الإنكار
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو
الجهل والجحود، خلاف
الإقرار.
الإنكار: مصدر أنكر، ويأتي في اللغة بمعانٍ متعدّدة:
منها: الجهل وخلاف المعرفة،
تقول:أنكرت الشخص أو
الأمر أو الشيء، إذا جهلته،
ومنه: قوله تعالى: «وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ».
ومنها: الجحود،
تقول: أنكرت حقّه، أي جحدته،
ومنه قوله تعالى: «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا».
غاية الأمر أنّ
الجحد أخصّ من الإنكار؛ وذلك لأنّ الجحد إنكار الشيء الظاهر كما في قوله تعالى: «بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ»،
فجعل الجحد ممّا تدلّ عليه الآيات ولا يكون ذلك إلّاظاهراً، بخلاف الإنكار فإنّه يشمل الظاهر والخفي،
كما في قوله تعالى: «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا»، فإنّ النعمة قد تكون خافية.أو أنّ الجحد إنكار الشيء مع العلم به، كما يشهد له قوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ»
فجعل الجحد مع
اليقين ، والإنكار يكون مع العلم وغير العلم.
ومنها: تغيير المنكر
وعيبه والنهي عنه، تقول: أنكرت عليه فعله إنكاراً، إذا عبته عليه ونهيته عنه،
ومنه قوله تعالى: «فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ»،
أي إنكاري.
وأمّا الإنكار في اصطلاح الفقهاء فقد استعملوه بالمعنيين الأخيرين، ولم نجد في كلماتهم استعماله بمعنى الجهل بالشيء.ويعبّرون في علمي
الدراية والرجال ب (الحديث المنكر) و (حديثه يُعرف ويُنكر)، ومرادهم من الأوّل الحديث الذي يرويه الضعيف بنحو يتعارض مع رواية
الثقة ،
وهو بهذا المعنى قسم من أقسام الحديث الشاذ؛ لأنّ
الشاذ إن رواه الثقة سمّي شاذاً باعتبار ما يقابله وهو المشهور، وإن رواه غير الثقة سمّي منكراً.
وأمّا الثاني فمرادهم منه
اضطراب الحديث،
وقد نعتوا به الراوي الضعيف.
وهو- لغة واصطلاحاً-:
الطرد ، والتغريب،
والإبعاد ، ومن ثمّ يقال:نفيت الرجلَ نفياً، إذا طردته،
ونفي إلى بلدة أخرى، أي دفع إليها،
ومنه قوله تعالى «أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ».
وإذا أضيف النفي إلى النسب كان بمعنى
إنكار الولد وجحوده، يقال: نفى إبنه، أي جحده.
ويتّضح من خلال ذلك أنّ النسبة بين النفي والإنكار نسبة العموم والخصوص من وجه، يجتمعان في مثل نفي الولد وإنكاره، ويفترقان في غيره، فكلّ جحد نفي وليس كلّ نفي جحود.
كالإنكار يأتي بمعنى جهالة الشيء، وبمعنى عدّ الشيء منكراً، كما ويأتي بمعنى
الاستفهام عن أمر تُنكره.
وبهذا يتبيّن أنّ النسبة بين الاستنكار والإنكار نسبة العموم والخصوص من وجه، يجمعان في مجيئهما بمعنى الجهالة، ويفترق الإنكار عن الاستنكار بمجيئه بمعنى الجحد، ويفترق الاستنكار عن الإنكار بمجيئه بمعنى الاستفهام عمّا ينكر.
مصدر نكل، ومن معانيه في اللغة: المنع
والامتناع ، يقال: نكل ينكل، إذا امتنع. ومنه: النكول عن اليمين، وهو الامتناع منها وترك
الإقدام عليها.
وفي اصطلاح الفقهاء هو عبارة عن امتناع من وجبت
اليمين عليه من الحلف، بأن يقول: أنا ناكل، أو لا أحلف، عقيب قول القاضي له: احلف، أو سكت سكوتاً يدلّ على الامتناع.
فالنكول غير الإنكار.
وهو
الانصراف والعودة، وترك الشيء بعد الإقدام عليه،
والرجوع عن الشهادة: أن يقول الشاهد:أبطلت شهادتي أو فسختها أو رددتها، وقد يكون الرجوع عن
الإقرار بادّعاء الغلط ونحوه.
وقد يعبّر عن الرجوع بالإنكار، كما في قاعدة عدم سماع
الإنكار بعد الإقرار ،
أو بالعكس فيعبّر عن الإنكار بالرجوع.
الأحكام الفقهية المتعلّقة بالإنكار منها ما يترتّب على الإنكار بمعنى الجحود، ومنها ما يترتّب على الإنكار بمعنى النهي عن الشيء وإنكاره، وفيما يلي نذكر أحكام القسمين:
يتحقّق الإنكار بإحدى الطرق التالية:
أ- النطق والكلام:
وهو القدر المتيقّن الذي يتحقّق به الإنكار، ويعتبر فيه
الصراحة ، كأن يقول له الحاكم: هل لفلان عليك دين أو حقّ؟ فيقول: لا. أمّا إذا قال: لا أعلم أو لا أدري، فقد اختلفوا في أنّه إنكار أم لا، فذهب جماعة إلى أنّه إنكار. قال
المحقّق النجفي : «إنّ ظاهر حصر الأصحاب حال المدّعى عليه في الثلاثة(الإقرار والإنكار والسكوت) عدم حالٍ آخر رابع مخالف لها في الحكم، وحينئذٍ فإذا كان جوابه: لا أدري ولا أعلم ونحو ذلك، فهو منكر؛ ضرورة عدم كونه إقراراً، كضرورة عدم كونه سكوتاً، فليس إلّا الإنكار...».
بينما يستفاد عدم كفايته ممّن ذهب إلى عدم كفاية نفي العلم في حلف المنكر،
بل لابدّ من
القطع والجزم حتى بالنسبة إلى فعل الغير.
نعم، يكفي الحلف على عدم العلم بالنسبة إلى نفي فعل الغير، كما لو ادّعي على مورّثه شيئاً، فقال: لا أعلم على مورّثي ديناً، ولا أعلم منه جناية وبيعاً.
ب- الإشارة:
تلحق الإشارة بالكلام وتقوم مقامه في تحقّق الإنكار
عند تعذّره، كما في
الأخرس والأطرش ، ولكن بشرط أن تكون الإشارة مفهومة ومفيدة لليقين». وظاهر بعضهم
الاكتفاء بإفادتها الظن. وأمّا إذا لم تفهم واحتاج فهمها إلى مترجم، فإن كان إخبار المترجم من باب الشهادة فلابدّ من تعدّد المترجمين، وإن كان من باب
إخبار الثقة والرجوع إلى أهل الخبرة فيكتفى بالواحد.
ج- السكوت:
قد يتحقّق الإنكار بسكوت المدّعى عليه، بمعنى أنّه يكون حكمه حكم المنكر، وذلك فيما إذا وجّهت إليه دعوى وطلب منه الحاكم الجواب فسكت، وكان صحيحاً قادراً على الكلام، أو قال:لا أقرّ ولا أنكر، فحينئذٍ يقول له الحاكم:إمّا أن تجيب وإمّا أن أجعلك ناكلًا وأردّ اليمين على المدّعي، فإن أصرّ على
السكوت ردّ اليمين على المدّعي، فإن حلف حكم له.وفيه: أنّه «الصحيح من مذهبنا، وأقوال أصحابنا، وما يقتضيه المذهب».
وفي
المبسوط: «يقتضيه مذهبنا، والثاني (أي الحبس) أيضاً قوي».
وفي
المهذب:«هو الظاهر من مذهبنا، ولا بأس بالعمل بالثاني».
وبهذا يكون الساكت المصرّ على سكوته بمنزلة المنكر
الناكل عن اليمين.
وذهب جمع من الفقهاء إلى أنّه يحبس حتى يبيّن الجواب بالإقرار أو بالإنكار.
وقيل: إنّه يجبر بالضرب ونحوه حتى يجيب من باب الأمر بالمعروف.
•
إنكار الدعوى،إذا ادّعى شخص على آخر فالمدّعى عليه لا يخلو أمره من ثلاث حالات.
•
الإنكار بعد الإقرار،ا يسمع
الإنكار بعد
الإقرار ، لا في حدود اللَّه ولا في حقوق الناس، فقد نسب إلى المشهور.
•
الإقرار بعد الإنكار،
الإقرار بعد
الإنكار يبطل الإنكار ويلزم المنكر الحقّ.
المقصود من التعريض بالإنكار هو أن يقصد المدّعى عليه الإقرار، فيلقّنه القاضي الإنكار، أو يقصد اليمين فيلقّنه النكول.
وفصّل الفقهاء في حكمه بين حقوق الناس وحقوق اللَّه، فإن كان الموضوع يتعلّق بحقوق الناس فلا يجوز للقاضي تعريض المدّعى عليه بالإنكار، بأن يوقف الغريم عن الإقرار لو أراد أن يقرّ للمدّعي بالحق؛ لأنّ فيه ظلماً وتضييعاً لحقّ المقرّ له، وإن كان يتعلّق بحقوق اللَّه- كحدّ الزنا مثلًا- فيجوز ذلك،
بل يستحبّ؛
تأسّياً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في قضية ماعز بن مالك لمّا جاء إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقرّ عنده بالزنا، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يعرض له بالتأويل، ويقول له:«لعلّك قبّلتها، لعلّك لمستها».
يجوز للمديون إنكار الدين في موضعين:
الأوّل: فيما لو ادّعي عليه دين قد برئ منه بإسقاط أو تسليم أو غيرهما، فخشي من دعوى
الإسقاط أن ينقلب اليمين إلى المدّعي؛ لعدم البيّنة، فيحلف ويأخذ منه الدين، فيجوز له حينئذٍ إنكار
الدين والحلف على عدمه، لكن بشرط أن يورّي ما يخرجه عن الكذب،
كأن يعدل بمدلول اللفظ إلى غير ما يدلّ عليه ظاهراً، بأن يقول: ما استدنت منك ويقصد نفيها في مكان مخصوص أو زمان غير الذي كانت
الاستدانة فيه، أو نوعاً من المال غير الذي وقع، أو غير ذلك.
الثاني: فيما إذا كان المديون معسراً وخشي الحبس إذا أقرّ بالدين، فيجوز عندئذٍ إنكار الدين والحلف على عدمه، لكن عليه أن يورّي- بأن يقصد بقوله:لا دين لك عليّ، لا دين يجب أداؤه الآن- وينوي القضاء
والأداء مع المكنة واليسار.
أمّا وجوب
التورية فللاحتراز عن الكذب المحرّم؛
لأنّ الكاذب ملعون.
وأمّا جواز الحلف على العدم فلمكان الضرورة،
ودفع الضرر عن النفس.
•
إنكار الولد،لا يجوز
إنكار الولد ونفيه مع العلم بأنّه منه، ومع توفّر شروط
الإلحاق به.
إذا أنكر الزوج طلاق زوجته قبل
انقضاء العدّة الرجعية، فقد ذهب المشهور
إلى أنّ ذلك رجوع،
بل ادّعي عدم الخلاف فيه،
والإجماع عليه.
وفي المسالك : «ظاهرهم الاتّفاق».
وفي كشف اللثام : «على ما قطع به الأصحاب».ويدلّ عليه
أيضاً صحيحة
أبي ولّاد الحنّاط عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن امرأة ادّعت على زوجها أنّه طلّقها تطليقة طلاق العدّة طلاقاً صحيحاً- يعني: على طهر من غير جماع- وأشهد لها شهوداً على ذلك، ثمّ أنكر الزوج بعد ذلك، فقال: «إن كان إنكاره
الطلاق قبل انقضاء العدّة، فإنّ إنكاره الطلاق رجعة لها، وإن كان أنكر الطلاق بعد انقضاء العدّة، فإنّ على الإمام أن يفرّق بينهما بعد شهادة الشهود...».
وعلّل بأنّه يتضمّن
التمسّك بالزوجية،
وبأنّه أبلغ من الرجعة بألفاظها المشتقّة منها وما في معناها؛ لدلالتها على رفع الطلاق في غير الماضي، ودلالة الإنكار على رفعه مطلقاً.
لا خلاف
في أنّه يصحّ الصلح مع الإنكار كما يصحّ مع الإقرار،
بل ادّعي الإجماع عليه؛
لعموم قوله تعالى:«وَالصُّلْحُ خَيْرٌ»،
ولما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: «... الصلح جائز بين المسلمين...».
وصورة الصلح مع الإنكار هي: أن يدّعي شخص على غيره ديناً أو عيناً، فينكر المدّعى عليه، ثمّ يصالح المدّعي على مالٍ اتّفقا عليه.
والمراد من الصحّة مع الإنكار صحّته بحسب الظاهر، وهي قطع
النزاع وعدم صحّة الدعوى مرّة أخرى، وأمّا بحسب الواقع ونفس الأمر فلا يستبيح كلّ منهما ما وصل إليه بالصلح وهو غير محقّ، إلّا أن يفرض رضا المالك وطيب نفسه بالصلح على كلّ حال.
يتحقّق الكفر
والارتداد بإنكار أصل من أصول الدين، كإنكار الالوهيّة أو
التوحيد ، أو الرسول
والرسالة ،
أو
المعاد ،
أو إنكار ضروري من ضروريات الدين، كوجوب
الصلاة والصوم
والزكاة مع الالتفات إلى كونه ضروريّاً، بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة،
سواء كان إنكاره بفعل أو بقول، وسواء كان معتقداً له أم لا بل كان مجرّد هزل ومزاح،
ولا خلاف
في تحقّق الكفر بذلك، بل ظاهر بعضهم دعوى الإجماع على تحقّقه بإنكار ضروري من ضروريّات الدين.
نعم، اختلفوا في أنّ إنكار الضروري سبب مستقلّ للكفر والارتداد- كما نسب إلى ظاهر الفقهاء نسبه في مفتاح الكرامة وجواهر الكلام إلى ظاهر الأصحاب.
- أم لا يوجب ذلك إلّا إذا استلزم إنكار الرسالة أو تكذيب الرسول كما اختاره بعضهم.
هذا في حالة
الاختيار ، وأمّا في حالة
الاضطرار - كموارد
التقية والإكراه - فيجوز
إظهار كلمة الكفر،
وإنكار شيء من أمور الدين؛ لقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ»،
ولأدلّة نفي الضرر.
وبسط الكلام في ذلك وتفصيله يحال إلى محلّه.
المراد من الإنكار بهذا المعنى النهي عن المعاصي وإنكار المنكرات بالقلب واللسان واليد، وهو المعبّر عنه في النصوص والفتاوى بالنهي عن المنكر، ويعدّ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات وأهمّها، حيث بهما تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر.
فمن رأى منكراً يرتكب وجب عليه إنكاره والنهي عنه، كما دلّت عليه الآيات والروايات، فمن الآيات قوله تعالى:«وَلْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
ومن الروايات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رواية
الإمام العسكري عن آبائه عليهم السلام:«... من رأى منكم منكراً فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم اللَّه من قلبه أنّه لذلك كاره».
وتفصيل البحث في ذلك، وبيان شرائطه ومراتبه يوكل إلى محلّه، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويترتّب على الإنكار بمعنى النهي عن الشيء أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو
الإمام عليه السلام لو رأى فعلًا صدر من شخص ولم ينكره فهو دليل على
الرضا به وجوازه شرعاً، اللهمّ إلّا أن يكون الفعل صدر تقية، فحينئذٍ لا يدلّ عدم الإنكار على الجواز. ويطلق الأصوليّون على هذا عنوان (تقرير)،
وتفصيل البحث عنه موكول إلى محلّه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۸، ص۴۷۰-۴۸۲.