القوادح في العدالة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ولا يقدح في
العدالة اتخاذ الحمام للأنس، وانفاذ الكتب؛ أما الرهان عليها فقادح لانه
قمار؛ واللعب
بالشطرنج ترد به
الشهادة؛ وكذا
الغناء وسماعه، والعمل بآلات اللهو وسماعها،
والدف إلا في الإملاك
والختان؛ ولبس
الحرير للرجل إلا في
الحرب؛ والتختم بالذهب، والتحلي به للرجال.
ولا يقدح في
العدالة اتخاذ الحمام والطيور للأُنس بها وإنفاذ الكتب وإرسالها إلى البلدان، بلا خلاف فيه على الظاهر المصرح به في
الكفاية؛ وهو
الحجة. مضافاً إلى الأصل، والعمومات، وفحوى ما سيأتي من بعض المعتبرة، بل يستفاد من المعتبرة المستفيضة
استحباب اتخاذها للأُنس.
منها: «ليس من بيت فيه حمام إلاّ لم يصب أهل ذلك البيت آفة من
الجنّ، إنّ سفهاء الجنّ يعبثون بالبيت فيعبثون بالحمام ويدعون
الإنسان»
وبمعناه كثير من الأخبار.
ومنها: دخلت على
أبي عبد الله (علیهالسّلام) فرأيت على فراشه ثلاث حمامات خضر، فقلت: جعلت فداك هذا
الحمام يقذر الفراش، فقال: «لا، إنّه يستحب أن يسكن في البيت»
.
وكذا اقتناؤها للّعب بها، وإن كره عند كافّة متأخّري أصحابنا، وفاقاً
للنهاية والمبسوط والقاضي، وظاهر المبسوط أنّ عليه إجماعنا، حيث قال: فإنّ اقتناؤها للّعب بها وهو أن يطيّرها ويتقلب في السماء ونحو هذا فإنّه مكروه عندنا
. وهو الحجة، مضافاً إلى بعض ما مرّ من الأدلّة.
وخصوص الخبر المروي في
التهذيب بطريقين
، وفي
الفقيه بطريق حسن
: عن شهادة من يلعب بالحمام، قال: «لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق».
وقصور
السند بالجهالة مجبور بعمل الطائفة، مع انجباره في الطريق الثالث
بأبان بن عثمان الذي أجمع على تصحيح ما يصح عنه العصابة
، فلا تضر الجهالة بعده، وليس قبله سوى الوشّاء المحكوم بحسنه عند أصحابنا، فالرواية بنفسها معتبرة.
لكن ربما يتأمّل في الدلالة بما نقله بعض الأجلّة من أنّ لعب الحمام عند أهل
مكة هو لعب
الخيل، وعليه فيحتمل ورود الخبر على مصطلحهم، وربما أشعر به سياقه في الطريق الثالث؛ فإنّ فيه بعد ما مرّ: قلت: فإنّ من قبلنا يقولون: قال عمر: هو
شيطان، فقال: «سبحان الله! أما علمت أنّ
رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) قال: إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان، وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخفّ والريش والنصل، فإنّها تحضره
الملائكة، وقد سابق رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم)
أسامة بن زيد وأجرى الخيل».
ولو لا أنّ المراد باللّعب بالحمام ما اصطلحوا عليه لما كان لردّ
الإمام (علیهالسّلام) على رمع (مقلوب عمر.) بقول النبي (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) الوارد في الرهان، ولا لذكره سباقه مع أُسامة في الخيل وجه، فتأمّل.
ومع ذلك تضمن جواز المسابقة بالريش المتبادر منه الطيور، ولم يقولوا به، فالاستدلال به لعلّه لا يخلو عن إشكال، لكنه يصلح مؤيّداً للدليل.
خلافاً
للحلّي، فحكم بقدحه في العدالة، قال: لقبح اللّعب
. وضعّفوه بمنع
القبح أوّلاً، وأنّ الخبر المتقدم يدفعه ثانياً.
وفيه نظر؛ لتوجه المنع إليهما، أمّا الثاني: فلما مضى، وأمّا الأوّل: فلأنّ ما دلّ على قبحه وورد بذمّة من الآيات والروايات أظهر من أن تخفى، فإذا ثبت القبح والذمّ ثبت النهي؛ إذ لا ذَمَّ على ما لم ينه عنه اتفاقاً. ولو لا شذوذه بحيث كاد أن يعدّ للإجماع مخالفاً لكان المصير إلى قوله ليس بذلك البعيد جدّاً.
ثم إنّ هذا إن لعب بها من غير رهان.
وأما اللّعب بها بالرهان عليها فقادح في العدالة قولاً واحداً؛ لما مضى في كتاب السبق من اختصاص جوازه بالخف والحافر من الحيوان لأنّه في غيره
قمار منهي عنه. ولكنه ينافيه الخبر المتقدم وإن حمل الريش فيه على السهام، لأنّ فيه ريشاً. وربما حمل على
التقية.
وذكر شيخنا في
المسالك أنّه قيل: إنّ حفص بن غياث وضع للمهدي العباسي في
حديث: «لا سبق إلاّ في نصل، أو خف، أو حافر» قوله: أو ريش؛ ليدخل فيه الحمام تقرّباً إلى الخليفة، حيث رآه يحبّ الحمام، فلما خرج من عنده قال: اشهد أنّ قفاه قفا كذّاب، ما قال رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم): أو ريش، ولكنه أراد التقرب إلينا بذلك، ثم أمر بذبح الحمام
.
واللعب
بالنرد والشطرنج والأربعة عشر تردّ به الشهادة. وكذا
الغناء وسماعه والعمل بآلات اللهو من العود والزمر وسماعها بناءً على حرمتها بالإجماع الظاهر، والمحكي في ظاهر عبائر جمع
، والنصوص المستفيضة، بل المتواترة، وقد مرّ منها ما يتعلق بالغناء وسماعه في أوّل كتاب
التجارة.
وأمّا ما يتعلق بما عداه فمستفيضة أيضاً.
ففي القوي: «نهى رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) عن اللعب
بالشطرنج والنرد»
.
وفي الخبرين أحدهما
المرسل كالصحيح: عن قول الله تعالى «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال: «الرجس من الأوثان الشطرنج، وقول الزور الغناء»
.
وفي كثير من النصوص عدّ الشطرنج والنرد من الميسر
، وفي آخر من الباطل
.
وفي القوي: قال: «قال رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم): أنهاكم عن الزفْنِ والمزمار والكوبات والكَبَرات
»
.
وفي الصحيح: إنّي أقعد مع قوم يلعبون بالشطرنج ولست ألعب بها ولكن أنظر، فقال: «مالك ولمجلس لا ينظر الله تعالى إلى أهله»
.
وفي القريب منه بابن محبوب المجمع على تصحيح ما يصح عنه
: «أنّ استماع اللهو والغناء ينبت
النفاق في
القلب كما ينبت الماء الزرع»
.
وفي الخبر: «ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة»
.
وفي آخر: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يروي عن الله عزّ وجلّ فقد عبدالله عزّ وجلّ، وإن كان الناطق يروي عن
الشيطان فقد عبد الشيطان»
.
وبالجملة: لا ريب في التحريم وزوال
العدالة بكل من ذلك مع الإصرار والمداومة، وبدونهما أيضاً في الغناء؛ للتوعد عليه بالنار في قول الله عزّ وجلّ «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ»
لتفسير (لَهْوَ الْحَدِيثِ) بالغناء في النصوص المستفيضة، مع وقوع التصريح في جملة منها بكونه ممّا وعد الله تعالى عليه بالنار.
ففي
الخبر القريب من الصحيح
بابن أبي عمير المجمع على تصحيح ما يصح عنه
: «الغناء ممّا وعد الله تعالى عليه
النار» وتلا هذه الآية: «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي» الآية
.
وأمّا سماعه واستعمال
آلات اللهو ففي زوال العدالة به من دون إصرار إشكال؛ لعدم ما يدل على كونه من
الكبائر، وإنّما المستفاد من النصوص مجرد النهي عنه وتحريمه من دون توعيد عليه بالنار، فهو من الصغائر لا يقدح في العدالة إلاّ مع الإصرار عليها كما مضى إليه الإشارة، وبذلك صرّح شيخنا في المسالك
، واستحسنه في
الكفاية.
وربما يستفاد من
إطلاق العبارة وما ضاهاها من عبائر الجماعة
حصول القدح في العدالة بكل ما ذكر مطلقاً ولو فعل من دون إصرار ولا مداومة. وهو مشكل؛ لعدم دليل على الوعد بالنار فيما عدا الغناء كما مضى.
نعم ربما يستفاد من جملة من الأخبار التوعيد بها في اللعب بالشطرنج.
منها: «أنّ لله تعالى في كل ليلة من
شهر رمضان عتقاء من النار إلاّ من أفطر على مسكر، أو مشاحن أو صاحب شاهين». قلت: وأيّ شيء صاحب الشاهين؟ قال: «الشطرنج»
ونحوه غيره
. لكنها مع قصور أسانيدها جملة غير واضحة الدلالة على ما مر إليه الإشارة، لكنها مؤيّدة بالرواية المتقدمة في تعداد الكبائر المتضمنة لرسالة مولانا
الرضا (علیهالسّلام) إلى المأمون؛ حيث قد عدّ منها الميسر والاشتغال بالملاهي، وقد عرفت من النصوص المتقدمة كون الشطرنج والنرد من الميسر.
ولا ريب في كونهما كاستعمال باقي آلات اللهو من الملاهي.
لكن تلك الرواية والنصوص العادّة لهما من الميسر غير واضحة الأسانيد ولا معلومة الجابر في محل البحث، عدا ما ذكره في الذخيرة في حق الرواية من أنّها مروية في
عيون أخبار الرضا (علیهالسّلام) بأسانيد متعدّدة لا تخلو عن اعتبار
.
وفي الاكتفاء بذلك في الاعتماد عليها هنا إشكال وإن كان
الاحتياط فيه بلا إشكال، سيّما مع ورود جملة من النصوص بردّ شهادة المقامر واللاعب بالنرد والشطرنج بقول مطلق.
منها: «ولا تقبل شهادة شارب الخمر ولا شهادة اللاعب بالشطرنج والنرد ولا شهادة المقامر»
.
ومنها: «لا تقبل شهادة صاحب النرد والأربعة عشر وصاحب الشاهين» الخبر
.
ولو لا قصور سندهما، وقوة احتمال إرادة المصرّ من اللاعب بالشطرنج والمقامر كما هو الغالب المتبادر لكان المصير إلى الإطلاق من اللوازم.
واعلم أنّ من جملة آلات اللهو
الدفّ وإنّما خصّه الماتن بالذكر قصداً إلى استثناء صورة خاصّة من الحكم بتحريمها أشار إليها بقوله: إلاّ في الإملاك بالكسر: العرس
والزفاف وفي
الختان للصبيان فإنّ الدفّ فيهما
مباح ولو على
كراهة عند الماتن هنا وفي
الشرائع،
والفاضل في
الإرشاد والتحرير والقواعد، والشهيد في
الدروس والمحقق الثاني كما حكي
، وفاقاً للمحكي عن المبسوط
والخلاف مدّعياً عليه الوفاق، للنبويّين: «أعلنوا بالنكاح واضربوا عليه بالغربال» يعني الدفّ
.
وفي الثاني: فصل ما بين
الحلال والحرام الضرب بالدفّ عند
النكاح.
خلافاً
للحلّي والتذكرة فمنعا عنه فيهما أيضاً؛ عملاً بالعمومات الناهية عن اللهو مطلقاً، ونفى عنه البعد في الكفاية
.
ولا ريب أنّه أحوط وإن كان في تعينه نظر؛ لاشتهار القول الأوّل فتوًى بل وعملاً أيضاً. فتأمّل جدّاً.
فينجبر به سند الخبرين جبراً يصلحان معه لتخصيص العمومات المستدل بها على المنع، سيّما مع اعتضادهما بفحوى المعتبرين وفيهما الصحيح المبيحين لأجر المغنّية في العرائس
بناءً على أشدّية حرمة الغناء؛ لتصريح
النص بكونه من الكبائر، ولا كذلك اللهو كما عرفته مما مضى.
ويجبر أخصّيتهما من المدّعى باختصاصهما بالنكاح دون الختان بعدم القائل بالفرق بينهما، سيّما مع عدم تعقّل الفرق وقوّة دعوى كون مناط الجواز قطعياً مشتركاً بينهما، هذا.
مع ما في
مجمع البحرين من قوله: وفيه: يقولون: إنّ
إبراهيم (علیهالسّلام) ختن نفسه بقدوم على دفّ. لكنه فسّره ب: على جنب، قال: والدفّ بالفتح الجنب من كل شيء وصفحته
. انتهى.
وهو غير المعنى المتبادر منه عند
الإطلاق جدّاً، لكنه أنسب بعصمته (علیهالسّلام) المانعة عن ارتكابه نحو هذا المكروه الشديد الكراهة بلا شبهة، إن لم نقل بكونه من الأُمور المحرّمة.
ثم إنّ إطلاق الخبرين كالعبارة وغيرها يقتضي عدم الفرق في الدفّ المحلّل بين كونه ذات صنج أو غيره، وقيّده
الشهيد والمحقق الثاني
بالثاني، وربما يظهر من المسالك
عدم الخلاف فيه، فإن تمّ، وإلاّ كما هو الظاهر لإطلاق أكثر العبائر فالإطلاق متعين.
والمراد بالصنج هنا ما يجعل في إطار الدفّ من النحاس المدوّرة صغاراً، كما عن
المطرزي. وأمّا أصله فهو الذي يتخذ من صفر يضرب أحدهما بالآخر، كما عنه وعن
الجوهري. وهو من آلات اللهو، وفي الحديث: «إيّاك والصوانج فإنّ الشيطان يركض معك والملائكة تنفر عنك»
.
وممّا يقدح في العدالة وتردّ به الشهادة لحرمته لبس
الحرير المحض للرجال خاصّة مع الاختيار، بلا خلاف، بل عليه
الإجماع في المسالك وغيره من كتب الأصحاب
؛ وهو الحجة. مضافاً إلى النصوص، ومنها الحديث المشهور: «أُحلّ الذهب والحرير للإناث من أُمّتي وحرام على ذكورها»
.
وفي لفظ آخر: «هذان محرّمان على ذكور أُمّتي»
مشيراً إليهما.
وفي رواية: «من لبسه في
الدنيا لم يلبسه في
الآخرة»
.
إلاّ إذا لبسه في
الحرب أو حال الضرورة؛ للنصوص المذكورة هي وسائر ما يتعلق بالمقام في بحث
لباس المصلّي من كتاب
الصلاة.
ومنه التختم بالذهب والتحلّي به بل لبسه مطلقاً كما في
الإرشاد والقواعد والدروس والمسالك
، وظاهره عدم الخلاف فيه، وبه صرّح كثير ممن تبعه
. ولعلّهم فهموا من العبارة ونحوها مما خص فيه المنع بالتختّم والتحلّي خاصّة التمثيل لا الحصر. وهو غير بعيد، وبه ربما يشعر بعض تلك العبارات كعبارة التحرير، حيث قال: لبس الحرير المحض حرام إلى أن قال ـ: وكذا لبس كل محرم كالتختم بالذهب والتحلّي به للرجال
فتدبّر.
والأصل في حرمته بعد الإجماع الظاهر والمحكي ما مرّ من النص والنبوي.
فلا إشكال فيها، ولا في زوال العدالة بلبسهما مع الإصرار عليه. وكذا مع عدمه في ظاهر إطلاق العبارة وما ضاهاها من عبائر الجماعة.
وفيه إشكال؛ إذ لا يستفاد من أدلّة المنع كونه من الكبائر، وإنّما غايتها إفادة التحريم، وهو أعم منه، والأصل يلحقه بالصغائر، فالوجه عدم ردّ الشهادة بمجرد اللبس من دون إصرار ومداومة، كما نبّه عليه
المقدس الأردبيلي وتبعه
صاحب الكفاية فقال: ولعلّ قدحه في الشهادة باعتبار الإصرار
.
وربما يفهم منه كون ذلك مراد الأصحاب ومذهبهم أيضاً. وهو غير بعيد، ولا ينافيه إطلاق عبائرهم؛ لقوة احتمال وروده لبيان جنس ما يقدح في العدالة من دون نظر إلى اشتراط حصول التكرار أو الاكتفاء فيه بالمرة الواحدة؛ وإنّما أحالوا تشخيص ذلك إلى الخلاف في زوال العدالة بكل ذنب أو بالكبائر منها خاصّة، وملاحظة الفقيه كلاًّ من المحرمات المزبورة مع أدلتها وأنّها ما تفيد كونها كبائر أو صغائر؛ وعليه العمل بمفادها كيفما اقتضاه مذهبه في تلك المسألة.
واعلم أنّ
المحرّمات القادح فعلها في العدالة مطلقاً أو في الجملة كثيرة؛ وقد جرت عادة
الفقهاء بذكر جملة منها في هذا الكتاب، واقتصر
الماتن منها هنا على قليل روماً للاختصار، ومن أراد الاطّلاع على كثير منها فعليه بما عدا الكتاب من كتب الأصحاب المطوّلة كالشرائع والإرشاد والقواعد وغيرها، وشروحها المبسوطة، سيّما شرح الإرشاد للمقدس الأردبيلي
فقد استوفى فيه أكثر مما استوفاه غيره.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۲۶۱-۲۷۲.