مواضع لزوم الاحتياط شرعا
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
قد ورد عن الشرع
وجوب الاحتياط مطلقاً أو بشكل خاصّ منه في بعض الأبواب الفقهيّة نشير إلى بعضها فيما يلي.
•
صلاة الاحتياط ،من المواضع التي حكم فيها بالاحتياط شرعاً، الشكوك الصحيحة الواقعة في عدد ركعات الرباعيّة كالشكّ بين الثلاث والأربع، حيث حكم فيها بالبناء على الأكثر، ثمّ
الإتيان بركعة أو ركعتين منفصلًا وتسمّى بصلاة
الاحتياط ، بمعنى أنّ الإتيان بها جابر للنقص المحتمل ومع عدم النقص واقعاً تُعدّ نافلة منفردةً يثاب عليها.
•
التحري لطلب الماء قبل التيمم ،حكم الشارع بلزوم فحص المسافر- الذي لا يجد ماء في رحله- في جوانبه عن الماء بمقدار غلوة سهم أو سهمين، رعايةً للطّهارة المائيّة.
وأيضاً من موارد لزوم التحرّي لغرض الحصول على المطلوب الشرعي الواقعي، التحرّي عن القبلة الواقعيّة عند الجهل بها. ومقتضى القاعدة فيه لزوم إتيان الصلاة إلى جميع الجوانب حتّى يُعلم بمصادفة الصلاة المأتي بها للقبلة الواقعيّة. وذلك لوضوح عدم سقوط هذا الشرط بمجرّد الجهل بجهته، وفي قول
الإمام عليه السلام في
مضمرة سماعة: «اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك»
أيضاً
إشارة إليه، إلّا أنّ الذي يستفاد منه ومن غيره من الأخبار عدم وجوب التحرّي التام إلى حدّ القطع بالقبلة الواقعيّة، بل المراد الفحص عن العلامات والشواهد مثل محراب المعصوم ونحوه، وإلّا فيكفي مطلق الظنّ، فإن لم يحصل له الظنّ صلّى إلى أربع جهات.
قال
الشيخ الأنصاري قدس سره: «ثمّ إنّ الظاهر من التحرّي و
الاجتهاد الواردين في النصوص والفتاوى هو بذل الجهد في تحصيل الظنّ، فإنّ التحرّي (الوارد في رواية
زرارة : «يجزي التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة» ) هو طلب الحريّ بالعمل، أو الأحرى بالعمل من غيره...، ويترتّب على ذلك أنّ مجرّد حصول الظن غير كافٍ ما أمكنه مراجعة الأمارات الاخر المحتملة؛ لكونها مفيدة لظنٍّ آخر أقوى ممّا حصل.
نعم، لو يئس من المعارض الأقوى فالظّاهر عدم وجوب تقوية الظن، بل ظاهر إطلاق كلمات كثير منهم وصريح قليل هو
الاكتفاء بمجرّد الظن وعدم لزوم الفحص». ثمّ قال: «وكيف كان، فإن فقَد الظن الاجتهادي بالقبلة- وهو المرتبة الثانية أو الثالثة من مراتب تحصيل الجهة- صلّى إلى أربع جهات، كلّ فريضة على المشهور...».
ومن موارد الشكّ الشكّ في إتيان جزء من أجزاء المركّب مع عدم تجاوز المحلّ، أو الشكّ في صحّته أو صحّة الكلّ أي إتيانه على الوجه الصحيح قبل حصول الفراغ منه. وذلك كالشكّ في ذكر
السجدة قبل رفع الرأس عنها، والشكّ في صحّة قراءة جزءٍ من فاتحة الكتاب، أو شوط من أشواط طواف الحجّ قبل الفراغ منه. وقد اتفقوا على لزوم
الإتيان بالجزء المشكوك على وجهه الصحيح وتحصيل اليقين ببراءة الذمّة؛ حيث لا تجري قاعدة التجاوز والفراغ قبلهما، فيجب
الاعتناء بالشكّ والاحتياط.
قال
المحقّق الحلّي قدس سره: «إذا شكّ في شيء من أفعال الصلاة ثمّ ذكر، فإن كان في موضعه أتى به وأتمّ، وإن انتقل مضى في صلاته، سواء كان ذلك الفعل ركناً أو غيره، وسواء كان في الاوليين أو الاخريين على الأظهر».
وقال المحقّق النجفي قدس سره: «كالشكّ في التكبير قبل أن يدخل في القراءة، وكالشكّ في القراءة قبل الركوع، والركوع قبل السجود، إلى غير ذلك من الأفعال المذكورة في كتب الفقهاء».
وقال
السيد الخوئي قدس سره: «من شكّ في فعل من أفعال الصلاة فريضة كانت، أو نافلة... وقد دخل في الجزء الذي بعده مضى ولم يلتفت،... وإذا شك قبل أن يدخل في الجزء الذي بعده وجب الإتيان به، كمن شكّ في التكبير قبل أن يقرأ، أو في القراءة قبل أن يركع، أو في الركوع قبل السجود وإن كان الشكّ حال الهويّ».
وأمّا إذا كان الشكّ في صحّة الواقع بعد الفراغ منه فلا يلتفت إليه وإن لم يدخل في غيره.
وكذلك إذا علم بترك الجزء سهواً، قال المفيد قدس سره: «ومن سها عن القراءة حتى يركع مضى في صلاته ولا
إعادة عليه، فإن سها عن قراءة الحمد ثمّ ذكرها قبل الركوع وقد قرأ بعدها سورةً أو بعضها رجع فقرأ الحمد ثمّ أعاد السورة».
إذا شكّ في أصل إتيان واجبٍ كالصلاة- مثلًا- في وقته المشروع، فإنّه يجب الاعتناء بهذا الشكّ والإتيان بالعمل احتياطاً عقلًا وشرعاً؛ لاحراز العلم ببراءة الذمّة المشغولة قطعاً.
وقد دلّ على ذلك بعض الروايات كموثقة زرارة و
فضيل عن
أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «متى ما استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنّك لم تصلّها، أو في وقت فوتها أنّك لم تصلها صلّيتها، فإن شككت بعد ما خرج وقت الفوت فقد دخل حائل فلا إعادة عليك من شكّ حتى تستيقن، فإن استيقنت فعليك أن تصلّيها في أي حال كنت».
وهذا الحكم متّفق عليه بين فقهائنا.
المستفاد من خلال كلمات الفقهاء أنّ الشارع المقدّس قد اهتمّ بشأن هذه الامور وأوجب فيها الاحتياط، فلا يجوز- مثلًا- قتل من يُشكّ في إسلامه- ولو كانت
الشبهة موضوعيّة لا يجب الفحص فيها- تمسّكاً بأصل
البراءة ، ولا يجوز نكاح من يشكّ في كونها خليّة بمجرّد ذلك، من دون فحص وتحرّ، ولا يجوز التصرّف في مالٍ لا يعلم رضا صاحبه به. وينبغي أن يعلم أنّ تحديد هذه المواضع ومواردها تابع لدلالة الأدلّة في كل مقام، وليس الغرض هنا بيان قاعدة مستقلّة مضبوطة في قبال سائر القواعد والأدلّة.
فمن الأوّل (الاحتياط في الدماء) قول الفخر قدس سره: «والمصنف رجّح الثاني بمأخذٍ ثالث وهو أنّ دم
المسلم المعصوم مبني على الاحتياط التامّ، فلا يقع فيه بالظنّ، بل اليقين، ولا يقين مع قيام الشبهة».
وقول
المحقّق الأردبيلي قدس سره: «ثمّ اعلم أنّ القتل أمر عظيم
لاهتمام الشارع بحفظ النفس، فإنّه مدار التكاليف والسعادات، ولهذا أوجبوا حفظها حتّى أنّه ما جوّزوا الترك ليقتل، بل أوجبوا عليها أن تقتل غيرها ولا تقتل والعقل أيضاً يساعده في الجملة، وحينئذٍ ينبغي الاحتياط التامّ في ذلك لظاهر الآية المقتضية للجلد فقط حتى يثبت غيره».
وقول المحقّق الكركي: «والحكم في الدّماء مبني على الاحتياط التام».
وقول
الشهيد الثاني : «لمّا كان الزنا قد يطلق على ما دون الجماع، فيقال: زنت العين وزنت
الأذن وزنى الفرج، والجماع يطلق على غير الوطء لغة، وكان
الأمر في الحدود- سيّما الرجم- مبنيّاً على الاحتياط التام، ويدرأ بالشبهة، فلا بدّ في قبول الشهادة به من التصريح بالمشاهدة لوقوع الفعل على وجه لا ريبة فيه، بأن يشهدوا بمعاينة
الإيلاج ».
ومن الثاني (الاحتياط في الفروج) قول
المحقّق الكركي : «إذا تقرّر هذا، فينبغي أن يُعلم أنّ الأمر في الفروج عند الشارع مبنيّ على الاحتياط التام، فليس حيث وجد الظاهر وجب ترجيحه والتمسّك به لا سيما الطلاق، وأقوال أصحابنا المتقدّمين والمتأخّرين في زوجة المفقود إذا انقطع خبره فإنّها إذا رفعت أمرها إلى الحاكم أجّلها أربع سنين للبحث عنه ظاهره عدم الفرق بين من شهدت القرائن بموت أو غيره، ويكون إجماعاً، بل الرواية الواردة في ذلك وهي رواية بريد... دالّة بعمومها على عدم الفرق...؛ لأنّه ترك
الاستفصال ...».
وقال بالنسبة لعقد النكاح: «والعقود متلقّاة من الشارع خصوصاً النكاح؛ لأنّ أمر الفروج مبنيّ على الاحتياط التام، فلا يكفي مطلق اللفظ الدالّ على المراد».
وقال في موضع آخر: «إنّ البضع مبنيّ على الاحتياط التامّ فيقتصر في الحلّ على مورد النصّ».
ومن الثالث(الاحتياط في الأموال) قول الفخر ذيل كلام العلّامة قدس سره: (ولو أوصى لمن يتعذّر حمل اللفظ عليه فالأقرب صرفه إلى المجاز): «لأنّ هذا اللفظ ليس بمهملٍ، فله معنى يفهم منه عند
الإطلاق - وهو الحقيقي- ومع تعذّره فعلى المجاز، ويحتمل عدمه؛ لأنّ اللفظ عند الإطلاق إنّما يحمل على الحقيقة لا على المجاز- وإن بطل التصرّف- وهو الأصحّ عندي؛ لأنّ أصل صيانة مال الغير (وهو الموصي هنا) إلى ناقل قطعي أقوى من أصل صيانة التصرّف عن البطلان، ولأنّ المجاز على خلاف
الأصل ، فلا يرجّح على ما بُني على الاحتياط التام- وهو التصرّف في مال الغير، والحكم بنقله عنه-».
ومن موارد ذلك حكمهم
بلزوم عزل سهم الحمل من التركة احتياطاً.
قال
المحقّق النجفي : «لا خلاف أجده بين الأصحاب في أنّه يوقف ويعزل للحمل نصيب ذكرين احتياطاً عن تولده كذلك، بل لو لا ندرة الزائد لعزل أزيد من ذلك، فلو اجتمع مع الحمل ذكر اعطي الثلث وعزل للحمل الثلثان، أو انثى اعطيت الخمس حتّى يتبين حال الحمل، فإنّ ولد حيّاً كما فرض وإلّا وزّع التركة بينهم على حسب ما يقتضيه حال الحمل، وإن ولد ميّتاً خصّ باقيها بالولد الموجود. ولو كان هناك ذو فرض اعطي النصيب الأدنى إن كان ممّن يحجبه الحمل من الأعلى إليه، كالزوجة و
الامّ مع عدم ولد هناك أصلًا، فإن ولد ميّتاً أكمل النصيب، وإن ولد حيّاً روعي حاله وقسّم التركة على حسبها.
والحاصل أنّه متى كان هناك حمل وطلب الورثة القسمة فمن كان محجوباً به كالاخوة لم يعط شيئاً حتّى يتبيّن الحال، ومن كان له فرض لا يتغيّر بوجوده وعدمه- كنصيب الزوجين و
الأبوين إذا كان معه (مع خ ل) ولد- يعطى كمال نصيبه، ومن ينقصه ولو على بعض الوجوه يعطى أقلّ ما يصيبه على تقدير ولادته على وجه يقتضيه، كالأبوين إذا لم يكن هناك ولد غيره. ولعلّ الوجه في جميع ذلك- بعد ظهور
الإجماع عليه وعلى كون الحمل مانعاً من إرث غيره- هو أصالة السلامة في الحمل والتولّد حيّاً، وعدم
انتقال المال إلى الوارث غير الحمل، فهو حينئذٍ كالمال الذي يعلم عدد وارثيه.
و
أصالة عدم التعدّد في الحمل يمكن المناقشة في جريانها باعتبار رجوعها إلى تشخيص كيفيّة
انعقاد النطفة، وهي قاصرة عن
إفادة ذلك. كما أنّ الظاهر
إرادة مجرّد الاحتياط اللّازم مراعاته هنا بالعزل المزبور لا أنّه قسمة بحيث لو تلف ذلك المعزول لم يكن للحمل شيء فيما قبضوه؛ ضرورة عدم الملك له قبل الولادة كي يتصوّر القسمة مع وليه، فالمراد بذلك الجمع بين حقّي الموجود والحمل، فلا تجري عليها أحكام القسمة، اللّهم إلّا أن يدّعى الإجماع على ذلك، لكنه كما ترى دون إثباته خرط القتاد».
الموسوعة الفقهية، ج۶، ص۱۸۸- ۱۹۸.