استطاعة المديون
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
إذا كان المكلّف مديوناً وكان له مال لا يفي إلّا للدين أو الحجّ ففي وجوب صرفه في دينه وعدم وجوب الحجّ عليه أو وجوب صرفه في الحجّ أقوال:
أنّ
الدين مانع عن وجوب الحجّ، سواء كان الدين حالًّا مع المطالبة وعدمها أو مؤجّلًا، وسواء كان واثقاً بالتمكّن من
الأداء بعد الحجّ أم لا. اختاره
المحقّق الحلّي في
الشرائع حيث قال: «ولو كان له مال وعليه دين بقدره لم يجب، إلّا أن يفضل عن دينه ما يقوم بالحجّ».
وكذا
العلّامة الحلّي في
القواعد حيث قال: «والمديون يجب عليه الحجّ إن فضل ماله عمّا عليه- وإن كان مؤجّلًا- بقدر
الاستطاعة ، وإلّا فلا».
وكذا الشهيد في
الدروس حيث قال: «والمديون ممنوع إلّا أن يستطيع بعد قضائه مؤجّلًا كان أو حالًّا».
وصرّح العلّامة الحلّي في
المنتهى بالتعميم أيضاً، ثمّ استدلّ عليه بعدم تحقّق الاستطاعة مع الحلول وتوجّه الضرر مع التأجيل.
ويظهر من
السيّد الحكيم وغيره
اختيار هذا القول.
بأنّ المستفاد من جملة من الأخبار أنّه يعتبر في تحقّق الاستطاعة أن يكون في سعة ويسار، ولا يصدق عليه ذلك إذا كان مديوناً، ولا فرق في ذلك بين الدين المؤجّل والحالّ، كما لا فرق في الحالّ بين المطالب به وغيره، ومجرّد القدرة على
الوفاء بعد ذلك في المؤجّل أو
الرضا بالتأخير في الحالّ غير كافٍ في صدق السعة واليسار فعلًا.
ومن تلك الأخبار المذكورة خبر
عبد الرحيم القصير المروي عن
الإمام الصادق عليه السلام قال: سأله
حفص الأعور - وأنا أسمع- عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»،
قال عليه السلام: «ذلك القوّة في المال واليسار»، قال: فإن كانوا موسرين فهم ممّن يستطيع؟ قال عليه السلام: «نعم».
ومثله خبر
أبي الربيع الشامي ،
وصحيح
أبي بصير .
واورد عليه بأنّ
اليسار المأخوذ في موضوع الحجّ مقابل العسر، ومن يتمكّن من أداء دينه بعد الحجّ بسهولة ومن دون مشقّة فهو موسر.
وبعبارة اخرى: من كان متمكّناً من
أداء الدين وترك الحجّ فهو ممّن ترك الحجّ وهو موسر. ومجرّد
اشتغال الذمّة بالدين لا يمنع من صدق اليسار.
بما اشتهر عند المتشرّعة من أنّ
حقّ الناس أهمّ من
حقّ اللَّه تعالى ، فاللازم تقديم الدين على الحجّ؛ لأنّ الأوّل حقّ الناس والثاني حقّ اللَّه.
واورد عليه بأنّه لا دليل معتدّ به يدلّ على أنّ حقّ الناس أهمّ من حقّ اللَّه تعالى على
الإطلاق وإن اشتهر ذلك في الألسنة، والعلم بملاكات الأحكام عند اللَّه عزّ وجلّ ولا علم لنا بها.
إلّا أن يقال: إنّ حقّ الناس إذا وجب علينا يكون حقّ اللَّه أيضاً، من جهة أمره تعالى بالوفاء وإيجابه علينا، ويكون
اشتغال ذمّتنا أيضاً للناس، فيكون فيه حقّ اللَّه تعالى وحق الناس معاً، لا أنّه فيه حقّ الناس وحده، كما يؤيّده رواية
سعد بن طريف عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «الظلم ثلاثة: ظلم يغفره اللَّه، وظلم لا يغفره اللَّه، وظلم لا يدعه اللَّه، فأمّا الظلم الذي لا يغفره فالشرك، وأمّا الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين اللَّه، وأمّا الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد»،
والرواية ضعيفة السند
بمفضّل ابن صالح .
والمتحصّل من ذلك: أنّ حقّ اللَّه الذي يكون متضمّناً لحقّ الناس أهمّ من حق اللَّه الذي يكون متمحّضاً في حقّه تعالى، ولكن كلّ ذلك لا يدلّ على أنّ حقّ الناس مطلقاً أهمّ من حقّ اللَّه مطلقاً؛ لاحتمال أن تكون بعض حقوق اللَّه المتمحّضة في حقّه تعالى أهمّ وأقوى ملاكاً، بل هو كذلك قطعاً.
وتدلّ عليه
صحيحة عبيد بن زرارة ، قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الكبائر، فقال: «هنّ في
كتاب علي عليه السلام سبع: الكفر باللَّه... و
أكل مال اليتيم ظلماً...» قال، فقلت: هذا أكبر المعاصي؟ فقال: «نعم»، قلت: فأكل الدرهم من مال
اليتيم ظلماً أكبر أم ترك الصلاة؟ قال: «ترك الصلاة»، قلت: فما عدّدت ترك الصلاة في الكبائر؟ قال: «أيّ شيء أوّل ما قلت لك؟» قلت: الكفر، قال: «فإنّ
تارك الصلاة كافر» يعني من غير علّة.
فصرّح
الإمام عليه السلام بأكبريّة ترك الصلاة الذي هو من حقوق اللَّه المحضة، وعدّه من الكفر وجعله أكبر من أكل مال اليتيم ظلماً، الذي هو من حقّ اللَّه المتضمّن لحقّ الناس.
بأنّ تقديم الدين على الحجّ إنّما هو لكون الدين مشروطاً بالقدرة العقلية، والحجّ مشروطاً بالقدرة الشرعية، وقد ثبت في محلّه أنّ الأوّل مقدّم على الثاني. واورد عليه بأنّ القدرة المعتبرة في الحجّ ليست إلّا الاستطاعة المفسّرة بالتمكّن من
الزاد والراحلة و
تخلية السرب ونحو ذلك، وهي حاصلة في المقام، والزائد على ذلك غير معتبر في الحجّ.
نعم، يمكن أن يقال: إنّ الاستطاعة لا تتحقّق عرفاً في بعض فروض المسألة كالدين الحالّ المطالب به، فيقدّم أداء الدين على الحجّ، ولكن لا يستفاد من ذلك تقدّم الدين على الحجّ مطلقاً ولو في المؤجّل.
ما يستفاد من كلام
السيّد العاملي وغيره، وهو أنّ الدين إن كان حالًّا مطالباً به فيكون مانعاً من وجوب الحجّ، وأمّا إذا كان غير حالّ أو كان حالًّا غير مطالب به فلا يكون مانعاً منه؛ لتحقّق الاستطاعة المقتضية للوجوب.
ويرد عليه: أنّ المانع من وجوب الحجّ في الصورة الاولى إن كان هو عدم تحقّق الاستطاعة المقتضية للوجوب فلا يختصّ ذلك بما إذا كان الدين حالًّا مطالباً به، بل يشمل ما حلّ ولم يأذن له الدائن بالتأخير وإن لم يطالب.
ما ذهب إليه
الفاضل الإصفهاني من أنّ الدين إن كان مؤجّلًا بحيث يسع الوقت للحجّ والعود فلا يكون مانعاً من وجوب الحجّ، وفي غير ذلك يكون مانعاً منه.
واورد عليه بأنّه لو كان السبب لعدم المنع من وجوب الحجّ في الدين المؤجّل هو سعة الوقت للحجّ والعود فلا بدّ من تعميم ذلك للحالّ الذي أذن له الدائن بالتأخير؛ لسعة الوقت فيه أيضاً.
ما يظهر من
المحقّق النراقي من أنّ كلّاً من أداء الدين والحجّ واجب، فاللازم بعد عدم الترجيح التخيير بينهما في صورة الحلول مع المطالبة، أو التأجيل مع عدم سعة
الأجل للذهاب والعود، وتقديم الحجّ في صورة الحلول مع الرضا بالتأخير أو التأجيل مع سعة الأجل للحجّ والعود ولو مع عدم الوثوق بالتمكّن من أداء الدين بعد ذلك، حيث لا تجب المبادرة إلى الأداء فيهما، فيبقى وجوب الحجّ بلا مزاحم.
واورد عليه بمنع كون المقام من باب التزاحم؛ لأنّ
التزاحم إنّما يكون بين الواجبين المطلقين، وفي المقام وجوب الحجّ مشروط بالاستطاعة، وهي منتفية مع وجوب وفاء الدين، فيكون الوجوب المذكور وارداً على وجوب الحجّ لا مزاحماً له.
ولكن ذهب بعضهم- كالسيّد الخوئي- إلى أنّ الاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحجّ ليست من قبيل القدرة الشرعية بحيث اخذ في موضوع الحجّ عدم المانع الشرعي، وعليه فيكون المقام من باب التزاحم. إلّا أن يقال: إنّ الاستطاعة المعتبرة في الحجّ هي الاستطاعة بنظر العرف، وهي منتفية إذا كان الدين حالًّا مطالباً به، كما أنّها غير منتفية إذا كان مؤجّلًا يتمكّن من أدائه بعد الحجّ، أو كان حالًّا وأذن له بالتأخير، فيجب الحجّ؛ لصدق الاستطاعة عرفاً، وعلى هذا فلا يكون المقام من باب التزاحم.
فقد وافق
السيّد الخوئي المحقّق النراقي في كون المقام من باب التزاحم، ولكن مع ذلك أورد عليه بأنّ ما ذكره لا يتمّ فيما إذا لم يكن واثقاً بأداء الدين بعد أعمال الحجّ؛ لأنّ أداء الدين واجب ويجب عليه حفظ القدرة لأدائه، فإنّ الدين وإن كان مؤجّلًا لكن ليس له تفويت المال بحيث لا يتمكّن من الأداء، بل عليه التحفّظ على قدرته، فيقع التزاحم في هذه الصورة بين وجوب حفظ القدرة لأداء الدين ووجوب الحجّ، فمجرّد التأجيل لا يكفي لعدم التزاحم، فلا يتمّ إطلاق كلامه، فلا بدّ أن يقيّد بالوثوق بالأداء بعد الحجّ، بمعنى أنّه لو وثق بالأداء بعد الحجّ يتقدّم الحجّ، وإلّا يقع التزاحم.
ما اختاره
السيّد اليزدي من أنّه إذا كان أداء الدين واجباً عليه بالفعل- كالدين الحالّ أو كان الدين مؤجّلًا لا يثق بالأداء بعد الحجّ- فلا يجب الحجّ، وأمّا إذا كان مؤجّلًا ويثق بأنّه يتمكّن من الأداء بعد الحجّ، أو كان حالًّا وأذن له بالتأخير فيجب الحجّ.
واستدلّ له بوجوه:
ما ذكره السيّد اليزدي نفسه من عدم صدق الاستطاعة في الصورة الاولى، وصدقها في الصورة الثانية.
وأورد عليه السيّد الخوئي بأنّ الاستطاعة قد فسّرت في النصوص بالتمكّن من الزاد والراحلة وتخلية السرب، وهي قدرة خاصّة، والمفروض في المقام تحقّقها حتى في صورة الدين الحالّ المطالب به، فلا يكون الدين بنفسه مانعاً من تحقّق الاستطاعة المفسّرة في النصوص بما ذكر.
هذا، ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى عدم صدق الاستطاعة مع كون الدين حالًّا مطالباً به؛ لأنّ ظاهر الاستطاعة الواردة في الآية وما ورد في الروايات المفسّرة هو كون المكلّف واجداً للمال الوافي للحجّ زائداً على
نفقة إعاشته، فإذا كان الدين حالًّا بمطالبة الدائن فلا يكون مستطيعاً. نعم، إذا كان الدين مؤجّلًا أو أذن الدائن في التأخير في أدائه وأمكن له الأداء بعد رجوعه من الحجّ بلا لزوم محذور في أدائه فيما بعد يكون مستطيعاً ويجب عليه الحجّ، فإنّ ما يؤدّي به دينه بعد رجوعه عن الحجّ كسائر ما يحتاج إليه من النفقات في إعاشته لا يكون فقدها عند الخروج إلى الحجّ ومع التمكّن منها في زمانها مانعاً من صدق الاستطاعة بالمعنى المذكور.
إنّ قوله عليه السلام في صحيحة
المحاربي : «من مات ولم يحجّ
حجّة الإسلام ، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحجّ أو سلطان يمنعه، فليمت يهوديّاً أو نصرانيّاً»
يدلّ على أنّ من منعته من الحجّ حاجة تجحف به فلا مانع من ترك الحجّ، ويصدق ذلك فيما إذا منعه من الحجّ أداء الدين مع الحلول ومطالبة الدين، وفي غير ذلك لا يجوز ترك الحجّ؛ لأنّه لا يصدق أنّه منعه من الحجّ حاجة تجحف به.
ما ذكره السيّد الخوئي من أنّ الإطلاقات الدالّة على وجوب الحجّ تشمل المقام، فيقع التزاحم بين وجوب الحجّ ووجوب أداء الدين؛ لأنّ المفروض أنّه لا يمكن الجمع بين امتثال الحكمين، فلا بدّ من التخيير أو الترجيح، ولكنّ المتعيّن سقوط الحجّ وتقديم أداء الدين، ولا مجال للتخيير فيما إذا كان الدين حالًّا مطالباً به أو مؤجّلًا مع عدم الوثوق بالأداء بعد الحجّ؛ وذلك للجزم بأهمّية الدين، فإنّ الخروج عن عهدة حقوق الناس أهمّ من حقوق اللَّه تعالى، بل لو كان محتمل
الأهمّية لتقدّم؛ لأنّ محتمل الأهمّية من جملة المرجّحات في باب التزاحم.
أمّا ما أفاده من تقدّم أداء الدين على الحجّ من أجل أنّ الأوّل حقّ الناس والثاني حقّ اللَّه تعالى، والخروج عن عهدة حقّ الناس أهمّ من حقّ اللَّه تعالى، فغير ثابت عند جملة من الفقهاء كما تقدّم، فإنّهم قد ادّعوا أنّه لا دليل على أنّ حقّ الناس أهمّ من حقّ اللَّه تعالى، ويقدّم عليه عند التزاحم.
وأمّا ما أفاده أخيراً من أنّه لو لم نجزم بأهمّية الدين فيقدّم أداء الدين على الحجّ أيضاً؛ لأنّه محتمل الأهمّية وكون أحد الواجبين محتمل الأهمّية من جملة المرجّحات في باب التزاحم، فاورد عليه بأنّه كما يحتمل الأهمّية في الدين، كذلك يحتمل الأهمّية في الحجّ؛ وذلك لما ورد في مذمّة ترك الحجّ، كقوله تعالى في ذيل آية الحجّ: «وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ»،
بناءً على أنّ المراد هو الكفر الحاصل بسبب مجرّد الترك، وكذا ما ورد في بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عليّ، من سوّف الحجّ حتى يموت بعثه اللَّه
يوم القيامة يهوديّاً أو نصرانيّاً».
وكذا ما دلّ على أنّ الحجّ ممّا بني عليه
الإسلام ، وغير ذلك ممّا ورد في شأن الحجّ. وعلى هذا، فمقتضى القاعدة حينئذٍ هو التخيير؛ لعدم مزيّة أحدهما على الآخر.
ثمّ إنّ هناك عدّة وجوه تدلّ على تقديم الحجّ على الدين مطلقاً:
إنّ التشديدات الكثيرة الواردة في ترك الحجّ وتسويفه تدلّ على أنّ الحجّ أهمّ من أداء الدين، فيقدّم عليه، وإن لم يتيقّن من هذه التشديدات بالأهمّية فلا أقلّ أنّها توجب احتمالها، وهو يكفي في مقام الترجيح.
واورد عليه بأنّ ترك أداء الدين مع مطالبة الدائن والقدرة على الأداء بغير المستثنيات يصير داخلًا في الظلم، والتشديدات على فعل الظلم واللعن على الظالمين لا تكون أقلّ من التشديدات على ترك الحجّ. هذا، مضافاً إلى التشديدات على نفس أداء الدين مع المطالبة واليسار. والحاصل: أنّه لا علم لنا بأهمّية ترك الحجّ على ترك أداء الدين، ولا يكون الاحتمال في طرف خاصّ بحيث لا يكون
الاحتمال في الطرف الآخر.
رواية
عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «الحجّ واجب على الرجل وإن كان عليه دين».
ودلالتها على وجوب الحجّ على المديون واضحة، وإن نوقش في سندها؛ لأنّ في السند القاسم بن محمّد، ولم يوثّق،
لكن وثّقه السيّد الخوئي؛ لأنّه ممّن وقع في أسناد
كامل الزيارات .
(هذا، ولكنّه قد عدل عن هذا الرأي- أي وثاقة جميع من وقع في أسناد كامل الزيارات- وذهب إلى اختصاص التوثيق بخصوص المشايخ المروي عنهم بلا واسطة، وعليه فمن لم يكن منهم فالتوثيق غير شامل له ومنهم
القاسم بن محمّد الجوهري . )
وقد استشكل في
الاستدلال بها على تقديم الحجّ على الدين مطلقاً بأنّ الأخذ بإطلاقها وإن كان الدين حالًّا مطالباً به ينافي
اشتراط وجوب الحجّ بالاستطاعة التي لا تصدق إذا كان المال لا يفي إلّا بأحدهما وكان الدين حالًّا مطالباً به، فهو محمول على ما إذا كان الدين مؤجّلًا أو غير مطالب به وكان المدين بحسب حاله قادراً على أدائه بعد ذلك.
صحيحة
معاوية بن عمّار ، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل عليه دين، أ عليه أن يحجّ؟ قال: «نعم، إنّ حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين...».
فإنّ قوله عليه السلام: «نعم، إنّ حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي» يدلّ على وجوب الحجّ عليه إذا أطاق المشي ولو كانت ذمّته مشغولة بالدين، ومفهومه أنّه مع وجود الدين لو لم يطق المشي كان عليه الحجّ مع الراحلة، فهو يدلّ على تقديم الحجّ على الدين.
واورد عليه بأنّه لو سلّمنا مفهوماً لهذا الصحيح فمفهومه ليس ما ذكر في تقريب الاستدلال، بل مفهومه أنّه لو لم يُطق المشي لم يجب عليه الحجّ؛ لحكمه عليه السلام بوجوب الحجّ إذا أطاق المشي، فمقتضى
الأخذ بالمفهوم أن يقال: إنّه لو لم يطق المشي لم يذهب إلى الحجّ، بل عليه أن يؤدّي دينه تعييناً، فجعل هذا الصحيح دليلًا على تقديم الدين على الحجّ. كما مرّت
الإشارة إليه أولى من العكس كما لا يخفى. وأمّا
إيجاب الحجّ ماشياً مع وجود الدين كما هو صريح المنطوق فلعدم مزاحمته مع أداء الدين، ويمكن أن يكون هذا قرينة على
إرادة المعنى اللغوي من الوجوب لا الاصطلاحي.
هذا كلّه إذا لم يكن مفروض السؤال هو واجديّة الرجل لجميع شرائط وجوب الحجّ حتى الاستطاعة الماليّة أيضاً، وإلّا لصحّ القول بأنّ الصحيحة في مقام بيان أنّ ما هو الشرط في الاستطاعة المالية هو واجديّته فقط لا الصرف في مصرف الحجّ، فإذا كان له الزاد والراحلة ومقدار نفقة العيال والرجوع إلى الكفاية بناءً على القول به يجب عليه الحجّ ولو كان ماشياً إذا أطاق المشي، وإبقاء الراحلة وغيرها على حالها وصرفها في مصارفه اللازمة والواجبة وغيرها بعد رجوعه من الحجّ، بناءً على
اعتبار بقاء هذا الشرط إلى زمان أداء
المناسك ورجوعه إلى وطنه بحسب طبعه، وعليه فالصحيحة أجنبيّة عن المقام.
ومنها: خبر معاوية بن عمّار أيضاً عن غير واحد، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّي رجل ذو دين، أ فأتديّن وأحجّ؟ فقال: «نعم، هو أقضى للدين».
واورد على الاستدلال به بما اورد على الاستدلال بالخبر المتقدّم.
صحيح
الكناني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت له: أ رأيت الرجل التاجر ذا المال حين يسوّف الحجّ كلّ عام، وليس يشغله عنه إلّا التجارة أو الدين؟ فقال: «لا عذر له يسوّف الحجّ، إن مات وقد ترك الحجّ فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام».
واورد على الاستدلال به بأنّ ظاهر السؤال هو كون الرجل ذا سعة وثروة بمقدار لم يكن دينه مانعاً عن الحجّ في كلّ عام، وإنّما هو متوانٍ في الحجّ، ويكون
اعتذاره بالدين فراراً عن الحجّ تهاوناً كاعتذاره بالتجارة.
خبر
معاوية بن وهب عن غير واحد، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: يكون عليّ الدين، فتقع في يدي الدراهم، فإن وزّعتها بينهم لم يبقَ شيء، فأحجّ بها أو اوزّعها بين الغرام؟ فقال: «تحجّ بها، وادع اللَّه أن يقضي عنك دينك».
واورد على الاستدلال به بأنّه قضيّة في واقعة، ولا يدرى أنّ السائل هل كان دينه حالًّا ومطالباً به أو لم يكن شيء منهما؟ وهل الحجّ الذي أراد أن يأتيه يكون حجّاً واجباً أو مندوباً؟ والحاصل: أنّ السائل لم يسأل الإمام عن الحكم الكلّي لكلّ مكلّف، بل سأله عن حال شخصه ونفسه، فما لم تُعلم الخصوصيات التي تكون دخيلةً في السؤال والجواب لم يمكن
استكشاف الحكم الكلّي منه.
واجيب عنه بأنّ الظاهر أنّه لا مجال
لإنكار كون الدين في مفروض السؤال حالًّا؛ لظهوره في أنّه لو لم يصرف الدراهم في الحجّ لكان اللازم هو التوزيع بين الغرماء. واحتمال كون
التوزيع في الدين المؤجّل قبل حلول أجله في غاية البعد، وعليه فبعد كون السؤال ظاهراً في الدين الحالّ يظهر كون المراد من الحجّ هو حجّة الإسلام؛ لأنّه في غيرها يدور الأمر بين رعاية حكم
استحبابي وبين موافقة حكم وجوبي، ولا مجال لترجيح الأوّل على الثاني. ودعوى كون مورد السؤال مجرّد المشروعية لا التقديم والجواب ناظر إليها، مدفوعة بأنّه لا ينبغي
الارتياب في ظهور الجواب في التحريض على الحجّ والدعاء لقضاء الدين، ولا وجه للتحريك إلى
أمر استحبابي وترك أمر وجوبي أصلًا، فالرواية لا بدّ من حملها على الدين الحالّ وكون الحجّ حجّة الإسلام.
منها: ما نقل عن
ابن عباس : أنّ امرأة من جهينة جاءت إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إنّ امّي نذرت أن تحجّ، فلم تحجّ حتى ماتت، أ فأحجّ عنها؟ قال: «نعم، حجّي عنها، أ رأيتِ لو كان على امّك دين، أ كنتِ قاضيته؟ اقضوا اللَّه، فاللَّه أحقّ بالوفاء».
ومنها: ما رواه في
الذكرى عن
البخاري وغيره عن ابن عباس، قال رجل: إنّ
اختي نذرت أن تحجّ، وإنّها ماتت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لو كان عليها دين أ كنت قاضيه» ؟ قال: نعم، قال: «فاقض دين اللَّه فهو أحقّ بالقضاء».
ومنها: ما نقل عن الشيخ أبي الفتوح في تفسيره عن
امرأة خثعمية أتت إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول اللَّه، إنّ فرض الحجّ قد أدرك أبي وهو شيخ لا يقدر على ركوب الراحلة، أ يجوز أن أحجّ عنه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يجوز»، قالت: يا رسول اللَّه، ينفعه ذلك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أ رأيتِ لو كان على
أبيك دين فقضيته، أما كان يجزي؟» قالت: نعم، قال: «فدين اللَّه أحقّ».
بأنّها ضعيفة سنداً.
بعدم دلالتها على المقصود، أمّا الأوّلان منها فلأنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم في خبر ابن عبّاس: «أحقّ بالوفاء» وقوله: «أحقّ بالقضاء» ليس مفاده كون حقّ اللَّه تعالى أهمّ من حيث الملاك من حقّ الناس، بأن يكون الملاك الموجود في حقوق اللَّه أقوى وأشدّ من الملاك الموجود في حقوق الناس، حتى يكون ذلك موجباً لتقدّم حقّ اللَّه تعالى عند التزاحم مع حقّ الناس.
ليس مفاده ترجيح حقّ اللَّه تعالى على حقّ الناس من جهة كون ترك حقوق اللَّه الواجبة معصية للَّه تعالى، كيف وترك حقوق الناس الواجبة أيضاً معصية للَّه تعالى؟! بل يكون مفاده قضيّة ضروريّة عند العقل، وهي أنّ من له
اهتمام بحقوق الناس ولا يهتمّ بحقوق اللَّه تعالى كان ذلك كاشفاً عن أنّ اللَّه جلّت عظمته صغير في عينه، ولا يعتني به بمقدار
اعتنائه بالناس، وكان الخالق عنده أحقر من المخلوق، وهذا- كما ترى- غير مربوط بمسألة ترجيح حقّ اللَّه الواجب على حقّ الناس الواجب من جانب اللَّه أيضاً عند المزاحمة.
وأمّا الحديث الثالث فإنّ المقصود من قوله: «فدين اللَّه أحقّ بالقضاء» أنّه أحقّ أن يصحّ قضاؤه بقرينة كون السؤال عن ذلك حيث قال: «أ ينفعه ذلك؟» فعدم دلالته على المقصود في غاية الوضوح، وإلّا فمفاده مفاد الحديثين الأوّلين كما هو واضح، وقد عرفت عدم دلالتهما على المقصود.
ثمّ إنّهم قد ذكروا في المسألة وجهاً آخر، وهو أن يقال بتقديم ما هو الأسبق سبباً، فإن حصلت له الاستطاعة للحجّ قبل عروض سبب الدين يقدّم الحجّ على الدين، وإن عرض سبب الدين قبل حصول الاستطاعة قدّم الدين على الحجّ. ولكن اورد عليه بأنّ تقدّم السبب زماناً لا يوجب تقديم مسبّبه على الآخر، كما إذا وقع حيوان له نفس محترمة في الماء، ثمّ وقع
إنسان له نفس محترمة فيه، حيث إنّه يجب حينئذٍ
إنقاذ الإنسان فقط إذا لم يمكن الجمع بين الإنقاذين،
ولذا لو سها الرجل في الصلاة مرّتين، فلم يقل أحد بوجوب تقديم سجدتي السهو الأوّل على سجدتي السهو الثاني من جهة تقدّم سببه، كما أنّه لم يقل أحد بذلك في الديون الخلقيّة، بأن فرضنا أنّه استدان أوّلًا من زيد، ثمّ استدان ثانياً من عمرو، وفرض أنّ الأجل قد تمّ بالنسبة إلى كليهما، فلم يقل أحد بوجوب تقديم أداء دين زيد على أداء دين عمرو وإن فرضنا أنّه غير متمكّن من أدائهما معاً.
وقد صرّح السيد اليزدي هنا بأنّه لا فرق في كون الدين مانعاً من وجوب الحجّ بين أن يكون سابقاً على حصول المال بقدر الاستطاعة أو لا، كما إذا استطاع للحجّ، ثمّ عرض عليه دين بأن أتلف مال الغير- مثلًا- على وجه الضمان من دون تعمّد قبل خروج الرفقة، أو بعده قبل أن يخرج هو، أو بعد خروجه قبل الشروع في الأعمال، فحاله حال تلف المال من دون دين، فإنّه يكشف عن عدم كونه مستطيعاً.
هذا بناءً على ما اختاره من عدم صدق الاستطاعة مع الدين الحالّ، وأمّا بناءً على ما اختاره السيّد الخوئي من كون المقام من باب التزاحم، فإنّه إذا عرض عليه دين بعد حصول الاستطاعة زاحمه بقاءً، فيقدّم أداء الدين؛ لأنّه محتمل الأهمّية على الأقلّ، ولا فرق في ذلك بين كون الموجب للضمان والدين عمدياً أو خطئيّاً. وأمّا تقييد الضمان بما إذا لم يكن عن عمد- كما في كلام السيّد اليزدي- فلعلّه لنكتة، وهي أنّ
الإتلاف إذا كان عن عمد يستقرّ الحجّ في ذمّته؛ لأنّه تفويت عمدي، وأمّا الخطأ فلا يوجب
الاستقرار ، فالفرق إنّما هو من جهة الاستقرار وعدمه، وأمّا من جهة التكليف الفعلي فلا فرق بين العمد وغيره.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۴۴۷-۴۶۰.