التربص في الإيلاء
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو
الانتظار والترقب في
الإيلاء. يأتي الكلام في مدته ومبدأه و..
وهي أربعة أشهر، بلا فرق بين الحرّة والأمة، والزوج الحرّ والمملوك؛ لإطلاق الأدلّة. وهي حقّ للزوج،
فليس للزوجة حقّ
المطالبة فيها؛ للروايات المتقدّمة، بل هو ظاهر (اللام) في قوله تعالى: «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ»
أي يمهل المؤلي ويجعل له حقّ التروّي في أمره أربعة أشهر، فلا يجوز
إجباره على التخاير في الأربعة أشهر وقبل
انقضائها .نعم، قد يخالفه خبر
أبي مريم عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام، عن رجل آلى من امرأته، قال: «يوقف قبل الأربعة أشهر وبعدها».
وفيه: «أنّه سأله» بدل «عن أبي عبد اللَّه عليه السلام». ولكن لابدّ من حمله على
إرادة الإيقاف لضرب المدّة كما فعله
الشيخ في
التهذيب ،
أو تنزيله على إرادة
الإيقاف قبلها لإلزام الحكم عليه بعد المدّة، لا لإلزامه بالطلاق أو
الإيفاء قبل الأربعة كما فعله
المحقّق النجفي .
وأمّا خبر
أبي الجارود - أنّه سمع
أبا جعفر عليه السلام يقول: «في الإيلاء يوقف بعد سنةٍ»، فقلت: بعد سنةٍ؟ فقال: «نعم، يوقف بعد سنة»
- فلا ينافي ما تقدّم أيضاً، كما صرّح به الشيخ في التهذيب؛
لأنّه لم يذكر أنّه إذا كان قبل ذلك لا يوقف، وعلى فرضه ينزّل على أنّه يوقف ولو مضت سنة ليحكم عليه بأحكام
الإيلاء .
ثمّ الظاهر من
إطلاق الكلمات، وكذا الروايات أنّ المدّة هي أربعة أشهر وإن كان الزوج قد ترك الوطء قبل الإيلاء أربعة أشهر، كما صرّح به المحقّق النجفي حيث قال: إنّ ظاهر آية الإيلاء والنصوص هو أنّ المدّة المزبورة حقّ للزوج، وليس للزوجة فيها حقّ المطالبة وإن ترك الوطء قبل الإيلاء أربعة أشهر أو أقل.
وقد يقال بتحقّق الإثم بعد مضيّ أربعة أشهر من حين الوطء؛ لحرمة تركه أكثر من أربعة أشهر، وإن كان لا ينحلّ بذلك اليمين؛ لأنّ الإيلاء إنّما ينحلّ بمضيّ المدّة، أو التكفير والحنث.
واجيب عنه بأنّ ظاهر الأدلّة من الآية والروايات عدم تحقّق
الإثم في مدّة التربّص مطلقاً، بل لعلّ الغالب عدم وطئها قبل الإيلاء بلحظات، بل لو كان المراد تربّص الأربعة في خصوص الموطوءة في زمان متّصل
بإيقاع الإيلاء، وإلّا اتّجه لها المطالبة قبل المدّة المزبورة؛ لصار زمان الإيلاء شهراً وشهرين أو أقل وأكثر إذا فرض ترك وطئها قبل الإيلاء بمدّة معينة، وهو مناف للنصّ
والفتوى .
بل يمكن القول بأنّ نفس تقييد الإيلاء بكونه بترك الوطء دائماً، أو مقيّداً بزمان أكثر من أربعة أشهر الذي يجوز فيها المطالبة قطعاً- لولا الإيلاء- معناه أنّ الإيلاء المحكوم بالأحكام إنّما يصحّ إذا كان بغرض الفرار عن الوطء الواجب بالمطالبة الجائزة، فعلى هذا لو كان كلام هذا القائل بالإثم صحيحاً لزم الحكم بثبوت الإثم في غالب الإيلاءات، وهو خلاف إطلاق الأدلّة، بل يستفاد ذلك أيضاًمن تقييدهم له بقصد
الإضرار ، وذلك لأنّ الحلف بترك الوطء دون الأربعة التي ليس لها حقّ في المطالبة لا يعدّ إضراراً؛ لأنّ كلّ إضرار بالغير ينطوي على إضاعة حقٍّ له، فإذا لم يكن حقّ فلا إضرار قطعاً.فالأدلّة التي تجعل حقّ التروّي بأربعة أشهر لمثل هذا الشخص وبهذه الشروط لازمها نفي حقّ المطالبة معه، وبتبعه نفي الإثم في مدّة التربّص قطعاً.
ذهب جملة من الفقهاء إلى أنّ مبدأ
احتساب مدّة التربّص من حين الترافع إلى الحاكم،
ونسبه
العلّامة والشهيد إلى المشهور،
بل في المبسوط نسبته إلى مذهبنا، ولعلّه
إجماع .
وخالفهم في ذلك عدّة من الفقهاء فذهبوا إلى أنّها من حين الإيلاء.
ولعلّه ظاهر
الروضة،
وقد يستشعر من المحكي عن ابن أبي عقيل كما في المختلف،
وهو الظاهر من
الوسائل.
واستدلّ للقول الثاني بقوله تعالى: «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ»،
حيث إنّ تربّص أربعة أشهر رتّب في الآية على الإيلاء نفسه لا المرافعة.وبرواية
بريد بن معاوية ، قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول في الإيلاء: «إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته ولا يمسّها...فهو في سعةٍ ما لم تمض الأربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر وقف، فإمّا أن يفيء فيمسّها، وإمّا أن يعزم على الطلاق...»،
حيث رتّب مضي الأربعة فيها على نفس الإيلاء، وليس فيها للمرافعة إلى الحاكم أثر، وبغير ذلك من الروايات.
إلّاأنّ أصحاب القول الأوّل اعتبروا هذا
الاستدلال استدلالًا للحكم بإطلاق الآية والروايات، وهو موقوف على عدم وجود المقيّد، وهو موجود حيث ورد في عدّة روايات ما يدلّ على أنّها من بعد المرافعة لا من حين الإيلاء، كرواية أحمد بن محمّد بن
أبي نصر عن [[|الإمام الرضا]] عليه السلام قال:سأله
صفوان - وأنا حاضر- عن الإيلاء، فقال: «إنّما يوقف إذا قدّمه إلى
السلطان ، فيوقفه السلطان أربعة أشهر، ثمّ يقول له:إمّا أن تطلّق، وإمّا أن تُمسك».
ورواية أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «الإيلاء: هو أن يحلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها، فإن صبرت عليه فلها أن تصبر، وإن رفعته إلى الإمام أنظره أربعة أشهر، ثمّ يقول له بعد ذلك:إمّا أن ترجع إلى
المناكحة ، وإمّا أن تطلّق...».
وغيرها من الأخبار،
فتقيّد بها المطلقات.
بل منع بعض الفقهاء عن أصل الإطلاق قائلًا: قد يدّعى
انسباق كون ذلك من أعمال السلطان، وأنّ الآية والرواية إنّما وردت بصدد تعليم ذلك للقضاة والحكّام، نظير ما ورد عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:«البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»
وفيه: «المدّعى عليه» بدل «من أنكر».ونحوها ممّا هو ميزان للحكم، وكيفية لعمل الحاكم،
فلا إطلاق لها من هذه الجهة حتى يتمسّك به على عدم دخالة المرافعة وحكم الحاكم فيه.إلّاأنّ هذا- مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر الآية، وخلاف مناسبة كون الأشهر الأربعة من حقّ الزوج فيها عدم الوطء- خلاف صريح رواية بريد المتقدّمة.وقد يقال بأنّ ذكر
الإنظار أربعة أشهر في هذه الروايات لا دلالة فيه على أنّ مبدأ الأربعة أشهر من حين المرافعة، بل هو
إشارة إلى الأربعة أشهر الواردة في الآية الكريمة، أي بعد رفعه إلى الحاكم ينظره إلى أن تنقضي الأربعة أشهر التي هي من حقّه، فلا دلالة في هذه الروايات على كون الإنظار بعد الترافع كي تقيّد بها تلك الإطلاقات.
إذا وقع الإيلاء على المطلّقة الرجعية فصريح بعض الفقهاء أنّه يحتسب زمان العدّة من مدّة التربّص،
فتتداخلان، ولكن بنى بعضهم
الحكم على الخلاف السابق في مبدأ مدّة التربّص، فعلى القول بأنّ مبدئها من حين الإيلاء فيحتسب زمان العدّة من مدّة التربّص، وأمّا بناء على القول بأنّها من حين المرافعة فلا؛ ضرورة أنّه ليس لها المرافعة ما دامت في العدّة، لأنّها لا تستحقّ عليه
الاستمتاع في هذا الحال، فلا يحتسب منها شيء من المدّة، بل إن راجعها فرافعته ضربت لها المدّة حينئذٍ.
وكذلك الحكم لو طلّقها رجعياً بعد الإيلاء وراجع، فيحتسب زمان العدّة منها، وحينئذٍ يطالب- مع فرض رجوعه
وانقضاء المدّة- بأحد الأمرين: الفئة أو
الطلاق ؛ لأنّ الزوجيّة وإن اختلّت بالطلاق، إلّا أنّه متمكّن من الوطء بالرجعة، فلا يكون الطلاق عذراً، كما في الردّة، على ما سيأتي.وخالف في ذلك الشيخ الطوسي حيث منع من احتساب المدّة فيهما؛ محتجّاً بأنّ الطلاق رفع
النكاح وأجراها إلى البينونة، بمعنى أنّها في العدة في زمان يقتضي مضيّه
البينونة المقتضية لعدم جواز الوطء، فلا يجوز احتساب هذه المدّة من مدّة التربّص في الإيلاء التي يؤدّي إنقضاؤها إلى المطالبة بالوطء؛ لتضادّ الأثرين المقتضي لتضادّ المؤثّرين.
ووافقه العلّامة الحلّي حيث قال: «ويقع بالمطلّقة رجعياً في العدّة، ولا يحتسب عليه مدّة العدّة من مدّة الإيلاء، فإن تركها حتى تنقضي عدّتها بانت، وإن راجعها
فابتداء المدّة من حين المراجعة».
وأجيب عنه بأنّه منافٍ لإطلاق الكتاب والسنّة، بعد فرض
اندراج المطلّقة الرجعيّة في (النساء)، سواء كانت مطلّقة قبل الإيلاء أو بعده.
طروّ الأعذار الشرعية أو المادية المانعة من الجماع-
كالصوم والإحرام والاعتكاف والمرض
والإغماء والحبس- أو الرافعة للتكليف- كالجنون- هل تمنع من احتساب المدّة على المولي أم لا؟أمّا غير الجنون والإغماء فلا إشكال في احتساب المدّة عليه معها؛ لأنّ
التمكين من جهة المرأة المؤلى منها حاصل، وإنّما المانع من جهة الرجل المؤلي، وهو مقصّر بالإقدام على الإيلاء والمضارّة، بلا فرق بين الموانع الشرعيّة وغيرها، فتحسب المدّة معها عليه، ويطالب بعد انقضائها وبقاء العذر أو طروّه على رأس المدّة بأحد الأمرين إمّا الطلاق أو الفئة؛ لإمكان فئة العاجز منه، فيشمله إطلاق الأدلّة.بل وكذلك الجنون والإغماء، فيحتسب المدّة عليه معه؛ للإطلاق المزبور.
نعم، حيث إنّ الجنون من الأعذار الرافعة للتكليف، فلا يجوز بعد انقضاء المدّة إجباره على اختيار أحد الأمرين، بل يجب الصبر حتى يفيق ثمّ يحكم عليه بذلك، وكذلك الإغماء ما دام باقياً، بخلاف المرض ونحوه، فيجوز لإمكان الطلاق أو فئة العاجز، فيجوز إجباره على أحد الأمرين.
وهل يجوز قيام وليّ المجنون مقامه في
التخيير المزبور وبالنتيجة يجوز
إجبار الولي؟ صريح المحقّق النجفي العدم؛
ووجهه عدم الدليل عليه في المقام.
الارتداد إن كان عن ملّة ففيه خلاف، فذهب الشيخ في
المبسوط إلى عدم احتساب مدّة الردّة عليه؛ لأنّها إنّما تحسب إذا كان المانع من الجماع اليمين، وههنا المانع اختلاف الدين؛ ولأنّه لا يمكن الفيئة بعد التربّص ولا الطلاق، فإذا ثبت أنّ المدّة انقطعت، فإن اجتمعا على
الإسلام قبل انقضاء العدّة فقد عادا إلى ما كانا عليه، ويستأنف المدّة من حين العود، وإن كان الرجوع إلى الإسلام بعد انقضاء العدّة فقد وقع
الفسخ بانقضاء العدّة، وله أن يتزوّج بها.
وحاصله
أداء الردّة إلى المنع من الجماع؛ بخلاف انقضاء مدّة التربّص المقتضية لجواز المطالبة به، فلا يحتسب زمانه من مدّة الإيلاء؛ لمكان التضادّ الموجود بينهما. وقد تقاس الردّة بالعدّة في عدم الاحتساب.
ولكن أجيب عنه بتمكّن المرتدّ من الجماع بالرجوع إلى الإسلام؛ لأنّه باختياره، فلا يُعدّ ذلك عذراً مانعاً عن الجماع، وأيضاً بإطلاق الأدلّة؛
ولذلك ذهب بعضهم إلى الاحتساب،
بل في
المسالك نسبته إلى الأكثر.
كما أجيب عن قياس زمان الردّة بزمان العدّة- مضافاً إلى
إنكار أصل الحكم في المقيس عليه كما مرّ- بوجود الفرق بينهما بأنّ المرتدّ إذا عاد إلى الإسلام تبيّن أنّ النكاح لم يرتفع، بخلاف الطلاق فإنّه لا ينهدم بالرجعة وإن عاد حكم النكاح السابق كما سبق؛ ولهذا لو راجع المطلّقة تبقى معه على طلقتين.
قال المحقّق النجفي: «إذا آلى ثمّ ارتدّ عن غير فطرة- مثلًا- قال الشيخ الطوسي:لا تحتسب عليه مدّة الردّة؛ لأنّ المنع بسبب
الارتداد الذي هو فاسخ للنكاح كالطلاق لا بسبب الإيلاء، فلا تحتسب مدّته من مدّة الإيلاء المقتضية لاستحقاق المطالبة بعدها بالوطء؛ لتضادّ المؤثّرين المقتضي لتضادّ الأثرين، كما لا يحتسب زمان العدّة. والوجه عند المصنّف- بل في المسالك نسبته إلى الأكثر- الاحتساب؛ لتمكّنه من الوطء بإزالة المانع، فلا يكون(الارتداد) عذراً. ويفارق العدّة بأنّ المرتدّ إذا عاد إلى الإسلام تبيّن أنّ النكاح لم ينفسخ، والطلاق الماضي مع لحوق الرجعة لا ينفسخ؛ ولهذا ظهر أثره بتحريمها بالثلاث وإن رجع في الأوّلين، ولكن ذلك كما ترى؛ ولعلّه لذا قال
الكركي في
الحاشية : وفي الفرق بحث»
ويظهر من بعضهم التوقّف كالعلّامة الحلّي في
القواعد حيث نسبه إلى رأيٍ وسكت عليه.
وفي
التحرير : «لو ارتد في أثناء المدّة... فإنّه ينقطع
الاستدامة عند الشيخ»،
وهذا أيضاً ظاهره التوقّف.ثمّ إنّ هذا كلّه في المرتدّ الملّي، وأمّا الفطري فحيث إنّه يجب قتله ويعامل معاملة الميّت في الحال، فتعتدّ زوجته عدّة المتوفّى عنها زوجها، وتقسّم أمواله، فلا موقع للبحث عن ضرب الأجل وتخييره بين الفيئة والطلاق، كما صرّح بذلك عدّة من الفقهاء.
الموسوعة الفقهية، ج۱۹، ص۳۴۸-۳۵۵.