صحة الإباحة المعوضة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هنا يأتي عدة آراء والأقوال متعددة في صحة الإباحة المعوضة عقداً أو ايقاعاً.
۱- لا إشكال في أنّ مجرّد
الإباحة من قبل المالك ليس عقداً، بل
إيقاع أو
إبراز لمجرّد الرضا وطيب النفس بتصرّف الغير في ماله، وهو كافٍ في جواز التصرّف فيه بمقتضى ما دلّ على جوازه بطيب نفس المالك وإذنه وما دلّ على أنّ الناس مسلّطون على أموالهم.وهذا كما يشمل الإباحة المجّانية كذلك يصدق في الإباحة على وجه
الضمان لقيمته السوقيّة- سواء بالنسبة للمنفعة أو الرقبة- لأنّ هذا ليس راجعاً إلى التعاقد والتوافق بينهما، بل مرجعه إلى أنّ المالك كما له أن يأذن بالتصرّف في ماله مجّاناً كذلك له أن يأذن بالتصرّف فيه على وجه الضمان، والذي يعني أنّه لا يرضى بفوات ماليّة ماله، وإنّما يرضى بفوات عينه مع حفظ ماليّته، فيكون الضمان لماليّته بقاعدة احترام مال المسلم وعدم جواز هدره على مالكه بلا
إذنه ، وأنّه لو هدره كان ضامناً له على القاعدة.
۲- وأمّا الإباحة في قبال عوض مسمّى يتّفقان عليه فهذا يرجع إلى التعاقد إمّا بلحاظ نفس الإباحة- كما إذا جعلها في قبال العوض، وهذا ما سنشرحه الآن- أو بلحاظ التوافق على مقدار الضمان كما إذا أباحه له على وجه الضمان مع التوافق على مقدار الضمان، فيكون من هذه الجهة نحو توافق بينهما مشمولًا لعمومات الصحّة، أو للسيرة العقلائية الممضاة شرعاً؛ فإنّ
الإنسان كما هو مسلّط على بيع عين ماله أو
إجارته بعوض مسمّى كذلك هو مسلّط على ماليّة ماله، فله أن يتّفق مع الضامن له من أوّل
الأمر على مقدار الضمان، وسيأتي مزيد توضيح لذلك.
۳- وأمّا الإباحة المعلّقة على تمليك مال آخر أو إباحته فلا ينبغي أن يتوهّم كونها عقداً، وإنّما هو إيقاع وإذن مشروط، بمعنى أنّه معلّق على تقدير وليس مطلقاً، وتعليق الإذن والإيقاع لا يجعله عقداً وإن كان المعلّق عليه تمليك مال؛ إذ لا يكون فيه أيّ إلزام أو التزام من أحد الطرفين، ولهذا لا يحتاج إلى القبول، وإنّما تتوقّف فعليّة الإباحة خارجاً على تحقّق شرطه المعلّق عليه، فمتى تحقّق أصبحت الإباحة فعليّة كما إذا علّق المالك إذنه على أيّ شرط آخر.
قال
السيّد الخوئي في كتاب الإجارة- في شرح قول الماتن ( السيّد اليزدي) بصحّة
إيجار الدار كلّ شهر بدرهم بعنوان الإباحة بعوض-: «فإنّ المالك كما تسوغ له الإباحة المجّانية، كذلك يمكنه بمقتضى عموم دليل السلطنة تخصيص الإباحة بمن يبذل له عوضاً معيّناً، فيبيح السكونة في الدار لخصوص من يعطي عن كلّ شهر درهماً مثلًا.ولكن شيخنا الاستاذ قدس سره ناقش فيه في الهامش بما لفظه: (إنّ عوضيّة المسمّى تتوقّف على عقد معاوضة صحيحة، وإلّا كان ما أباحه المالك بعوضه مضموناً بالمثل أو القيمة دون المسمّى)».
ثمّ قال: «وفيه: أنّ هذا إنّما يتّجه لو اريد عوضيّة المسمّى على نحو الملكية بأن يكون الطرف المبيح مالكاً لهذا العوض ومطالباً إيّاه الطرف الآخر على حدّ
مطالبة الملّاك أموالهم في باب المعاوضات؛ فإنّ هذه المالكية لا تكاد تتحقّق إلّا بعد افتراض وقوع عقد صحيح كما أفاده قدس سره.إلّا أنّ الكلام لم يكن في ذلك، بل في تصحيح هذه
المعاملة على وجه يصحّ للطرف الآخر السكنى منوطاً بدفع المسمّى، وهذا المقدار لا يتوقّف على ما ذكره من فرض العقد الصحيح، بل يكفي فيه ما عرفته في تفسير الإباحة من أنّ المبيح بمقتضى عموم سلطنة الناس على أموالهم ربّما لا يبيح المنفعة لكلّ أحد أو لهذا الشخص على سبيل
الإطلاق ، بل لطائفة خاصّة وهم الذين يبذلون هذا العوض الخاصّ، أو لهذا الشخص في تقدير دفع العوض المعيّن وهو عن كلّ شهر درهم بحيث لا يرضى بالتصرّف في تقدير عدم دفع هذا المبلغ المعيّن، بل يكون غاصباً وقتئذٍ وضامناً للقيمة لا محالة».
۴- وأمّا الإباحة مع اشتراط تمليك العوض على غرار الشروط ضمن العقود- وهو القسم الثاني من الأقسام الأربعة المتقدّمة- فقد يقال: إنّ هذا لا يجعل الإباحة عقداً أيضاً، وإنّما هي مجرّد إباحة أو إذن في التصرّف مع اشتراط شرط على المباح له بدفع العوض، وهذا شرط
ابتدائي لا أثر له.هذا، ولكن يمكن
إرجاع الاشتراط المذكور بحسب الحقيقة إلى تقييد الإباحة بالالتزام الشرطي، فالإباحة وإن لم تكن في مقابل العوض، إلّا أنّها ليست مطلقة، بل مقيّدة ومعلّقة على
الالتزام بالشرط كما هو الحال في سائر الشروط ضمن العقود؛ إذ لا يقصد بالضمنيّة في العقود مجرّد التقارن الزماني أو الظرفية، وإنّما المقصود
الارتباط وتقييد الإنشاء العقدي بالشرط، ولكن لا بمعنى تقييده بتحقّق المشروط ليلزم منه تعليق العقد على تحقّق الشرط فيبطل، بل بمعنى تقييده بالالتزام الشرطي الحاصل حين العقد، كما أنّ الالتزام بالشرط مقيّد لبّاً وثبوتاً بالإباحة، فإذا لم تتحقّق الإباحة أو رجع عنها المالك فلا التزام بدفع البدل من قبل الآخر.فالمقام نظير الشروط ضمن العقود أو الإيقاعات، فيكون هذا شرطاً غير ابتدائي مشمولًا لعموم «المسلمون عند شروطهم»، فيكون نافذاً، ويجب الوفاء على الطرف الآخر على تقدير الإباحة من الطرف الأوّل.نعم، لا يكون المبيح حينئذٍ ملزَماً بالإباحة، قال السيّد الخوئي: «وأمّا الوجه الثاني، فإن كان الشرط فيه من قبيل شرط النتيجة فبقبول المباح له ينتقل ماله إلى المبيح، وإن كان ذلك من قبيل شرط الفعل فيجب عليه التمليك لوجوب الوفاء بالشرط»،
وسيأتي مزيد توضيح لذلك لاحقاً.
۵- وأمّا الإباحة في مقابل العوض- القسم الأوّل- فقد تقدّم تقسيمها في بعض الكلمات إلى أقسام ثلاثة:
۱- مقابلة المباح مع العوض، فيكون من المقابلة بين المالين في الإباحة أو في الإباحة من طرف والملك من طرف آخر.
۲- مقابلة الإباحة مع الإباحة أو التمليك، فيكون من المقابلة بين الفعلين.
۳- مقابلة المال مع الفعل بأن يكون فعل التمليك أو الإباحة في قبال المال المباح أو المملّك فيكون من مقابلة المال مع الفعل.تقييم هذا التقسيم:
۱- وهذا التقسيم إن أريد منه أنّ
المقابلة المأخوذة في
إنشاء الإباحة بعوض تارة يكون بأخذها ولحاظها بين المالين، وأخرى بلحاظها بين الإباحتين أو الإباحة والملك فهذا صحيح، إلّا أنّه مجرّد اختلاف في الصياغة والإنشاء؛ إذ على كلا التقديرين يكون المنشأ هو الإباحة الفعليّة المقيّدة، أي لا يكون المنشأ هو الإباحة بلا مقابل، بل الإباحة المقابلة بعوض سواء لوحظ التقابل بالنحو الأوّل الذي هو من تقييد متعلّق الإباحة بوجود مقابل وعوض له على غرار قيود المتعلّق، أو بالنحو الثاني الذي هو من تقييد نفس الإباحة على غرار قيود الحكم.وهذا جارٍ في التمليك بعوض أيضاً فإنّه تارة تُنشأ المبادلة بينهما في الملكية أي تمليك المال المقابل مع مال آخر، واخرى يُنشئ تمليك كلٍّ منهما مقيّداً بتمليك الآخر.وكلّ هذا من التفنّن في
الصياغة ؛ إذ الإباحة والتمليك على كلّ تقدير منشأ بالفعل بنحو مقيّد بمقابله، فلا يحتاج إلى إنشاء آخر لهما.
۲- وإن أريد منه المقابلة بين فعلي الإباحة والتمليك أو الإباحة والإباحة بحيث تقع
المبادلة بين الفعلين فهذا لا يتصوّر إلّا بجعل فعل الإباحة أو التمليك عوضاً وبدلًا في المعاملة، نظير تمليك العمل في إجارة الأعمال، وعندئذٍ يكون لكلٍّ منهما على الآخر عمل التمليك أو الإباحة، فلا تتحقّق إباحة ولا ملك العوض بمجرّد وقوع المعاملة منهما.قال
المحقّق الخراساني : «لو كان الغرض من المعاملة المقابلة بين التمليكين بأن يكون عمل كلّ منهما وتمليكه جعل بإزاء عمل الآخر وتمليكه لم يقع بهذه المعاملة تمليك من أحدهما، بل يستحقّ كلٌّ على الآخر بعد وقوعها تمليك الآخر وفاءً بها كسائر الأعمال إذا وقعت المعاوضة بينهما، كما لا يخفى»».بل هذا بحسب الحقيقة من المبادلة بين مالين في الملكيّة أو الحقّية، إلّا أنّ المالين أو أحدهما فعل التمليك أو الإباحة؛ فإنّ المال أعمّ من العين والمنفعة والعمل.ولازمه كما ذكر المحقّق الخراساني عدم تحقّق الإباحة ولا ملك العوض بذلك، وهو خارج عن المقصود في موارد الإباحة المعوّضة.
بل ذهب بعض الفقهاء إلى عدم معقوليّته، قال
المحقّق الاصفهاني : «أصل المقابلة بين التمليكين فيه غموض وخفاء؛ فإنّ التمليك
بالإعطاء حال تعلّقه بمتعلّقه ملحوظ آليّ، وفي جعل نفسه معوّضاً يحتاج إلى لحاظ استقلالي، ولا يعقل
اجتماع اللحاظين المتباينين في ملحوظ واحد، فلا بدّ من أن يكون هذه المعاملة في ضمن معاملة أخرى كالصلح على التمليك بإزاء التمليك، فيستحقّ كلٌّ منهما التمليك من الآخر بإزاء تمليك نفسه» .وهذا المحذور الذي ذكره راجع إلى مقام
الإثبات ، أي لا يمكن إنشاء المبادلة بين الفعلين
بالمعاطاة ؛ لأنّ الملحوظ فيها النظر إلى المال المُعطى، لا عمليّة الإعطاء نفسه الذي هو التمليك أو الإباحة، ولهذا ذكر إمكانه إذا قصد ذلك مستقلًاّ ضمن معاملة أخرى كالصلح على التمليك بإزاء تمليك أو إباحة بإزاء إباحة.وقال السيّد الخوئي: «لا نتصوّر وجهاً معقولًا للمبادلة بين تمليكين؛ فإنّ المبادلة لا بدّ وأن تكون بين مالين موجودين إمّا خارجاً أو
اعتباراً في الذمّة، وأمّا ما كان موجوداً في زمان وانعدم فلا معنى لتبديله، والمقام من هذا القبيل؛ فإنّ التمليك الذي ينعدم بقوله ملّكتك لا معنى لتمليكه لشخص آخر ثبوتاً.وأمّا إثباتاً فلا يمكن إنشاؤه بقوله:ملّكتك الدار مثلًا، بل لا بدّ في ذلك من وقوع عقد آخر على نفس التمليك بأن يقول: آجرتك على أن تملّكني دارك بإزاء تمليكي البستان.وبالجملة: جعل التمليك بإزاء التمليك ممنوع ثبوتاً وإثباتاً».
وهذا المحذور أيضاً إثباتيّ، وكأنّ مقصوده أنّه لا معنى للمبادلة بين التمليكين بنفس فعل التمليك- كما في المعاطاة- وإلّا فمن المستبعد أنّه لا يرى
إمكان تمليك الأعمال مستقلًاّ والتي منها فعل التمليك أو الإباحة، كيف! وهو واقع في باب إجارة الأعمال، فإنّ التفسير الفقهي المشهور لها أنّها تمليك العمل في قبال الأجرة.وعليه، فيعقل جعل فعل الإباحة أو المال المباح في قبال فعل تمليك العوض أو إباحته، فيستحقّ بذلك الطرفان أو أحدهما على الآخر فعل التمليك أو الإباحة لا المال، فلا بدّ من إنشاء تمليكه أو إباحته بعد ذلك.
نعم، هذا خلاف المقصود في موارد الإباحة بعوض كما أشرنا، بل لعلّ تمليك الأفعال الاعتبارية والتصرّفات القانونيّة كالتمليك والإباحة ونحوها غير عرفيّ أساساً؛ لأنّ التمليك أو الإباحة للأموال لا يكون مقصوداً
بالاستقلال كالأعمال الأخرى، من قبيل الخياطة والكتابة، وإنّما يلحظ آليّاً وطريقاً إلى تحصيل نفس المال، فلا تقابل بالمال ولا تقع عوضاً أو معوّضاً في المعاوضات، وإنّما يعقل أن تقع شرطاً ضمن العقد. وعلى هذا الأساس حكم المحقّق النائيني
ببطلان مثل هذه المعاملة حيث قال في بيان الوجه في بطلانها: «إنّ العمل الذي يقابل بالمال يشترط كونه مقصوداً بالاستقلال، لا آليّاً وطريقاً لتحصيل المال كما في المثال؛ لأنّه ليس التمليك بالمعنى المصدري مالًا، بل المال هو الحاصل من المصدر، وليس هذا الفعل إلّا آلة لحصول اسم المصدر، فلا يمكن أن يقابل بالمال، وفرق بين
البيع بإزاء التمليك وبيع المال على أن يخيطه ثوباً أو يجري له صيغة عقد أو يبيع مالًا من أموال البائع؛ فإنّ الفعل في الأوّل آليّ، بخلاف الثاني فإنّه استقلالي يبذل بإزائه المال».
وعلى كلّ تقدير لا بدّ وأن يقصد بالإباحة في مقابل العوض إنشاء الإباحة من طرف المبيح فعلًا، ولكن في قبال تملّك مال الآخر فعلًا أو إباحته أو تملّك عمل على ذمّة الآخر، وهو أن يملّكه المال الآخر أو يبيحه له، بناءً على عرفيّته وصحّته.وقد اختلف الفقهاء المتعرّضون لهذا النحو من
الإباحة المعوّضة في صحّتها وعدم صحّتها بعنوان أنّها معاملة مستقلّة:
أ- فذهب جملة منهم إلى صحّتها، بعنوان معاملة مستقلّة برأسها.ولا شكّ أنّه على القول بصحّتها بهذا العنوان تكون عقداً من العقود؛ لأنّ فيها تمليك مال أو عمل في مقابل إباحة مال آخر، وهو تصرّف اعتباري والتزام في الأموال راجع لطرفين، فيحتاج إلى التوافق والقبول منهما معاً، ولا يمكن أن يستقلّ به طرف واحد، وهذا هو العقد.ومن هنا استدلّ القائلون بصحّتها أيضاً إلى أدلّة نفوذ العقد كعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»،
أو حلّية
التجارة عن تراضٍ أو البيع، أو عموم «المسلمون عند شروطهم» بناءً على شمولها للعقود أيضاً.وقد جعلها بعضهم مصداقاً لعقد الصلح بعد
الإشكال في كونها معاوضة متعارفة ومعهودة.
قال
الشيخ الأنصاري : «وأمّا الكلام في صحّة الإباحة بالعوض... فمحصّله: أنّ هذا النحو من الإباحة المعوّضة ليست معاوضة ماليّة ليدخل كل من العوضين في ملك مالك العوض الآخر، بل كلاهما ملك للمبيح، إلّا أنّ المباح له يستحقّ التصرّف، فيشكل
الأمر فيه من جهة خروجه عن المعاوضات المعهودة شرعاً وعرفاً، مع أنّ التأمّل في صدق التجارة عليها فضلًا عن البيع، إلّا أن يكون نوعاً من الصلح لمناسبة له لغة؛ لأنّه في معنى
التسالم على أمرٍ بناءً على أنّه لا يشترط فيه لفظ (الصلح) كما يستفاد من بعض الأخبار الدالّة على صحّته بقول المتصالحين: «لك ما عندك ولي ما عندي» ونحوه ما ورد في مصالحة الزوجين، ولو كانت معاملة مستقلّة كفى فيها عموم: «الناس مسلّطون على أموالهم» و «المؤمنون عند شروطهم»».
وقد ناقش أكثر المحقّقين والأعلام الإشكال الذي طرحه الشيخ الأنصاري، كما ناقشوا
اندراجها تحت عقد الصلح. قال المحقّق الخراساني: «إنّما يشكل من هذه الجهة إذا اريد الاستدلال عليه بما دلّ على صحّتها بعناوينها، وإلّا فلا إشكال في صحّة الاستدلال عليها ب «المؤمنون عند شروطهم» وب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، إلّا أن يدّعى أنّ المراد بالعقود هي المعهودة المتعارفة منها لا مطلقاً، وهو كما ترى».
وقال المحقّق الاصفهاني: «قد عرفت مراراً أنّ المعاوضة والمبادلة من المعاني غير المستقلّة في التحصّل، بل لا بدّ من أن يكون بلحاظ أمر، والمعاوضة الماليّة لا بدّ من أن تكون بلحاظ أمر يناسب المال بما هو مال، ولا
اختصاص للأمر الملحوظ في المبادلة بالملكية، بل تصدق المعاوضة بقيام كلٍّ منهما مقام الآخر في الملكية والهبة والإباحة ولو باختلاف الأطراف بأن يكون أحدهما ملكاً والآخر حقاً أو مباحاً. وأمّا عدم صدق البيع فليس من حيث اختلاف الطرفين في الملكية والإباحة، بل من حيث إنّه تمليك عين بعوض، وهذا إباحة مال بعوض، وإلّا فلو فرضنا تمليك ماله بإزاء مال مباح له بالإباحة المطلقة لم يكن وجه لمنع صدق البيع عليه حيث إنّ حقيقته- كما عرفت- هو التمليك لا مجّاناً، بل قد عرفت سابقاً أنّ دائرة البيع أوسع من ذلك»
وقال
السيّد الطباطبائي اليزدي : «لا يضرّ ذلك؛ لأنّه يشمله العمومات من قوله «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» و «الناس مسلّطون» و «المؤمنون» ونحوها.ودعوى
انصرافها إلى المعهود كما ترى، فهو نوع من العقد، بل من التجارة؛ إذ ليست إلّا الاكتساب ويصدق في المقام. ولا يلزم في
المعاوضة المالية أن يكون المبادلة بين المالين من حيث الملكية، بل قد يكون من حيث الإباحة من أحد الطرفين أو كليهما- حسبما عرفت- فلا وقع لهذا الإشكال أصلًا.
والتحقيق: أنّها معاوضة مستقلّة، وليست داخلة تحت الصلح؛ لعدم اعتبار معنى التسالم المعتبر فيه فيها»
وقال
المحقّق الايرواني : «ففيه (خروج هذه المعاملة عن المعاملات المعهودة شرعاً) منع؛ فإنّ الدخول في الحمّامات مع إعطاء العوض من المعاملات الشائعة من عصر الشارع إلى زماننا هذا، وكذلك الدخول في المطاعم وأشباه ذلك، والظاهر أنّ الكلّ من قبيل الإباحة بالعوض، ويشبه أن يكون المقام من قبيل العارية بعوض، مع أنّ عدم المعهودية لا يضرّ بعد شمول عموم أدلّة المعاملات له من مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» و «الناس مسلّطون»... ولا تأمّل في صدق التجارة من جانب المبيح بعوض المتملّك للمال بإباحته.بل لا يبعد صدقه من جانب المملّك؛ لأنّ
استباحة أموال الناس نوع من
الاتّجار . مع أنّ غاية ذلك منع التمسّك بآية «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»، كما أنّ عدم كونه بيعاً يمنع التمسّك بآية «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»، وأمّا آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فلا مانع من التمسّك بها، مضافاً إلى ما تمسّك به المصنّف من دليل السلطنة وعموم «المؤمنون» بناءً على صدق الشرط على الالزام والالتزام الابتدائي».
وقال
السيد الإمام الخميني : «ثمّ لو فرض عدم صدق البيع عليه، فلا ينبغي الإشكال في صدق التجارة عليه وكذا صدق العقد، بعد ما تقدّم صدقه على
المعاطاة ، فهو تجارة صحيحة وعقد لازم واجب الوفاء»
وقال السيّد الخوئي: «وهذا لا شبهة في صحّته ولزومه؛ للعمومات الدالّة على صحّة العقود ولزومها.
ودعوى: أنّ الإباحة من قبيل الأعمال والأفعال فهي لا تكون عوضاً في العقود المعاوضيّة، دعوى جزافية؛ لأنّا ذكرنا في أوّل الكتاب أنّ عمل الحرّ وإن لم يكن مبيعاً في البيع ولكن يصحّ جعله عوضاً فيه، وإذن فلا نعرف وجهاً صحيحاً لما ذكره المصنّف من التأمّل في صدق التجارة عن تراضٍ على الإباحة المعوّضة، وأمّا
الاستدلال على صحّة ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «المؤمنون عند شروطهم» فيرد عليه:
أوّلًا- أنّ الشرط في اللغة بمعنى الربط بين شيئين، ومن الواضح أنّ الشروط الابتدائية لا يصدق عليها عنوان الشرط، فتكون خارجة عن حدود الرواية.وثانياً- أنّا لو سلّمنا شمول الرواية للشروط الإبتدائية ولكن ليس المراد من الالتزام هو الالتزام الوضعي بمعنى أنّ ما التزم به المؤمن لا يزول بفسخه، بل المراد من ذلك إنّما هو الالتزام التكليفي، أي يجب على كلّ مؤمن الوفاء بشرطه؛ لأنّه من علائم
إيمانه »
وقال في صدر كلامه: «والتحقيق أنّ الإباحة بعوض خارجة عن حدود الصلح بداهة أنّها مغايرة لمفهوم الصلح، ومجرّد
انطباق مفهوم التسالم عليها لا يجعلها من مصاديق المصالحة، وإلّا لزم
إرجاع جميع العقود حتى النكاح إلى الصلح
حيث اعتبروها عقداً ومعاملة مستقلّة لا ربط لها بعقد الصلح، ولا يشترط فيها
إنشاء مفهوم التصالح صريحاً أو ضمناً كما هو مقتضى عقد الصلح، بل هي عقد برأسه ينشأ فيه الإباحة في مقابل تمليك العوض أو إباحته، فيكون مشمولًا لعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «المسلمون عند شروطهم» بناءً على شموله للعقود أيضاً وعدم اختصاصه بالشروط ضمن العقود.بل توسّع بعضهم وجعلها مشمولة لعموم «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»؛ لأنّ التجارة مطلق التكسّب و «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» خصوصاً إذا كان تمليك مال في قبال الإباحة؛ لأنّ العمل وإن لم يكن مبيعاً في البيع، ولكن يصحّ جعله عوضاً فيه.
ب- وفي قبال ذلك أصرّ المحقّق النائيني على بطلانها وعدم صحّتها لا بعنوان الصلح- لما ذكر- ولا بعنوان التجارة ومعاوضة مستقلّة لأنّها لا بدّ وأن يكون التكسّب فيها من الطرفين لا من طرف واحد، والمباح له لم يكتسب مالًا، ولا بعنوان العقد؛ لعدم وجود التزام من طرف المبيح للآخر، وإنّما مجرّد إذن يترتّب عليه جواز التصرّف شرعاً قال: «التحقيق فساد هذه المعاملة وعدم صحّتها لا صلحاً ولا بعنوان المعاملة المستقلّة؛ وذلك لما تقدّم وجهه من عدم تحقّق معنى المعاوضة أصلًا؛ لعدم ورود شيء مكان المال الذي يخرج عن المباح له، وجواز
الانتفاع من مال المبيح ليس شيئاً يمكن أن يقع في طرف خيطه؛ لأنّه حكم شرعي مترتّب على إباحة المبيح، ولا يكون ملكاً كالعين والمنفعة، ومع عدم صدق
المعاوضة عليها فلا يشملها شيء من العمومات لا دليل الصلح، ولا دليل التجارة، ولا عموم «المؤمنون»، ولا شيئاً من الأدلّة.ومنه يظهر سقوط التمسّك بالعمومات لإثبات لزومها أيضاً.ثمّ على تقدير الصحّة فالتمسّك بالعموم لإثبات اللزوم حتى من طرف المبيح لا يخلو عن الغرابة، وإلّا يصحّ التمسّك لإثبات لزوم كلّ إباحة.وهذا كما ترى؛ فإنّ المبيح ما التزم بشيء أصلًا».
ووافقه عليه تلميذه السيّد الخوئي في أحد تقريريه، ولكن مع الحكم بصحّتها بعنوان الإباحة المعلّقة أو المشروطة، وهي ليست بعقد كما تقدّم.قال قدس سره: «وتحقيق ذلك: أنّ التمليك والإباحة قد يقعان مورداً لعقد آخر من صلح أو
إجارة أو بيع كما إذا تصالح المبيح والمملِّك على الإباحة والتمليك وأنشئاه بعنوان الصلح أو آجر كلّ منهما الآخر على ذلك، أو باع أحد شيئاً وجعل ثمنه الإباحة، أي تمليك عمل الإباحة.وقد تنشأ الإباحة في مقابل التمليك من دون تعلّق عقد بهما.
أمّا الأوّل، فلا إشكال في صحّته ولزومه، فيجب على كلٍّ منهما العمل بما التزم به ويملك كلّ منهما ذلك على الآخر، نعم وجوب الإباحة على المبيح تكليفي لا وضعي، فله الرجوع وضعاً متى شاء، بخلاف التمليك على الطرف الآخر، وعليه فإن أباح المبيح وكان مورد العقد الإباحة في الجملة لا يجوز للمالك الرجوع؛ لأنّه من أكل المال بالباطل، وأمّا إذا لم يبح أو كانت الإباحة مستمرّة- كما هو الظاهر- ورجع في الأثناء ثبت الخيار للمالك من باب تخلّف الشرط.
وأمّا الثاني، فقد عرفت فيما سبق عدم كونه من المعاوضات المالية، وإنّما هو إباحة مشروطة أو معلّقة، ولكنّه مع ذلك صحيح على القاعدة. ويؤيّده قوله صلى الله عليه وآله وسلم «الناس مسلّطون على أموالهم» فإنّ مقتضاه تسلّط المالك على إباحة ماله للغير مشروطاً أو معلّقاً كيفما أراد.
فإن كانت إباحة مشروطة أي إباحة فعليّة مجّانية غايته قد شرط في ضمنها على المباح له تمليك ماله فيجب عليه الوفاء به؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم «المؤمنون عند شروطهم» جاز للمبيح الرجوع عن إباحته مهما أراد، ولكن المملّك ليس له الرجوع
ابتداءً ؛ لأنّ تمليكه لم يكن هبة مجّانية لتكون جائزة وإنّما كانت في مقابل الإباحة، فهي هبة معوّضة لازمة، إلّا إذا رجع المبيح وحينئذٍ لا يبعد أن يثبت للمملّك ذلك؛ لتخلّف الشرط.
وأمّا إذا كانت إباحة معلّقة- شخصيّة أو نوعيّة- بأن تكون فعليّتها منوطة بتحقّق المعلّق عليه من دون أن يجب
إيجاده على الطرف أصلًا لعدم التزامه به فيجوز للمملِّك أيضاً الرجوع ابتداءً؛ لأنّ تمليكه كان هبة مجّانية جائزة إلّا إذا كانت إلى ذي رحم فتكون لازمة لا يجوز له الرجوع، إلّا إذا رجع المبيح فيثبت له خيار تخلّف الشرط. ولا ينافيه إطلاق ما دلّ على لزوم الهبة إلى ذي رحم؛ فإنّه ناظر إلى لزومها من حيث كونها هبة، فلا مانع من ثبوت الخيار فيها من جهة أخرى»
وحلّ هذا
الاختلاف يتوقّف على تحليل مضمون الإباحة بالعوض؛ فإنّه لو كان مضمونها
الإذن والرضا بتصرّف الغير بعوض فهذا ليس إلّا مجرّد طيب النفس المبرز مشروطاً أو معلّقاً على العوض، فيتمّ ما ذكر من أنّه ليس معاوضة؛ لأنّه لم ينتقل شيء من كيس المبيح للمباح له، ولا عقداً؛ لأنّه لم يلتزم المبيح بشيء للمباح له، وإنّما أبرز رضاه وطيب نفسه مشروطاً بالعوض الموجب لجواز التصرّف شرعاً، فيزول كلّما زال الرضا وطيب النفس وتدور الإباحة مداره، وهذا ليس معاملة.
وأمّا إذا كان مضمونها إنشاء الإباحة في مقابل العوض مع الالتزام بذلك من قبل المبيح في قبال التزام الآخر بالعوض فهذا بحسب الحقيقة قرار معاملي والتزام في مقابل التزام، فيكون معاملة وعقداً يتّفق عليه الطرفان، ويكون مشمولًا لعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» سواء كان متعارفاً أم لا؛ فإنّ عدم التعارف لا يمنع العموم. على أنّه متعارف- كما أشار إليه بعض الفقهاء- بل قد يصدق عليه عنوان
التجارة والتكسّب أيضاً؛ لما فيه من النفع المالي للطرفين، ويمكن أن نسمّيه بالإباحة العقديّة.إلّا أنّه ينبغي البحث عندئذٍ في مضمون هذه الإباحة العقديّة من جهتين:
الأولى- فرقها عن الإجارة التي يصحّ فيها أيضاً للغير التصرّف والانتفاع بالعين المستأجرة.وحاصلها: أنّه في الإجارة تنتقل المنفعة أو حقّ الانتفاع والتسلّط على العين إلى المستأجر وتخرج عن حقّ مالك العين، ومن هنا تكون الإجارة من عقود التمليك ونقل الحقّ إلى الغير، وهذا بخلاف الإباحة العقديّة؛ فإنّها ليست متضمّنة
لانتقال شيء من المبيح إلى المباح له، وإنّما مجرّد الإذن وإباحة التصرّف ما دام المال مملوكاً له مع بقائه رقبةً ومنفعة على ملك مالكه.
الثانية- أنّ الالتزام بالإباحة هل يكون على غرار
الالتزام بالأفعال، فالمبيح في الإباحة العقديّة يبيح ماله للغير ويلتزم
بإبقاء هذه الإباحة والإذن في المدّة المقرّرة ما دام المال في ملكه، أو أنّه ينشئ عنوان الإباحة والمأذونية على غرار إنشاء النتائج والإضافات الوضعيّة الاعتباريّة، كإنشاء الملكيّة والزوجيّة والحقوق الوضعيّة الاخرى؟ظاهر جملة من القائلين بكون الإباحة المعوّضة عقداً مستقلًاّ هو الثاني، وظاهر بعضهم الأوّل.
والظاهر أنّ نقاش المحقّق النائيني وبعض من تابعه بأنّ الإباحة حكم شرعي وليس طرفاً
لإضافة اعتبارية إلى المالك، فلا معنى لإنشائه من قبل المبيح يرجع إلى هذا المعنى للإباحة العقديّة. وهذا نقاش وجيه.ويترتّب على كلٍّ من التحليلين والتفسيرين للإباحة العقديّة أثر مهمّ؛ فإنّه على الأوّل يكون رجوع المبيح مؤثّراً في
ارتفاع الإباحة وإن كان ممنوعاً عليه تكليفاً ومحرّماً.
وعلى الثاني يكون رجوعه غير مؤثّر، فتكون الإباحة المعوّضة على هذا لازمةً تكليفاً ووضعاً. وهذا ما سيأتي الحديث عنه عند البحث عن لزوم الإباحة المعوّضة.وقد يحاول تخريج الإباحة بعوض على أساس عقد الجعالة؛ بأن يقول الجاعل:من يملّكني درهماً ابيح له سكنى داري شهراً مثلًا، فتشمله أدلّة صحّة الجعالة، فلا يكون عقداً مستقلًاّ بل مصداقاً من مصاديق عقد الجعالة.ويمكن أن يلاحظ على هذا التخريج:
أوّلًا- أنّ
الجعالة إنّما تصحّ فيما تصحّ فيه الإجارة، أي في عمل يمكن أن يبذل بإزائه المال والأجرة.وقد تقدّم عن بعض الفقهاء كالمحقّق النائيني
الإشكال في صحّة جعل العوض في قبال عمل لا يكون ملحوظاً إلّا آليّاً وطريقاً إلى المال وليس بنفسه المال كفعل التمليك، كما إذا آجره ليملّكه ماله، بل المقابلة في مثل هذه الموارد تكون بين المالين، فيرجع في المقام إلى الإباحة في مقابل العوض.
وثانياً- أنّ اللازم في عقد الجعالة التزام الجاعل بالجعل للعامل ليكون عقداً، ومجرّد الإذن والإباحة ليس فيه التزام، إلّا إذا كان المقصود التزام المبيح بها لا مجرّد الإباحة، فيتوقّف على ما ذكرناه في بيان وجه عقديّة الإباحة بعوض من كونه التزاماً بالإباحة زائداً على الإذن، فيمكن أن يكون عقداً مستقلًاّ والتزاماً في قبال التزام بدفع العوض، كما هو كذلك عرفاً.نعم، هذا لا يدفع معقوليّة الجعالة أيضاً، وأثرها عندئذٍ: أنّ التزام المبيح بالإباحة معلّق على تمليك العوض من الآخر، وليس في قبال التزام الآخر، فلا إلزام ولا التزام من قبل الآخر بالتمليك، بل الأمر بالعكس على تقدير التمليك والهبة للعوض تلزم الإباحة على المبيح؛ لأنّه ملتزم به بعقد الجعالة بحسب الفرض.
كما يمكن أن تكون الجعالة من طرف صاحب العوض، فهو يجعل لمن يبيح له المال العوض، فيكون ملتزماً بدفعه إذا أباح له المال.
وهكذا يتّضح أنّه يعقل تصوير الإباحة بالعوض بنحو يرجع إلى عقد ومعاملة مستقلّة فيها التزام بالإباحة في مقابل العوض على حدّ العقود والالتزامات الأخرى، كما قد ترجع إلى عقد الجعالة بناءً على صحّتها في كلّ عمل، نعم لا تنحصر الإباحة بعوض بذلك، بل يمكن أن تكون مجرّد إباحة معلّقة أو مقيّدة بالعوض من دون التزام في البين، فلا يكون عقداً حينئذٍ، كما لا يكون المبيح ملزماً بها، كما تقدّم شرحها ويأتي الحديث عن الفروق والآثار المترتّبة عليها.
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۱۶۰-۱۷۳.