تطبيقات الإباحة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يترتب على
الإباحة تطبيقات متعددة في العبادة و..
الإباحة في العبادة:
اتّفق فقهاؤنا على أنّ
الإباحة لا تقع في
العبادة ؛ لأنّ العبادة لا تكون إلّا راجحة، وإلّا لم تكن محلًاّ للتقرّب بها إلى اللَّه سبحانه وتعالى.قال
المحقّق الكركي : «العبادة لا تتصوّر فيها الإباحة؛ لأنّها قربة، فلا بدّ فيها من الرجحان».
وقال
السيّد محمّد العاملي : «والعبادة لا توصف بالإباحة؛ لأنّ الصحيح منها لا يكون إلّا راجحاً، إمّا واجبة أو مندوبة».
وقال
الشيخ جعفر كاشف الغطاء : «إنّ حقيقة التحريم والكراهة والإباحة منافية للعبادة؛ لاشتراكها في
اقتضاء عدم رجحان الفعل، وهو منافٍ لحقيقتها، فتبقى دائرة بين الوجوب والندب، فإن فقد الوصفان فسدت وحرّمت؛ لدخولها في التشريع المنهيّ عنه».
ولهذا السبب اضطرّ فقهاؤنا إلى حمل الإباحة أو الكراهة أو الحرمة الواردة في بعض العبادات على معانٍ أخرى غير المعاني المصطلحة كأقلّية الثواب، أو على عناوين أخرى تقترن بها العبادة، لا على عنوان العبادة نفسها كخصوصيّات العبادة من الزمان والمكان الخاصّين التي تقع فيهما العبادة.
قال المحدّث البحراني: «المراد بمكروه العبادة ما كان أقلّ ثواباً منها نفسها لو لم تكن كذلك، بل كانت متّصفة بأصل الإباحة...توضيح ذلك أن يقال: إنّ العبادة قد تكون بحيث لا يتعلّق بها أمر ولا نهي غير
الأمر الذي تعلّق بأصل فعلها، وبهذا المعنى تتّصف بالإباحة، كالصلاة في البيت البعيد عن المسجد أو حال المطر».
وقال
الفاضل التوني : «ربّما تتّصف (العبادة) بالإباحة، بمعنى عدم مرجوحيّة أوصافها وأجزائها، وعدم راجحيّتها أيضاً غير الراجحيّة الناشئة من راجحيّة أصلها، فيقال الصلاة اليومية في البيت مثلًا مباحة».
وقال المولى محمّد تقي: «المقصود بإباحة إيقاعها ( الصلاة) في البيت أنّ خصوصيّة
الإيجاد في البيت لا رجحان فيه ولا مرجوحيّة وإن كانت نفس طبيعة العبادة راجحة.وليس المراد أنّ خصوصيّة
الإيقاع في البيت مباحة بالمعنى المصطلح، كيف! وهو متّحد مع الإيقاع المطلق، وإذا وجب المطلق وجب إفراده... فلا يتعقّل القول بإباحته الواقعية».
إلى غير ذلك من كلماتهم المتظافرة بهذا الشأن.
لكن فقهاء آخرين التزموا في بعض الموارد بالمرجوحيّة في بعض العبادات أو أجزائها. قال
الميرزا القمّي : «الصيام في الأيّام المكروهة أو
النافلة في الأوقات المكروهة فنقول: هي إمّا مباحة، أو مكروهة على ما هو المصطلح فيكون تركه راجحاً على فعله، بل الثاني هو المتعيّن هناك؛ لئلّا يخلو النهي عن الفائدة على ظاهر اللفظ، فيغلب المرجوحية الحاصلة بسبب الخصوصية على
الرجحان الحاصل لأصل العبادة ويرفعه، ولذلك كان المعصومون عليهم السلام يتركون تلك العبادات وينهون عنها، وإلّا فلا معنى لتفويتهم عليهم السلام ذلك الرجحان والمثوبة على أنفسهم وعلى شيعتهم بمحض كونها أقلّ ثواباً من سائر العبادات، سيّما إذا لم يتداركه بدل».
وبمثلها عبارات اخرى للفقهاء.
وللتفصيل أكثر راجع مصطلح (عبادة).
إباحة ما يؤخذ من المسلم أو سوق المسلمين:
اتّفق فقهاؤنا على إباحة ما يؤخذ من يد المسلم أو سوق المسلمين وما يجلب من بلادهم وإن كان
الأصل الأوّلي عند الشكّ فيه هو الحرمة، كالذبائح وأجزائها من الجلد واللحم وغيرها والموادّ المصنوعة منها، فإنّ حلّيتها منوطة
بإثبات التذكية لها. ومع
الشك في تذكيتها وعدمها فمقتضى الأصل
استصحاب عدم التذكية.ودليلهم على إباحة ذلك روايات كثيرة واردة في سوق المسلمين، ويد المسلم تدلّ على معاملتها معاملة المذكّاة، وكأنّ الشارع اعتبر تداولها من قبل المسلمين أمارة شرعية على تذكيتها. وللتفصيل أكثر راجع مصطلحات (يد المسلم) و (سوق المسلمين) و (بلاد المسلمين) و (ذبائح).
إباحة الأئمّة عليهم السلام للخمس والأنفال:
دلّت مجموعة كبيرة من الروايات ربّما بلغت حدّ
التواتر على إباحة الأئمّة عليهم السلام- في الجملة- بعض الحقوق الراجعة إليهم كحقّهم في الخمس
والأنفال وغيرها.فمن ذلك ما ورد في مكاتبة
إسحاق بن يعقوب عن
الإمام الحجّة عليه السلام : «وأمّا المتلبّسون بأموالنا فمن استحلّ منها شيئاً فأكله، فإنّما يأكل النيران، وأمّا
الخمس فقد ابيح لشيعتنا وجُعلوا منه في حلّ إلى أن يظهر أمرنا، لتطيب ولادتهم ولا تخبث».
ومنها: صحيحة الفضلاء عن
أبي جعفر عليه السلام قال: قال
أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام: «هلك الناس في بطونهم وفروجهم؛ لأنّهم لم يؤدّوا إلينا حقّنا، ألا وإنّ شيعتنا من ذلك وآباءهم(أبناءهم خ. ل) في حِلّ».
ومنها: صحيحة
الحرث النضري عن
الصادق عليه السلام قلت له: «إنّ لنا أموالًا وتجارات ونحو ذلك وقد علمت أنّ لك فيها حقّاً، قال: فلم أحللنا إذاً لشيعتنا إلّا لتطيب ولادتهم، وكلّ من والى آبائي منهم في حلٍّ ممّا في أيديهم من حقّنا، فليبلّغ الشاهد الغائب»
وغيرها.وقد وقع بين الفقهاء خلاف في هذه الإباحة من جهتين:
الجهة الأولى: في حدود هذه الإباحة وأنّها هل تعمّ جميع حقوق
الأئمّة عليهم السلام وفي حال حضورهم وغيبتهم؟ أم تختصّ ببعض حقوقهم كخصوص الفيء والأنفال، أو خصوص الخمس أو بعض موارده كأرباح المكاسب مثلًا، أو خصوص ما ينتقل إلى
الشيعة من المخالفين الذين لم يخمّسوا ما حصل في أيديهم، أو بسهم خاصّ منه كسهم الإمام عليه السلام فقط، أو بنوع خاصّ من الأموال كالمناكح والمساكن، أو بعصر وزمان خاصّ كعصر حضور عليّ أو الأئمّة المعصومين عليهم السلام أو عصر الغيبة فقط؟.
الجهة الثانية: في تفسير هذه الإباحة وأنّها هل هي إباحة شرعية أي بحكم الشارع، أو إباحة مالكية أي من قبل المالك أو الولي للخمس والأنفال وهو الأئمّة المعصومين عليهم السلام؟ وما يترتّب على كلّ واحد من التفسيرين من آثار وثمرات، يطلب تفصيل ذلك في مصطلحي (خمس) و (أنفال).
المباحات العامّة:
وهي الأشياء التي جعلها الشارع مباحة أو مشتركة للجميع، وهي على قسمين:
۱- ما أباح الشارع وأذن في
الانتفاع به دون تملّكه أو استهلاكه.
۲- ما أباح الشارع وأذن فيه حتّى على وجه التملّك أو
الاستهلاك .
القسم الأوّل ربّما يسمّى بالمشتركات أو المنافع العامّة كالطرق والشوارع والمساجد ونحوها؛ فإنّها مشتركة بين الناس جميعاً يحقّ لهم الانتفاع بها، ولا يحقّ لهم تملّكها ولا استهلاكها؛ لأنّها إمّا أوقاف عامّة كالمساجد فلا يجوز استهلاكها ولا تملّكها، أو من شئون وحريم المدن والمساكن التي تكون متعلّقاً لحقّ عامّة الناس.نعم، يحقّ للحاكم وإمام المسلمين في هذا القسم التصرّف والتغيير فيه بما يراه مصلحة للناس بحكم ولايته العامّة.وتفصيله يطلب من مظانّه.والقسم الثاني على ثلاثة أنواع أيضاً:
أ- ما لا يكون مملوكاً أصلًا، كالأنهار والبحار والغابات وما فيها من المياه والحيوانات والثروات الطبيعيّة الاخرى.
ب- ما يكون مملوكاً ملكاً عامّاً أي يكون للإمام، ويسمّى بالأنفال، كالمعادن وأراضي الموات ورءوس الجبال وبطون الأودية والآجام وغيرها.
ج- ما يكون مملوكاً ملكاً خاصّاً فأعرض مالكه عن ملكيّته زهداً فيه أو يأساً منه؛ فإنّ بعض الفقهاء ذهبوا إلى خروجه عن ملكه
بإعراضه وصيرورته مباحاً عامّاً، ومن قال بعدم خروجه عن ملك مالكه مع ذلك أباح التصرّف فيه للغير بإعراض صاحبه بل وتملّكه أيضاً.
وعنوان المباحات العامّة يطلق على النوع الأوّل في فقهنا، وقد يطلق في المذاهب الاخرى وعند فقهائنا أيضاً من باب التوسعة على كلا النوعين.وهذا القسم بجميع أنواعه يباح فيه الاستهلاك والتملّك فضلًا عن الانتفاع.
إلّا أنّ تملّك هذه الثروات تختلف كيفيّتها وأسبابها:
فبالنسبة للثروات المنقولة كمياه البحاروالأنهار وما فيها من الغوص والأسماك وغيرها وأشجار الآجام وما فيها من الثروات المنقولة قابلة للتملّك بالحيازة والأخذ.قال
الحلبي : «من حفر بئراً أو قناة أو نهراً.. جاز له بيع.. ما يتناوله من الماء المباح وغيره؛ لأنّه
بالحيازة صار ملكاً».
وقال
العلّامة الحلّي : «لا يجوز بيع المباحات بالأصل قبل الحيازة كالكلأ والماء والسمك والوحش».
وقال أيضاً: «الأشياء المباحة في الأصل كالصيود والأحجار والأشجار، فإن لم يكن عليه أثر لهم فهو لواجده وليس غنيمة».
والمعادن وحريمها قابلة للتملّك
بالاستخراج .
قال
ابن إدريس : «المعدن يملك منه أصحاب الخمس خمسهم والباقي لمن استخرجه إذا كان في المباح، فأمّا إذا كان في الملك فالخمس لأهله والباقي لمالكه».
والأراضي الموات قابلة للتملّك أو حقّ
الاختصاص بالإحياء، لا بالحيازة ومجرّد وضع اليد عليها.والدليل على حقّ التملّك في هذا القسم من الأموال- بالحيازة والأخذ في المنقولات
وبالإحياء ونحوه في غير المنقول- ما جاء عن
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمعصومين عليهم السلام من الروايات الكثيرة، وفي بعضها: «من غرس شجراً أو حفر وادياً بديّاً لم يسبقه إليه أحد وأحيى أرضاً ميتة فهي له قضاءً من اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم»
أو «من أحيا أرضاً مواتاً فهي له».
هذا، مضافاً إلى
السيرة المتشرعيّة والعقلائيّة الممضاة شرعاً،
والإجماع على إباحة تملّك المباحات العامّة بأسبابها، وتفصيل شروط التملّك بالحيازة في المنقولات، وشروط التملّك بالإحياء والاستخراج في غيرها وحدود ما يحقّ
امتلاكه منها، ومدى استمراريّة هذا الحقّ المكتسب، وأنّه في غير المنقول ملك للرقبة أو حقّ اختصاص وأولويّة بها. كلّ هذه التفاصيل تطلب من مصطلحي (حيازة) و (إحياء الموات).
ثمّ إنّ هنا قسماً من الأموال تكون ملكاً مشتركاً للمسلمين خاصّة، وهو الأراضي الخراجيّة التي فتحها المسلمون عنوةً وأخذوها من الكفّار بالحرب والغلبة عليهم، وهي ملك لعنوان المسلمين، أي لشخصيّة حقوقيّة لا حقيقيّة.فلا يجوز
استملاكها بإحياء وغيره، بل ولا الانتفاع بها إلّا بإذن إمام المسلمين أو بعقد معه يدفع في قبال ذلك خراجاً لبيت مال المسلمين يعتبر
أجرة على انتفاعه بالأرض الخراجيّة.وقد ورد في رواياتنا عن المعصومين عليهم السلام: أنّها لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في
الإسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق بعد.
وتفصيله يطلب من مصطلح (خراج).
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۱۱۸-۱۲۴.