الإحتكار
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهو حفظ الشيء وإدخاره الى أن يرتفع سعره.
الاحتكار عند كثير من
أهل اللّغة حبس
الطعام و
ادّخاره انتظاراً
للغلاء،
والاسم منه حُكرة كغُرفة،
وصاحبه محتكر.
لكن الظاهر من جماعة
عدم اختصاصه
بالطعام،
بل ادّعي أنّ من خصّه به من اللغويين أراد الممنوع منه
شرعاً.
ولا يخرج استعمال
الفقهاء له عن المعنى اللغوي
إلّا في قيود
ذكرها بعضهم قد ترجع إلى
الحكم دون الموضوع، كما سيأتي.
وهو افتعال من
الذّخر- بالذال- بمعنى الإعداد لوقت الحاجة.
ويفترق عن الاحتكار بأنّه
صادق في
النقود وغيرها بخلاف الاحتكار، وبأنّ الذّخيرة لا تكون بقصد
غلاء السعر
وبيعه بخلاف الحكرة.
وهو المنع
والإمساك، ضدّ التخلية،
وهو يعمّ الحكرة؛ فإنّ الحكرة
حبس ما يحتاج إليه الناس فهي حبس خاصّ.
لا خلاف في الجملة في أنّ مورد الاحتكار المنهي عنه
شرعاً هو الأطعمة،
وإن اختلفت تعابيرهم عن ذلك كالتعبير
بالغَلّة و
القوت إلّا أنّ المراد هو الطعام كما سيتضح.نعم سيجيء التعميم لغير الطعام من بعضهم فانتظر.
قال
الصدوق: «إذا لم يكن
بالمصر طعام غيره فليس له
إمساكه وعليه
بيعه وهو محتكر».
وقال
المفيد: «الحكرة
احتباس الأطعمة مع حاجة أهل
البلد...».
وقال
سلّار: «فأمّا
الحكرة فإنّما هي في أجناس الأطعمة مع ضيق
الأمر...».
وقال الشيخ: «أمّا الاحتكار فمكروه في
الأقوات... والأقوات التي يكون فيها الاحتكار الحنطة والشعير والتمر والزبيب و...».
وقال
أبو الصلاح: «لا يحلّ لأحدٍ أن يحتكر شيئاً من أقوات الناس مع الحاجة الظاهرة إليها...
ويكره احتكار ما عدا الأقوات من المطعومات».
وقال
ابن زهرة: «لا يجوز الاحتكار في الأقوات مع الحاجة الظاهرة إليها».
وقال
ابن البراج: «
المكاسب على ثلاثة أضرب: محظور على كلّ حال، ومكروه،
ومباح على كلّ حال، فأمّا المحظور على كلّ حال فهو... واحتكار
الغلّات عند
عدم الناس لها وحاجتهم الشديدة إليها...».
والدليل على وحدة المراد من
الطعام والغلّة والقوت هو عبارة المفيد التي جمعت بينهما في سياق واحد حيث قال:
«الحكرة احتباس الأطعمة... وذلك مكروه، فإن كانت الغلّات واسعة... لم يكره احتباس الغلّات».
ومثله عبارة
سلّار: «
الحكرة فإنّما هي في أجناس الأطعمة...
وللسلطان أن يجبر
المحتكر على إخراج الغلّة».
بل صرّح به
السيوري في
التنقيح حيث قال: «عرّفه المصنّف بأنّه حبس الأقوات، والمراد بالقوت هنا ما يكون مقصوداً بالتغذية، وأمّا ما لا يكون مقصوداً فهو فاكهة أو خضراوات».
كما لا خلاف أيضاً في جريان
الحكرة في الغلّات الأربع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب بزيادة السمن.
قال
الشيخ الأنصاري: «ثمّ إنّ ثبوته في
الغلّات الأربع بزيادة السمن، لا خلاف فيه ظاهراً، وعن
كشف الرّموز وظاهر
السرائر دعوى الاتفاق عليه».
وإن كان المنسوب إلى
الحلبي الحصر في الغلّات الأربع،
ولعلّه لتعبيره (بالغلّات) الظاهرة في الأربع
إلّا أنّه لم يرد به رواية.
وكيف كان فإنّما الخلاف في حصرها في الخمسة المزبورة
وعدمه، فالظاهر من جماعة الحصر في هذه الخمسة كالشيخ في النهاية
و
الحلّي في السرائر
والمحقّق والعلّامة في المنتهى والتحرير،
بل في الجواهر: «هو المشهور فيما بينهم، بل عن جماعة الإجماع عليه».
واستدلّ لهذا القول
بخبر
غياث ابن ابراهيم وأبي البختري عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «ليس الحكرة إلّا في
الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن»
حيث دلّ على حصر الاحتكار في
الأطعمة المذكورة ونفيه في غيرها فيتقيّد به
إطلاقات الاحتكار، قال في المستند: «وبها تقيّد إطلاقات الاحتكار أو الاحتكار في الطعام».
وظاهر بعضهم انحصاره في الستّة بإضافة الزيت، كالشيخ الصدوق
والطباطبائي والنراقي وغيرهم.
واستُدلّ له بنفس الرواية بنقل
الصدوق في
الفقيه: «ليس
الحكرة إلّا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب
والسمن والزيت».
وكذا رواية
الخصال: «الحكرة في ستّة أشياء، (وعدّ منها الزيت)...».
مضافاً
لصحيح الحلبي الوارد في خصوص الزيت قال: وسألته عن الزيت؟
فقال: «إن كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه».
الدّال بمفهومه على وجود البأس إذا لم يكن عند غيره.
وظاهر بعض آخر انحصاره في الستّة مبدّلًا للزيت بالملح كالشيخ في
المبسوط وابن حمزة
والعلّامة في أكثر كتبه.
واستدلّ لهم بفحوى التعليل الوارد في بعض الأخبار من حاجة الناس، حيث إنّ احتياج الناس إلى
الملح أشدّ مع توقّف أغلب المآكل عليه.
وظاهر بعضهم وقوعه في السبعة جميعاً من
الغلّات الأربع والزيت والسمن والملح
كالشهيد الأوّل في
الدّروس واللّمعة،
والمحقّق الكركي والشهيد الثاني.
وفي قبال ذلك ذهب بعض
الفقهاء إلى
عدم الحصر ووقوعه في كلّ ما يكون
طعاماً.
قال
السيد الخوئي: «الذي يستفاد من
المطلقات المتقدّمة أنّ موضوع الاحتكار هو الطعام، فكلّ ما
يصدق عليه الطعام
عرفاً بحيث كان في عرف
البلد قوام الناس
وحياتهم نوعاً بهذا الطعام فمنعه عن الناس احتكار، وهذا يختلف باختلاف البلدان والعادات فمثل قشر
اللّوز طعام في بعض البلدان ومن الحطب في بعضها الآخر، ومثل
الشعير ليس بطعام في بلاد
الهند حتى قيل لا يوجد فيها شعير إلّا بمقدار
الدّواء ونحوه ولكنه طعام في بلاد
العراق و
إيران، والأرز طعام في نوع
البلاد خصوصاً
رشت ومازندران، وهكذا
الزّبيب والتمر ليس بطعام في بعضها الآخر، بل مثل الزّبيب في العراق والتمر في بعض نقاط إيران يعد من الفواكه».
ثمّ قال: «أمّا الروايات الحاصرة للاحتكار بامور خاصّة فهي مختلفة...
ولكن كلّها متفقة بمفهومها في نفي الاحتكار في غيرها، ولكن الذي يسهّل الخطب أنّ كلّها ضعيفة السند، فلا يمكن رفع
اليد بها عن
المطلقات الثابت حجّيتها».
نعم قد أفتى قدس سره في
المنهاج بحصر الاحتكار في الستّة المزبورة، واحتاط
استحباباً في
الملح وكلّ ما يحتاج إليه
عامّة المسلمين من الملابس وغيرها.
هذا.
وهناك من ذهب إلى عموم جريان الاحتكار في غير الأطعمة أيضاً
كالألبسة بناءً على
القول بالكراهة وعدم الحرمة.
قال
كاشف الغطاء: «وفي اختلاف
الأخبار فبين عادٍّ ستّة وعادٍّ خمسة ومقتصر على أربعة ما يرجّح
أمر الكراهة، وتنزيلها على المثال في جميع ما يحتاجه الناس لا على
التعبّد قريبٌ، فتعمّ الكراهة غير المذكورات...».
بل استفاد بعضهم التعميم حتّى على القول بالحرمة.
قال
السيد السبزواري: «إنّما الكلام في أنّ لهذه الأشياء موضوعيّة خاصّة أو أنّها طريق إلى كلّ ما يحتاج إليه
الناس في كلّ زمان ومكان، وحيث إنّ
الحكم مطابق للقاعدة، أي تقديم
الأهمّ النوعي- الذي هو عبارة عن رفع الحاجة النوعيّة- على
المهمّ الشخصي- الذي هو مراعاة حق
المالك- فيجري الحكم في الجميع،
والأخبار وردت فيما ذكر مطابقة للقاعدة،
فقاعدة السلطنة محكّمة ما لم تعارضها جهة اخرى أهمّ كما في جميع الموارد».
وقال بعض: «الظاهر أنّ
حرمة الاحتكار أو كراهته ليس حكماً
تعبّديّاً بلا ملاك أو بملاك غيبي لا يعرفه
أبناء نوع
الإنسان، بل الملاك له على ما هو المستفاد من الأخبار هو حاجة الناس إلى
المتاع وورود الضيق عليهم من فقده... وقد أوضح
أمير المؤمنين عليه السلام في
كتابه إلى
مالك ما هو الملاك في المنع من الاحتكار، فقال في شأن
التجّار: «إنّ في كثير منهم ضيقاً
فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكّماً في
البياعات، وذلك باب
مضرّة للعامّة،
وعيب على
الولاة فامنع من الاحتكار» ولم يذكر عليه السلام الأشياء الخاصّة ولا الأقوات مع كونه في مقام
البيان...
ومناسبة
الحكم والموضوع وملاحظة الملاك تقتضيان الأخذ
بالإطلاق».
لا خلاف في مرجوحيّة الاحتكار في الجملة،
بل ادّعى
العلّامة الإجماع عليه،
وقد اختلف في حرمته أو كراهته على قولين:
الحرمة: وهو قول جماعة من
الفقهاء كالصدوق والشيخ وابني زهرة والبرّاج وابن سعيد والعلّامة في بعض كتبه
والشهيدين وغيرهم،
بل قد ينسب إلى المشهور.
ويستدلّ له بجملة من النصوص:
كصحيح سالم الحنّاط قال: قال لي
أبو عبد اللَّه عليه السلام: «ما عملك؟» قلت:
حنّاط، وربما قدمتُ على
نفاق، وربما قدمت على
كساد فحبست، قال: «فما يقول مَن قِبَلَك فيه؟» قلت: يقولون
محتكر، فقال: «
يبيعه أحد غيرك؟» قلت: ما أبيع أنا من ألف جزءٍ جزءاً، قال: «لا بأس، إنّما ذلك رجل من
قريش يقال له:
حكيم بن حزام وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كلّه، فمرّ عليه
النبي فقال: يا حكيم بن حزام إيّاك أن تحتكر».
لظهور قوله: «إيّاك أن تحتكر» في التحذير والنهي، واستشهاد
الإمام بكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم دالّ على
عدم اختصاص
الحكم بحكيم بن حزام وأن البأس المنظور إليه هو الحرمة كما لعلّه ظاهره الأوّلي أيضاً.
ومثله
صحيحة الحلبي عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام أنه سئل عن
الحكرة؟ فقال: «إنّما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في
المصر غيره فتحتكره، فإن كان في المصر طعام أو
متاع غيره فلا بأس أن تلتمس بسلعتك الفضل».
وزيد في الرواية المحكيّة عن
الكافي والتهذيب: وسألته عن الزّيت؟ قال: «إن كان عند غيرك فلا بأس
بإمساكه».
حيث دلّت
بمفهومها على
ثبوت البأس عند
انتفاء الشرط، والبأس هو العذاب.
وفي رواية
إسماعيل بن زياد عن
الصادق عن
أبيه الباقر عليهما السلام- وقد يدّعى صحّتها
- قال: قال
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم:
«لا يحتكر الطعام إلّا خاطئ».
ورواية
ابن القداح عن
الإمام الصادق عليه السلام قال: «
الجالب مرزوق و
المحتكر ملعون».
ورواية
أبي مريم عن
أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: «أيّما رجل اشترى طعاماً فكبسه أربعين صباحاً يريد به
غلاء المسلمين ثمّ باعه
فتصدّق بثمنه لم يكن
كفارةً لما صنع».
وفي رواية
حذيفة بن منصور عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «نفد الطعام على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه
المسلمون فقالوا:
يا رسول اللَّه قد نفد الطعام ولم يبق منه إلّا شيء عند فلان، فمره
يبيعه الناس، قال:
فحمد اللَّه
وأثنى عليه، ثمّ قال: يا فلان إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفد، إلّا شيئاً عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا
تحبسه».
وقد يقال إنّ نهي
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلّه
حكم
ولائي بما هو
حاكم لا حكم
شرعي،
واجيب: بأنّ الظاهر أنّ
أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإخراج و
النهي عن الحبس حكم إلهي كلّي يظهر منه
عدم جواز حبس الطعام عند احتياج الناس لا
مولوي سلطاني، بل حتّى لو كان
حكماً سلطانيّاً منه صلى الله عليه وآله وسلم فهو نافذ أيضاً على الامّة إلى الأبد، وليس أحكامه كأحكام سائر السلاطين، كما أنّ بعض
الأئمّة عليهم السلام
استشهد في روايات الباب وغيره بأحكام
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقوله «لا تحبسه» ظاهر في الحرمة سواء كان منعاً
شرعيّاً أو سلطانيّاً.
الكراهة: ذهب إليه جمع من
الفقهاء كالمفيد والشيخ الطوسي والحلبي في أحد قوليه
والمحقّق والعلّامة والشهيد وكاشف الغطاء،
وفي الجواهر: أنّه «أشبه باصول المذهب وقواعده».
واستدلوا عليه بضعف بعض الأدلّة المتقدّمة سنداً وعدم الدّلالة في بعضها الآخر؛
إمّا لعدم ظهور البأس في خصوص
الحرمة، أو لاختصاص بعضها بمورد معيّن كصحيحة
الحنّاط المختصّة
بحكيم بن حزام، أو لوجود الشواهد- في بعضها على كون
الحكم فيها غير إلزامي- كاختلافها في تعداد ما يجري فيه الاحتكار بين الأربعة والخمسة والستّة،
واختلافها من حيث تعيين الأجل عند
الخصب أربعين يوماً وعند الشدّة ثلاثة أيّام
وتقييد بعضها بالأمصار؛ إذ لا مدخليّة على القول بالحرمة بين
المصر وغيره.
وبما ورد في صحيح الحلبي المروي عن
الإمام الصادق عليه السلام من التعبير بالكراهة،
قال: سألته عمّن يحتكر الطعام
ويتربّص به هل يصلح ذلك؟ قال: «إن كان
الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس به، وإن كان الطعام قليلًا لا يسع الناس فإنّه يكره أن يحتكر ويترك الناس ليس لهم طعام».
قال العلّامة الحلّي مستدلّاً عليه:
«لنا: الأصل عدم التحريم، وما رواه
الحلبي في الحسن... ولأنّ الإنسان مسلّط على
ماله».
وقال
المحقّق الأردبيلي بعد الإشارة إلى الأصل والرواية: «والأصل يقتضي حمل
الكراهة (في الرواية) على معناه الحقيقي، وهو المرجوح مع جواز النقيض، وكذا عموم الأدلّة الدالّة على أنّ الناس مسلّطون على أموالهم، فلهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون، فيحمل دليل التحريم على الكراهة جمعاً بين الأدلّة» إلى أن قال:
«ويؤيّد عدم التحريم وجود التقييد في بعض الروايات مثل رواية
السكوني عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «
الحكرة في الخصب أربعون يوماً وفي الشدّة
والبلاء ثلاثة أيّام... والاختلاف دليل
العدم، فالحمل (على الكراهة) غير بعيد».
وقال
السيد العاملي: «للأصل بمعنييه ولعلّ مقصوده أصل
الإباحة واستصحابها وقاعدة تسلّط الناس على أموالهم) وقصور الروايات سنداً
ودلالة مع اختلافها في تعداد ما يجري فيه الاحتكار... وأمّا الصحيح الذي فيه «إيّاك أن تحتكر» فالمنع للمخاطب به وهو
حكيم بن حزام، و «الخاطئ» في بقيّة الأخبار لا يستلزم التحريم مع إشعار بعض
الصّحاح بالجواز على كراهيّة...» إلى أن قال: «ففيه (أي
صحيح الحلبي السابق) دلالة على أنّ الكراهة بالمعنى المتعارف الآن (الكراهة الاصطلاحيّة)».
وقال
المحقّق النجفي: «الأوّل (أي الكراهة) أشبه
باصول المذهب وقواعده التي منها
الاصول وقاعدة تسلّط الناس على أموالها المعتضدة بنصوص ا
لاتّجار وحسن التعيّش والحزم
والتدبير وغير ذلك السالمة عن معارضة دليل معتبر على
التحريم؛ لقصور نصوص المقام سنداً ودلالة عن ذلك؛ إذ هي خبر
السكوني...
وهي أجمع كما ترى مع
قصور أسانيدها كادت تكون صريحة في الكراهة؛ ضرورة كون اللسان لسانها والتأدية تأديتها، كما لا يخفى على من لاحظ ما ورد عنهم عليهم السلام في المكروهات وترك بعض المندوبات
كغسل الجمعة والجماعة والأكل وحده وتفريق الشعر ونحو ذلك، ولذا صرّح فيها في
صحيح الحلبي... وربّما أشعر بذلك أيضاً التقييد بالأمصار؛ إذ لا مدخلية مع القول بالحرمة بين المصر وغيره، وإنّما يختلف بذلك شدةً وضعفاً على الكراهة...
إلى غير ذلك من الأمارات في النصوص المزبورة بحيث يمكن دعوى حصول القطع
للفقيه الممارس بذلك كما لا يخفى على من رزقه اللَّه تعالى فهم كلامهم ورمزهم، ومن ذلك يُعرف ما في
الاستدلال للقول بالحرمة بالنصوص المزبورة».
ولكن اجيب عن الأصل والقاعدة وعمومات
الاتّجار و... بثبوت الدّليل على الحرمة، وهو ظهور جملة من الروايات المتقدّمة المعتبرة سنداً كما تقدّم، واختلاف ألسنتها من حيث عموم الاحتكار لكلّ طعام أو لخصوص الخمسة أو الستّة أو السّبعة ممّا يكثر احتياج الناس إليها قد عرفت المحمل فيه، وهو لا يوجب رفع اليد عن ظهورها في الحرمة فيما هو المتيقّن منها.
واجيب عن
صحيح الحلبي بعدم دلالته على الكراهة بالمعنى المصطلح؛ لأنّه اصطلاح
فقهي متأخر. وأمّا الكراهة في اللغة فهي بمعنى المبغوض فيناسب التحريم،
واستعمالها في الحرمة كثير،
فإن لم يكن الصحيح ظاهراً في التحريم فليس له ظهور في الثاني، فلا موجب لصرف الروايات الظاهرة في الحرمة إلى الكراهة.
قال
الشيخ الأنصاري: «فإنّ الكراهة في كلامهم عليهم السلام وإن كان يستعمل في المكروه
والحرام إلّا أنّ في تقييدها بصورة عدم
باذل غيره مع ما دلّ على كراهة الاحتكار
مطلقاً قرينة على إرادة التحريم.
وحمله على تأكّد الكراهة أيضاً مخالف لظاهر «يكره» كما لا يخفى.
وإن شئت قلت: إنّ المراد بالبأس في الشرطيّة الاولى التحريم؛ لأنّ الكراهة ثابتة في هذه الصورة أيضاً، فالشرطيّة الثانية كالمفهوم لها».
هذا كلّه في الاحتكار الواجد لما
سيجيء من الشروط، وأمّا الفاقد لها فالأمر فيه دائر بين الكراهة
والإباحة بالمعنى الأخصّ، وقد صرّح بعضهم بالأوّل،
وبعضهم بالثاني.
قال
الإمام الخميني قدس سره: «نعم، مجرّد
حبس الطعام انتظاراً لعلوّ السعر مع عدم ضرورة الناس ووجود الباذل ليس بحرام وإن كان مكروهاً». وقال
السيد الخوئي قدس سره: «أمّا مع وجوده الباذل فيجوز الاحتكار...
وهذا القول قد اختاره المصنّف».
وقد اتّضح من جميع ذلك أنّ الاحتكار في نفسه يتّصف إمّا
بالحرمة أو
الكراهة أو الاباحة، ولا يتصف
بالأحكام الخمسة كما يظهر من الشيخ
الأنصاري قدس سره،
نعم قد يتصف بها بلحاظ العناوين الطارئة كما صرّح به
السيد الخوئي قدس سره.
الموسوعة الفقهية، ج۶، ص۱۲۳-۱۳۳