العفو عن ماء الاستنجاء
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لا إشكال في
طهارة الملاقي لماء
الاستنجاء ، بل ادّعي عليه
الإجماع .
وإنّما
الإشكال في أنّ طهارته هل هي لعدم تنجّس الماء نفسه حتى يكون عدم تنجّس الملاقي من السالبة بانتفاء الموضوع، أم للعفو عن نجاسة الماء وأنّه لا ينجس ما لاقاه تسهيلًا لأمر المكلّفين حتى يكون عدم تنجّسه من تخصيص أدلّة تنجيس الماء المتنجّس وسلب تأثيره في هذا المجال كي يكون نفي
التنجيس من السالبة بانتفاء المحمول؟.
ذهب جماعة
منهم
الشهيد في
البيان إلى الثاني، واختار جماعة الأوّل،
بل ادّعي عليه الإجماع.
واستدلّوا له- مضافاً إلى الإجماع- بالأخبار الكثيرة التي نحاول فيما يلي التعرّض لها وللإشكالات الواردة عليها
:
منها: رواية
يونس بن عبد الرحمن عن رجل عن
العيزار عن الأحول أنّه قال
لأبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث-: الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجى به، فقال: «لا بأس»، فسكت، فقال: «أوَ تدري لِمَ صار لا بأس به؟» قال: قلت: لا واللَّه، فقال: «إنّ الماء أكثر من القذر».
واورد عليها بأنّها مخدوشة سنداً ودلالةً.أمّا سنداً فلجهالة الرجل الذي روى عنه يونس.وأمّا دلالةً فلأنّها بحكم المجملة، بسبب التعليل الوارد فيها الدالّ على كبرى كلّية لا يمكن
الالتزام بها في جميع موارد
الفقه إلّا في الاستنجاء الذي وردت فيه هذه الرواية.
ومنها: حسنة
محمّد بن نعمان الأحول بل صحيحته قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام:أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به، فقال: «لا بأس به».
واورد عليها:
أوّلًا: بأنّها وإن كانت تامّة سنداً إلّا أنّها ليست كذلك دلالةً؛ لأنّ قوله عليه السلام:«لا بأس به» يحتمل
رجوعه إلى نفس الثوب فيحكم بطهارته دون الماء، ويحتمل رجوعه إلى الماء فيحكم بطهارته دون الثوب، وليس هناك ما يمكن من خلاله
ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر، فتبقى الرواية مجملة من هذه الناحية.
وثانياً: بأنّ الرواية ظاهرة في أنّ المنفي عنه البأس هو الثوب؛ لأنّه مورد السؤال لا الماء، أو على الأقل لا ظهور لها في الماء.
ومنها: موثّقة محمّد بن النعمان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت له: أستنجي ثمّ يقع ثوبي فيه وأنا جنب، فقال: «لا بأس به».
واورد عليها بما اورد على الرواية السابقة، من عدم وضوح المقصود من (لا بأس به) هل هو الماء حتى تكون الجملة سالبة
بانتفاء الموضوع، أم الثوب حتى تكون من السالبة بانتفاء المحمول
؟
ومنها: صحيحة
عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به أينجس ذلك ثوبه؟ قال: «لا».
وهذه الرواية وإن كانت دلالتها واضحة على طهارة ملاقي ماء الاستنجاء إلّاأنّها لم تتعرّض لطهارة نفس الماء ونجاسته.وبذلك يتّضح أنّ جميع الروايات المتقدّمة ساكتة عن طهارة ماء الاستنجاء وإن دلّ بعضها على طهارة الجسم الملاقي له، وحينئذٍ لا طريق أمامنا
لإثبات طهارة ماء الاستنجاء إلّاالتمسّك
بالملازمة بين الحكم بطهارة الملاقي والحكم بطهارة الملاقى، وذلك بالملازمة العرفية؛ لأنّ العرف يفهم من الحكم بعدم نجاسة الملاقي الحكم بعدم نجاسة الملاقى؛ إذ لم يعهد بينهم نجاسة شيء لا تسري نجاسته، فهم يحكمون بطهارة بول الخفّاش إذا ورد الحكم بطهارة ملاقيه، فالحكم بطهارة ماء الاستنجاء من هذا القبيل.
وأمّا الملازمة العقلية فلا مجال للتمسّك بها هنا؛ إذ لا مانع عقلًا من
اعتبار ماء الاستنجاء نجساً، والحكم في الوقت نفسه بطهارة ملاقيه إذا كان هناك مخصّص لعمومات انفعال الملاقي بالنجاسة.
واورد عليه بعدم وجود هذه
الدلالة الالتزامية العرفية في روايات طهارة الملاقي لماء الاستنجاء، وعلّل ذلك
الشهيد الصدر : «بأنّ فرض السؤال فيها (الروايات)عن حكم الملاقي لماء الاستنجاء مساوق لفرض
التشكيك في الملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه، إمّا في مرتبة ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء، أو في مرتبة ملاقاة الماء للعذرة، كما أنّ فرض الجواب بطهارة الثوب مع بداهة نجاسة العذرة- ارتكازاً- مساوقاً للتأكيد على
انثلام تلك الملازمة في احدى المرتبتين، وهذا يعني القرينة المتصلة اللبّية على انثلام تلك الملازمة في احدى المرتبتين، ومعها لا يبقى في دليل طهارة الثوب ظهور فعلي في طهارة ماء الاستنجاء، والمتعيّن حينئذٍ الرجوع إلى
إطلاق دليل انفعال الماء القليل».
ولا فرق في طهارة ماء الاستنجاء أو العفو عنه بين الغسلة الاولى في البول الذي يحتاج إلى التعدّد وبين الغسلة الثانية،
وذكروا لذلك وجهين متفاوتين، فذهب البعض إلى أنّ وجهه إطلاق الأدلّة المتقدّمة.
وذهب آخر إلى أنّه لا إطلاق في هذا المجال؛
لاعتقاده بأنّ الاستنجاء الذي ورد في هذه الأدلّة لا يقصد به إلّا تطهير محلّ الغائط، وأمّا محلّ البول فلابدّ من إثباته عن طريق الملازمة العرفية، وبواسطة
اقتران تطهير محلّ الغائط عادةً بمحلّ البول، ممّا يؤدّي إلى نوع من
الاتّحاد والملازمة العرفية بين طهارة غسالة موضعهما معاً. ولمّا كانت غسالة محلّ الغائط طاهرة غير مقيّدة بالغسلة الثانية، فكذلك غسالة البول تكون غير مقيّدة بالثانية.
وخالف في ذلك
الشيخ الطوسي حيث نفى حصول طهارة ماء الاستنجاء إلّافي الغسلة الثانية.
ولعلّه لبعد الطهارة أو العفو مع
اختلاطه بأجزاء النجاسة في الاولى، وللجمع بين ما دلّ على عدم البأس بماء الاستنجاء وما ورد في مضمر
العيص فيمن أصابه قطرة من طشت فيه وضوء، فقال: إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه.
ثمّ إنّ تعدّي حكم ماء الاستنجاء من الغائط إلى التطهير بالماء من البول يتوقف إمّا على شمول عنوان الاستنجاء للتطهير من البول، أو على غالبية اقتران التطهير من البول مع الاستنجاء من الغائط، فعدم التنبيه عليه بالخصوص يعدّ كاشفاً عن دخوله في حكم الاستنجاء من الغائط.
الظاهراستظهره
المحقّق الهمداني من كلمات الفقهاء.
أنّ مراد القائلين بالعفو عن ماء الاستنجاء هو العفو عن ملاقيه، بمعنى عدم سراية نجاسته إليه مع بقاء آثاره الاخرى على حالها، كعدم قابليّته على رفع الحدث والخبث، مضافاً إلى عدم جواز حمله في الصلاة بناءً على عدم جواز حمل المتنجّس فيها.وقد استظهر هذا المعنى
الشيخ الأنصاري ،
كما هو ظاهر
المصباح والسرائر
والمنتهى،
وكلّ من لم يصرّح بطهارة ماء الاستنجاء، بل هو ظاهر الأخبار، كما قيل.
وقيل: إنّ المراد من العفو عدم ترتيب آثار نجاسة ماء الاستنجاء، فيجوز شربه، وأكل الطعام المختلط به، وحمله في الصلاة،
وإدخاله في المسجد، وعدم وجوب
إزالته عن الشيء الذي يجب إزالته عنه، إلّاأنّه لا يصحّ التطهير به.
وقيل: إنّ العفو لا يعني أكثر من بيان الحكمة التي تقف وراء الحكم بطهارته، فهو كسائر المياه الطاهرة الاخرى التي يجوز شربها والتطهير بها وترتيب سائر آثارها عليها.
هناك عدّة شروط لابدّ من توفّرها للحكم بطهارة ماء الاستنجاء أو العفو عنه، وهي كما يلي:
لا خلاف بين الفقهاء
في اشتراط طهارة غسالة الاستنجاء أو العفو عنها بعدم التغيّر، فمع التغيّر لا تكون الغسالة حينئذٍ طاهرة معفوّاً عنها؛
لعموم أدلّة نجاسة الماء المتغير بأوصاف النجاسة، وعدم شمول روايات طهارة ماء الاستنجاء لصورة التغير؛ لأنّ السؤال والجواب في هذه الروايات ناظران إلى ناحية ملاقاة في الماء القليل للعذرة فحسب، ولا نظر لهما إلى سائر الجهات؛ لأنّ
انفعال القليل بالملاقاة كان مرتكزاً في أذهان الرواة، ولأجله سألوهم عن حكم الماء القليل في الاستنجاء الملاقي لعين النجس وأجابوا بعدم انفعاله، فلا يستفاد منها طهارته فيما إذا تغيّر بأوصاف النجس أيضاً، فإنّ التغيّر ليس أمراً غالبياً في ماء الاستنجاء، بل هو نادر جدّاً فيخرج من اطلاقات الأخبار لا محالة.
وعلى فرض شمول روايات طهارة ماء
الاستنجاء أو العفو عنه لصورة التغيّر فأيضاً لابد من الحكم بنجاسة ماء الاستنجاء عند تغيّره؛ وذلك لأنّ العلاقة بين أخبار طهارة ماء الاستنجاء وأخبار الانفعال هي العموم من وجه؛ لدلالة الطائفة الاولى على طهارة ماء الاستنجاء مطلقاً تغيّر بالنجس أو لم يتغيّر، ودلالة الطائفة الثانية على نجاسة الماء المتغيّر سواء استعمل في الاستنجاء أم لم يستعمل، فيتعارضان في مادّة
الاجتماع ، وتقدّم الطائفة الثانية على الاولى؛ لدلالتها بعموم صحيحة حريز، وهو قول أبي عبد اللَّه عليه السلام: «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب».
وإنّما تتقدّم عليها؛ لأنّ دلالة العموم وضعية، وهي أقوى من الإطلاق في الطائفة الاولى التي تكون الدلالة فيها بمقدّمات الحكمة، فيحكم بنجاسة ماء الاستنجاء عند تغيّره بأوصاف النجاسة.
ثمّ إنّ المقصود من التغيّر هو تغيّر الماء بعد
الانفصال عن المحلّ والاجتماع في موضع واحد، وأمّا مجرّد تغيّر أوّل جزء منه الزائل بعد الاجتماع أو قبل الوصول إلى المحلّ الذي يجتمع فيه ماء الاستنجاء فلا يوجب النجاسة أصلًا؛ لندرة عدم تغيّره في الفرض المذكور، فلو فرض
استثناء هذا النوع من التغيّر لزم حمل الروايات الكثيرة على فرض نادر.
لا خلاف بين الفقهاء
في عدم طهارة الغسالة فيما لو تنجّست اليد أو خرج دم قبل الاستنجاء أو أثناءه؛
لدلالة الأدلّة على عدم انفعال الماء بالغائط أو البول حال الاستنجاء، وأمّا عدم انفعاله بنجاسة اخرى فلا دلالة في الأدلّة عليه، فيبقى تحت عموم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة.
ومع الشكّ في وصول نجاسة
فالأصل عدم وصولها؛
لاستصحاب العدم.
لابدّ في طهارة ماء الاستنجاء أو العفو عن نجاسته من عدم تعدّي النجاسة عن المحلّ المعتاد، ولعلّ هذا ممّا لا خلاف فيه بين الأعلام.
ولم يفرّق بعض الفقهاء في طهارة ماء الاستنجاء بين المتعدّي عن مخرج البول والغائط وغير المتعدّي إذا لم يكن التعدّي فاحشاً،
بل هناك من رفض أن يكون عدم التعدّي من شروط
طهارة ماء الاستنجاء؛ لأنّه من مقوّماته التي بها تتحقّق ماهيّة الاستنجاء، وبدونها لا مجال للعمل بأدلّة طهارة الماء المستعمل فيه؛ إذ لابدّ من
انطباق عنوان الاستنجاء عليه الذي هو عبارة عن
غسل موضع الغائط المعبّر عنه بالنجو، ومن الواضح أنّه في صورة التعدّي الفاحش لا يصدق عنوان الاستنجاء بوجه، فيبقى الماء حينئذٍ تحت عموم ما دلّ على انفعال الماء القليل، ولعلّ هذا ممّا لا خلاف فيه.
ذكر بعضهم أنّه إذا خرج الغائط من غير المخرج الطبيعي فغسالته طاهرة إذا صار معتاداً،
بخلاف ما لو لم يصر معتاداً؛
لانصراف الأدلّة عنه، كما إذا أصاب البطن سكّين فخرج من موضع
الإصابة غائط، فإنّه لابدّ في هذه الحالة من الرجوع إلى عموم أدلّة انفعال الماء القليل بالنجاسة في ماء الاستنجاء.
واورد عليه:
أوّلًا: بأنّ الانصراف المذكور إن كان للغلبة فهو بدوي لا عبرة فيه، كما هو ثابت في محلّه.
وثانياً: بأنّ لازم هذا الدليل النجاسة في المعتاد غير الطبيعي أيضاً.
وذهب بعضهم إلى
انحصار طهارة ماء الاستنجاء بما إذا كان خروج الخبث من موضعه الطبيعي؛ لعدم صدق الاستنجاء على ما خرج من غير موضعه؛ إذ ليس معنى النجو مطلق ما خرج من البطن، بل هو ما خرج من الموضع الطبيعي.
هذا، ولا أقل من انصراف الأخبار إلى الاستنجاء المتعارف.
ذكر جماعة شرطاً آخر هنا، وهو عدم انفصال أجزاء متميّزة من النجاسة.
والوجه فيه هو أنّ المتعارف في الاستنجاء بقاء شيء يسير غير متميّز في موضع النجاسة، وأمّا إذا كان كثيراً غير متعارف فلا يحكم على الماء بالطهارة؛ لعدم
افتراضه في أخبار الاستنجاء التي لم تتعرّض إلّاللماء الملاقي للنجاسة في المحلّ، وأمّا النجاسة المتميّزة المفصولة حين الاستنجاء فهي مغفول عنها في روايات الباب، والمرجع فيها عموم أدلّة الانفعال.
واورد عليه بأنّ سقوط نجاسة متميّزة يعدّ أمراً متعارفاً في حال الاستنجاء، ولم يكن نادر الوقوع حتى يدّعى إهمال الروايات له وانصرافها عنه.
وأمّا خروج الدود أو جزء غير منهضم من الغذاء فلا يضرّ في طهارة الماء؛
لغلبة خروجه،
وإغماض الروايات عنه.نعم، لو لاقاه بعد الانفصال عن المحلّ لم يبعد الحكم بالنجاسة؛ لقصور النصوص عن الشمول حينئذٍ.
وخالف في ذلك الشيخ الأنصاري، مستدلّاً بأنّه كالنجس
الأجنبي الخارج مع الغائط.
ذكر هذا الشرط الشهيد الأوّل في
الذكرى حيث قال: «لو زاد وزنه اجتنب»،
ومال إليه الشهيد الثاني، معتبراً أنّه موافق للاحتياط.
خلافاً
للمحقّق الكركي الذي استظهر العدم حيث قال: «وهل يعتبر عدم زيادة الوزن؟ فيه وجهان، أظهرهما العدم؛ لأنّ التنجيس لتغيّر شيء من الأوصاف الثلاثة، لا مطلقاً».
هذا مضافاً إلى كونه غير منضبط ومنافٍ لإطلاق الأدلّة.
اشترط بعضهم في طهارة ماء الاستنجاء
وصول الماء إلى اليد قبل وصوله إلى النجاسة، إلّاأنّ هناك من رفض هذا الشرط؛
لأنّ سبق الماء على اليد كسبق اليد على الماء كان وما زال متعارفاً في الاستنجاء فيشملهما إطلاق الأدلّة، وهو المحكم في كلتا الصورتين.
نعم، لو أصابت اليد الغائط لا لأجل الاستنجاء بل لأمر آخر، فإنّه لا يحكم عليها حينئذٍ بالطهارة؛ لعدم صدق الاستنجاء بها.
وكذا لو سبقت يده بقصد الاستنجاء ولم يستنجِ ثمّ عاد بعد مدّة، فإنّه ينتفي معها صدق التنجّس بالاستنجاء
الذي هو موضوع لحكم طهارة مائه كما قيل.
خلافاً لظاهر صاحب [[|الجواهر]] الذي لم يستبعد طهارة اليد في هذه الحالة.
ولابدّ من
الإشارة أخيراً إلى كلام
المحقّق الأردبيلي في الشروط المتقدّمة، ورفضه الالتزام بها باستثناء الشرط الثاني، حيث قال: «وأمّا الشرائط التي ذكرها الأصحاب فما نعرف وجهها، والعمل بالعموم مقتضى
الدليل ما لم يظهر المخصّص،
والاحتياط لا يترك. نعم، اشتراط عدم وقوعه على نجاسة خارجة غير بعيد...».
الموسوعة الفقهية، ج۱۲، ص۳۲۵-۳۳۴.