موارد جريان قاعدة نفي السبيل
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
قاعدة نفي السبيل
أثر من آثار
الإسلام ورد في كلمات بعض
الفقهاء تحت عنوان: قاعدة نفي السبيل أو قاعدة العلو ويقصد بهذه القاعدة نفي
تشريع أيّ حكم يستلزم علوّ
الكافر على
المؤمن ، ونبحث فيما يلي عن الدائرة التطبيقية أو موارد جريان القاعدة، وقد وقع بحث بين الفقهاء في بعض موارد جريانها، وإليك بعض تطبيقاتها المهمّة في هذا المجال: منها: أ-التنظيم المدني و
ارتفاع الأبنية، ب-موجبات
التمليك ، ج-حق
الشفعة ، د-
الوكالة ، ه-النذر .
بلغت قاعدة نفي السبيل درجة من العموم والشمول حتى قيل: إنّها تجري في جميع الأحكام،
ذكر بعض الفقهاء أنّ من الشروط التي لابدّ لأهل الذمّة من
الالتزام بها عدم
ارتفاع بنائهم على المسلمين من
أهل محلّتهم وجيرانهم،
وهو بالنسبة إلى الدور المحدثة ممّا لا خلاف فيه،
بل عليه
الإجماع .
وأمّا الدور المشتراة من المسلمين فتبقى على حالها وإن كانت مرتفعة، فإذا انهدمت منعوا من بنائها إذا أرادوا رفعها على بناء المسلمين؛
لقوله عليه السلام: «
الإسلام يعلو ولا يعلى عليه».
بل المشهور
اشتراط عدم تساويها مع دور المسلمين؛
للحديث المتقدّم،
ولأنّه مع
المساواة لا يتحقّق علوّ الإسلام.
وفي مقابل المشهور ذهب
المحقّق الحلّي إلى عدم المانع من تساوي الدور،
وتردّد
العلّامة الحلّي في ذلك.
وقد تعرّض الفقهاء لعدّة نماذج تتصل بالبيع وسائر الأسباب الناقلة للملك، على الشكل التالي:
ذهب المشهور إلى عدم صحّة بيع العبد
المسلم من الكافر،
بل ادّعي عليه الإجماع.
وقيل: يصحّ، ولكن يجبر الكافر على بيعه.
وعمدة
دليلهم على ذلك آية نفي السبيل؛
لأنّ البيع يقتضي تمليك العبد المسلم للكافر وتسليطه عليه.
ولو ملكه الكافر ملكاً قهريّاً بالإرث أو كان قد أسلم في ملك مولاه
الكافر فلابدّ من بيعه من مسلم حتى مع عدم رضا مالكه؛
لقول
الصادق عليه السلام في حديث
حمّاد بن عيسى : «إنّ
أمير المؤمنين عليه السلام اتي بعبدٍ ذمّي قد أسلم، فقال: اذهبوا فبيعوه من المسلمين، وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ولا تقرّوه عنده».
وقد يلحق بالبيع وقف العبد المسلم للكافر فيحكم ببطلانه أو بيعه و
إعطاء ثمنه للكافر؛ لكونه تمليكاً في بعض أنواعه بل هو أشدّ من البيع فالسبيل فيه للكافر على المسلم أشدّ وآكد.
اختلف الفقهاء في جواز
ارتهان العبد المسلم عند الكافر على أقوال:
الأوّل: المنع مطلقاً؛
لما فيه من وضع يد الكافر المرتهن على العبد المسلم، وهو من السبيل المنفي بالآية الشريفة.
القول الثاني: الجواز مطلقاً؛
لأنّ مجرّد كونه وثيقة عند الكافر لا يوجب العلوّ والسبيل عليه.
القول الثالث: التفصيل بين وضع العبد المسلم المرهون عند مسلم بتوافق الطرفين فيجوز، وبين وضعه تحت يد الكافر نفسه فلا يجوز؛
لأنّ
استحقاق الكافر للعبد المسلم وجعله في يده يعدّ سبيلًا عليه، بخلاف استحقاقه لأخذ حقّه من ثمنه فإنّه لا يعدّ سبيلًا.
واختلف الفقهاء في جواز
إعارة العبد المسلم و إيداعه عند الكافر على أقوال:
الأوّل: عدم الجواز؛
لأنّ في
استخدامه و
الانتفاع به السبيل الظاهر المنفي بالآية والحديث الشريف.
الثاني: الجواز؛
لعدم تحقّق السبيل والعلوّ بمجرّد ثبوت حقّ الانتفاع بالعارية.
الثالث: التفصيل بين ما يوجب ذلّ العبد وهوانه فلا يجوز كما لو أعار عبده المسلم ليخدم الكافر، وبين ما يوجب عزّة المسلم وعلوّه على الكافر فيجوز كما لو أعار عبده المسلم لتعليمه أو معالجته،
بل قيل: إنّه ممّا لا إشكال فيه.
وأمّا
إيداع العبد المسلم عند الكافر فلا شبهة
في جوازه؛
لأنّ الوديعة مجرّد
استئمان وحفظ
لا انتفاع فيه، فلا يكون سبيلًا وعلوّاً عليه.
المشهور حرمة بيع
المصحف من الكافر؛
وقد استدلّوا له ببعض أدلّة قاعدة نفي السبيل.
فمن جهة استندوا إلى آية نفي السبيل؛
لأنّ الغرض من نفيه المحافظة على حرمة المؤمنين، ومن الواضح أنّ حرمة القرآن أولى بالحفظ من حرمة المؤمنين.
واورد عليه:
أوّلًا: بمنع كون التسلّط على المصحف وسائر المقدّسات تسلّطاً وسبيلًا على المؤمنين.
وثانياً: بمنع أن يكون مناط قاعدة نفي السبيل هو
احترام المؤمن وحفظ شؤونه، فقد يكون الوجه فيه شيئاً آخر،
كمبغوضيّة نفس تملّك الكافر له،
وكعطف نظر المسلمين إلى لزوم الخروج عن سلطة الكفّار بأيّة وسيلة ممكنة؛ لأنّ تسلّطهم عليهم وعلى بلادهم ليس من اللَّه تعالى؛ لأنّه تعالى لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا.
وهذا معناه أنّ نكتة قاعدة نفي السبيل ليست بالضرورة احترام المؤمن، بل قد يكون لها بُعد سياسي في رفع هيمنة الكافرين. ونشر القرآن فيما بينهم تبليغ للدين الحنيف ونشرٌ لقيمه، فيكون في النشر هيمنة المسلمين لا العكس.
وثالثاً: بأنّه ربّما يكون بيع
القرآن الكريم من الكافر موجباً لمزيد احترام، كما لو جعله في مكتبة نظيفة
للاطّلاع على آياته وبراهينه،
بل قد تترتّب على ذلك هدايته.
من جهة ثانية استدلّ المشهور أيضاً على حرمة بيع القرآن من الكافر
بقوله عليه السلام: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»، فإنّ بيع المصحف يوجب
الاستعلاء على الإسلام، وهو غير جائز.
ونوقش فيه بما عرفت في أدلّة القاعدة. وقد اتّضح ممّا ذكرنا حكم تملّك الكافر للمسلم والمصحف وسائر المقدّسات بغير البيع كالصلح والهبة وغيرها من الأسباب
الاختياريّة الناقلة.
وقع الكلام بين الفقهاء في صحّة
إجارة المسلم من الكافر على عدّة أقوال:
الأوّل: عدم الجواز مطلقاً، كما هو ظاهر بعض كلماتهم؛
إذ به يحصل السبيل المنفي في الآية.
الثاني: الجواز مطلقاً، كما هو ظاهر كلمات اخرى؛
ولعلّه لمنع صدق السبيل بمجرّد إجارة المؤمن نفسه للكافر،
فلا يصدق العلوّ ولا السبيل على المؤمن لو آجر نفسه من الكافر؛ لأنّ مجرّد استحقاق العمل عليه بواسطة عقد الإجارة لا يعدّ علوّاً عليه قطعاً.
ويؤيّده
ما ورد في بعض الأخبار من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يؤجر نفسه من اليهود ليسقي لهم النخل كلّ دلو بتمرة.
وما ورد في شأن نزول سورة (
هل أتى ) في قصّة غزل
فاطمة عليها السلام الصوف لليهود بأصواع من الشعير، ثمّ التصدّق بها على
المسكين و
اليتيم و
الأسير .
وهناك من فصّل بين الإجارة في الذمّة فتصحّ، وبين الإجارة على العمل الخارجي فلا تصحّ؛
لأنّ العمل في الذمّة كالدين الذي لا إشكال في ثبوته للكافر في ذمّة المسلم باعتبار عدم كونه سبيلًا على المؤمنين، بخلاف العمل الخارجي فإنّ إجارته عليه تستوجب السبيل عليه باستيفائه منه.
وفصّل بعض آخر بين المسلم الحرّ والعبد، فتصحّ إجارته في الأوّل دون الثاني؛
لأنّ الإجارة لا توجب
الاستيلاء واليد على الحرّ؛ لأنّه ليس عيناً مملوكة تكون بالإجارة تحت اليد، بخلاف العبد الذي هو من هذا القبيل فإجارته من الكافر تستوجب استيلاءه عليه، وهو من السبيل المنفي بالآية.
كما أنّ هناك من جعل الميزان كون الإجارة موجبة لمذلّة المسلم فلا تصحّ، وما إذا لم تكن كذلك فتصحّ.
فيكون الحكم تابعاً للعنوان الثانوي الطارئ وفقاً لهذا التفصيل.إلّا أنّ كلّ ذلك لا وجه فنّي له.
يشترط في
الشفيع الإسلام إذا كان المشتري مسلماً، فلا تثبت الشفعة للكافر على المسلم، سواء كان البائع مسلماً أم كافراً
وادّعي عدم الخلاف فيه،
بل الإجماع عليه.
واستدلّ له بأنّ الشفيع يأخذ من المشتري ما اشتراه من شريكه قهراً، وهو من السبيل المنفي بالآية
والحديث.
ونوقش بأنّ الآية لا تشمل مثل هذا المورد؛ لظهورها في نفي الحجة،
ولو تمّت خصّصت بأدلّة الشفعة،
وأمّا الحديث فليس بحجة؛ لأنّ خبر
طلحة بن زيد عن
جعفر بن محمّد عن أبيه عن
علي عليه السلام- في حديث- قال: «ليس لليهودي ولا للنصراني شفعة»،
ضعيف السند،
بل وغيره أيضاً.
المشهور
عدم جواز توكيل الكافر لكافر أو لمسلم على مسلم، بل ادّعي عليه الإجماع؛
لاستلزامه السبيل للكافر على المسلم المنفي بالآية.
ونوقش بمنع كون ذلك سبيلًا على المسلم،
فإن تمّ الإجماع فهو، وإلّا فالأقوى الجواز.
ولابدّ من
الإشارة إلى أنّ القدر المتيقّن من المنع في الإجماع والآية ما إذا كانت
الوكالة مستلزمة لنوع تسلّط وقهر للكافر على المسلم،
لا مجرّد
استيفاء حقّ.
ومن هنا ذهب بعضهم إلى جواز وكالة الكافر والذمي على المسلم في استيفاء حقّ منه أو مخاصمة،
والقدر المتيقّن من النهي أيضاً الحرمة التكليفية لا
البطلان .
وأمّا وكالة المسلم للكافر على المسلم فقد ذهب أكثر المتقدّمين إلى عدم جوازها،
بل في
الغنية دعوى إجماع
الإماميّة عليها،
بينما ادّعى بعضهم الشهرة
على كراهتها،
بل في
التذكرة دعوى الإجماع عليها،
وهو مرجّح على إجماع الغنية بالشهرة العظيمة بين المتأخّرين.
لا ولاية للكافر على المؤمن؛ لأنّ في ولايته سبيلًا وعلوّاً على المؤمنين، وهو منفيّ بالآية والرواية، بل إن قطع
الولاية بمعانيها بين المسلمين والكافرين ممّا ركّزت عليه الآيات القرآنية، وقد أخذ الفقهاء هذا المفهوم العام في نفي ولاية الكافر على المسلم ثمّ طبقوه في مواضع متعدّدة من
الفقه الإسلامي، ونذكر بعض ما ذكروه من الموارد كما يلي:
لا ولاية للأب والجدّ الكافرين على الأبناء القاصرين من الأطفال والمجانين
والسفهاء
إذا كانوا مسلمين، بل الحكم في عدم ثبوتها على الصغار إجماعي.
ليس للأب الكافر ولاية على بنته الباكرة
في عقد النكاح
إذا كانت مسلمة، وإن قلنا بولاية المسلم على بنته الباكرة.
يعتبر في الوصي والقيّم على أطفال المؤمنين الإسلام؛
لأنّ
الوصية عليهم نوع من الولاية، وليس للكافر ولاية على المسلم.
وهي مشروطة بالإسلام، فليس
للُامّ الكافرة حضانة الولد المسلم؛
لأنّ
الحضانة ولاية،
ولا ولاية للكافر على المسلم.
لا ولاية للكافر في
تجهيز الميّت المسلم، فلا يتوقّف تجهيزه على إذنه ورضاه.
اشترط بعض الفقهاء الإسلام في الملتقط؛
لأنّ في ولاية الكافر عليه سبيلًا تأباه الآية والرواية، ولأنّه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه.
لا يجوز جعل الكافر متولّياً على
الموقوفات العامّة الراجعة إلى المسلمين كالمستشفيات والمدارس بحيث يتوقّف الدخول والخروج إليها على إذنه واختياره، فإنّه سبيل منفي بلا إشكال.
يشترط في حاكم المسلمين ووليّ امورهم أن يكون مسلماً، فلا يتولّى الكافر
إمامة المسلمين، ولا يكون وليّاً عليهم في شؤونهم السياسية والعسكرية و
الاجتماعية و
الأمنية ،
كما ذكروا أنّ مرجع التقليد يشترط فيه
الإيمان المستبطن للإسلام، فلا يقلّد غير المسلم في الأحكام الفقهية أو لا تكون المرجعية الدينية للمسلمين بيد غيرهم.
اتّفق الفقهاء على اشتراط الإسلام والإيمان في القاضي،
فلا ينفذ حكم الكافر في القضاء
ولو كان جامعاً للشروط؛ لأنّ اللَّه تعالى لن يجعل له سبيلًا على المؤمن،
والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
ذكر بعضهم صحّة نذر الولد من دون
إذن والده الكافر، حتى على القول بتوقّف النذر على إذن الوالد، وليس للوالد الكافر حلّ نذر ولده حتى على القول بأنّ للوالد الحقّ في ذلك؛ لأنّ ثبوت هذين الحقّين للكافر يعدّ سبيلًا على الولد المسلم، وهو منفيّ في الإسلام.
أجمع الفقهاء
على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر ذمّياً كان أو غيره،
وليس للوارث إن كان كافراً
المطالبة بحقّ القصاص من المسلم؛ لأنّه يعدّ سبيلًا على المؤمنين، وكذا إن كان مسلماً؛ لعدم القول بالفصل بين الوارث، مسلماً كان أو كافراً.
فلا يقتل المسلم بقتل الكافر وإن طالب الوارث، سواء كان
الوارث مسلماً أو غير مسلم.
هذا إن لم يكن المسلم معتاداً في قتل
أهل الذمّة ، وأمّا إذا اعتاد قتلهم ظلماً ففي قتله أقوال.
ومن هذا القبيل أيضاً ما لو قتل المسلم مسلماً وكان للمقتول ولد كافر سواء كان وحده أو له
إخوة مسلمون، فإنّه ليس للولد الكافر حقّ
القصاص ؛ لأنّه سبيل منفي في الإسلام.
ذكر بعضهم أنّ قاعدة نفي السبيل حاكمة على أدلّة الأحكام الأوّلية كأدلّة ولاية
الأب والجدّ على الأولاد مثلًا، فإنّها تبطل إذا كانا كافرين والأولاد مسلمين.
إلّا أنّ هناك من تردّد
في حكومتها على بعض الأدلّة الأوّلية كعموم: «أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ».
ورأى بعضهم أنّه لا مبرّر لهذا التردّد؛ لأنّ قاعدة نفي السبيل كقاعدتي نفي الضرر والحرج الحاكمتين على سائر الأحكام الأوّليّة من دون استثناء، فكما لا
استثناء هناك لا استثناء هنا أيضاً، فأيّ فرقٍ بين المقامين حتى يتردّد في أحدهما دون الآخر؟!.
كانت هذه خلاصة أهمّ ما طرح في الأبحاث الفقهية حول قاعدة نفي السبيل.
الموسوعة الفقهية، ج۱۳، ص۷۳-۸۴.