القضاء بالشاهد واليمين
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ويقضى بالشاهد
واليمين في الأموال
والديون؛ ولا يقبل في غيره مثل
الهلال والحدود والطلاق والقصاص؛ ويشترط
شهادة الشاهد أولا، وتعديله؛ ولو بدأ باليمين وقعت لاغية؛ ويفتقر إلى إعادتها بعد الإقامة؛ ولا يحلف مع عدم
العلم ولا يثبت مال غيره.
واعلم أنّه يجوز عندنا للحاكم أن يقضي بالشاهد الواحد
واليمين في الأموال
والديون مطلقاً، وبالجملة ما يكون مالاً أو يقصد منه المال، كما في عبائر الأكثرين كالمفيد، والشيخ في الاستبصار والمبسوط والخلاف، والديلمي، والحلّي
، قائلاً بأنّه مذهب جميع أصحابنا، وعليه عامّة المتأخرين ومتأخريهم، وفي جملة من عبائرهم نفي الخلاف عنه، أو دعوى
الإجماع عليه.
خلافاً للشيخ في النهاية والتقي وابن زهرة
فخصوا
القضاء بهما في الديون خاصّة، وادّعى الأخير عليه إجماع
الإمامية.
ولا ريب في وهنه إن أراد بالدين معناه الأخص؛ إذ لم يذهب إليه عدا الناقل ونادر. مع رجوع
الشيخ عنه في كتبه الثلاثة مدعياً عليه في
الخلاف الإجماع
، ومع ذلك معارض بإجماع الحلّي والشيخ نفسه في الخلاف وغيره المتقدم المعتضد بما ذكرناه من عبائر الأكثرين، وأنّه عليه عامّة المتأخّرين.
فلا إشكال في التعميم، سيّما مع ما يظهر من
الفاضل في
المختلف من نفي الخلاف فيه، حيث حمل الدين في كلام النهاية على المال مطلقاً، بل ادّعى الإجماع فيه في محل آخر
، وهو ظاهر في ورود الدين بالمعنى العام الشامل له، بل يظهر من
مجمع البحرين وروده لمطلق الحقوق، وعليه فيمكن حمل عبارة من عدا النهاية عليه أيضاً، فيرتفع الخلاف.
ولعله لهذا لم يشر إلى الخلاف هنا أحد من
الأصحاب.
ويدلُّ على العموم مضافاً إلى
إطلاق كثير من النصوص خصوص كثير من النصوص، ففي الصحيح في
الفقيه: «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد، إذا علم منه خير، مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق الله تعالى ورؤية الهلال فلا»
.
وقريب منه النصوص الدالّة على قضائه (علیهالسّلام) بهما في الحقوق
، لكن بلفظ الحق المفرد، وهو يشمل الدين وغيره من الأموال.
والصحيح المتضمن لتخطئة
علي (علیهالسّلام) شريحاً في عدم قضائه بالشاهد واليمين في دعواه لدرع
طلحة مشهور، وهو طويل، وقال في آخره: «فغضب عليّ (علیهالسّلام)، وقال: خذوها» أي الدرع «فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات»
وجعل (علیهالسّلام) منها عدم اعتباره الشاهد واليمين، فقال: «ثمّ أتيتك بالحسن، فقلت: هذا واحد، ولا أقضي بشهادة رجل واحد، حتى يكون معه آخر، وقد قضى
رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) بشهادة واحد ويمين».
وما يقال في تضعيف دلالته من أنّه (علیهالسّلام) إنّما أنكر عليه قوله: ولا أقضي بشهادة واحد، حيث أطلق ذلك في كل موضع، فأراد (علیهالسّلام) أن ينبّهه على خطائه وأنّ هذا ليس بعام في سائر الحقوق؛ لأنّ فيها ما يقضى فيه بشهادة واحد مع يمين صاحب الحق وهو الدين، فكان ينبغي أن يستثنيه ولا يطلق القول إطلاقاً فلعله بعيد عن ظاهر سياق
الرواية.
ولا تعارضها النصوص الدالة على كون متعلّق قضاء النبي (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) والأمير (علیهالسّلام) هو خصوص الدين، كالصحيح: «كان (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) يجيز في الدين شهادة رجل واحد، ويمين صاحب الدين، ولا يجيز في
الهلال إلاّ شاهدي عدل»
ونحوه آخر في قضاء عليّ (علیهالسّلام)
.
والموثق: «كان رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحق، وذلك في الدين»
.
ونحوه الخبر: «قضى (علیهالسّلام) بشهادة رجل واحد، مع يمين الطالب في الدين»
.
لضعف دلالة الصحيحين منها على عدم قضائه فيما عدا الدين. وما دل عليه منها ما بين قاصر أو ضعيف سنداً؛ ومع ذلك فلا دلالة فيهما إلاّ على أنّ قضاءه (علیهالسّلام) بذلك كان في الدين ولم يقض به في غيره، وهو أعم من عدم جواز القضاء به فيه، فقد يجوز ولكن لم يتفق له (علیهالسّلام)، فتأمّل.
ومع ذلك فهما كالصحيحين قاصران عن المقاومة لما قدمناه من الأدلة من الإجماعات المنقولة، والنصوص الكثيرة المعتضدة بالشهرة العظيمة التي هي الآن إجماع في الحقيقة، فلتطرح هذه الروايات على تقدير وضوح دلالتها، أو تحمل على ما حمل عليه عبارة
النهاية ومن ضارعه كما فعله جماعة
.
ومما ذكرنا ظهر المستند في حكم أصل المسألة، مضافاً إلى دعوى الإجماع منّا عليه في الجملة في
المسالك وغيره
، ونفى عنه الخلاف كذلك جماعة
، والنصوص به زيادة على ما قدمناه مستفيضة كادت تبلغ مع ما مضى
التواتر، بل لعلها متواترة، هذا.
مضافاً إلى فحوى المعتبرة، منها الصحيح: «أنّ رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين، يحلف بالله تعالى أنّ حقّه لحقّ»
.
والموثق
بل
الصحيح وغيره
: «إذا شهد لطالب الحق امرأتان ويمينه جائز» وبمضمونها أفتى أكثر الأصحاب، وهو الأصح.
خلافاً
للحلّي والماتن، كما سيأتي مع التحقيق في المسألة في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى.
ولا يقبل الشاهد واليمين ولا يقضى بهما في غيره أي غير ما ذكر من المال وما يقصد منه مثل الهلال،
والحدود،
والطلاق المجرد عن المال،
والقصاص بلا خلاف؛ للأصل، مع اختصاص ما مرّ من
الفتوى والنص بقبولهما في المال، مع تصريح جملة من الثاني بالمنع عن قبولهما في الأوّلين، وبعض منه وإن دل على قبولهما في مطلق حقوق الناس الشامل لنحو القصاص، سيّما إذا قوبلت فيه بحقوق الله تعالى، إلاّ أنّ ظاهر الأصحاب الإطباق على تقييده بالمال.
ويشهد له أخبار اختصاص قضائهما صلّى الله عليهما وآلهما بهما في الديون خاصّة بعد حملها عليه، فلا إشكال في عدم جواز القضاء بهما فيما عداه، وإن كان يظهر من الكفاية
نوع تردّد له فيه لولا الإجماع.
وفي قبولهما في
النكاح والخلع والعتق بأقسامه
والوقف خلاف، فبين:
مانع عنه فيما عدا الأخير، كالشيخ في
المبسوط والحلّي في
السرائر.
ومانع عنه في الأوّل،
كالديلمي والحلبي وفخر الدين وشيخنا
الشهيد الثاني في الروضة
، مدّعياً هو كسابقه أنّه الأشهر بين الطائفة، قالا: لأنّ المقصود الذاتي منه الإحصان، وإقامة السنّة، وكفّ
النفس عن
الحرام، والنسل، وأمّا المهر والنفقة فإنّهما تابعان.
ومفصِّل فيه بين دعوى المرأة فالقبول؛ لتضمنها
المهر والنفقة، ودعوى الرجل فالمنع؛ للأصل، كشيخنا في المسالك وبعض من تبعه
، وفاقاً للفاضل في
القواعد والتحرير، وفي الروضة أنّ القائل بالقبول مطلقاً غير معلوم
.
ومتوقّف فيه،
كالماتن في
الشرائع والشهيد في الدروس
.
ومانع عنه في الثاني، كالفاضل في
الإرشاد والتحرير والقواعد والشهيد في
الدروس واللمعة
، ونسبه في الروضة إلى الأكثر
، واختار فيها وفي المسالك التفصيل فيه بين دعوى المرأة فالمنع؛ لما مرّ، ودعوى الرجل فالقبول، قال: فإنّ دعواه يتضمن المال وإن انضمّ إليه أمر آخر، فينبغي القطع بثبوت المال كما لو اشتملت الدعوى على الأمرين في غيره كالسرقة، فإنّهم قطعوا بثبوت المال، وهذا قويّ، وجزم به في الدروس
.
ومانع عنه في الثالث، وهو المشهور كما في المسالك
والروضة قال: لتضمنه إثبات الحرية وهي ليست بمال
.
وقيل: يثبت بهما؛ لتضمنه المال من حيث إنّ العبد مال للمولى، فهو يدّعي زوال الماليّة
.
وظاهر اللمعة عدم الخلاف في المنع عن القبول في
التدبير والكتابة والاستيلاد، وبذلك صرح في الروضة فقال: وظاهره عدم الخلاف فيها، مع أنّ البحث آت فيها، وفي الدروس ما يدل على أنّها بحكم العتق، لكن لم يصرحوا بالخلاف فلذا أفردها
. انتهى.
واختلف كلام الفاضل في التحرير والقواعد، ففي كتاب العتق والتدبير قطع بثبوتهما بهما من غير نقل خلاف
، وفي هذا الباب منه قطع بعدم ثبوتهما بهما كذلك
، وتوقف في الدروس مقتصراً على نقل القولين
.
ومانع عنه في الرابع، إمّا مطلقاً كالشيخ في الخلاف
، أو مع عدم انحصار الموقوف عليه كالشهيدين في الدروس والمسالك وغيرهما
، وقاض بهما مطلقاً كالشيخ في المبسوط، والحلّي في السرائر،
والحلبي، والفاضل في القواعد، وغيرهم
.
ومبنى الخلاف عندهم على أنّه هل ينتقل ملك
الوقف إلى الموقوف عليه، أم إلى الله عزّ وجلّ، أمّا الأوّل مع الانحصار، والثاني مع عدمه، أو يبقى على ملك الواقف؟ أقوال، والأكثر على الأوّل، بل جعله الأوّلان مقتضى المذهب، ونسبه الأخيران إلينا، معلّلين مختارهم هنا بذلك، فقالا: لأنّه عندنا ينتقل إلى الموقوف عليه.
وظاهرهم كما ترى دعوى الإجماع عليه، ويفهم أيضاً من
ابن زهرة في
الغنية في كتاب الوقف
، بل ادّعى على خروجه عن ملك الواقف إجماع الإماميّة كالشيخ في الخلاف
، وهذا هو الأظهر للإجماعات المنقولة حد الاستفاضة.
مضافاً إلى ما استدلوا عليه زيادة على ذلك من أنّه مال لا بدّ له من مالك، واختصاص الموقوف عليه به دون غيره دليل على أنّه المالك. وكذا جميع أحكام الملك، والامتناع عن نقله لا يخرجـه عن ملكيته كأُمّ الولد والأموال المرهونة. وأنّه قد يجوز بيعه في بعض الأحوال عند علمائنا، وإنّما يجوز لو كان ملكاً له. وأنّه يضمن باليد والقيمة. فلا ريب في جواز
القضاء بهما في هذا.
ويبقى الكلام في الجواز فيما تقدمه، وثبوته فيه مطلقاً غير بعيد؛ لإطلاق جملة من النصوص المتقدمة وعموم بعضها بثبوت حقوق الناس بهما، وهو يشمل ما نحن فيه جدّاً، ويقتصر في تخصيصه بالمال على الإجماع
المفيد له، وليس في محل البحث؛ لمكان الخلاف، وإلى هذا يميل في
الكفاية.
وفيه نظر؛ لظهور الإجماع من تتبع الفتاوي ودعواه في كلامهم على التخصيص المزبور كلّيّاً، ولا ينافيه الخلاف هنا بعد ظهور كلمات القاضي بهما في محله في أنّ الباعث له على ذلك إنّما هو دعواه كون المتعلق مالاً ولو مآلاً، وهو صريح في عدم الخروج عن مقتضى التخصيص المجمع عليه، بل التزام به منه، وحينئذٍ فلا بدّ من تحقيق معنى تعلق
الدعوى بالمال الموجب لقبول القضاء بهما، هل هو التعلق المقصود بالذات من الدعوى، أو مطلق التعلق ولو بالاستتباع.
والذي يقتضيه النظر في كلماتهم أنّ المراد به إنّما هو الأوّل، ولذا لم يثبتوا بهما
النسب والرجعة بلا خلاف أجده، بل عليه
الوفاق في المسالك
، مع أنّهما يستتبعان المال من النفقة ونحوها بلا شبهة.
وحينئذٍ فالأقوى في النكاح عدم القبول مطلقاً؛ لما مضى في كلام شيخنا الشهيد الثاني، مضافاً إلى
الأصل المعتضد بالشهرة. وكذا في الخلع لكن على التفصيل المتقدم في كلامه، لما ذكره.
ولي في الثالث: توقف، ولكنّ الأصل يقتضي العدم، مع كونه أشهر.
ويشترط تقدم
شهادة الشاهد الواحد وإقامتها أوّلاً وكذا تعديله قبل
اليمين، ثم الإتيان بها. ولو عكس فبدأ باليمين قبل الشهادة أو التعديل وقعت لاغية، ويفتقر إلى إعادتها بعد الإقامة للشهادة، كما هنا وفي الشرائع والسرائر والتحرير والقواعد واللمعتين والدروس والمسالك
، وعلّل الحكم فيه بأنّ وظيفة المدّعى بالأصالة إنّما هو البيّنة، واليمين تتميم لها بالنص، ثم حكى الخلاف فيه عن بعض
العامة، وهو ظاهر في عدم الخلاف فيه بيننا، ولذا نسبه في
المفاتيح إلينا
، فلو تمّ إجماعاً، وإلاّ فللنّظر فيه مجال، وفاقاً للكفاية
؛ لضعف التعليل، وإطلاق النصوص وكثير من الفتاوي.
وإن أمكن الذبّ عنه بعدم العبرة به في أمثال ما نحن فيه، أوّلاً: بوروده لبيان حكم آخر غير ما نحن فيه. وثانيا: بتبادر التقديم منه، سيّما مع اشتماله على التقديم الذكري، وحينئذ فالوقوف مع الأصل يقتضي المصير إلى ما ذكروه؛ أخذاً بالمتيقن؛ والتفاتاً إلى ظهور
الإجماع مما مرّ من العبائر، ومن حال الحلّي وطريقته حيث لم يستند في فتاويه إلاّ على الإجماع ونحوه من الأُصول القطعية.
ولا يحلف مع عدم العلم بما يحلف عليه، لأنّ الحلف من شرطه
الجزم به، وهو يتوقف على العلم بكونه حقاً له على وجه يتميّز عن غيره وإن لم يعلمه مفصّلاً، فلا يجوز له
الحلف بقول الشاهد، ولا بما يجده مكتوباً بخطّه، أو خطّ مورثه، وإن أمن
التزوير ما لم يحصل العلم.
ولا يثبت مال غيره فلو ادّعى غريم
الميت مالاً له على آخر مع شاهد فإن حلف الوارث ثبت، وإن امتنع لم يحلف الغريم، ولا يجبر الوارث عليه، وكذا لو ادّعى المرتهن رهناً وأقام شاهداً واحداً أنّه للراهن لم يحلف؛ لأنّ يمينه لإثبات مال الغير، فلم يجز، بلا خلاف فيه وفي السابق، بل ظاهر المسالك وغيره
كونه مجمعاً عليه بيننا.
والأصل فيه بعده الأصل، مع عدم ما يدل على ثبوت الحق بيمين غير المستحق عدا
إطلاق بعض النصوص، وفي شموله لنحو محل البحث نظر؛ لنظير ما مرّ قريباً من
التبادر وغيره، فتدبّر. فلا وجه للتأمّل فيه كما اتفق لبعض من تأخّر
.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۱۲۴-۱۳۴.