الالتزام بالتسليم في الإجارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
من جملة الالتزامات الراجعة إلى
المؤجر والمستأجر
تسليم المنفعة
والاجرة كي يحصل
الاستيلاء على العوضين لغرض
الانتفاع بالاجرة
واستيفاء المنفعة.
وقد ذكر
الفقهاء للحكم بوجوب التسليم وجوهاً:
أنّ
التسليم من مقتضيات الملك؛ لقاعدة: «الناس مسلّطون على أموالهم» حيث إنّ للمالك المطالبة بماله، وليس لمن بيده ذلك المال
الامتناع عن دفعه شرعاً، وإلّا لما كان لمالكه سلطان مطلق على ماله، وهو خلف. ولما كانت السلطنة على المال من لوازم الملك الحاصل بالعقد صحت دعوى اقتضاء العقد لذلك، لكن بالالتزام لا بالمطابقة.
واستشكل فيه
المحقق الاصفهاني بعد نقله بأنّ هذا المعنى لا يترتب عليه
استحقاق الامتناع عن الدفع مع امتناع الآخر عنه؛ لأنّ ظلم أحدهما لا يسوّغ ظلم الآخر، كما أنّه لا يترتّب عليه سائر الثمرات.
اعتبار التسليم من الجانبين في كافة عقود
المعاوضة ومنها الإجارة بمقتضى
الشرط الضمني، فيثبت الخيار بمجرد الامتناع عن التسليم.
ولازم هذا القول الالتزام
بالخيار في عقود المعاوضة بمجرد عدم التسليم من احدهما مع تسليم الآخر، مع أنّ المشهور عدمه، وأنّ مورد الخيار إنّما هو تعذر التسليم الحاصل بعد العقد.
أنّ المعلوم من بناء
العرف والعقلاء
في باب المعاوضات التزام العاقد للطرف الآخر بترتيب آثار العقد التي منها التسليم والتسلّم الخارجي؛ لأنّ الغرض النوعي من العقود ذلك، بل هو روح المعاوضة ومدلولها العملي وإن لم يؤخذ في مدلولها الانشائي التوقّف على التسليم.
وهذا يعني أنّ المتعاقدين كما ينشئان الملكية المعاوضية- التي هي تمليك قبال تمليك آخر- من دون تقدم لأحدهما على الآخر، ولا تعليق عليه كذلك يلتزما- ضمناً وارتكازاً- بالتسليم المعاوضي الذي هو تسليم قبال تسليم، واستحقاق لكلّ منهما على الآخر، ولذا لو امتنع أحدهما عنه فانّه لا يستحق عليه شيئاً؛ لعدم استحقاق التسليم المطلق عليه، بل يستحق التسليم المعاوضي، فله الامتناع عنه حينئذٍ. نعم للحاكم اجبارهما عليه؛ لأنّه وليّ الممتنع عن الحق.
كما أنّ عدم التسليم ليس من باب الشرط ليلزم منه التخلّف عن الشرط فيثبت الخيار؛ لأنّ الشرط يعلّق فيه الالتزام العقدي على الشرط، فإذا تخلّف ملك الآخر التزامه بالعقد وهو معنى الخيار الحقّي.
وأمّا الالتزام المذكور فهو من شئون نفس الالتزام العقدي الذي معه يكون استحقاقه ووجوبه ثابتاً بنفس دليل وجوب
الوفاء بالعقد.
هذا والمراد من التسليم هنا تسليمه المنفعة أو العمل للمستأجر الذي هو متعلّق حقه، وأمّا تسليم العين إليه فإنّما يجب تبعاً إذا توقّف استيفاء المنفعة على التسليم أو اشترطا ذلك ضمن العقد، وإلّا فلا يجب، فمن استأجر دابة ليركبها لم يجب على المؤجر تسليمها إليه؛
لإمكان أن يركبها ويسوقها مالكها من دون تسليم إلى المستأجر.
ويبحث فيه تارة: عن لزوم
التعجيل في التسليم والتسلّم مع إطلاق العقد، واخرى: عن زمان المطالبة بكل من
الاجرة والمنفعة.
۱- الأصل في الإجارة المقدّرة بالزمان عند جمع من الفقهاء هو
التنجيز ؛ بمعنى أنّها مع
الإطلاق تبدأ من حين العقد، فيجب تسليم المنفعة بعد العقد فوراً، وذهب بعضهم إلى غير ذلك، وقد تقدم بحثه مفصّلًا.
وأمّا إذا اشترط زماناً معيّناً فانّه يجب العمل على طبقه سواء كان ذلك متصلًا بالعقد أو منفصلًا، وإن استشكل بعضهم في صورة التصريح
بالانفصال في إجارة العقار ونحوه فراجع ما تقدم في بحث (الإجارة المضافة).
۲- لا خلاف
في وجوب التعجيل بدفع الاجرة مع الإطلاق، بل عليه دعوى
الإجماع من
الشيخ وغيره
استناداً إلى لزوم العمل على مقتضى العقد وانتقال كلّ من العوضين إلى الآخر وتسلّط كلّ من المتعاقدين على استيفاء حقه بمجرد العقد، فهي بمنزلة الدين يجب دفعه فوراً عند مطالبة المؤجر.
وتسليم الاجرة بإقباضها، إلّا إذا كانت منفعة أيضاً فبتسليم العين التي تستوفى المنفعة منها.
ثمّ إنّ مراد الشيخ وغيره
من لزوم التعجيل في الاجرة مع الإطلاق هو استحقاق المطالبة بالاجرة فوراً مع تسليم العين، فيجب تسليم تمام الاجرة حينئذٍ، ولا يتوقّف ذلك على استيفاء المنفعة أو مضي وقتها
كما ذهب إليه بعض فقهاء العامّة.
وليس المراد بذلك التعجيل بالنسبة إلى تسليم العين وتقديم أحدهما على الآخر كما زعم
السيد العاملي وغيره،
مستشكلًا
عليه بأنّه لِمَ لا يجوز لكلّ منهما منع الآخر عن تسليم ما في يده ليتسلّم حقه كما في المتبايعين؟! ومما يشهد لذلك انّه ذكره في قبال قول فقهاء العامّة حيث قال: «قال مالك: إنّما يلزمه أن يسلّم إليه الاجرة جزءاً فجزء، فكلّما استوفى جزءاً من المنفعة لزمه أن يوفيه ما في مقابله من الاجرة.
وقال
أبو حنيفة وأصحابه:
القياس ما قال مالك، ولكن يشق ذلك، فكلّما استوفى منفعة يوم فعليه تسليم ما في مقابله».
وأيضاً قول
العلّامة : «إن أطلق كانت معجّلة وملكها المؤجر بنفس العقد واستحق استيفائها إذا سلّم العين إلى المستأجر عند علمائنا».
ثمّ أشكل على ما نقله عن بعض أبناء
السنّة من تبعية الاستيفاء وملكية الاجرة للمنافع التي تتحقق تدريجاً.
وحينئذٍ فلا مجال لتوجيه المسالك وغيره؛
بأنّ المراد من التعجيل هو الدفع في أوّل وقت الوجوب أي وقت تمام العمل وتسليم العين كسائر عقود المعاوضة من غير فرق بين
الاشتراط وعدمه. هذا إذا لم يشترط تعجيل الاجرة أو تأجيلها.
۳- لا خلاف
في وجوب التعجيل في دفع الاجرة مع اشتراط ذلك، بل يظهر من الحلّي
الإجماع عليه، وفائدة الشرط وجوب دفعها قبل العمل أو تسلّم العين لو اريد به ذلك وإلّا أفاد التأكيد، مضافاً إلى تسلّط المؤجر على
الفسخ عند التخلّف عن الدفع في المدة المعيّنة، كما هو مقتضى الشرط في سائر العقود اللازمة.
لكن
المحدث البحراني منع من كون الفائدة هي تسلّط المؤجر على الفسخ حال التخلّف بمخالفة ذلك؛ للأصل، واندفاع الضرر المتوهّم برفع الأمر إلى
الحاكم ليجبره على العمل بالشرط.
كما استشكل بعضهم
بأنّ الاشتراط المزبور على إطلاقه لا يفيد التأكيد.
أمّا لو اشترطا تأجيل الاجرة صحّ بلا إشكال فيه ولا خلاف،
بل عليه
الإجماع أيضاً.
قال العلّامة: «إذا تعاقدا وشرطا تأجيل الاجرة صحّ الشرط إجماعاً».
نعم، يشترط معلومية الأجل وكونه مضبوطاً لا يتحمل
الزيادة والنقصان ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الأجل لجميع الاجرة كشهر وبين كونه نجوماً معيّنة،
كما لا فرق بين إجارة العين المعيّنة أو الإجارة الواقعة على ما في الذمة بلا خلاف.
وقد تقدم الكلام في اشتراط معلومية المنفعة عن مانعية
الجهالة وفساد الإجارة باشتراط شيء مجهول من حيث سرايته إلى الإجارة وعدم
فساده مما ينفع في المقام.
•
زمان حق المطالبة بالاجرة أو المنفعة، استحقاق
الأجرة أو المنفعة في
الإجارة بمعنى انتقال
ملكيتهما إلى كلّ من المتعاقدين وهو يحصل بالعقد، ويجب
تسليمهما على كلّ منهما إلى الآخر، والكلام هنا في توقّف
المطالبة من كلّ منهما على تسليم ما في يده.
إذا عمل الأجير بعض العمل المستأجر عليه هل يستحق بعض الاجرة بذلك إذا كان قابلًا لتقسيط الاجرة عليه أم لا؟ هذا ما سيأتي بحثه مفصّلًا في باب فسخ الإجارة.
ثمّ إنّه إذا كانت الاجرة عملًا أيضاً فهل لا يستحقها الأجير إلّا بعد العمل كما تقدم نظراً إلى أنّ حكم الاجرة بما هي اجرة استحقاق تسلّمها بعد العمل فيجب على المستأجر
البدء بالعمل بعد عمل الأجير، أو أنّ الأجير هنا كالمستأجر نظراً إلى أنّ البدأة بالعمل على الأجير كانت بلحاظ العملية وان تسليمه يكون بالبدء به وهذا متساوي النسبة إلى عمل الأجير وعمل المستأجر معاً فلا يجب على أي منهما البدء قبل الآخر فيتعطل العمل؟
صرّح المحقق النجفي بتعيينه بالقرعة كما في غيره مما تزاحمت فيه الحقوق إلّا إذا أمكن التأمين بالكفيل ونحوه، فيجب عليهما العمل.
كما صرّح
المحقق الاصفهاني بأنّه لا مرجّح هنا لأحد العملين، ولا معنى للتخيير بين الحقين لشخصين. ولا يعقل استحقاق البدأة لكلّ منهما على الآخر، فإنّ اعتبار حق البدأة يسقط لكلّ منهما على الآخر، فيجب تسليمهما معاً على وجه المقارنة دون القبلية والبعدية، فلا وجه
للقرعة هنا؛ إذ لا استحقاق لواحد منهما للبدأة حتى يتعيّن بالقرعة، إلّا أنّ هذا كلّه مبني على اعتبار القبلية والبعدية لدليل خاص وإن كان اللازم مجرد التسليم بإزاء التسليم وكان تسليم العمل بايجاده بتمامه، فكلّ منهما يستحق على الآخر إيجاد العمل مقارناً لإيجاده.
والامتناع من الإيجاد المقارن يعدّ من الامتناع عن التسليم الذي يستحقه الآخر إزاء تسليمه، والزامه بالبدأة الزام بما لا يستحقه منه، وليس لهما
الخيار ؛ لأنّ ضرر كلّ منهما مستند إلى امتناع نفسه.
إذا كان العمل أو المنفعة مؤجلًا كسكنى الدار في الشهر القابل فهل للمستأجر تأخير الاجرة أم لا؟
صرّح
المحقق النجفي بجواز
التأخير نظراً إلى عدم استحقاق الأجير للُاجرة إلّا بعد العمل حالًا أو مؤجلًا، فوجوب دفع الاجرة حالًا مناف لذلك، والأجل إنّما يفيد زيادة التأخير فيه، فلا يغير الحكم الثابت في فرض عدم الاشتراط، وبذلك يفرّق بينه وبين
البيع .
لكن صريح المحقق الاصفهاني عدم جواز التأخير نظراً إلى أنّ عدم الاستحقاق لم يستند إلى دليل خاص كي يتوهّم زيادة التأخير بالتأجيل، بل هو للالتزام الضمني بالتسليم المعاوضي، وقد حقق في محلّه أنّ الالتزام بذلك إنّما يتم فيما لو كان لكلّ منهما المطالبة بماله، ومع فرض التأجيل في أحدهما لا معنى للتسليم المعاوضي والامتناع عن التسليم لعدم تسليم الآخر.
بل يجب عليه التسليم، وعليه فلا فرق بين البيع والإجارة، وهو الحق.
•
ما يتحقق به تسليم المنفعة واستقرار الاجرة، والكلام هنا فيما يتحقق به
التسليم الواجب الذي تستقر معه
الأجرة على المستأجر؛ بمعنى
ضمانها وجواز مطالبة المؤجر بها لا المملوكية فانّها تحصل بنفس العقد.
والمملوك
بالإجارة إمّا منفعة عين شخصية أو كلّية، وإمّا عمل ايجادي محض
كالحج النيابي عن الميت والعاجز، أو عمل متقوّم باستيفاء المستأجر كحمل المتاع.
لا فرق في ثبوت الاجرة عليه بالتسليم ومضي المدة المذكورة بين كون الإجارة صحيحة أو فاسدة بناءً على القاعدة المشهورة عندهم من أنّ كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده،
ولكن مع الحكم بالفساد تلزم
أجرة المثل عما فات من المنافع أو العين في يده.
إلّا أنّ العلّامة احتمل عدم استقرارها بلحاظ المنافع التي لم يستوفها، فلا يلزمه عوضها.
وكذا تثبت اجرة المثل لو بذلها فلم يأخذها المستأجر،
إلّا أنّ البعض
قيّده بالصحيحة لعدم
تلفها تحت يده ولا في ملكه.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۱۹۰-۲۱۲.