ما يطهر بالأرض
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ذكر بعض الففقهاء هي الخف والنعل واقتصر آخر على ذكر النعل والقدم، وذكر ثالث الثلاثة، وعدّاه رابع إلى كلّ ما ينتعل به كالقبقاب، وخامس إلى كلّ ما يوطأ به كخشبة الأقطع، وغير ذلك.
اختلفت عبارات
الفقهاء في مقام بيان ما يطهر بالأرض. فاقتصر بعضهم على ذكر الخف والنعل، أو على أحدهما خاصة،
ممّا يوهم
اختصاص الحكم بما ينتعل به ولا يشمل القدم. بل توقّف العلّامة فيه في
المنتهى ، واستشكل في
التحرير ، ثمّ اختار الطهارة.
وسوف يأتي الجواب عنه. واقتصر آخر على ذكر النعل والقدم،
ممّا قد يظهر منه الخلاف في الخف، بل نسب ذلك إلى الخلاف،
وسيأتي الكلام عن عبارته التي توهم منها الخلاف. وذكر ثالث الثلاثة،
وعدّاه رابع إلى كلّ ما ينتعل به كالقبقاب،
وخامس إلى كلّ ما يوطأ به كخشبة الأقطع،
وغير ذلك.
إلّا أنّ المستفاد من الروايات- وعليه أكثر المحققين- هو التعميم إلى القدم وما ينتعل به عادة، كالخف والنعل ونحوهما، كالقبقاب،
وهو محل معقد إجماع
جامع المقاصد ؛
لأنّ الروايات بين ما هو نص في الأوّل أو في الخف أو في النعل، وبين ما هو مطلق في الوطء فيعمّ ما كان بالقدم وبالنعل والخف ونحوهما.
وروايات الباب ما يلي:
قال: قلت
لأبي جعفر عليه السلام : رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها أ ينقض ذلك وضوءه؟ وهل يجب عليه غسلها؟ فقال: «لا يغسلها إلّا أن يقذرها، ولكنّه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلّي».
وهذه الرواية صريحة في القدم وتامة السند والدلالة،
بل وصفت بأنّها أصح ما في الباب،
ولم يناقش في دلالتها إلّا النراقي بدعوى جواز كون العذرة فيها أعم من الرطبة واليابسة، بل النجسة أيضاً على قول، فيمكن أن يكون معنى قوله عليه السلام: «لا يغسلها إلّا أن يقذرها» أي ينجسها بأن تكون رطبة نجسة، وإلّا فيمسحها حتى يذهب ما لحق بها من الأجزاء اليابسة، وقوله: (ساخت)، لا يدلّ على الرطوبة؛ لأنّه بمعنى غابت وخسفت.
هذا، ولم نجد من تصدّى لجوابه من الفقهاء؛ ولعلّه لوضوح مخالفة ما ادّعاه لسياق الرواية وألفاظها.
رواية
المعلّى بن خنيس ، قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الخنزير يخرج من الماء فيمرّ على الطريق فيسيل منه الماء، أمرّ عليه حافياً، فقال: «أ ليس وراءه شيء جاف؟» قلت: بلى، قال: «فلا بأس إنّ
الأرض يطهّر بعضها بعضاً».
وهي كسابقتها من حيث الدلالة وصراحتها في القدم.
حسن
الحلبي المروي عن
الإمام الصادق عليه السلام ، قال: قلت له: إنّ طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه، فربما مررت فيه وليس عليّ حذاء فيلصق برجلي من نداوته، فقال: «أ ليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟» قلت: بلى، قال: «فلا بأس إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً...».
وهي خاصة بالقدم أيضاً، كما هو ظاهر.
رواية
حفص بن أبي عيسى ، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّي وطأت عذرة بخفّي ومسحته حتى لم أر فيه شيئاً، ما تقول في الصلاة فيه؟ قال: «لا بأس».
وهذه قد تضمنت الخف، وهي مستندهم في عدّه فيما يطهر بالأرض، مضافاً إلى
إطلاق ما يأتي من الروايات.
وهذه الرواية لم نعثر على من ناقش فيها من حيث السند على الخصوص، ولعلّه لانجبارها بالعمل و
اعتضادها بغيرها.
إلّا من المحقّق الخوئي حيث قال: إنّها «ضعيفة بحفص بن أبي عيسى المجهول فلا يمكن
الاعتماد عليها من هذه الجهة»،
ولعلّه جرياً على مبناه في مسألة
الانجبار بالعمل.
نعم، نوقش في دلالتها من قبل بعض الفقهاء بأنّ نفي البأس فيها يحتمل أن يكون لكون الخف ممّا لا تتمّ الصلاة فيه، ومعه لا يمكن
الاستدلال بها على الطهارة.
لكن اجيب عن ذلك بأنّ الظاهر المستفاد من السؤال والجواب نفي البأس من حيث زوال النجاسة بالمسح لا من حيث عدم تمامية الصلاة به منفرداً.
ومن القرائن على ذلك هو أنّ
الإمام عليه السلام قرّر السائل على ما ارتكز في ذهنه من عدم جواز الصلاة في الخف على تقدير عدم
إزالة العين عنه، ولا خفاء أنّ صحة الصلاة فيه لو كانت مستندة إلى كونه ممّا لا تتم فيه الصلاة لم يفرّق في ذلك بين صورتي وجود العين وإزالتها، فهذه قرينة واضحة على أنّ الرواية سيقت لبيان طهارة الخف بالمسح.
هذا، مضافاً إلى
إمكان التمسك بإطلاق نفي البأس،
فإنّ نفيه من جميع الوجوه ظاهر في الطهارة.
بل استدل على الطهارة بنفي البأس في سائر الروايات أيضاً قائلًا: «إنّ
اشتراط طهارة البدن لمّا كان معهوداً لدى السائل والمسئول فلا يفهم من تجويز الصلاة مع رجل ساخت في العذرة بعد مسحها وذهاب أثرها، ولا من نفي البأس إذا مشى نحو خمسة عشر ذراعاً إلّا حصول شرط الصلاة والطهارة، وأمّا رفع اليد عنه والعفو فشيء لا يفهمه العرف، فلا ينبغي التأمّل في حصولها».
ولعلّ ما نسب إلى الشيخ في الخلاف من المخالفة في طهارة الخف- إن صحت- مبنيّ على هذه المناقشة في الرواية، كما نبّه على ذلك صاحب
الحدائق .
لكن سيأتي الكلام في
أصل النسبة ومنشأ توهّمها. بل يمكن الاستدلال بهذه الرواية على
اطّراد الحكم لكلّ ما ينتعل به، بأن يقال: إنّها دلّت على طهارة الخف بمسحه بالأرض، وحيث إنّ الخف لا يحتمل أن تكون له خصوصية في المقام يستكشف بذلك عموم الحكم للنعال وغيره ممّا يتعارف المشي به.
قال: نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر، فدخلت على أبي عبد اللَّه عليه السلام فقال: «أين نزلتم؟» فقلت: نزلنا في دار فلان، فقال: «إنّ بينكم وبين المسجد زقاقاً قذراً»، أو قلنا له: إنّ بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً، فقال: «لا بأس، الأرض تطهّر بعضها بعضاً».
صحيح
الأحول عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف ثمّ يطأ بعده مكاناً نظيفاً، فقال: «لا بأس، إذا كان خمسة عشر ذراعاً أو نحو ذلك».
ما روي عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «إذا وطأ أحدكم بنعله الأذى فإنّ التراب له طهور»،
ونحوه منه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: «إذا وطأ
الأذى بخفيه فطهورهما التراب».
وهذه الروايات- كما أسلفنا- بعضها وارد في القدم، وبعضها في الخف، وبعضها في النعل، وبعضها مطلق، فيشمل الجميع بإطلاقه، كرواية الأحول وصحيح الحلبي،
فإنّ الوطء يعمّ ما كان بالقدم وبالنعل والخف.
نعم، ربما يناقش في دلالة صحيحة الأحول
بإعراض المشهور عن ذيلها المتضمن لاعتبار خمسة عشر ذراعاً؛ إذ هم لا يلتزمون بذلك، بل ذهبوا إلى كفاية مطلق المشي الذي يحصل به النقاء، وهذا يقدح في حجيته. إلّا أنّه اجيب عن ذلك بأنّ ذلك يقتضي حمل ما في ذيله على
استحباب هذا المقدار،
أو كراهة ما دونه،
أو على بيان أنّ النقاء غالباً لا يتحقق بأقلّ من المقدار المذكور، وفي قوله عليه السلام: «أو نحو ذلك»
إيماء إلى ذلك،
لا أنّه يسقط إطلاق صدره عن الحجّية؛ لإمكان التفكيك بينهما في الحجّية.
والذي يدعو إلى هذا الحمل إطلاق غيره من النصوص والفتاوى، عدا ما حكي عن
ابن الجنيد ،
إلّا أنّه يحتمل حمله على ما سمعته في الرواية أيضاً من
إرادة التقدير لما تزول به النجاسة عادة، بل في الحدائق: لا إشكال في إرادة ابن الجنيد ذلك؛ لتصريحه في آخر عبارته بكفاية المسح.
وفي
المستند : أنّ «صدر كلامه وإن وافق ذلك (ما نسب إليه)، ولكن قوله أخيراً: (ولو مسحها حتى تذهب عين النجاسة وأثرها بغير ماء أجزأه) يدلّ على أنّ مراده مقدار المشي الذي تزول به النجاسة غالباً، وعليه تحمل الصحيحة أيضاً، وفي قوله: «أو نحو ذلك» إيماء إليه».
نعم، قد يناقش في إطلاق صحيح الحلبي بمعارضته بحسنه المصرّح بالرجل ومنافاته معه، بناءً على حكايتهما عن قضية واحدة رواها الحلبي لإسحاق الراوي عنه في الصحيح بنحو مجمل وللمفضّل بن عمر الراوي عنه في الحسن بنحو مفصّل،
أو أنّه نقلها لكلا الراويين بالألفاظ وبنحو مفصّل، إلّا أنّ أحدهما نقل الرواية على غير النمط الذي سمعه.
ولا يتمّ هنا
إعمال قواعد التعارض المقتضية لترجيح الصحيح؛ لأنّ نسبة الحسن إلى الصحيح نسبة المبيّن إلى المجمل، كما يظهر بالتأمّل في متنهما.
وبناءً على ذلك ذهب
السيد الحكيم إلى أنّ العمل يكون على الحسن المصرح فيه بالرجل، فلا مجال للتمسك باطلاق الصحيح به لحكم غيرها.
بينما اختار
السيد الخوئي سقوط الروايتين عن
الاعتبار ؛ للعلم بعدم صدور إحداهما عن الإمام، ولا ندري أنّها أيّهما.
(هذا بناءً على وحدة الواقعة، لكنّه قدس سره لم يستبعد تعدد الواقعة، وأنّ الراوي سأله عن مسألة واحدة مطلقة تارة ومقيدة بالرجل اخرى حتى يطمئنّ بحكمها، فإنّ المشي حافياً لا يناسب الحلبي ولا يصدر عن مثله إلّا نادراً فسأله عن حكمه مرة ثانية حتى يطمئنّ به، فهما روايتان إحداهما مطلقة والاخرى مقيدة بالرجل فنأخذ معه بإطلاق المطلقة، وهي تقتضي اطّراد الحكم. ) ولا إشكال في إطلاق صحيح الأحول، وهو كافٍ في التعدي إلى غير القدم، فإنّ الوطء يعم ما كان بالقدم والخف والنعل،
وترك
الاستفصال يدل على عدم الاختصاص.
واستدل للعموم أيضاً بعموم التعليل الوارد في بعض الروايات المتقدمة، وهو قوله عليه السلام: «إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً»، حيث يدل على أنّ الأرض تطهّر النجاسة الحاصلة منها مطلقاً، من دون فرق في ذلك بين أسفل القدم والخف وغيرهما.
ولا يشكل عليه بإجمال المراد لكثرة محتملاته
إذ يحتمل أن يكون المراد من التطهير فيه
انتقال القذارة من الموضع النجس إلى موضع آخر مرة بعد اخرى، وأن يكون المراد يطهّر بعضها بعض المتنجسات؛ إذ عليهما لا مجال للاستدلال به على العموم- لأنّ كثرة المحتملات لا توجب
الإجمال إذا كان بعضها أظهر
وأنسب بالسياق. والظاهر- لدى أكثر من تعرّض لمعناه- هو إمّا أنّ المراد أنّ النجاسة الحاصلة في أسفل القدم وما بمعناه بملاقاة الأرض المتنجسة على الوجه المؤثّر يطهر بالمسح في محل آخر منها، فسمّي زوال
الأثر الحاصل من الأرض تطهيراً لها، كما يقال: الماء مطهّر للبول، بمعنى أنّه مزيل للأثر الحاصل منه،
أو المراد تطهير بعض الأرض ما لاصق بعضاً نجساً آخر منها ممّا كان عليها من القدم ونحوه.
وبعبارة اخرى: يكون المراد من قوله عليه السلام «بعضا» بعضاً آخر من الأرض، لكن يراد منه المماس مجازاً لا نفس ذلك البعض،
أي الأرض يطهّر بعضها ما ينجس من ملاقاة بعض آخر منها.
وعلى هذين الاحتمالين يصح الاستدلال به على العموم.
نعم، نوقش في الثاني ببُعد هذا المجاز، بل
استقباحه حتى لو اريد
الإضمار منه، فلذلك ينبغي القطع بفساده، فيتعين الأوّل منهما.
لكن عليه يكون الحكم المستفاد من الحديث مختصاً بالنجاسة المكتسبة من الأرض النجسة،
وهذا ما يأتي في محلّه.
وأمّا الاحتمالان الأوّلان فقطع بعض الفقهاء بفسادهما، وأنّهما خلاف الظاهر جدّاً. ففي الجواهر: «
احتمال إرادة تطهير بعض الأرض بعض المتنجسات... ممّا ينبغي القطع بفساده، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام».
وفي
المستمسك : «ما ذكره في
الوافي (وهو أنّ المراد من التطهير فيه انتقال القذارة من الموضع النجس إلى موضع آخر مرة بعد اخرى حتى لا يبقى منها شيء. )ساقط جدّاً؛ لمخالفته لمورده في الحسنين، فإنّ رطوبة البول أو الماء اللاصقة بالرجل لا يتوقف زوالها على المشي على الأرض، ولم يكن السؤال من جهة وجودهما العيني، بل من جهة أثرهما الحكمي، وأيضاً فإنّ بيان المعنى المذكور ممّا ليس وظيفة للشارع، بل هو أمر عرفي، فحمل الكلام عليه خلاف الظاهر».
وذكر السيد الخوئي في
التنقيح : أنّ الظاهر من الجملة حسب المتفاهم العرفي أنّ الأرض الطاهرة تطهّر الأرض النجسة، بمعنى أنّها تطهر الأثر المترشّح من الأرض القذرة، وهو النجاسة، وهي واردة لبيان أمر شرعي، فحملها على إرادة بيان أمر عادي- كما عن الكاشاني- أو على كون الأرض مطهرة لبعض المتنجسات- كما عن
البهبهاني - خلاف الظاهر، ولا يمكن المصير إليه.
وعلى هذا لا إشكال في الاستدلال بعموم التعليل من هذه الجهة إلّا أن يخدش فيه من جهة اخرى، وهي أن يقتصر على ما علّل به من الأفراد الواردة في تلك الأخبار، مضافاً إلى موافقة ذلك للاحتياط ،
أو من جهة العلم بعدم إرادة ظاهره على إطلاقه فيحكم بإجماله.
وبالجملة: هذا هو دليل ما عليه المشهور من العموم، ومعه لا يبقى وجه لاستشكال
العلّامة في التحرير
في القدم، وتوقّفه فيه في المنتهى،
مع أنّ الرواية التي أشار إليها واضحة الدلالة فيه، وهي أصح ما في الباب.
كما صرح بذلك صاحب
المعالم ،
وكذا غيره من الروايات المتقدمة نص فيه، ولذا قال في
كشف اللثام - بعد ذكره الروايات-: «وظهر من ذلك أنّ طهارة القدم أظهر».
نعم، حاول
المحقّق الأردبيلي أن يجد له وجهاً لا نعرف مدى وجاهته، حيث قال: «لعلّه نظر إلى أنّ العرف يقتضي عدم الحفاء، فما وقع في الرجل فمحمول عليه»، بل هو نفسه أجاب عنه بقوله: «وكون العادة ذلك خصوصاً في الزمن السابق عند العرب ممنوع».
وكذا لا وجه لترك التمثيل به في
المقنعة و
المراسم وغيرهما
إن كان لتوهم عدم الدليل، إلّا أنّ الظاهر إرادتهم التمثيل لا الحصر،
وكذا من اقتصر على النعل والقدم ممّا قد يظهر منه الخلاف في الخف.
وأمّا ما نسب إلى الشيخ في الخلاف
فهو توهم أوجبته عبارته التالية، حيث قال: «إذا أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه في الأرض حتى زالت، تجوز الصلاة فيه عندنا... - إلى أن قال:- دليلنا أنّا بيّنا فيما تقدم أنّ ما لا تتم الصلاة فيه بانفراده جازت الصلاة فيه وإن كانت فيه نجاسة، والخف لا تتم الصلاة فيه
بانفراده ، وعليه إجماع الفرقة...»،
فإنّ ظاهر هذه العبارة عدم طهارة الخف بالدلك على الأرض، وإنّما يعفى عن نجاسته؛ لأنّه ممّا لا تتم الصلاة فيه.
إلّا أنّ بعض الفقهاء حمل استدلاله بذلك على الغفلة وتوهم مسألة بمسألة اخرى؛ وذلك لأنّ تجويزه الصلاة في الخف في مفروض المسألة لو كان مستنداً إلى كون الخف ممّا لا تتم الصلاة فيه لا إلى طهارته لكانت القيود المأخوذة في كلامه أوّلًا- ككون الإصابة للأسفل وكون الدلك بالأرض وزوال عين النجاسة- لغواً، حيث إنّ صحة الصلاة مع نجاسة ما لا تتم فيه غير مقيّدة بشيء من ذلك، كما هو صريح كلامه أخيراً، فلا مناص من حمل الاستدلال المذكور على الغفلة و
الاشتباه ،
ولا مانع من ذلك؛ لعدم عصمته عن الخطأ، حيث إنّ العصمة لأهلها.
من هنا صرّح المتأخّرون بعموم الحكم للثلاثة- أي القدم والخف والنعل- بل نفى عنه الخلاف بعضهم بعد حمل كلام الشيخ على الاشتباه، ومن اقتصر على بعضها على التمثيل،
بل عمّمه بعضهم إلى غيرها ممّا ينتعل أو توقى به الرجل ونحو ذلك.
ففي جامع المقاصد معلقاً على عبارة
القواعد - «و(تطهّر) الأرض باطن النعل وأسفل القدم» - قال: «وكذا أسفل الخف وما ينتعل عادة كالقبقاب؛ للنص و
الإجماع ».
وفي
الذكرى : «وحكم الصنادل حكم النعل؛ لأنّها ممّا ينتعل».
وفسّرت الصنادل بالقبقاب.
وفي الروض: «لا فرق بين النعل والخف وغيرهما ممّا ينتعل ولو من خشب كالقبقاب...».
وفي الحدائق بعد التعرّض للأقوال والأدلّة: «والذي تلخّص ممّا ذكرناه أنّه يستفاد من الأخبار المذكورة طهارة القدم والخف والنعل وكلّ ما يوطأ به ممّا يكون متعارفاً أكثرياً. وفي
إلحاق ما عدا ذلك إشكال، أحوطه العدم».
وفي الرياض: «... وهو (التعميم للثلاثة وغيرها ممّا يجعل للرجل وقاء) أقوى، وفاقاً لبعض أصحابنا، واقتضاه التدبّر في أخبارنا...».
وفي مستند النراقي بعد أن ذكر دلالة الروايات على الثلاثة وأنّ الخلاف أو التوقف في أيّ منها لا وجه له، قال: «بل ظاهر صحيحة الأحول التعدي من الثلاثة إلى كلّ ما يوطأ معه من حذاء الخشب والخرقة، وفاقاً للإسكافي والروض والروضة، بل الجورب والجلد إن لم نقل بصدق النعل على جميع أفراد الأخير».
وفي الجواهر: «بل لعلّ ملاحظة جمع الثلاثة من بعض، والأولين خاصة من آخر، والآخرين كذلك من ثالث، والأوّل والأخير من رابع، و
الاقتصار على الأوّل من خامس، وعلى الأخير من سادس، يومئ إلى التعدية لغير الثلاثة ممّا يوقى به القدم من الأرض- مثلًا- ولعلّه لذا كان من معقد إجماع جامع المقاصد كلّ ما ينتعل به كالقبقاب، بل هو الأقوى، وفاقاً لجماعة... لإطلاق كثير من الأخبار السابقة، خصوصاً المستفيض من قوله عليه السلام: «إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً»،
الذي لا يقدح في شهادته لما نحن فيه ندرة بعض ما يوقى به كما توهم؛
ضرورة أنّ المطلق فيه نفس الأرض. نعم، لو كان الدليل صحيح الأحول خاصة لأمكن المناقشة بذلك...».
وفي طهارة
الشيخ الأعظم بعد الاستدلال بإطلاق الوطء في رواية الأحول على العموم للثلاثة لأنّه يصدق في الجميع، قال: «ومنه يظهر عموم الحكم لكلّ ما يتنعّل ولو كان من خشب».
وفي
مصباح الفقيه : «أنّ مقتضى إطلاق صحيحة الأحول
وترك الاستفصال في صحيحة الحلبي
الاولى اطّراد الحكم في كلّ ما يتعارف المشي به من أسفل القدم والنعل وما جرى مجراهما، ويؤيّده فتوى الأصحاب وما سمعته من جامع المقاصد من دعوى الإجماع عليه، ويؤيّده أيضاً إطلاق العلة المنصوصة في غير واحد من الروايات (المتقدّمة) من «أنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً»».
وفي
العروة الوثقى : «لا فرق في النعل بين أقسامها من المصنوع من الجلود والقطن والخشب ونحوها ممّا هو متعارف».
(وفي بعض الرسائل العملية أنها تطهّر باطن القدم، وما توقى به كالنعل والخف والحذاء ونحوها. )
بل في تنقيح السيد الخوئي: «قد اتّفقوا على أنّ الأرض تطهّر باطن القدم والنعل والخف وغيرها ممّا يتعارف المشي به كالقبقاب».
واستدل له بعد ذلك بإطلاق الأخبار وشمولها لكلّ ما ينتعل به عادة، ولا يحتمل أن تكون لبعض الخصوصيات مدخلية في الحكم.
هذه بعض العبائر المصرّحة بالتعميم، والظاهر أنّ هذا المقدار لا إشكال فيه، بعد دلالة الروايات في الجملة نصاً أو ظهوراً عليه، وبعد حمل كلام الشيخ على الاشتباه، ومن اقتصر على ذكر البعض على التمثيل، وعدم ظهور أيّ وجه للتوقف و
الاستشكال في القدم. من هنا نسبه بعضهم إلى قطع الفقهاء أو إجماعهم، كما سمعت. نعم، وقع البحث في الأكثر من ذلك، وأنّه هل يقيد بصدق
الاسم أو بالمعتاد والمتعارف دون القليل النادر، أم يبقى على إطلاقه فيعم مثل
خشبة الأقطع وكعب الرمح ورأس العصى وغير ذلك، وقد يتأثر ذلك بكيفية
استفادة التعميم من الروايات، وهل هو لإطلاق النعل، أم لإطلاق الوطء والمشي، أم لعموم التعليل. وكذا وقع البحث في المقدار الذي يطهر من القدم والنعل وما هي حدود باطنهما الذي يطهر بالأرض وغير ذلك، فالموارد التي وقع الكلام فيها ما يلي.
ظاهر الفتاوى اختصاص الطهارة بباطن القدم وما ينتعل، وفسّره بعضهم بأنّه ما تستره الأرض حال الاعتماد عليها، ولأجله صرّح بعدم طهارة الحافّات.
وفي
كشف الغطاء الحكم بطهارة الحواشي القريبة، حيث قال: «ويتبعها (البواطن) الحواشي القريبة وإن كانت من الظاهر».
واستظهر منه صاحب الجواهر الحكم بطهارة الحواشي المذكورة تبعاً للباطن وإن لم تمسح بالأرض، واستجوده لو لا مطلوبية التوقف و
الاحتياط في أمثال ذلك.
(ويحتمل أن يكون مراده من التبعية الإلحاق في الحكم بالطهارة بالأرض، وقد يؤيّد ذلك حكمه فيما بعد بأنّ جميع ما بين الأصابع ممّا لم يتصل بالأرض يفتقر إلى الماء.)
وقواه
الشيخ الأنصاري ؛ لأنّ ظاهر قول زرارة في صحيحته: (فساخت رجله فيها) تلوّث بعض الحافة أيضاً، ولا أقلّ من الإطلاق.
ولعلّ وجه الحكم بالطهارة بالتبع فيما هو ظاهر كشف الغطاء النظر إلى إطلاق الحكم بعدم وجوب غسل الرجل و
الاكتفاء بمسحها من غير مسح حواشيها.
لكن نوقش فيه بأنّ الظاهر اعتبار مسح ما تلطّخ بالعذرة مطلقاً من
الباطن وحواشيه؛ لعدم تخصيص الباطن بالمسح حتى يقال بأنّ ترك ذكر مسح الحواشي يدل على عدم احتياجها للمسح.
من هنا ذهب بعض المتأخرين إلى طهارة الحواشي التي يتعارف وصول النجاسة إليها حال المشي، وزوالها بها أو بالمسح إن كانت؛
إلّا أنّ السيدين الحكيم والخوئي استشكلا في إلحاقه.
لإطلاق الأدلّة،
بداهة أنّ
إصابة الأرض أو نجاستها لباطن الرجل أو النعل بخصوصه من دون أن تصيب شيئاً من حواشيهما بالمقدار المتعارف ممّا يلتزق بهما حال المشي قليلة
الاتّفاق ، بل لا تحقق لها عادة.
ولظاهر صحيحة
زرارة ، بل كادت تكون صريحة في ذلك؛
ضرورة ظهور السوخ في العذرة في تلوث الحواشي بها، فلو قيل بالاقتصار على طهر الباطن وعدم إلحاق الحواشي به للزم طرح العمل بها بالمرة من جهة عدم
انفكاك تنجس الباطن بالسوخ في العذرة عن تنجّس الحواشي، فهذه الصحيحة صريحة في طهر الحواشي لكن مع مسحها بالأرض أيضاً كالباطن.
ولا مجال لاحتمال الاقتصار على موردها،
كما هو واضح.
ذهب بعض من تعرض لذلك إلى الحاق المذكورات.
ففي مستند النراقي: «ظاهر
صحيحة الأحول التعدي من الثلاثة إلى كلّ ما يوطأ معه من حذاء الخشب والخرقة... بل الجورب والجلد إن لم نقل بصدق النعل على جميع أفراد الأخير».
وظاهره- كما هو صريح السيد الحكيم
-
الاستناد إلى إطلاق
الوطء في تلك الصحيحة، ومعه لا يضر كونه غير متعارف، ولا يكفي في صرف الإطلاق، مع إمكان تعارف المشي به دائماً في الأمكنة المتقاربة مثل المشي من أحد جانبي الدار إلى الجانب الآخر. لكن استشكل فيه آخرون إمّا مطلقاً، أو في صورة ما إذا لم يتعارف لبسه بدلًا عن الفعل.
قال
الفقيه الهمداني : «وهل يلحق بالقدم أو النعل الخرقة الملفوفة بالرّجل أو الجورب ونحوهما ممّا لم يتعارف استعماله لوقاية الرجل عن الأرض؟ فيه تردد، خصوصاً إذا لم تجر العادة في خصوص الشخص أيضاً على استعماله، فإنّ عدم الإلحاق في هذه الصورة هو الأظهر».
وقال
السيد اليزدي : «... وفي الجورب إشكال، إلّا إذا تعارف لبسه بدلًا عن النعل».
واستشكل فيه أكثر المحشين وإن تعارف لبسه،
والسرّ في ذلك- على ما ذكره السيد الخوئي
- اختصاص الروايات بالامور المتعارفة في زمان المعصومين عليهم السلام؛ لأنّها واردة على نحو القضية الخارجية لا الحقيقية، والقرينة على ذلك أنّها لو كانت كذلك لشملت كلّ ما يلبس وإن لم يكن متعارفاً، وهذا ممّا لا يلتزم به الأصحاب؛ لعدم الخلاف عندهم في اختصاصها بالامور المتعارفة، والتعدي إلى جميع أفراد الخف والنعل إنّما هو من جهة القطع بعدم اعتبار خصوصية لنعل دون نعل أو خف ونحوهما.
نعم، لم يستبعد
الإمام الخميني إلحاق الجورب إذا خيط في أسفله جلد الدابة- كما قد يعمل- ولو مع عدم التعارف، على تأمل فيه.
لم نعثر على من تعرّض لحكم ذلك قبل السيّد اليزدي، أمّا هو فقد ذكرها قائلًا: «وفي إلحاق ظاهر القدم أو النعل بباطنهما إذا كان يمشي بهما لاعوجاج في رجله وجه قوي، وإن كان لا يخلو عن إشكال».
فوقعت المسألة محلّاً للبحث والكلام، وإن كان ظاهر المحشين موافقته على ذلك، حيث لم يعلّقوا بشيء إلّا السيد الحكيم، فإنّه قال: «في القوّة إشكال».
وأمّا الشرّاح فقد استدلوا لوجه القوّة بإطلاق جملة من النصوص،
وصدق وطء الأرض والعذرة والمشي على الأرض وغير ذلك من العناوين المأخوذة في لسان الأخبار؛ لأنّ الوطء هو وضع القدم على الأرض من دون أن تؤخذ فيه خصوصية معيّنة؛ إذ الوطء في كلّ شخص بحسبه.
ووجه الإشكال فيه هو دعوى
انصراف الروايات إلى المتعارف،
ومطلوبية التوقف، والاحتياط.
وأجاب السيد الحكيم عن دعوى الانصراف بالمنع؛ إذ لو بني عليه لوجب التقييد بالمتعارف في الكيفية والكمية وغيرهما من الخصوصيات المتعارفة،
بينما ادّعى السيد الخوئي أنّ
الاعوجاج في الرجل أمر متعارف، وكثيراً ما يتفق في كلّ بلدة ومكان، فلا يمكن دعوى انصراف الروايات عن مثله، ومعه لا مجال للإشكال في المسألة.
ومع ذلك استشكلا فيه في كتب الفتوى؛
ولعلّه لما ذكر من احتمال الانصراف، ومطلوبية الاحتياط.
نعم، أفتى به
السيد السيستاني ، حيث قال: «لا يبعد إلحاق ظاهر القدم أو النعل بباطنهما إذا كان يمشي بها لاعوجاج في رجله».
ممّا وقع البحث فيه بين الفقهاء اطّراد الحكم بالنسبة إلى خشبة الأقطع وركبتي أو يدي من يمشي عليهما، بل وفخذي المقعد وما جرى مجرى ذلك. فألحق
الشهيد الثاني في
الروضة خشبة الأقطع بالنعل،
وفي
المسالك به أو بالرجل قاطعاً به
وإن تنظّر فيه في الروض؛ نظراً إلى الشكّ في صدق شيء منهما عليها.
بينما قطع بعدم إلحاق أسفل العكاز وكعب الرمح وما شاكل ذلك؛ لعدم إطلاق اسم النعل عليه حقيقة ولا مجازاً،
وتبعه على ذلك
السيد العاملي .
لكن قوّى كاشف الغطاء
وبعض من تأخر الإلحاق في الجميع.
واستشكل فيه بعضهم، كما ستسمع.
وما يمكن أن يكون وجهاً للإلحاق ما يلي:
۱- بالنسبة إلى خشبة الأقطع دعوى مساواتها للنعل والقدم، وصدق أحدهما عليها، كما هو ظاهر الشهيد الثاني في الروضة والمسالك.
لكن تنظّر هو قدس سره فيه في الروض؛ للشك في ذلك.
واعترض عليه بأنّه لا ينبغي أن يكون وجه النظر والتردد الشك في صدق النعل وعدمه، بل شمول إطلاق الوطء في بعض الروايات وعدمه لاحتمال الانصراف إلى المتعارف.
قال
المحدث البحراني : «وفيه: أنّه وإن لم يصدق عليها النعل إلّا أنّها ممّا يوطأ به، فتدخل تحت إطلاق صحيحة الأحول، وإنّما يمكن المناقشة فيها من الجهة التي ذكرناها (انصراف الأحكام المودعة في الأخبار إلى الأفراد الشائعة)».
وقال الشيخ الأنصاري: «وفيه: أنّ الشك في الصدق لا يوجب التردد في الإلحاق، بل
الأصل عدم اللحوق وبقاء النجاسة حتى يثبت صدق موضوع النعل، أو يدل دليل على لحوقها به حكماً، فالأولى في وجهي النظر: إطلاق الوطء في الرواية، وقوّة احتمال انصرافه إلى غير ذلك، وهو الأقوى».
۲- إطلاق الوطء في بعض الروايات، كصحيحة الأحول
وموثقة الحلبي.
لكن نوقش فيه بانصراف الأخبار إلى الشائع دون النادر أوّلًا. والشك في صدق الوطء على المشي على المذكورات ثانياً؛ إذ الوطء هو وضع القدم على الأرض.
۳- عموم التعليل الوارد في بعض الروايات: «الأرض يطهّر بعضها بعضاً»،
لكن نوقش فيه بالإجمال للعلم بعدم إرادة ظاهره على إطلاقه؛
إذ مقتضى ذلك أنّ كلّ ما تنجس بالأرض يطهر بها، وهو مقطوع
البطلان ، فلا بدّ أن يقصر على ما علّل به من الأفراد الواردة في تلك الأخبار.
بل قال السيد الخوئي في التنقيح: إنّ التعليل المذكور لا عموم له؛ وذلك لأنّ الأخبار المشتملة عليه إنّما وردت لبيان عدم
انحصار المطهّر في الماء، وللدلالة على أنّ الأرض أيضاً مطهّرة في الجملة، ولم ترد لبيان أنّها مطهّرة على نحو العموم، بل لا يمكن حملها على العموم؛
لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن.
ولذلك كلّه استشكل أكثر الفقهاء في إلحاق المذكورات، بل وغيرها مثل أسفل العكاز وعصى
الأعرج والأعمى ونحو ذلك ممّا يستعان به على المشي، وكذا مثل كعب الرمح ونعل الدابة والحافر والظلف وأسفل العربات، وغير ذلك ممّا قد يقال بالتعميم له لعموم التعليل المتقدم،
أو دعوى استفادته من الأدلّة بنحو من الاعتبار وتنقيح المناط الذي يساعد عليه العرف، والأوّل قد عرفت إجماله، والثاني فيه تأمل وإشكال.
الموسوعة الفقهية، ج۱۰، ص۱۲۱-۱۴۲.