الحج المنذور
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
إذا نذر
حجّة الإسلام انعقد على الأصح، فتجب الكفارة بالترك، ولا يجب عليه غيرها اتّفاقاً، ولا تحصيل
الاستطاعة ، إلاّ إذا قصد بنذرها تحصيلها فيجب أيضاً.
وإذا نذر (غير حجّة
الإسلام لم يتداخلا)
اتّفاقاً ، كما في
التحرير والمختلف والمسالك
وغيرها،
بل يجبان عليه معاً إن كان حال النذر مستطيعاً وكان حجّة النذر مطلقة أو مقيدة بسنة غير الاستطاعة. ويجب عليه حينئذ تقديم حجّة الإسلام؛ لفوريتها، وسعه مقابلها. وإن كانت مقيّدة بسنتها لغا النذر إن قصدها مع بقاء الاستطاعة، وإن قصدها مع زوالها صحّ، ووجب الوفاء عند زوالها. وإن خلا عن القصدين فوجهان. وإن لم يكن حال النذر مستطيعاً وجب المنذورة خاصة بشرط القدرة، دون الاستطاعة الشرعية، فإنّها شرط في حجّة
الإسلام خاصة. خلافاً للدروس فتشترط أيضاً
ولا وجه له.
وإن حصلت الاستطاعة الشرعية قبل
الإتيان بالمنذورة، فإن كانت مطلقة أو مقيدة بزمان متأخر عن سنة الاستطاعة خصوصاً، أو عموماً، وجب تقديم حجّة الإسلام؛ لما مرّ، وفاقاً لجماعة.
خلافاً للدروس، فقدّم المنذورة،
ولم نعرف وجهه. وإن كانت مقيدة بسنة الاستطاعة، ففي تقديم المنذورة أو الفريضة، وجهان، أجودهما الأول كما قطع به جماعة.
قال في المدارك : لعدم تحقق الاستطاعة في تلك السنة؛ لأن المانع الشرعي كالمانع العقلي، وعلى هذا فيعتبر في وجوب حجّ الإسلام بقاء الاستطاعة إلى السنة الثانية.
(ولو نذر حجّا مطلقاً) أي خالياً عن قيدي حجّة الإسلام وغيرها (قيل : يجزي إن حجّ بنية النذر عن حجّة الإسلام، ولا يجزي) إن نوى (حجّة الإسلام عن النذر) والقائل : الشيخ في
النهاية والتهذيب والاقتصاد،
كما حكي، وحكاه في المسالك أيضاً عن جماعة.
ولا يخلو عن قوة؛
استناداً في الحكم الثاني إلى
الأصل الآتي.
وفي الأول إلى الصحيحين : عن رجل نذر أن يمشي إلى
بيت الله الحرام فمشى، هل يجزيه عن حجّة الإسلام؟ قال : «نعم».
وفي أحدهما : قلت : أرأيت إنّ حجّ عن غيره ولم يكن له مال، وقد نذر أن يحجّ ماشياً، أيجزيه عنه ذلك من مشيه؟ قال : «نعم».
والظاهر أن المراد بنذر المشي نذر الحجّ ماشياً، كما فهمه الأصحاب، حتى أرباب القول الثاني، حيث لم يجيبوا عنهما إلاّ بالحمل على ما إذا نذر حجّة الإسلام ماشياً، ويدلُّ عليه السؤال الثاني في أحدهما. وهذا القدر من الظهور كافٍ، وإن احتمل السؤال فيهما غيره، من كون المسئول أنّ هذا المشي إذا تعقبه حجّة الإسلام فهل يجزي، أم لا بدّ من المشي ثانياً؟ أو أنّه إذا نذر المشي مطلقاً، أو في حجّ، أو في حجّة الإسلام فمشى، فهل يجزيه أم لا بدّ من الركوب فيها؟ أو أنه إذا نذر حجّة الإسلام فنوى المنذور دون حجّة الإسلام فهل يجزي عنها؟.
لبُعد جميع ذلك، سيّما في مقابلة فهم الأصحاب. و
ارتكابها فيهما كلاًّ أو بعضاً للجميع تبرّعاً يتوقف على وجود المعارض الأقوى، وليس، سوى
الأصل الآتي، والتعارض بينهما وبينه على تقدير تسليمه تعارض العموم والخصوص مطلقاً والخاص مقدّم اتّفاقاً.
(وقيل : لا يجزي أحدهما عن الآخر) والقائل الأكثر على الظاهر، المصرّح به في كلام جمع، ومنهم : الشيخ في الخلاف والحلّي في
السرائر والسيّدان في الغنية والناصرية،
وفي ظاهرها
الإجماع ، والفاضلان والشهيدان،
وغيرهم من متأخّري الأصحاب.
لاقتضاء
اختلاف السبب اختلاف المسبّب. وفيه بعد
تسليمه أنّه عام فيحصّص بما مرّ. إلاّ أن يجاب بقوة العام بعمل الأكثر، وعدم صراحة الخاص بما مرّ. مضافاً إلى معارضته بالإجماع المنقول وإن كان بلفظة «عندنا» فإنّ ظهورها في نقله ليس بأضعف من دلالة الصحيحين على خلافه. وببعض الأخبار المشار إليه في الخلاف، حيث إنه بعد نسبة ما ذكره في النهاية إلى بعض الروايات قال : وفي بعض الأخبار أنه لا يجزي عنه، وهو الأقوى عندنا، إلى آخر ما قال.
والإرسال غير قادح بعد الانجبار بعمل الأصحاب.
والمسألة محل
إشكال وإن كان مختار الأكثر لعلّه أظهر؛ للأصل المعتضد بالإجماع المنقول، والمرسل الصريح الملحق لفتوى الأكثر بالصحيح، ومع ذلك فهو أحوط. ويحكى عن الشيخ قول ثالث بإجزاء أحدهما عن الآخر مطلقاً
ومال إليه في الذخيرة؛
لصدق
الامتثال . وفيه مناقشة، سيّما بعد ما عرفت من الأدلة على عدم
الإجزاء مطلقاً، أو في الجملة.
(الثانية : إذا نذر ان يحجّ ماشياً وجب) مع إمكانه، على المعروف من مذهب الأصحاب، كما في
المدارك والذخيرة،
وفيهم عن المعتبر أنّ عليه اتّفاق العلماء.
والصحاح وغيرها به مع ذلك مستفيضة جدّاً،
معتضدة بالعمومات.
وأمّا الصحيح : عن رجل نذر أن يمشي إلى مكة حافياً، فقال : «إنّ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم خرج حاجّاً فنظر إلى
امرأة تمشي بين
الإبل ، فقال : من هذه؟ فقالوا : أُخت
عقبة بن عامر ، نذرت أن تمشي إلى مكة حافية، فقال صلي الله عليه وآله وسلم : يا عقبة، انطلق إلى أُختك فمرها فلتركب، فإنّ الله تعالى غنيّ عن مشيها وحفاها».
فشاذّ محمول على العجز، أو النسخ، أو فوت ستر ما يجب ستره من المرأة، أو غير ذلك من المحامل، إلاّ أنّ أقربها الأول.
وحمله على عدم
انعقاد نذر المشي حافياً مع غاية بعده عن السياق لا وجه له، بعد
اقتضاء الأدلة انعقاده من العموم والخصوص، كالمعتبرين المرويين في الوسائل عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى، أحدهما الموثق : عن رجل نذر أن يمشي حافياً إلى بيت الله تعالى، قال : «فليمشِ، فإذا تعب فليركب»
فتأمل.
ثم إنّ
إطلاق الأخبار، بل عمومها، يقتضي وجوب المشي مطلقاً، سواء كان أرجح من الركوب أم لا، وبه أفتى جماعة صريحاً.
خلافاً للفاضل وولده
في الثاني فلم يوجباه، بل أوجبا الحجّ خاصة، وادّعى الثاني على
انعقاد أصل النذر الإجماع. وفيه مضافاً إلى مخالفته ما مرّ أنّه لا يعتبر في المنذور كونه أفضل من جميع ما عداه، بل المعتبر رجحانه، ولا ريب في ثبوته وإن كان مرجوحاً
بالإضافة إلى غيره.
والأقوى في المبدأ و
المنتهى الرجوع إلى عرف الناذر إن كان معلوماً، وإلاّ فإلى مقتضى اللفظة لغةً، وهو في لفظة «أحجّ ماشياً» في المبدأ أول الأفعال، لدلالة الحال عليه، وفي المنتهى آخر أفعاله الواجبة، وهي رمي الجمار، والمعتبرة به أيضاً مستفيضة.
وما ورد بأنّه إذا أفاض من
عرفات ،
فشاذّ؛ لأنّ الأصحاب بين قائل بما قلنا، كشيخنا
الشهيد الثاني وسبطه وجماعة،
وقائلٍ بأنّه طواف النساء، كالفاضل في التحرير والشهيد في
الدروس ،
وعزاه في
الروضة إلى المشهور،
فليحمل على ما إذا أفاض ورمى، أو كون المشي تطوعاً لا نذراً.
(ويقوم في موضع العبور) لو اضطر إلى عبوره وجوباً، على ما يظهر من العبارة ونحوها، وبه صرّح جماعة،
استناداً إلى رواية
هي لضعف سندها بالسكوني وصاحبه عن
إثباته قاصرة؛ ولذا أفتى بالاستحباب جماعة كالفاضلين في المعتبر والتحرير والمنتهى والتذكرة
والشهيدين في الدروس والروضة
وغيرهم.
ولا بأس به، خروجاً من خلاف من أوجبه، و
تساهلاً في أدلة السنن . ومع ذلك فالوجوب لعلّه لا يخلو عن قوة؛ لقوة السند في نفسه، و اعتضاده بفتوى الأكثر بمضمونه.
وحيث وجب عليه المشي (فإن ركب) في (طريقه) أجمع (قضى) الحجّ (ماشياً) أي فعله قضاءً إن كان موقتاً وقد انقضى، وإلاّ فأداءً، قيل : وفاقاً لإطلاق الأكثر؛
لأنّه لم يأت بالمنذور على وجهه، لانتفاء المركب بانتفاء أحد أجزائه. وفيه أنّ هذا دليل على عدم حصول المنذور، لا على وجوب قضائه حيث يفوت وقته. وربما يعلّل بأنّ حجّة وقع فاسداً، وفساد الحجّ يقتضي
الإعادة .
وفيه : أنّ الفساد الموجب لها ما كان
لإخلال بجزء أو صفة أو شرط مثلاً، وهو غير حاصل هنا؛ إذ المقصود بالفساد هنا عدم وقوعه عن النذر، لعدم المطابقة، ولا عن غيره
لانتفاء النية، وهو غير الفساد الموجب للإعادة. ولذا احتمل الفاضلان في المعتبر والمنتهى والتحرير والمختلف ـ
سقوط قضاء المعيّن، قالا : وإنّما عليه الكفارة؛ لإخلاله بالمشي. وهو في غاية القوة؛ عملاً بأصالة
البراءة السليمة عمّا يصلح للمعارضة، كما عرفته. وأمّا غير المعيّن فلا ريب في وجوب الإعادة؛ تحصيلاً للواجب بقدر
الإمكان ، ولا كفارة. وكذا المعيّن إن طاف وسعى راكباً فيمكن بطلانهما و
بطلان الحجّ إن تناول النذر المشي فيهما. ولعلّ هذه الصورة خاصة مراد من أطلق وجوب القضاء، ويشهد له سوق العبارة، فتأمل.
(ولو ركب بعضاً) من الطريق (قضى) الحجّ (ومشى ما ركب) قاله الشيخ في
النهاية ،
وتبعه الشهيد في الدروس؛
وحكي عن المفيد وجماعة؛
وحُجّتهم غير واضحة، عدا ما في المسالك من أن به
أثراً لا يبلغ حدّ العمل به.
وفيه مضافاً إلى ما ذكره ـ : أنّا لم نقف عليه، ولم يشر إليه غيره، ولا نقله. وما في المختلف، من أن الواجب عليه قطع المسافة ماشياً، وقد حصل بالتلفيق، فيخرج عن العهدة.
وفيه : ما أجاب عنه من المنع من حصوله مع التلفيق؛ إذ لا يصدق عليه أنّه حجّ ماشياً. (و) لذا (قيل : يقضي ماشياً، لإخلاله بالصفة) المشترطة، والقائل الحلّي،
وأكثر المتأخرين،
حتى الشهيد فقد رجع عنه في
اللمعة ،
وهو في غاية القوة.
(ولو عجز) عن المشي (قيل) في حجّ النهاية وغيره
(يركب، ويسوق بدنة) للصحيحين : عن رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله تعالى وعجز أن يمشي، قال : «فليركب وليسق بدنة»
كما في أحدهما. وفي الثاني : عن رجل حلف ليحجّن ماشياً، فعجز عن ذلك فلم يطقه، قال «فليركب وليسق الهدي».
(وقيل) في
المقنعة وغيرها
(يركب ولا يسوق.)
للصحيح : رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله تعالى، قال : «فليمش» قلت : فإنّه تعب، قال : «إذا تعب ركب»
والسكوت عن سياق الهدي في مقام البيان يقضي عدم الوجوب. وفيه : أنّ غايته الظهور، فلا يعارض
الأمر الذي هو في الدلالة على الوجوب أظهر منه على العدم، فليقيّد به. وللخبر المصرّح بالعدم.
وهو حسن إن صحّ السند، وليس إلاّ أن يجبر بموافقة
الأصل ، وظاهر الصحيح السابق، ولا يخلو عن نظر.
(وقيل) في السرائر، وغيره
(إن كان) النذر (مطلقاً توقّع المكنة) لوجوب تحصيل الواجب بقدر الإمكان (وإن كان معيّناً بسنة) وقد حصل العجز فيها (سقط) الحجّ (لعجزه) المستتبع لسقوطه. وهو قويّ متين، لولا النصوص المتقدمة الآمرة بالركوب عند العجز مطلقاً، وأقلّها الجواز إن لم نقل بالوجوب. ويعضدها بالإضافة إلى النذر المطلق أنّ الأمر بتوقع المكنة بعد طريان العجز ربّما يوجب العسر والحرج المنفيين آيةً وروايةً، سيّما وأنّ يكون بعد التلبس
بالإحرام ، فيعضده حينئذ مع ذلك الأمر بإكمال الحجّ والعمرة.
ولذا قال بعض المتأخرين بمقتضى النصوص، من وجوب الإكمال في هذه الصورة وقال بمقالة الحلّي في صورة العجز قبل التلبس.
وفيه : أنّ النصوص المزبورة شاملة بإطلاقها أيضاً لهذه الصورة، بل العمل بها مطلقاً متوجه. لكن يستفاد عن
فخر الإسلام وغيره
أنّ الخلاف إنّما هو في النذر المعيّن، وأما المطلق فلا خلاف فيه في وجوب توقّع المكنة. فإنّ تم إجماعاً، وإلاّ كما هو الظاهر المستفاد من نحو العبارة فالأخذ بمقتضى النصوص أجود؛ لأنها بالإضافة إلى الأُصول المقتضية للقول الأخير بشقّيه أخص، فلتكن بالتقديم أجدر، سيّما بعد
الاعتضاد بما مرّ. ويبقى
الإشكال في حكم السياق، أهو على الوجوب أو
الاستحباب ، والأوفق بالأُصول : الأول، وإن كان الثاني لا يخلو عن وجه، ومع ذلك فهو أحوط.
ولشيخنا في المسالك والروضة
تفصيل، لم أقف عليه في كلام أحد من الجماعة. وللمختلف والتنقيح
تفصيل آخر، وهو كالحلي إلا في النذر المعيّن، فيركب عند العجز.
وهو كما عدا القولين الأولين خارج عن النصوص، بل الأُصول، ما عدا الأول منها؛ لموافقته الأُصول وإن خالفت النصوص، ولولاها لكان المصير إليه متعيّناً. بل يمكن المصير إليه معها أيضاً، بناءً على صراحتها في نذر الحجّ ماشياً يعني نذر الحجّ مع المشي مشروطاً أحدهما بالآخر كما هو ظاهر فرضنا؛ لأنّ مورد الصحيحين منها نذر المشي إلى بيت الله، وهو لا يستلزم نذر الحجّ، فلعلّ إيجابه إنّما هو لوجوبه عليه مضيقاً سابقاً
بالاستطاعة ونحوها.
وما عداهما وإن ورد بلفظ الفرض إلاّ أنّه مع ضعف بعضها يحتمل أن يكون المراد منها نذر المشي خاصة، منضمّاً إلى الحجّ الواجب مضيقاً سابقاً، كما هو مورد الصحيحين. وحينئذ فلا تعلّق له بمسألتنا إلاّ من حيث
الإطلاق ، أو العموم، وفي تخصيص الأُصول بمجردهما إشكال، مع إمكان العكس بصرفهما إلى نذر المشي خاصة في سنة الوجوب مضيقاً. وحيث أمكن الجمع
بإرجاع إحداهما إلى الأُخرى كان صرف النصوص إلى الأُصول أولى، لكونها مقطوعاً بها، بخلاف النصوص، لكونها آحاداً. فتأمل جدّاً.
رياض المسائل، ج۶، ص۵۱- ۶۳.