الانتقال الحسي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ويقصد به التحرّك من
موضع إلى موضع آخر، وهو ما ذكرناه في المعنى اللغوي للفظ، ويمكن بحثه في عدّة موارد فقهيّة يمكن أن تشكّل مصداقاً لهذا النوع من
الانتقال ، وهي:
يرجح
الانتقال والسفر إذا كان لغاية راجحةٍ على مستوى
الوجوب أو
الاستحباب ،
كبرِّ الوالدين و
صلة الرحم و
الجهاد وطلب العلم ومعونة المظلوم وغير ذلك من الأغراض والغايات النبيلة.
فقد روي عن
الإمام الصادق عن
آبائه عليهم السلام- في وصيّة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام - قال: «... يا علي، سر سنتين برّ والديك، سر سنة صِل رحمك، سر ميلًا عُد مريضاً، سر ميلين شيّع جنازة، سر ثلاثة أميال أجب دعوة، سر أربعة أميال زر
أخاً في
اللَّه تعالى، سر خمسة أميال أجب الملهوف...».
فهذا الخبر يفيد استحباب مثل هذا الانتقال والسفر شرعاً.
كما يكون الانتقال راجحاً بنفسه وجوباً أو استحباباً في الموارد التي نصّ عليها الشرع كالانتقال بين
الأماكن في
الحج و
الزيارة ، وأثناء الجهاد، أو صيرورته
مستأجراً للعمل في
الأسفار أو نحوها، وغير ذلك من الموارد.
انتقال
المسلم من مكان إلى مكان آخر
أمر مباح له حسب
الأصول الفقهيّة، ما لم يتّصف هذا الانتقال أو السفر بما هو منهيّ عنه أو يكون مقدّمةً لحرام، أو يحتمل الوقوع فيه في
المعصية أو الضرر الكبير المنهيّ عنه أو تلف النفس، فيحرم هذا الانتقال أو السفر، أو يكره للمكلّف باعتبار ما يؤول إليه من مكروهات، كما أنّ السفر أو الانتقال
المباح قد تترتّب عليه بعض الأحكام الشرعيّة مع تحقّق بعض الشرائط فيه. وذلك أنّ المعروف بل من ضروريات مذهبنا أو كضرورياته أنّه تسقط من كلّ صلاة رباعيّة من الفرائض اليوميّة في السفر ركعتان، وهما الركعتان الأخيرتان.
ولكن ذكرت شروط
لتقصير الصلاة للمسافر لابدّ من تحقّقها كي يحكم بسقوط الركعتين الأخيرتين من
الصلاة الرباعية .
ومن هذه الشروط طي مسافة يقصدها المكلّف لا تقلّ عن ثمانية فراسخ شرعيّة
امتداديّة ذهاباً أو إياباً أو ملفّقة، بشرط أن لا يكون
الذهاب أقلّ من أربعة فراسخ، و
استمرار قصده في طيّها، وعدم النيّة في قطع السفر في الأثناء.ومن الشرائط أيضاً أن يكون سفره سائغاً شرعاً، فلا تقصر الصلاة في سفر يكون معصية وحراماً- كالفرار من
الزحف - أو كان الحرام غايته كالسفر لقطع الطريق. وكذلك يشترط فيه أن لا يكون
المسافر من الذين بيوتهم معهم- كالبدو الرحّل- ولا يكون السفر عملًا له كالسائق و
الملّاح ونحوهم. كما يشترط وصوله إلى
حدّ الترخّص لكي تقصر صلاته.
ويترك الانتقال والسفر أثراً أيضاً في الصوم، فالمشهور نقلًا وتحصيلًا أنّه لا يصحّ
الصوم الواجب من المكلّف المسافر الذي يلزمه التقصير في صلاته. ويستثنى من ذلك صوم ثلاثة أيّام
بدل الهدي، وثمانية عشر يوماً بدل
البدنة لمن أفاض من عرفات قبل
الغروب عامداً. وكذلك يستثنى
النذر المشترط سفراً وحضراً بلا خلاف معتدٍّ به.
أمّا الصوم المندوب ففي جوازه في السفر على
كراهة أو بدونها أو عدمه، أقوال.
ويستثنى من الكراهة أو
الحرمة صوم ثلاثة أيّام للحاجة
بالمدينة المنوّرة . كما أنّ الصوم الواجب يسقط وجوبه فىالسفر إذا تحقّقت الشرائط المعيّنة، كالصلاة.
قال
المحقّق النجفي : «الشرائط المعتبرة في قصر الصلاة معتبرة في قصر الصوم... ويزيد الصوم على ذلك عند الشيخ وابني حمزة و
البرّاج والفاضلين في المعتبر والكتاب والنافع والتلخيص، باعتبار تبييت النيّة للسفر، فإن لم يبيّتها أتمّ صومه...وقيل- والقائل المفيد و
الإسكافي و
أبو الصلاح والفاضل في أكثر كتبه والشهيدان وغيرهم-: لا يعتبر ذلك، بل يكفي في جواز
إفطاره خروجه قبل الزوال وإن لم يكن مبيّتاً للسفر...».
ثمّ قال: «
الأقوى التفصيل بين ما قبل الزوال وبعده من غير مدخليّة للتبييت وعدمه، وإن كان
الاحتياط ... لا ينبغي تركه».
وقد استثني من سقوط الصوم في السفر إذا كان السفر ممّا لا يقصر فيه بالصلاة. وتفصيل الكلام في هذه الشروط وأثرها على عدم وجوب الصلاة والصوم يراجع في محلّه.
ومن موارد الانتقال بهذا المعنى الانتقال إلى
بلد الكفر، فقد يقال بأنّ الانتقال و
الهجرة إلى بلاد الكفر- سواء كان سفراً أو لجوءاً- حرام شرعاً؛ لأنّه من مصاديق
التعرّب بعد الهجرة، وقد عدّ هذا من الكبائر التي توعّد اللَّه تعالى مرتكبيها بالنار.
إلّاأنّ بعض الفقهاء قد ذكروا أنّ مجرّد الانتقال والهجرة إلى بعض بلاد الكفر- كاوروبا أو
أمريكا للسكن والعمل وإن كان مع الظنّ بتأثّر الأطفال بالأجواء الفكريّة لذلك البلد- لا يترتّب عليه أحكام التعرّب إذا كان المسلم يتمكّن فيها من العمل بوظائفه الدينيّة.
نعم، حكم بعض الفقهاء بوجوب الهجرة و
الرحيل عن بلاد الكفر إذا خيف على الأولاد في تلك البلاد من الكفر أو
الانحراف الديني، وقد علّقه بعضٌ على عدم التعرّض إلى تلف النفس في الرحيل، أو تعقّب حرج أو ضرورة توجب رفع
التكليف ، ولم يستبعد البعض الآخر
وجوب الهجرة والرحيل عنها حتّى مع الحرج إذا خاف على
أهله وأولاده من اللحوق بالكفّار.
وقد يتفرّع على ما تقدّم أمران:
البحث في جواز النفي و
التغريب في الحدود إلى بلاد الكفر والشرك وعدمه، فعلى القول بأنّ الانتقال إلى بلاد الكفر والشرك من مصاديق التعرّب بعد الهجرة- وهو حرام- يكون مقتضى القاعدة هو
الاقتصار على بلاد
الإسلام في التغريب والنفي.
إذا أراد الزوج الانتقال إليها، وهل لها
الامتناع عنه باعتبار أنّ الانتقال من مصاديق التعرّب بعد الهجرة وهو حرام، أم لا يجوز لها ذلك؟
والحكم إذا كان قد اشترط لها مئة دينار إن أخرجها إلى بلاده وخمسين إن لم يخرجها من بلادها، فقد قال بعض الفقهاء: إن أخرجها إلى بلاد الشرك لم تجب
إجابته ولها الزائد من
المهر ، وإن أخرجها إلى بلاد الإسلام كان الشرط لازماً.
والحكم بوجوب الزائد مع الامتناع عن الانتقال معه إلى بلاد الكفر لا يتمّ إلّا مع القول بعدم وجوب إجابتها له في الانتقال إلى بلاد الكفر.
من المسائل التي يتطرّق إليها الفقهاء في باب
صلاة الجماعة هي أنّه إذا حضر المأموم الجماعة فرأى
الإمام راكعاً وخاف أن يرفع رأسه إن التحق بالصفّ نوى وكبّر في موضعه وركع، ثمّ مشى في ركوعه أو بعده إلى الصف، ولا خلاف في ذلك بين الفقهاء، بل ادّعي عليه
الإجماع ، كما تقتضيه جملة من النصوص
:
منها:
صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام أنّه سئل عن الرجل يدخل المسجد فيخاف أن تفوته
الركعة ، فقال: «يركع قبل أن يبلغ القوم ويمشي وهو راكع حتى يبلغهم»،
وغيرها.
فانتقال المصلّي ومشيه وذهابه إلى الصفّ جائز للبعيد الذي يريد
الالتحاق بالجماعة إذا كان بُعده متعارفاً، أي يبلغ مسافة تعدّ بالأمتار، لا أن يكون البعد متفاحشاً، كمئة متر أو أكثر بحيث لا يصدق عليه صورة الالتحاق الناظرة إليها النصوص.
لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز نقل
المطلّقة الرجعيّة في عدّتها من بيت زوجها أو انتقالها هي عنه، وادّعي الإجماع على ذلك.
وذكر المحقّق النجفي أنّ ظاهر الأكثر عدم جواز خروجها منه ولو اتّفقا عليه، بل يمنعهما الحاكم من ذلك؛ لأنّ فيه حقّاً للَّهسبحانه وتعالى، كما أنّ في العدّة حقّاً له.
ولكن اشكل عليه بما في بعض النصوص
من الدلالة على الجواز
بالإذن ، خصوصاً بعد تصريح جماعة بالجواز، ثمّ نقل قول
الفضل بن شاذان في معنى الخروج، من أنّ معنى الخروج و
الإخراج ليس هو أن تخرج
المرأة إلى أبيها أو تخرج في حاجة لها أو في حقّ بإذن زوجها، مثل: مأتم وما أشبه ذلك، وإنّما الخروج والإخراج أن تخرج
مراغمة ويخرجها مراغمة، فهذا الذي نهى اللَّه عنه.
ثمّ نقل كلاماً آخر من الفضل بن شاذان وهو: «أنّ أصحاب
الأثر وأصحاب الرأي وأصحاب
التشيّع قد رخّصوا لها في الخروج الذي ليس على
السخط والرغم، وأجمعوا على ذلك»، ثمّ قال: «وحينئذٍ فالقول به (الجواز) لا يخلو من قوّة».
نعم، ورد في
الكتاب الكريم جواز إخراج المعتدّة من بيت زوجها لو أتت بفاحشة،
وقد اختلف في
المراد من
الفاحشة المسوّغة للإخراج.
قال : «هي أن تفعل ما يجب به الحدّ، فتخرج
لإقامته ، وأدنى ما تخرج له أن تؤذي أهله»،
ونحوه
العلّامة الحلّي .
وظاهرهما عدم
انحصار الفاحشة في المعنى الأوّل. وكذا يجوز لها الخروج من البيت
اضطراراً بلا خلاف فيه.
والمدار على مقدار ما تتأدّى به الضرورة،
وكذا الحكم في
الحجّ الواجب .
هذا في المعتدّة من طلاق رجعي، أمّا المعتدّة من
طلاق بائن فهي تعتدّ حيث شاءت،
كما ورد في النصوص،
أي يجوز لها الخروج من بيت زوجها والانتقال إلى أيّ مكان شاءت. وكذا المعتدّة عدّة
الوفاة فظاهر الأصحاب جواز خروجها عن بيتها أثناء العدّة من دون ضرورة، لكن على كراهة،
والنصوص مستفيضة في جواز ذلك، وجواز قضاء عدّتها فيما شاءت من المنازل ولو كلّ شهر في منزل.
وتفصيله في محلّه.
من مصاديق الانتقال الحسّي أيضاً ما جاء في باب
القضاء وهو أنّه لو كانت الدعوى على امرأة وكانت مخدّرةً، وليس من شأنها
البروز بين الرجال، لم تكلّف بالحضور، بل يذهب إليها القاضي أو يبعث من يحكم أو يأمرها
بالتوكيل عنها في
أمر الدعوى.
وكذا الأمر بالنسبة إلى المرأة العاجزة التي لا تقوى على
الحراك .
الموسوعة الفقهية، ج۱۸، ص۱۲-۱۸.