أهل الكتاب (ذبائحهم)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
أهل الكتاب (توضيح) .
رغم
اتّفاق الفقهاء على عدم
حلّية ذبائح الكفّار،
إلّاأنّهم اختلفوا في
أهل الكتاب على عدّة أقوال:
وهو
المشهور بينهم
شهرة عظيمة،
بل ادّعي عليه
الإجماع في جملة من الأعصار المتأخّرة عن
الصدوقين ،
وكذا الأعصار المتقدّمة عليهما،
كما حكاه المرتضى و
الشيخ الطوسي مؤكّدين على أنّ
القول بعدم الحلّية ممّا انفردت به
الإمامية .
واستدلّوا له: أوّلًا: من
الكتاب بقوله تعالى: «وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ
لَفِسْقٌ »،
فإنّ
الكافر لا يعرف
اللَّه ، ولا يرى
التسمية على
الذبيحة فرضاً ولا سنّة حتّى يذكر اللَّه عليها حين
الذبح .
واورد عليه: بأنّ
النهي في الآية إنّما ورد في
أكل ما لم يُذكر اسم اللَّه عليه، سواء كان المذكّي
مسلماً أو كافراً، فإذا ذُكر اسم اللَّه عليه جاز أكله؛ لقوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ»؛
لأنّ
المنع من جهة عدم التسمية لا من جهة اخرى، على أنّ
اعتقاد أهل الكتاب بأنّ
عُزيراً ابن اللَّه أو أنّ
المسيح ابن اللَّه لا يخرج الكتابي عن كونه
مقرّاً باللَّه تعالى.
وثانياً: من
السنّة بعدّة روايات
:
منها: رواية قتيبة، قال: سأل رجل
أبا عبد اللَّه عليه السلام - وأنا عنده- فقال له:
الغنم يرسل فيها
اليهودي و
النصراني ، فتعرض فيها العارضة فيذبح، أنأكل ذبيحته؟ فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «لا تُدخل
ثمنها مالك، ولا تأكلها، فإنّما هو الاسم، ولا يؤمن عليه إلّامسلم»، فقال له الرجل: قال اللَّه تعالى: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ»،
فقال له أبو عبد اللَّه عليه السلام: «كان
أبي عليه السلام يقول: إنّما هو
الحبوب وأشباهها».
ومنها: رواية
إسماعيل بن جابر ، قال: قال لي أبو عبد اللَّه عليه السلام: «لا تأكل ذبائحهم، ولا تأكل في
آنيتهم - يعني: أهل الكتاب-».
ومنها: رواية
سماعة عن
الإمام الكاظم عليه السلام قال: سألته عن ذبيحة اليهودي والنصراني، فقال: «لا تقربوها».
ومنها: رواية
زيد الشحّام ، قال: سئل أبو عبد اللَّه عليه السلام عن ذبيحة
الذمّي ، فقال: «لا تأكله، إن سمّى وإن لم يسمّ».
ومنها: ما رواه
ابن عذافر ، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: رجل يجلب الغنم من
الجبل ، يكون فيها
الأجير المجوسي والنصراني، فتقع العارضة، فيأتيه بها مملّحة، فقال: «لا تأكلها».
ومنها: رواية
الحسين بن المنذر ، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام:... أيّ شيء قولك في ذبائح اليهود والنصارى؟ فقال: «يا حسين، الذبيحة بالاسم، ولا يؤمن عليها إلّا
أهل التوحيد ».
وهو
المنسوب إلى
ابن أبي عقيل و
ابن الجنيد، وإن كان في نسبته إلى ابن الجنيد نظر؛ لأنّه احتاط
بالاجتناب عن ذبائحهم ولم يقطع بحلّيتها، حيث قال: «ولو تجنّب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي آنيتهم، وكذلك ما صنع في
أواني مستحلّ
الميتة ومآكيلهم ما لم يتيقّن
طهارة أوانيهم وأيديهم كان
أحوط ».
واستدلّوا لهذا القول-
مضافاً إلى
أصالة الإباحة - بالكتاب والسنّة، أمّا الكتاب فبقوله تعالى: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ»
الشامل لمطلق
الطعام حتى اللحوم، و
اختصاصها بالحبوب ممّا لا ثمرة فيه؛ لحلّية أكلها ولو كانت بيد
المشركين .
واورد عليه بأنّه مع ورود بعض الروايات في
تفسير الطعام بالحبوب لا معنى
لاستبعاده ؛ لأنّه
اجتهاد في مقابل النصّ.
على أنّه يمكن
تقديم النصوص الخاصّة المحرّمة هنا على الآية بالتقييد، بصرف
النظر عن تعارض الروايات.
وأمّا السنّة فبعدّة روايات
:
منها: صحيحة
محمّد الحلبي ، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن ذبيحة أهل الكتاب ونسائهم، فقال: «لا بأس به».
ومنها: رواية
إسماعيل بن عيسى ، قال: سألت
الرضا عليه السلام عن ذبائح اليهود والنصارى وطعامهم، فقال: «نعم».
ومنها: رواية
يونس بن بهمن ، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: أهدى إليّ
قرابة لي نصراني
دجاجاً و
فراخاً قد شواها، وعمل لي
فالوذجة ، فآكله؟ فقال: «لا بأس به».
ومنها: صحيحة
جميل و
محمّد بن حمران، أنّهما سألا أبا عبد اللَّه عليه السلام عن ذبائح اليهود والنصارى والمجوس، فقال: «كلْ»، فقال بعضهم: إنّهم لا يسمّون، فقال: «فإن حضرتموهم فلم يسمّوا فلا تأكلوا»، وقال: «إذا غاب فكل».
واورد على
الاستدلال بهذه الروايات:
أوّلًا: بأنّها
مخالفة للكتاب و
موافقة للجمهور،
فلابدّ من حملها على
التقيّة المستفادة من رواية
بشير بن أبي غيلان الشيباني ، حيث قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن ذبائح اليهود والنصارى والنصّاب، قال: «فلوى شدقه(الشِّدْق: جانب الفمّ )
»، وقال: «كُلْها إلى يومٍ ما».
ويناقش بأنّ الكتاب دلّ على لزوم
التسمية لا
اشتراط الإسلام في الذابح، فكأنّ
الرواية تؤسّس
لأصالة التسمية في أهل
الأديان ما لم يحرز العكس فلا تعارض الكتاب. وأمّا
احتمال التقية فهو فرع
التعارض بين الروايات وسيأتي، على أنّ خبر الشيباني وإن كان ظاهره التقية إلّاأنّه قد يكون بلحاظ ذكر
النواصب مع اليهودي والنصراني لا
مطلقاً .
وثانياً: بأنّها محمولة على الضرورة التي يجوز فيها أكل ذبائح أهل الكتاب؛ لما رواه
زكريا بن آدم ، قال: قال
أبو الحسن عليه السلام : «إنّي أنهاك عن ذبيحة كلّ من كان على خلاف الذي أنت عليه وأصحابك، إلّافي وقت
الضرورة إليه».
لكنّ ذلك مخالف لظاهر الروايات المتقدّمة التي ليس فيها ظهور في حالة الضرورة.
وحيث وقع التعارض بين طوائف الروايات فلابدّ من حلّ هذا التعارض، من هنا حاول بعض الفقهاء الجمع بين الروايات بحمل المانعة منها على كراهة أكل ذبائحهم، خصوصاً مع كون أخبار الحلّ أصحّ سنداً وأوضح
دلالة من أخبار المنع.
فيما حمل فريقٌ آخر أخبار
الجواز على التقية كما تقدّم.
التفصيل بين
سماع التسمية على ذبيحتهم فتحلّ، وبين عدم سماعها فلا تحلّ، وهو مختار
الشيخ الصدوق حيث قال: «لا تأكل ذبيحة اليهودي والنصراني والمجوسي إلّاإذا سمعتهم يذكرون
اسم اللَّه عليها، فإذا ذكروا اسم اللَّه فلا بأس بأكلها؛ فإنّ اللَّه يقول: «وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ»،
ويقول: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ»».
والروايات،
مستفيضة.
واورد عليه بأنّها مخالفة للمشهور، بل الإجماع، فلا تصلح لمعارضة أخبار
الحرمة .
والجواب: إنّ مخالفة المشهور الفقهي ليس مرجّحاً في باب تعارض الأخبار، إنّما المهمّ أن لا تكون طوائف الروايات الاخرى بمثابة في شهرتها تجعل هذه
الطائفة من الروايات بحكم الشاذ النادر، فإنّ هذا هو المرجّح في باب التعارض.
وثانياً: بأنّه لا دليل على
التفريق بين الكتابي و
المسلم بالسماع، بل صرّحت بعض الروايات بالحلّ ما لم يعلم عدم تسميتهم كالمسلم،
كما في
صحيحة جميل ومحمّد بن حمران، أنّهما سألا أبا عبد اللَّه عليه السلام... فقال: «فإن حضرتموهم فلم يسمّوا فلا تأكلوا»، وقال: «إذا غاب فكلْ».
وثالثاً: بأنّه لو كان سماع التسمية كافياً لكفى في ذبائح سائر الكفّار غير أهل الكتاب، وهو ما لم يلتزم به أحد، فلابدّ من حمل
تعليل الحرمة بعدم صدور التسمية على أنّها من باب الحكمة دون العلّة.
وقد يجاب بأنّه لو بني على
أصالة عدم
التذكية يحكم بعدم حلّية الذبائح إلّاما خرج بالدليل كالمسلم مطلقاً والكتابي مع سماع التسمية، دون غيرهم، فلا موجب
لتسرية الحكم إلى غير الكتابي؛ إذ لعلّ المانع من حلّية الذبيحة هو
الشرك وعدم
إحراز التسمية. واحتاط
الشهيد الصدر في ذلك حيث قال: «إذا سمّى
الكافر فحرمة الذبيحة مبنيّة على
الاحتياط ».
والتفصيل في محلّه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۹، ص۱۲۹-۱۳۴.