أرض أسلم أهلها طوعا
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
تقدّم معنى
الأرض . و
الإسلام لغة: هو الانقياد والإذعان،
لكنّه هنا بمعنى
الإيمان بشريعة
الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، أو إظهار
الانقياد والخضوع والقبول لها،
و
أهل الإنسان والشيء، خاصّته وذووه،
والطوع ضدّ الكره، ومعناه
الانصياع والانقياد و
الاستجابة ، دون ضغطٍ من شيء أو أحد.
والمراد من التركيب كلّ أرض دخل أهلها وذووها في الإسلام من غير قتال، رغبة من عند أنفسهم،
سواء حصل ذلك استجابةً لدعوة من المسلمين، أو بدونها.
وقد يطلق على هذه الأرض
اسم أرض الطوع،
أو الأرض المسلمة بالدعوة.
تعرّض الفقهاء ضمن أحكام الأراضي في كتب الجهاد و
الأنفال و
إحياء الموات وغيرها إلى جملة من الأحكام المتعلّقة بالأرض التي أسلم أهلها عليها طوعاً، نذكرها كما يلي:
لا خلاف بين الفقهاء- ممّن يقول بالملكيّة الخاصّة في الأراضي كما ادّعاه غير واحد منهم
- في أنّ إسلام أهل البلاد العامرة عليها موجب لملكيّتها لهم،
دون الموات، فتكون للإمام خاصّة.
قال
المحقق النجفي : «كلّ أرض أسلم أهلها عليها طوعاً ورغبة- كالمدينة، و
البحرين ، وبعض
أطراف اليمن على ما قيل- فهي لهم على الخصوص، وليس عليهم فيها سوى
الزكاة إذا حصلت شرائطها، كما صرّح به في
النهاية و
السرائر والجامع والنافع و
الإرشاد و
التبصرة و
القواعد والتحرير و
التذكرة و
المختلف و
اللمعة و
الروضة و
المسالك وغيرها، بل لا أجد فيه خلافاً ولا إشكالًا بعد معلومية حقن الإسلام الدم والمال».
لكنّهم اشترطوا مع ذلك- صريحاً أو ظاهراً- قيام أهلها بعمارتها، فإن أهملوها وتركوا عمارتها حتى صارت خراباً جاز للإمام أخذها، وتقبيلها ممّن يعمّرها بما يراه.
وخالف ابن إدريس في ذلك فمنع من تصرّف
الإمام فيها بالأخذ والتقبيل؛ لأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه، وهو قبيح، حيث قال في بيان ضروب الأرض:
«ضرب منها أسلم أهلها عليها طوعاً من قبل نفوسهم من غير قتال، مثل أرض المدينة، فيترك في أيديهم، ويؤخذ منهم العشر أو نصف العشر بحسب سقيها، وهي ملك لهم، يصحّ لهم التصرّف فيها بالبيع والشراء والوقف وسائر أنواع التصرّفات، وهذا حكم أرضيهم إذا عمروها وقاموا بعمارتها، فإن تركوها خراباً أخذها إمام المسلمين، وقبّلها من يعمّرها، وأعطى أصحابها طسقها، وأعطى المتقبّل حصّته، وما يبقى فهو متروك لمصالح المسلمين في بيت مالهم على ما روي في الأخبار،
أورد ذلك شيخنا أبو جعفر. والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية، فإنّها تخالف الاصول والأدلّة العقليّة والسمعيّة، فإنّ ملك إنسان لا يجوز لأحدٍ أخذه، ولا التصرّف فيه بغير إذنه واختياره، فلا نرجع عن الأدلّة بأخبار الآحاد».
ثمّ إنّ المشهور اختلفوا بعد ذلك في ملكيّة الأرض:
۱- فعبّر بعض منهم بلزوم أن يعطي المتقبّل أو الإمام أرباب الأرض حقّ الرقبة.
وهو ظاهر في بقاء الأرض على ملكيّة أهلها، وأنّ المتقبّل ليس له إلّا حقّ
الانتفاع بها.
قال
الشيخ الطوسي في بيان ضروب الأرض أيضاً: «ضرب منها أسلم أهلها طوعاً من قبل أنفسهم من غير قتال، فتترك الأرض في أيديهم، يؤخذ منهم العشر أو نصف العشر، وكانت ملكاً لهم، يصحّ لهم التصرّف فيها بالبيع والشراء والوقف وسائر أنواع التصرّف إذا عمّروها وقاموا بعمارتها، فإن تركوا عمارتها وتركوها خراباً جاز للإمام أن يقبّلها ممّن يعمّرها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع، وكان على المتقبّل بعد إخراج حقّ القبالة ومئونة الأرض إذا بقي معه النصاب العشر أو نصف العشر، ثمّ على الإمام أن يعطي أربابها حقّ الرقبة».
۲- وعبّر بعض آخر منهم بأنّها تصير حينئذٍ للمسلمين، ولم يتعرّضوا لحقّ الرقبة بشيء. وظاهره انتقال ملكيّتها من أصحابها بتركهم عمارتها ودخولها في ملك المسلمين.
قال
القاضي ابن البرّاج : «الأرض إذا أسلم أهلها عليها طوعاً من غير حرب تركت في أيديهم وكانت ملكاً لهم، يصحّ لهم التصرّف فيها بالبيع والشراء والوصية والهبة وغير ذلك من أنواع التصرّف. وإذا عمّروها فليس عليهم إلّا فيما تخرجه، وهو العشر ونصف العشر بحسب سقيها، كما ذكرناه في باب الزكاة. وإن تركوا عمارتها حتى صارت خراباً كانت حينئذٍ لكافّة المسلمين، يقبّلها الإمام عليه السلام ممّن يقوم بعمارتها بحسب ما يراه من نصف أو ثلث أو ربع، وعلى متقبّلها بعد إخراج مئونة الأرض وحقّ القبالة فيما يبقى في خاصة من عليها إذا بلغ خمسة أوسق أو أكثر من ذلك العشر أو نصف العشر بحسب سقيها على ما سلف بيانه».
وبه أفتى ابن حمزة،
واختاره
المحقق الكركي في رسالته قاطعة اللجاج
و
السيد عبد الله الجزائري في التحفة.
۳- وجمع بعض ثالث- بل ادّعي أنّه المشهور
- بين التعبيرين، فعبّر بأنّها تكون للمسلمين، وعلى المتقبّل أو الإمام
إعطاء أربابها حق الرقبة.
قال
العلّامة الحلّي في بيان أقسام الأرضين: «الثاني: أرض من أسلم أهلها عليها طوعاً من قبل نفوسهم من غير قتال، فيترك في أيديهم ملكاً لهم، يصحّ لهم التصرّف فيها بالبيع والشراء والوقف وسائر أنواع التصرف إذا عمّروها وقاموا بعمارتها، ويؤخذ منهم العشر أو نصف العشر زكاة إذا بلغ
النصاب . فإن تركوا عمارتها وتركوها خراباً كانت للمسلمين قاطبة، وجاز للإمام أن يقبّلها ممّن يعمّرها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع، وكان على المتقبّل بعد
إخراج حقّ
القبالة ومئونة الأرض إذا بقي معه النصاب، العشر أو نصف العشر، وعلى الإمام أن يعطي أربابها حقّ الرقبة».
ولا ريب في تنافي التعبيرين، إذ لا معنى لأن تكون الأرض للمسلمين ثمّ يعطى لأربابها حقّ الرقبة، كما صرّح بذلك
المحقق النجفي في الجواهر.
نعم، يمكن أن يحمل كونها للمسلمين على
إرادة ارتفاعها ونمائها، أو حقّ
استثمارها والانتفاع بها بالقيام
بإعمارها وإحيائها و
إصلاح ما فسد منها ولو بتقبيل الإمام، كما أشار إليه بعضهم.
كما يمكن أن يحمل إعطاء أربابها حقّ الرقبة على
أجرة ما أحدثوه فيها من عمران لا عليها.
لكنّ كليهما خلاف الظاهر، بل غير مراد لهم على ما يظهر من تتبّع كلماتهم، وما ورد فيها وعليها من استدلالات ومناقشات.
وقد استدل على
أصل الحكم- بملكيّة عامر الأرض التي أسلم أهلها عليها لهم- بما رواه
صفوان بن يحيى و
أحمد بن محمّد بن أبي نصر جميعاً قالا: ذكرنا له
الكوفة وما وضع عليها من الخراج، وما سار فيها أهل بيته، فقال: «من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده، واخذ منه العشر ممّا سقي بالسماء والأنهار، ونصف العشر ممّا كان بالرشاء (الرّشاء: الحبل الذي يتوصّل به إلى الماء. )
فيما عمّروه منها، وما لم يعمّروه منها أخذه الإمام فقبّله ممّن يعمّره، وكان للمسلمين وعلى المتقبّلين في حصصهم العشر أو نصف العشر...».
وبمضمونه صحيح أحمد بن محمّد بن أبي نصر الذي رواه منفرداً عن
الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام لكن من دون ذكر ما يجب على المتقبّلين في ذلك.
فإنّ الروايتين المتقدّمتين دلّتا على
إقرار الأراضي العامرة التي بيد الكفّار بأيديهم بعد إسلامهم، وهو ما فهم منه مشهور الفقهاء ملكيّتهم لها.
وأمّا الحكم بانتقالها- عند تعطيلها وعدم القيام على عمارتها- إلى المسلمين وأخذ الإمام عليه السلام لها منهم وتقبيله ممّن يشاء
بالأجر الذي يشاء فقد تمّ التعرّض له قبلًا بصورة مجملة.
اتّفق الفقهاء على أنّ ما يكون ملكاً لأهله بإسلامهم عليه خصوص العامر من الأرض بيد أهله. وأمّا الموات من الأرض والعامر طبيعيّاً لا بيد أحدٍ من البشر فيكون ملكاً للإمام. وقد مرّ تصريح بعض الفقهاء بذلك في خصوص الموات فيما تقدّم من أبحاث الأرض. والتفصيل في ذلك كلّه موكول إلى محلّه.
كلمات الفقهاء في الأرض التي أسلم أهلها عليها طوعاً مطلقة لا تعرّض فيها إلى حكم ما كان زمان إحيائه متأخّراً عن زمان تشريع الأنفال. وظاهر ذلك شمول الحكم بملكيّة من أسلم للأرض العامرة حين الفتح، سواء تقدّم إحياؤها على زمان تشريع الأنفال، أو تأخّر عنه.
لكن تفصيل المحقق النجفي في حكم عامر الأرض المفتوحة عنوة بين ما تقدّم إحياؤه على زمان تشريع الأنفال فيكون بالفتح ملكاً للمسلمين وما تأخّر إحياؤه عنه فيكون ملكاً للإمام عليه السلام استصحاباً لملكيته السابقة على
الإحياء - بعد البناء على عدم إذن الإمام عليه السلام للكافر في إحياء ما هو ملك له
- دفع بعض الفقهاء إلى البحث عن ملكيّة الأرض المحياة بعد تشريع الأنفال لمن أسلم عليها طوعاً بعد ذلك.
ومع ذلك فإنّ مشهور من تأخّر عن المحقّق النجفي من الفقهاء ذهب إلى ملكيّة الأرض المحياة بعد تشريع الأنفال كالمحياة قبله بإسلام من هي بيده عليها، إمّا من جهة عدم شمول المطلقات الدالّة على ملكيّة الإمام عليه السلام الأراضي الموات لما لم يدخل في سلطان المسلمين بعدُ- كما هو مختار
السيد اليزدي - ليفتقر في إحيائه إلى إذنٍ منه، أو من جهة ثبوت عموم
الإذن من الإمام عليه السلام لتملّك الأرض الموات للإحياء الشامل لما يحييه الكافر أيضاً قبل دخوله طواعية في دين الإسلام، كالشهيد الصدر
وغيره.
نعم، قد يقال
بإمكان أن يكون الإسلام مملّكاً للأرض المحياة بعد تشريع الأنفال وإن كانت مملوكة للإمام عليه السلام قبله.
لكنّه قابل للمناقشة بعدم
احتمال أن يفرض الشارع لمن كان كافراً فأسلم أكثر ممّا يفرضه للمسلم نفسه، فإنّ الشارع لا يملِّك المسلم نفسه ما يأخذه من الغير بدون إذنه فكيف يملّك من كان كافراً فأسلم ما اقتطعه من ملك الإمام عليه السلام فأحياه بدون إذنه، بناءً على عدم عموم الإذن بالإحياء منه للكافر و
المسلم .
ثمّ إنّه قد يستدلّ للقول بعدم التفصيل في ملك من أسلم على الأرض التي هو عليها بين المحياة قبل تشريع الأنفال والمحياة بعده بعدّة أدلّة، منها:
۱- الإجماع، فإنّ كلمات الفقهاء في الحكم له بالملكيّة إمّا مطلقة تعمّ كلا القسمين،
أو ناصّة على تملّكهما معاً.
لكن يمكن المناقشة في ذلك، بأنّ
الإجماع المذكور يحتمل فيه أن يكون مدركيّاً، بأن يكون كلّ المجمعين أو بعضهم استندوا إلى أحد الأدلّة الواردة في المسألة، كإطلاق الروايات الدالّة على ملكيّة من أسلم على أرض له.
۲- سيرة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم و
الأئمّة عليهم السلام بترك الأرض بيد أهلها إذا أسلموا عليها طوعاً،
من دون فرقٍ بين ما كان إحياؤه سابقاً على تاريخ تشريع الأنفال وبعده.
۳- الروايات الواردة في ملكيّة من أسلم للأرض التي هو عليها، فإنّها وردت مطلقة لا تفصيل فيها بين المحياة قبل تشريع الأنفال وبعده، مع أنّها مرويّة عن الإمام الرضا عليه السلام
الذي يفصل بينه وبين زمان تشريع الأنفال فاصل زمني طويل، خضعت خلاله كثير من البلدان لسلطان المسلمين، ودخلت كثير من الأراضي في دولتهم بعض بالإسلام وبعض بالفتح وبعض بغيرهما، فكان على الإمام عليه السلام التنبيه إلى ذلك لو كان الحكم في المحياة بعد تشريع الأنفال مختلفاً عمّا قبله.
ذكر
الشيخ جعفر كاشف الغطاء حكم ما لو أسلم بعض أصحاب الأراضي دون بعض آخر، حيث حكم فيه بجريان كلّ حكم على أهله.
وسائر الفقهاء لم يتعرّضوا له؛ ولعلّه لوضوحه.
صرّح الفقهاء في الأرض المصالح أهلها على أن تكون الأرض لهم، بأنّهم لو أسلموا عليها بعد
انعقاد عقد الصلح سقط عنهم ما وضع على المصالحين من المال؛ إذ لا جزية على مسلم، والحقوا بمن أسلموا على أرضهم طوعاً، تكون الأرض ملكاً لهم، أو يكون لهم حقّ الانتفاع فيها ما دامت عامرة بأيديهم، على الخلاف في ملكيّة رقبة الأرض وعدمه، وعليهم فيها ما على المسلمين من الزكاة، وهي العشر أو نصف العشر من حاصلها.
والتفصيل في ذلك كلّه موكول إلى محلّه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۰، ص۱۹۹-۲۰۵.