سائر المعاوضات على الآبق
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
والمراد
بالمعاوضة كل عقد يتضمّن المقابلة بين مالين سواء كانا عينين كما في
البيع ، أو منفعة وعين كما في
الاجارة ، أو أعم من ذلك كما في الصلح.والمهم في المقام البحث عن الصلح والاجارة؛ فهل يصحّان في الآبق مطلقاً أم على التفصيل المتقدّم في البيع أم لا يصحّان مطلقاً؟ وجوه بل أقوال، فنقول:
أمّا الصلح على الآبق في قبال مال، فقيل فيه بالصحة مطلقاً تمسّكاً بعمومات الصلح، وقيل
بالبطلان مطلقاً؛ لاشتراط القدرة على التسليم في كل معاوضة
وانتفاء الغرر، وقيل بالتفصيل بين الصلح عليه منفرداً فيبطل ومع الضميمة فيصح؛
لاستفادة ذلك من النصوص المتقدمة في البيع، وقيل بالصحة في المنفرد إذا كان مبنيّاً على
المسامحة .
قال
الشيخ الأنصاري : «وكيف كان فهل يلحق بالبيع الصلح عمّا يتعذّر تسليمه فيعتبر فيه القدرة على التسليم؟ وجهان، بل قولان: من عمومات الصلح وما علم من التوسّع فيه كجهالة المُصالح عنه إذا تعذّر أو تعسّر معرفته- بل مطلقاً- واختصاص الغرر المنفيّ بالبيع، ومن أنّ الدائر على ألسنة الأصحاب نفي الغرر من غير
اختصاص بالبيع حتى أنّهم يستدلّون به في غير المعاوضات كالوكالة فضلًا عن المعاوضات كالإجارة
والمزارعة والمساقاة والجعالة، بل قد يرسل في كلماتهم عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أنّه نهى عن الغرر.وقد رجّح بعض الأساطين جريان
الاشتراط فيما لم يبن على المسامحة من الصلح، وظاهر المسالك في مسألة رهن ما لا يقدر على تسليمه- على القول بعدم اشتراط القبض في
الرهن - جواز الصلح عليه».
وقال المحقّق الاصفهاني في تعليقته على كلام الشيخ: «الوجه في
الإلحاق :وجود المقتضي من استفادة سببيّة الغرر وعلّيته للحكم في قوله: «نهى
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر». ومن المرسل، وهو «نهى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الغرر»، فإنّه يعمّ الصلح بإطلاقه. وعدم المانع؛ لأنّه لا مانع إلّا عمومات الصلح.وحال هذه العمومات حال عمومات البيع وسائر المعاملات، فكما أنّ دليل نفي الغرر حاكم على عمومات البيع وغيره كذلك حاكم على عموم دليل الصلح.ويمكن المناقشة في الكلّ:أمّا في المقتضي فواضح؛ لأنّ استفادة العلّية من عنوان الموضوع مع تركّب الموضوع بحسب ظاهر الدليل- على فرض تسليمها- غير مُجدية في دوران
الأمر مدار ما هو جزء الموضوع وجوداً وعدماً، وقد مرّ أنّ مانعيّة الغرر مرجعها إلى شرطيّة الوثوق والأمن من الخطر، وشرطيّته للبيع غير مقتضية لكونه شرطاً لمعاملة أخرى.وأمّا وجود المقتضي من حيث المرسل المطلق الشامل للصلح فانجباره غير معلوم؛ فإنّ المستند غير منحصر فيه، فلعلّ بملاحظة استفادة العلّية.
وأمّا في المانع فنقول: البيع والإجارة ونحوهما المبنيّ على المبادلة والتقابل بين المالين- بحيث يكون كلّ منهما قائماً مقام الآخر- له صنفان: غرريّ وغير غرريّ، فدليل الغرر يقيّد أدلّة تلك المعاملات بغير الغرري، بخلاف الصلح الذي بطبعه مبنيّ على
المسالمة والتجاوز، فإنّه ليس الغرض فيه متقوّماً بالمبادلة والمقابلة حتى يكون غرريّاً تارة وغير غرري اخرى، فله الحكومة على دليل الغرر دون العكس.هذا كلّه بعد تسليم دلالة المرسل على نفي الغرر في جميع المعاملات، وإلّا فمن المحتمل
إرادة النهي عن الخديعة والتغرير أو إرادة النهي مولويّاً عن
الإقدام الخطري نظير النهي عن
الإلقاء في التهلكة، وليس النهي متعلّقاً بالمعاملة الغرريّة ليكون ظهوره الثانوي في
الإرشاد إلى الفساد، فهذا هو الفارق بين النهي عن بيع الغرر والنهي عن الغرر.
هذا، مضافاً إلى الصحيح الوارد في عدم مانعيّة الجهالة كلّية حيث قال: «في رجلين لكلّ واحد منهما عند صاحبه طعام لا يدري كلّ واحد منهما كم عند صاحبه، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك ولي ما عندي؟ فقال عليه السلام: لا بأس بذلك» فإنّه مع الجهل المحقق للغرر حكم عليه السلام بالصحّة، وهو محمول- بمعونة فهم الأصحاب- على الصلح؛ فإنّ احتمال
الإبراء مدفوع بظهور جميع فقراته في وجود المال عند الشريكين، لا ثبوت المال على ذمّتهما.نعم
احتمال الهبة المعوّضة بهبة اخرى قائم، بل الظاهر ذلك حيث قال كلّ منهما لصاحبه: لك ما عندك، وإن كان المورد مورد المسالمة والتجاوز».
وقال
السيد الحكيم : «وهل يلحق الصلح بالبيع في ذلك أو لا؟ لعدم ظهور المناط المطّرد فيه، ومعاقد
الإجماع قاصرة عن شموله، وللإشكال في
اقتضاء النهي عن بيع الغرر للمنع؛ لتوقّفه على إلغاء خصوصيّة مورده، وهو غير ظاهر.وما دار على ألسنة أكثر الأصحاب من نفي الغرر على نحو يستدلّون به في غير المعاوضات كالوكالة فضلًا عن المعاوضات كالإجارة والمزارعة والمساقاة والجعالة ممّا لم يتّضح له أصل يعتمد.وما يرسل في كلمات بعض عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه نهى عن الغرر، فالظاهر أنّ المراد به ما سبق من النهي عن بيع الغرر، وإلّا فمن البعيد جدّاً صدور النهي عن الغرر في كلّ شيء حتى لو كان المراد به الخديعة؛ ضرورة جوازها في كثير من الموارد، بل رجحانها في بعضها كما لا يخفى.فالقول بعدم
اعتبار القدرة على التسليم في الصلح- كما عن المسالك في مسألة رهن ما لا يقدر على تسليمه- غير بعيد؛ عملًا بالعموم الدالّ على جوازه.ومنه يظهر ضعف القول باعتبارها فيه مطلقاً أو فيما لم يكن مبنيّاً على المسامحة.نعم، لو بني على التمسّك في البيع برواية ابن مسعود كان المنع في الصلح المتضمّن للمعاوضة في محلّه؛ لعموم التعليل الذي لا يطّرد في الصلح الذي لا يتضمّن معاوضة، مثل أن يقول:صالحتك على أن يكون هذا لك وذلك لي، فلاحظ».
والمستفاد من كلماتهم أنّ الصلح على الآبق مع الضميمة لا ينبغي الشك في صحته؛ لاستفادته بالفحوى من أدلّة صحة بيعه مع الضميمة.وأمّا الصلح عليه منفرداً فالحكم بالصحة فيه والبطلان مبنيّ على جريان دليل النهي عن الغرر ونحوه في الصلح المبنيّ على التسامح والتصالح، فإذا منع عن جريانه كان المتعيّن الحكم بالصحة فيه أيضاً خصوصاً إذا لم يتضمن الصلح معاوضة.
المستفاد من أكثر عبارات الأصحاب بطلان عقد
الإجارة في الآبق حتى مع الضميمة إلّا إذا كان المشتري قادراً على التسلّم، وقد تقدّم صحة بيعه في هذه الصورة، وهذا خارج عن البحث.قال في
الغنية والسرائر
في شروط الاجارة: «ومنها: أن يكون مقدوراً على تسليمه حسّاً وشرعاً، فلو آجر عبداً آبقاً أو جملًا شارداً لا يتمكّن من تسليمه أو ما لا يملك التصرّف فيه لم يصح».وقال في المختصر النافع: «ولا تصحّ إجارة الآبق».
وفي الإرشاد: «السادس: القدرة على تسليمها، فلو آجره الآبق لم يصحّ».
ومقتضى إطلاق هذه العبارات عدم الفرق بين إجارة الآبق منفرداً أو مع الضميمة.
إلّا أنّ
العلّامة في القواعد قيّد فتواه بفرض الانفراد فقال: «السادس: القدرة على التسليم، فلو استأجر الآبق منفرداً لم يصحّ».
وشرحه في جامع المقاصد بقوله:«يفهم من قوله: (منفرداً) أنّه لو استأجره منضمّاً صحّ، وقد صرّح به شيخنا الشهيد في بعض حواشيه معلّلًا بأنّه إذا جاز بيعه كذلك جازت إجارته كذلك بطريق أولى؛ لأنّ الإجارة تحتمل من الغرر ما لا يحتمله البيع. وتردّد المصنّف في التحرير، ومنع في التذكرة؛ لمنافاة عدم القدرة على التسليم مقصود الاجارة،وهو الأصحّ.والحكم في البيع ثبت بالنصّ على خلاف
الأصل ، فلا يتعدّى».
وفي الروضة: «(وأن يكون مقدوراً على تسليمها، فلا تصحّ إجارة الآبق) لاشتمالها فيه على الغرر (وإن ضمّ إليه) شيئاً متموّلًا (أمكن الجواز) كما يجوز في البيع، لا بالقياس، بل لدخولها في الحكم بطريق أولى؛ لاحتمالها من الغرر ما لا يحتمله. وبهذا
الإمكان أفتى المصنّف في بعض فوائده. ووجه المنع فقدُ النصّ المجوّز هنا، فيقتصر فيه على مورده وهو البيع، ومنع الأولويّة».
ووافق الشهيد المحقق الأردبيلي في شرحه للإرشاد، فقال: «ولا يبعد أيضاً صحّة الإجارة مع
انضمام شيء مقصود معه بحيث يخرج عن السفه والغرر كما مرّ في البيع؛ لعموم الأدلّة، وعدم ثبوت ما فرض مانعاً، لا بالقياس إلى البيع وكونه أولى منه، فإنّ المسامحة في الإجارة أكثر، فمنع القياس والأولويّة ولزوم
الاقتصار على النصّ، فتأمّل.وبالجملة عموم أدلّة الإجارة يفيد الجواز والصحّة مطلقاً، إلّا ما علم خروجه مثل ما لم يكن مقدوراً عليه أصلًا منفرداً فإنّه سفه وغرر ومجمع عليه، وأمّا غيره فلا، بل يصحّ، ولزومها موقوف على التسليم إلّا أن يكون خارجاً بدليل من إجماع ونحوه، فتأمّل».
وممّن وافق هذا التفصيل من الفقهاء المعاصرين
السيد الگلپايگاني في حاشيته على كتاب الإجارة من العروة الوثقى
والسيد الشهيد الصدر في حاشيته على منهاج الصالحين.
وجلّ الفقهاء الآخرين ذهبوا إلى
البطلان مطلقاً أو البطلان في إيجار الآبق منفرداً،
والاحتياط أو الإشكال أو التردّد في صحة إيجاره مع الضميمة.
أدلّة الأقوال:
۱- ووجه البطلان في صورة
الانفراد إمّا اشتراط القدرة على التسليم أو التسلّم في الإجارة أيضاً أو انتفاء الملكية أو المالية عن المنفعة بعدم القدرة عليها- كما قيل- أو النهي عن الغرر، والذي هو هنا أوضح منه في البيع؛ لإمكان
الانتفاع بالعتق فيه، بخلاف الإيجار، أو كون المعاملة سفهية، أو استفادة التعميم وإلغاء الخصوصية من الروايات والنصوص المتقدمة في بيع العبد أو بيع الثمار.
۲- ووجه البطلان في
الإيجار مع الضميمة؛ لكونه مقتضى القاعدة بأحد الوجوه المتقدمة، واختصاص روايات صحة بيع الآبق مع الضميمة بالبيع، وعدم إمكان القياس أو التعدّي إلّا إذا كانت الضميمة هي المقصودة بالذات لا الآبق كما في الرياض، وهو خارج عن البحث.
۳- ووجه القول بالصحة في الإيجار مع الضميمة استفادة التعميم خصوصاً من ذيل موثقة سماعة المتقدمة في بيع الآبق مع الضميمة أو استفادة ذلك مما ورد في بيع الثمار
واستئجار البستان لثمره لأكثر من عام وبطلانه لعام واحد معلّلًا في بعضها بكفاية وجود الثمر في العام الآخر، أو كون الحكم بالصحة في مورد الضميمة على القاعدة في البابين، وأنّ وجه المنع والبطلان مختصّ بصورة الانفراد.وإنّ الحكم بعدم المالية أو الملكية للمنفعة مع عدم القدرة على التسليم محل تأمّل بل نظر؛ بدليل ضمان منفعة الآبق لمالكه لو استعمله شخص وهو آبق بلا
إذن مالكه ممّا يدلّ على مالية منفعته ومملوكيتها لمالكه فيصح تمليكها بالعقد أيضاً.تفريع على القول بالصحة مع الضميمة:
ثمّ إنّه على القول بالصحة مع الضميمة فهل يشترط أن تكون الضميمة منفعة كإجارة آبق مع غيره، أو يمكن أن تكون عيناً كإجارته بضميمة ثوب مثلًا؟نسب إلى الشهيد الأوّل أن تكون الضميمة من جنسه، قال في الروضة- في ذيل ما تقدّم في شرح كلام الشهيد-:«وعلى الجواز هل يعتبر في الضميمة إمكان إفرادها بالإجارة أم بالبيع أم يكفي كلّ واحد منهما في كلّ واحد منهما؟ أوجه من حصول المعنى في كلّ منهما، ومن أنّ الظاهر ضميمة كلّ شيء إلى جنسه، وقوّى المصنّف الثاني».
ويمكن أن يكون الوجه في اشتراط كون الضميمة منفعة لا عيناً أنّه على تقدير عدم حصول الآبق؛ فإنّ الإجارة صادقة بلحاظ منفعة الضميمة، بخلاف ما إذا كانت الضميمة عيناً فإنّها لا تصدق عندئذٍ بلحاظها؛ لأنّها تمليك المنفعة، فتبطل.
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۲۵۸-۲۶۴.