الوقف على فرق المسلمين
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ومقتضى هذه القاعدة
انصراف الوقف إلى ذي الوصف من
أهل مذهب الواقف لا مطلقا، فلو وقف إمامي على الفقراء انصرف إلى فقراء
الإمامية دون سائر طوائف
الإسلام الباطلة، وكذا في صورة العكس، ولعلّه مراد الأصحاب وإن كانت عبائرهم مطلقة، لكن سيأتي من الخلاف ما ربما ينافيه.
وحيث انصرف إلى المسلمين أو صرّح بالوقف عليهم احتيج إلى معرفتهم وبيان المراد منهم، ولذا قال : (والمسلمون من صلّى إلى القبلة) وفسّر في المشهور بمن اعتقد
الصلاة إليها وإن لم يصلّ لا مستحلا.
خلافاً للمفيد،
فاعتبر فعليّة الصلاة إليها، بناءً منه على أن العمل جزء من
الإسلام .
ولا فرق عندهم بين كون الواقف محقّاً أو غيره؛ تبعاً لعموم اللفظ.
خلافاً للحلّي،
فخصّهم بالمؤمنين إذا كان الواقف منهم؛ عملاً بشهادة الحال، كما لو وقف على الفقراء.
ويضعّف بأن تخصيص عامّ لا يقتضي تخصيص آخر، ومنعِ شهادة الحال، وقيام الفرق بين الفقراء والمسلمين، فإن
إرادة الوقف على جميع الفقراء على اختلاف آرائهم وتباين مقالاتهم ومعتقداتهم بعيد، بخلاف إرادة فِرَق المسلمين من إطلاقهم، فإنه أمر راجح شرعاً مطلوب عرفاً.
وفي الجميع نظر؛ لمنع أن تخصيص عام لا يقتضي تخصيص آخر بعد اشتراكهما في الوجه المخصّص وهو شهادة الحال، ومنعها لا وجه له، سيّما على إطلاقه.
ودعوى قيام الفرق بما ذكر غير واضحة؛ لجريان ما ذكره في الفقراء من بُعد
انصراف الوقف من المسلم إلى جميعهم لاختلاف آرائهم في المسلمين أيضاً، لوجود
الاختلاف في الآراء والتباين في المعتقدات فيهم أيضاً.
ودعوى رجحان الوقف على مخالفي الحق من سائر فِرَق المسلمين شرعاً ومطلوبيته عرفاً غير نافعة جدّاً بعد قيام المخصِّص، كما قدّمنا، مع أن جماعة كالتقي وابن زهرة والفاضل المقداد في التنقيح
أفسدوا الوقف من المحقّ على غيره، وقد مرّ أن ذلك لازم لكل من يشترط القربة في الصحة، فما ذكره الحلّي لا يخلو عن قوة.
هذا على تقدير صحة الوقف منه عليه، وإلاّ كما اخترناه سابقاً من عدم الصحة تبعاً لهؤلاء الجماعة فينبغي القطع بمقالته؛ إذ
الإطلاق والعموم ليسا بأبلغ من التصريح، ومعه يفسد، فكذا معهما.
كما أن بيان انصراف الفقراء إلى المسلمين خاصّة حيث يكون الواقف مسلِماً إنما هو على تقدير صحة الوقف من
المسلم على الكافر مطلقاً أو في الجملة، وعلى تقدير فساده بالكلية لم يحتج إلى هذا البيان؛ لفساد الوقف فيه بالإضافة إليه من أصله.
وعلى مذهب الأكثر استثنى جماعة منهم الغلاة والخوارج وغيرهما من فِرَق الإسلام المحكوم بكفرهم شرعاً. ولا ريب فيه على ما اخترناه، ويأتي على غيره
احتمال عدم الاستثناء، لصدق
الاسم عرفاً، إلاّ أن يكون هناك شاهد حال على
الاستثناء فيستثنى.
(والمؤمنون) حيث يوقف عليهم (الاثنا عشرية) القائلون بإمامة
الأئمة الاثني عشر سلام الله عليهم (وهم الإمامية) الآن، الذين لا يعتبر في صدق الإمامية عليهم اجتنابهم الكبائر اتفاقاً، كما حكاه في التنقيح والمسالك والروضة،
وفيها عن الدروس
انسحاب الخلاف الآتي في المؤمنين فيهم.
وليس كذلك بالإجماع، و
إشعار أدلّة المعتبر للاجتناب عنها في الإيمان باختصاص اعتباره فيه دون الإمامي.
وكيف كان، ما اختاره الماتن من
اشتراك المؤمن والإمامي في عدم اعتبار
الاجتناب عن الكبائر في حقيقتهما مختار الطوسي في
التبيان ،
قائلاً : إنه كذلك عندنا، واختاره الديلمي والحلّي،
وعليه كافّة المتأخّرين.
(وقيل :) كما عن النهاية والمفيد والقاضي وابن حمزة
هم (مجتنبو الكبائر) منهم (خاصّة) فلا يشمل
الوقف عليهم الفسقة.
ومنشأ الاختلاف هو الاختلاف بين النصوص ، والجمع بينها يقتضي المصير إلى الأوّل.
والأولى الرجوع إلى عرف الواقف وشهادة حاله ، حتى لو كان ممن يذهب إلى الثاني وظهر من القرائن الأحوال إرادته مطلق الإمامي عمّ مجتنبي الكبائر وغيرهم ، وإذا جهل عرفه وانتفت القرائن فالمذهب الأوّل ، وإن كان الأحوط الثاني.
ثم كلّ ذا إذا كان الواقف منهم ، ويشكل فيما لو كان من غيرهم ، وإن كان إطلاق العبارة كغيرها من العبائر يقتضي عدم الفرق ، لعدم معروفيّة
الإيمان بهذا المعنى عنده فلم يتوجّه منه القصد له فكيف يحمل عليه.
وليس الحكم فيه كالمسلمين في عموم اللفظ والانصراف إلى كلّ ما دلّ عليه وإن خالف معتقد الواقف ، كما مرّ على تقدير صحته ؛ لأن الإيمان لغة هو مطلق التصديق ، وليس هنا بمراد إجماعاً ، واصطلاحاً يختلف بحسب اختلاف المصطلحين ، ومعناه المعتبر عند أكثر المسلمين هو التصديق القلبي بما جاء به
النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، ويعبّر عنه بالإيمان بالمعنى العام ، والأوّل أي المرادف للإمامي الذي هو مورد العبارة بالخاص ، فلو قيل بحمله عليه في محل الإشكال كان غير بعيد إذا لم يكن ثمّة شاهد حال ، وإلاّ كان متّبعاً بلا إشكال.
( و ) لو وقف على (
الشيعة ) انصرف إلى من شائع عليّاً عليه السلام وقدّمه على غيره في الإمامة ، وإن لم يوافق على إمامة باقي
الأئمة : بعده.
فيدخل فيهم ( الإمامية والجارودية ) من الزيدية ، و
الإسماعيلية غير الملاحدة منهم ، وغيرهم من الفرق الآتية.
وخصّ الجارودية من فِرَق
الزيدية لأنه لا يقول منهم بإمامة علي عليه السلام دون غيره من المشايخ سواهم، فإن الصالحية منهم والسليمانية والبترية يقولون بإمامة الشيخين وإن اختلفوا في غيرهما.
وانصراف الشيعة إلى هاتين الطائفتين هو المشهور بين الأصحاب، محكيّ عن الشيخين والقاضي والديلمي وابن حمزة؛
لعموم اللفظ.
خلافاً للحلّي والتذكرة،
فيتبع مذهب الواقف، فلو كان من الإمامية انصرف وقفه إليهم خاصة، وكذا لو كان من
الجارودية انصرف وقفه إليهم، وهكذا لو كان من سائر الفرق الباقية ينصرف وقفه إلى أهل مذهبه؛ عملاً بشاهد الحال. ولا ريب فيه، بل ولعلّه لا كلام مع حصوله، وإلاّ فاللازم دوران الأمر مدار اللفظ وعمومه.
وإطلاق العبارة وغيرها من عبائر الجماعة يقتضي عدم الفرق في الحكم بين الوقف عليهم في الأزمنة القديمة أو نحو هذه الأزمنة الحادثة.
وهو في الأخير محلّ مناقشة؛ لصيرورة الشيعة في زماننا هذا وما ضاهاه حقيقة في الاثني عشرية خاصّة، بل لا يكاد يخطر ببال أحد من أهله صدق الشيعة على غيرهم من الفرق الباقية، ولو بالمجاز دون الحقيقة، بل حيث ما يطلق فيه ينصرف إليهم دون غيرهم البتة، ويقابل بهم خاصّة
أهل السنة، وهذا أوضح شاهدٍ وأفصح قرينة على انصراف الوقف على الشيعة في مثل هذا الزمان إلى الاثني عشرية كائناً الواقف من كان.
وبما ذكرنا تفطّن بعض من عاصرناه من علمائنا الأعيان، فاعترض الأصحاب بذلك.
ويمكن
الاعتذار عنهم بأن مقصودهم متابعة اللفظ وعمومه حيث لا يكون ثمّة قرينة حال، وإلاّ فلا ريب في وجوب
اتّباعها حيث حصلت على كلّ حال، وينبّه عليه ما مرّ من القاعدة في انصراف الوقف على الفقراء إلى فقراء نحلة الواقف.
(و) لو وقف على (الزيدية) انصرف إلى كل (من يقول بإمامة زيد) بن
علي بن الحسين عليهما السلام ومن خرج من ولد
فاطمة سلام الله عليها عالماً زاهداً شجاعاً داعياً إلى نفسه بالسيف، ولذا قالوا بإمامة زيد دون أبيه علي بن الحسين عليهما السلام، لعدم قيامه.
ولا فرق في ذلك بين كون الواقف إماميّاً أو غيره عند الشيخين.
وتبعهما الأكثر؛ بناءً منهم على صحة الوقف من الإمامي على أمثال هذه الطوائف. ويأتي على المختار ومذهب من تقدّم من علمائنا الأبرار فساد الوقف منه عليهم،
وبه صرّح الحلّي هنا،
وهو لازم لمن يشترط القربة، كما قدّمناه.
(و) نحو هذا الكلام في الوقف على (
الفطحية ) وهم كلّ (من قال بـ) ـ إمامة (الأفطح) عبد الله بن
جعفر بن محمّد عليهما السلام ، وسمّي بذلك لأنه قيل : كان أفطح الرأس.
وقال بعضهم : إنه كان أفطح الرجلين.
وقيل : إنهم سمّوا فطحية لأنهم نسبوا إلى رئيس لهم من أهل
الكوفة يقال له : عبد الله بن فطيح.
(و) على (الإسماعيلية) وهم كل (من قال بـ) إمامة (إسماعيل بن جعفر) بن محمّد الصادق عليه السلام بعده، قيل : وهم فِرَق.
(و) على (
الناووسية ) وهم كل (من وقف) في عداد الأئمة (على جعفر بن محمّد) عليهما السلام ، وقالوا : إنه حيّ لن يموت حتى يظهر ويظهر أمره، وهو القائم المهدي.
وعن
الملل والنحل : أنهم زعموا أن عليّاً عليه السلام مات وستنشق الأرض عنه قبل يوم القيامة فيملأ
الأرض عدلاً.
قيل : نسبوا إلى رجل يقال له : ناووس.
وقيل : إلى قرية يقال لها ذلك.
(و) على (
الواقفية ) وهم كل (من وقف) في الإمامة (على
موسى بن جعفر عليهما السلام ) وينكر موته، ويدّعي أنه قائم الأئمة :، وسمّوا في بعض الأخبار بحمير الشيعة، وفي آخر منها بالكلاب الممطورة.
(و) على (
الكيسانية ) وهم كل (من قال بإمامة محمّد بن) (الحنفية) بعد الحسين عليه السلام وأنه حيّ غائب في جبل رضوى وربما يجتمعون ليالي الجمعة في الجبل ويشتغلون بالعبادة على ما حكي، وهم أصحاب مختار بن أبي عبيدة المشهور، ويقال : إن لقبه كان كيسان،
وقيل : ومنشأه أن
أمير المؤمنين عليه السلام قال له : يا كيّس يا كيّس، وهو طفل قاعد في حجره.
(و) كذا (لو وصفهم) الواقف (بنسبة إلى عالم كان لمن دان) وقال (بمقالته) ومذهبه (كالحنفية) والمالكية والشافعية والحنبلية.
وهذه ضابطة كلّية في جميع هذه المسائل، لكن مع
اتّفاق العرف أو
الاصطلاح لا كلام في انصرافه إليه، ومع التعدّد يحمل على المتعارف عند الواقف، وبهذا يتخرّج الحكم والخلاف في الجميع.
(ولو نسبهم إلى أب) كالأمثلة الآتية (كان) الوقف منصرفاً (لمن انتسب إليه) أي إلى ذلك
الأب (بالأبناء، دون البنات على) الأشهر بين عامة من تأخّر.
خلافاً للمرتضى وابن زهرة،
فألحقا المنتسبين إليه بالبنات بالمنتسبين إليه بالأبناء في انصراف الوقف إليهم أيضاً، وادّعى الأخير هنا عليه إجماعنا.
وتمام التحقيق مع ذكر (الخلاف) في
المضمار يطلب من كتاب الخمس.
وذلك (كـ) الوقف على الطائفة (العلوية والهاشميّة) فينصرف الوقف إلى مَن وَلَده علي وهاشم بأبيه، أي من اتّصل إليهما بالأب وإن علا، دون
الامّ على الأشهر، ويعمّ المنتسب إليهما بالأُمّ أيضاً على القول الآخر.
(ويتساوى فيه) أي في ذلك الوقف
استحقاقاً وقدراً (الذكور والإناث) من أولاد البنين، والبنات إن قلنا بانصراف الوقف إليهم، بلا خلاف، قيل : ولا إشكالٍ،
وإن وقع بلفظ الذكور كالهاشميين والعلويين؛ فإن اللفظ حينئذٍ يشمل الإناث تبعاً، كما تناولهنّ في جميع الخطابات الواقعة في التكليف في الكتاب والسنة، ولصدق إطلاقه على
الإناث فيقال فلانة علوية أو هاشمية أو تميمية ونحوه.
والمناقشة فيهما على إطلاقهما واضحة، إلاّ أن يتمّم الأوّل
بالاستقراء ، لكن في إفادته المظنّة التي يطمئنّ إليها مناقشة.
وكيف كان، الإجماع بنفسه حجّة واضحة قد كفتنا مئونة
الاشتغال بطلب توجيهٍ لتصحيح هذه الأدلّة، أو الفحص عما سواها من الحجج الأُخر الشرعية.
رياض المسائل، ج۱۰، ص۱۴۲- ۱۵۰.