلّة مع سلامتها عما يصلح للمعارضة. نعم، لو كان المالان مختلفين وكان الغرض استيفاء مثل حق المحتال توجّه اعتبار رضاء المحال عليه؛ لأن ذلك بمنزلة المعاوضة الجديدة فلا بدّ من رضاء المتعاقدين. ولو رضي المحتال بأخذ جنس ما على المحال عليه زال المحذور.
قيل : وعلى تقدير
اعتبار رضاه ليس هو على حد رضاهما؛ لأن الحوالة عقد لازم لا يتم إلاّ
بالإيجاب والقبول ، فالإيجاب من المحيل والقبول من المحتال، ويعتبر فيهما ما يعتبر في غيرهما من اللفظ العربي والمطابقة وغيرهما، وأما رضاء المحال عليه فيكفي كيف اتّفق متقدّماً ومتأخراً ومقارناً. ولو جوّزنا الحوالة على البري اعتبر رضاه قطعاً.
(ولا يجب قبول الحوالة ولو كان على مليّ) بلا خلاف بيننا؛ للأصل، وفقد المانع، لأن الواجب قبوله
أداء الدين، وليست أداءً، وإنما هي نقل الدين من ذمّة إلى أُخرى، فلا يجب قبولها. خلافاً لبعض العامة،
فأوجب القبول إذا كانت على مليّ؛ للنبوي : «إذا أُحيل أحدكم بحقّ على مليّ فليحتل».
وقصور السند يمنع العمل به، فليحمل على
الاستحباب .
(نعم لو قبل) الحوالة (لزمت، ولا يرجع) حينئذ (المحتال على المحيل) بالمال المحال به مطلقاً (ولو افتقر المحال عليه) بعد يساره حين الحوالة؛ لأنها توجب
البراءة منه إجماعاً، كما في الغنية وعن السرائر والتذكرة،
فلا يعود إلاّ بسبب.
وللخبر : عن الرجل يحيل الرجل بمال على الصيرفي ثم يتغيّر حال الصيرفي، أيرجع على صاحبه إذا احتال ورضي؟ قال : «لا».
ولا فرق فيه عند الأكثر بين أخذ المحتال شيئاً من المال وعدمه؛ لما مرّ، مضافاً إلى أصالتي لزوم العقد وعدم اشتراط الأخذ، وإطلاق النصوص التي ستذكر.خلافاً للمحكي عن الديلمي، ففصّل بين الصورتين، ووافق في الأُولى وخالف في الثانية.
وهو شاذّ، وحجته غير واضحة.
(ويشترط ملاءته وقت الحوالة أو علم المحتال بإعساره) بلا خلاف بين أصحابنا، كما في الغنية،
وعليه الإجماع صريحاً عن التذكرة؛
وهو الحجة. مضافاً إلى المعتبرين، أحدهما الصحيح،
وثانيهما الموثق
: عن الرجل يحيل على الرجل بدراهم، أيرجع عليه؟ قال : «لا يرجع عليه أبداً إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك». وهو وإن عمّ صورتي العلم
بإفلاسه وعدمه، إلاّ أنه محمول على الثانية؛ لكون الحوالة في هذه الصورة من الفروض الغالبة دون الصورة الأُولى، فإنها من الفروض النادرة، فلا يحمل عليها إطلاق الرواية. ووجه الصحة فيها عموم الأدلّة، وأن المحتال صاحب الحق فله
إسقاطه جدّاً، فلأن يرضى
بانتقاله إلى ذمّة المعسر أولى.
(ولو) أُحيل ورضي لظنّه ملاءته ثم (بان فقرة) عند الحوالة (رجع) إن شاء؛ عملاً بالشرطية، وبه صرّحت الرواية السابقة. والعبرة بيساره وإعساره وقت الحوالة، فلو كان مليّاً فيه ثم تجدّد
الإعسار فلا رجوع.
ولو انعكس فتجدّد له اليسار بعد الإعسار قبل أن يرجع المحتال ففي جواز الرجوع حينئذ وجهان، من زوال الضرر، ومن ثبوت الرجوع قبله فيستصحب. وهذا أظهر، وفاقاً لإطلاق العبارة وجماعة؛
لأن الموجب للرجوع ليس هو الإعسار على
الإطلاق ليزول بزواله، بل الإعسار وقت العقد، وهو متحقق فيثبت حكمه.
(و) لو استجمعت الحوالة شرائطها المتقدمة (يبرأ المحيل) من المال الذي أحال به مطلقاً (وإن لم يبرئه المحتال) على الأظهر الأشهر، كما في المسالك وغيره؛
للإجماعات المتقدمة المحكية على انتقال الحق بمجرّد الحوالة. مضافاً إلى إطلاق النصوص المتقدمة، وعموم الأدلّة بلزوم الوفاء بالعقود كتاباً وسنةً، بناءً على أن معنى الحوالة الانتقال من حينها، نظراً إلى مبدإ
اشتقاقها الذي هو التحويل، فإذا تحققت وجب تحقّق المبدأ.
مع أن
الإبراء إما أن يكون قبل الانتقال من ذمّة المحيل أو بعده، والأوّل يستلزم
بطلان الحوالة، إذ ليس له في ذمّة المحيل حينئذ شيء يحيله به، والثاني يستلزم تحصيل الحاصل، لأن ذمّته برئت بالحوالة فلا حاجة إلى إبراء آخر.
(وفي رواية) بل روايتين، إحداهما صحيحة،
والثانية ضعيفة
أنه (إن لم يبرئه) أي المحيلَ المحتالُ (فله الرجوع) عليه بالمال، وقد عمل بها الشيخان وجماعة من القدماء الأعيان.
وهما لقصورهما عن المقاومة لما قدّمناه من الأدلّة سنداً في بعض ودلالة في الجميع ينبغي طرحهما أو تأويلهما بما ذكره جماعة
من حمل الإبراء فيهما على الرضاء بالحوالة، وأنه أُريد بعدم الإبراء الكناية عن عدم الرضاء بالحوالة.
وربما يتوجه حملهما على التقية عن مذهب بعض العامة
من عدم حصول البراءة بالحوالة وأن مقتضاها إنما هو ضمّ ذمة إلى أُخرى، كما قالوه في
الضمان . وبالجملة
الإعراض عنهما أجدر، والمصير إلى ما قابلهما بما قدّمناه من الأدلّة أليق.
رياض المسائل، ج۹، ص۲۷۸-۲۸۸.