الكفالة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو أن يتعهد الشخص ( الكفيل ) بإحضار المدين ( المكفول ) إلى الدائن ( المكفول له ) عند حلول الدين وامتناع المدين من دفعه .
(القسم الثالث :) في (الكفالة).
(وهي التعهّد بالنفس) أي التزام
إحضار المكفول متى طلبه المكفول له. وهي ثابتة بالسنّة
والإجماع ، بل والكتاب، قال سبحانه حكايةً عن إخوة يوسف (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ)
فتأمّل.
ولكنها مكروهة، كما يستفاد من النصوص المستفيضة، ففي عدّة منها : «الكفالة خسارة، غرامة، ندامة»
وفي أُخر : «مالك والكفالات، أما علمت أنها أهلكت القرون الأُولى».
(ويعتبر) فيها (رضاء الكافل) وهو المعبّر عنه بالكفيل (والمكفول له) بلا خلاف، بل عن التذكرة عليه الإجماع؛
وهو الحجة. مضافاً إلى أنّ
الإنسان لا يصحّ أن يلزمه الحق إلاّ برضاه، وكذا صاحب الحق لا يجوز إلزامه شيئاً بغير رضاه، وبهما يتمّ العقد (دون) من عليه الحق وهو المعبّر عنه ب (المكفول عنه) فلا يعتبر رضاه على الأظهر الأشهر، بل لعلّه عليه عامّة من تأخّر، وعليه الإجماع في التذكرة؛
وهو الحجة.
مضافاً إلى عموم
الأمر بالوفاء بالعقود الشاملة لمفروض المسألة؛ لكونها منها، كما مرّت إليه
الإشارة . مضافاً إلى وجوب الحضور عليه متى طلبه صاحب الحق ولو بالدعوى بنفسه أو وكيله، إجماعاً، كما في المسالك وغيره،
والكفيل بمنزلة الوكيل حيث يأمره بإحضاره، وغاية الكفالة هي حضور المكفول حيث يطلب.
خلافاً للمبسوط والقاضي وابن حمزة وقوّاه الفاضل في التحرير وحكي عن الحلّي؛
التفاتاً إلى أنه إذا لم يأذن فيها أو لم يرض به لم يلزمه الحضور مع الكفيل، فلم يتمكّن من إحضاره، فلا يصحّ كفالته، لأنها كفالة بغير المقدور عليه. وهذا بخلاف الضمان؛
لإمكان وفاء دينه من مال غيره بغير إذنه، ولا يمكن أن ينوب عنه في الحضور.
وردّ بالمنع من عدم لزوم الحضور معه. قيل : وعلى تقدير
اعتبار رضاه ليس على حدّ رضاء الآخرين من وجوب المقارنة، بل يكفي كيف اتّفق،
كما مرّ نظيره في
الضمان .
(وفي اشتراط الأجل) فيها، فلا يصحّ حالاّ، أم لا فيصحّ (قولان) الثاني أظهر، وهو أشهر، بل عليه عامّة من تأخّر؛ لأصالتي الجواز وعدم
الاشتراط . خلافاً للمحكي عن المفيد والنهاية وظاهر الديلمي والقاضي في أحد قوليه وابن حمزة
فالأوّل؛ وحجّتهم عليه غير واضحة ولا مذكورة في كتب الجماعة عدا القياس بالضمان. وضعفه أوضح من أن يحتاج إلى بيان.
(فإن اشترط أجلاً فلا بدّ من كونه معلوماً) بلا خلاف بيننا، بل عليه الوفاق في المسالك وغيره؛
وهو الحجة، مضافاً إلى استلزام الجهل به الغرر المنهي عنه في الشريعة، إذ ليس له وقت يستحق فيه
المطالبة كغيره من الآجال، فتأمّل. خلافاً لبعض العامة، فاكتفى بالأجل المجهول؛ لاشتمالها على التبرع فيتسامح فيها كالعارية.
وهو قياس مع الفارق.
(وإذا دفع الكافل الغريم) وهو المكفول إلى المكفول له وسلّمه إليه تسليماً تامّاً بأن لا يكون هناك مانع من تسلّمه كتغلّب أو حبس ظالم، وكونه في مكان لا يتمكّن من وضع يده عليه لقوّة المكفول وضعف المكفول له، وفي المكان المعيّن إن بيّناه في العقد، وفي بلد العقد إن أطلقاه، وبعد
الأجل إن كانت مؤجّلة، أو في الحلول متى شاء إن كانت حالّة، ونحو ذلك (فقد برئ) من عهدته اتّفاقاً، ولو امتنع من تسلّمه، على الأظهر.
وقيل : سلّمه حينئذ إلى الحاكم وبرئ أيضاً.
وفيه نظر، بل الظاهر حصول البراءة حينئذ من دون
احتياج إلى التسليم إليه، وفاقاً لبعض من تأخّر،
وإن كان التسليم إليه أحوط.
وكذا
الإشهاد عليه وعلى الامتناع من قبضه، ولا دليل على وجوبه مطلقاً حتى في صورة عدم إمكان الحاكم، ولعلّ اعتباره في كلام شيخنا الشهيد الثاني
للإرشاد
للإثبات ، لا لتوقف
البراءة عليه.
(وإن امتنع الكفيل) من تسليمه ألزمه الحاكم به، فإن أبى (كان للمكفول له) طلب (حبسه) منه (حتى يحضر الغريم أو) يؤدّي (ما عليه) إن أمكن أداؤه عنه، كالدين. فلو لم يمكن،
كالقصاص والزوجيّة والدعوى لعقوبة توجب حدّا أو تعزيراً ألزم بإحضاره حتماً مع الإمكان، وله عقوبته عليه، كما في كلّ ممتنع من
أداء الحق مع قدرته. فإن لم يمكنه الإحضار وكان له بدل، كالدية في القتل وإن كان عمداً أو مهر مثل الزوجة، وجب عليه الإحضار.
ولا خلاف في شيء من ذلك في الظاهر، حتى في جواز
الاكتفاء عن الإحضار بأداء ما عليه إذا رضي به المكفول له. وأما مع عدم رضاه به ومطالبته الإحضار ففي الاكتفاء بذلك عنه هنا أيضاً، أم لا، فيجوز للمكفول له إلزامه بالإحضار مطلقاً قولان؛ للأوّل كما هو ظاهر العبارة وجماعة
تبعاً للطوسي
ـ : حصول الغرض من الكفالة.
وللثاني كما عن التذكرة، وبه صرّح في المسالك والروضة،
واختاره من متأخّري المتأخّرين جماعة
ـ : عدم انحصار الأغراض في أداء الحق أو كيف اتّفق، خصوصاً فيما له بدل
اضطراري . وهو الأقوى؛ لذلك، مضافاً إلى العمومات الدالّة على لزوم الوفاء بالعقد، وظواهر المعتبرة المستفيضة التي هي
الأصل في المسألة.
منها الموثق : «اتي
أميرالمؤمنين برجل تكفّل بنفس رجل، فحبسه وقال : اطلب صاحبك»
ونحوه خبران آخران.
والرضوي : «إذا كفل الرجل الرجل حبس إلى أن يأتي بصاحبه».
وليس فيها مع كثرتها، واعتبار سند بعضها،
وانجبار ضعف باقيها كقصور الأوّل بعمل العلماء تخيير للكفيل بين
الإحضار وأداء المال، بل أُمر بالأوّل خاصة. وربما يمكن أن يقال باحتمال ورود الأمر
والإلزام بالإحضار مورد الغالب من عدم بذل الكفيل للمال، فلا دلالة في هذه الأخبار على لزوم الإحضار على
الإطلاق . ثم على تقدير كون الحق مالاً وأدّاه الكفيل برضاء المكفول له أو مطلقاً، فإن كان قد أدّى بإذن المكفول عنه رجع عليه كمن أدّى المال بإذن مَن عليه. وكذا إن أدّى بغير إذنه مع كفالته بإذنه وتعذّر إحضاره والمراجعة إليه؛ لأن ذلك من لوازم الكفالة، فالإذن فيها إذن في لوازمها، ولا رجوع له في غير الصورتين.
والفرق بين الكفالة والضمان في رجوع من أدّى بالإذن هنا وإن كفل بغير
الإذن بخلاف الضمان عدم تعلّق الكفالة بالمال بالذات، وأن حكم الكفيل بالنسبة إليه حكم
الأجنبي ، فإذا أدّاه بإذن المديون فله الرجوع، بخلاف الضمان،
لانتقال المال به إلى ذمّته فلا ينفعه الإذن في الأداء بعده، لأنّه كإذن البريء للمديون في أداء دينه.
(ولو) تكفّل رجل برجل و (قال : إن لم أُحضره إلى كذا كان عليّ كذا، كان كفيلاً أبداً ولم يلزمه المال) عند الأجل، بل لا بدّ من الإحضار. (ولو قال : عليّ : كذا إلى كذا إن لم أُحضره، كان ضامناً للمال إن لم يحضره في الأجل) في المشهور بين الأصحاب، بل عليه
الإجماع في صريح المهذب البارع وشرح الشرائع للصيمري وعن المحقق الشيخ علي وهو ظاهر التنقيح،
ولعلّه كذلك.
ولم يقدح فيه مخالفة الإسكافي؛
لشذوذه، ومعلومية نسبه، مع موافقته لهم في الجملة. ونحوه الجواب عن تنظّر الفاضل في المختلف،
وجعله رأيه أنسب.
وأما
الاختلاف في الشقّ الثاني من حيث تقييد الحكم فيه بضمان المال بشرط عدم الإحضار، كما هنا وفي كلام الشيخ ومتابعيه والفاضل في التحرير والتذكرة،
وعدمه، كما في الشرائع والإرشاد والقواعد
فغير قادح فيه على اليقين؛ للموافقة في الحكم في كلتا الصورتين، غاية الأمر الاختلاف في الإطلاق والتقييد، وهو لا يوجب الخروج والمخالفة في أصل الحكم، والإجماعات المحكية إنما هي على أصله في الجملة، لا على وصفيته من أحد الأمرين.
مع احتمال عدم المخالفة في التقييد
والاتفاق على اعتباره وإن سومح بذكره في تلك الكتب، ولعلّه
للاعتماد على الشرطية المذكورة فيها قبل الحكم كالعبارة.
ويعضده استنادهم إلى ما هو الأصل في هذا الحكم من الموثقين المذكور فيهما القيد كالعبارة، في أحدهما : عن الرجل يكفل بنفس الرجل فإن لم يأت به فعليه كذا وكذا درهماً، قال : «إن جاء به إلى أجل فليس عليه مال وهو كفيل بنفسه أبداً إلاّ أن يبدأ بالدراهم، فإن بدأ بالدراهم فهو له ضامن إن لم يأت به إلى الأجل الذي أجّله».
وفي الثاني : رجل كفل لرجل بنفس رجل، فقال : إن جئت به وإلاّ فعليّ خمسمائة درهم، قال : «عليه نفسه ولا شيء عليه من الدراهم» فإن قال : عليّ خمسمائة درهم إن لم أدفعه، فقال : «تلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه».
وليس في سندهما عدا داود بن الحصين في الأوّل، وهو موثّق، مع احتمال وثاقته، لتوثيق النجاشي له على الإطلاق من دون إشارة إلى وقفه،
وهو ظاهر في حسن عقيدته، وإن صرّح به الشيخ في رجال،
لتقديمه عليه عند التعارض. وحسن بن محمّد بن سماعة وأبان بن عثمان في الثاني، وكلاهما موثّقان، مع أنّ الثاني منهما ممن أجمعت
العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه.
فهما في غاية من الاعتبار، ومع ذلك مشتهران بين الأصحاب غاية
الاشتهار ، ولو كانا ضعيفين لحصل لهما به
الانجبار . فلا يلتفت إلى ما يرد عليهما من المخالفة للقواعد الشرعية والعربية من حيث تضمّنهما الفرق بين المسألتين بمجرّد تقديم الجزاء على الشرط وتأخيره عنه، مع أن ذلك لا مدخل له في اختلاف الحكم، لأن الشرط وإن تأخّر فهو في حكم المتقدم، فكم من نصوص مخالفة للقواعد يخرج بها عنها، مع قصورها عن مرتبة الموثقين الواردين هنا، فالخروج بهما عنها مع ما هما عليه من المرجّحات القوية التي عمدتها فتوى الطائفة والإجماعات المحكية بطريق أولى، ولا
احتياج إلى التكلّفات الصادرة عن جماعة في تطبيقهما مع القاعدة، مع تضمّن بعضها
اطراحهما والخروج عن ظاهرهما بالكلّية.(ومن خلّى غريماً) وأخلصه (من يد غريمه قهراً لزمه
إعادته أو أداء ما عليه) إن أمكن، كما في الدين، دون القصاص ونحوه، مطلقاً، أو بعد تعذّر الإحضار على المختار في الكفيل، والمخلِّص بحكمه.
لكن هنا حيث يؤخذ منه المال لا رجوع له على الغريم إذا لم يأمره بدفعه، إذ لم يحصل من
الإطلاق والتخليص ما يقتضي الرجوع.
(ولو كان) الغريم (قاتلاً) عمداً كان أو شبهه (أعاده أو دفع الدية) ولا خلاف في المقامين على الظاهر، بل عليهما الإجماع في شرح الشرائع للصيمري؛ وعلّلوه بأنّه غصب لليد المستولية المستحقة من صاحبها، فكان عليه إعادتها أو أداء الحق الذي بسببه تثبت اليد عليه.
ويعضده حديث نفي الضرر؛
مضافاً إلى الصحيح في الثاني : عن رجل قتل رجلاً عمداً، فرفع إلى الوالي فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه، فوثب عليهم قوم فخلّصوا القاتل من أيدي الأولياء، قال : «أرى أن يحبس الذي خلّص القاتل من أيدي الأولياء حتى يأتوا بالقاتل» قيل : فإن مات القاتل وهم في السجن، قال : «فإن مات فعليهم الدية يؤدّونها جميعاً إلى أولياء المقتول».
قالوا : ولا يقتصّ منه في العمد؛ لأنه لا يجب على غير المباشر. ثم إن استمرّ القاتل هارباً ذهب المال على المخلّص.
وإن تمكّن وليّ المقتول منه في العمد وجب عليه ردّ الدية على الغارم وإن لم يقتصّ من القاتل؛ لأن الدية وجبت لمكان
الحيلولة وقد زالت، وعدم القتل الآن مستند إلى
اختيار المستحق لا إلى تقصير المخلّص. ولو كان تخليص الغريم من يد كفيله وتعذّر
استيفاء الحق من قصاص أو مال وأخذ الحق من الكفيل، كان له الرجوع على الذي خلّصه كتخليصه من يد المستحق.
(وتبطل الكفالة بموت المكفول) قبل إحضاره، بلا خلاف، بل في الغنية والتذكرة عليه الإجماع؛
وهو الحجة، مضافاً إلى فوات متعلّقها وهو النفس، وفوات الغرض لو أُريد البدن.
قيل : إلاّ في الشهادة على عينه ليحكم عليه
بإتلافه أو المعاملة له إذا كان قد شهد عليه من لا يُعرف نسبه، بل شهد على صورته فيجب إحضاره ميتاً حيث يمكن الشهادة عليه بأن لا يكون قد تغيّر بحيث لا يُعرف، ولا فرق حينئذ بين كونه قد دُفن وعدمه، لأن ذلك مستثنى من تحريم نبشه.
وهو حسن مع اشتراطه أو قيام القرينة على إرادته، ومشكل مع عدمهما؛ لعدم
انصراف إطلاق الكفالة إلاّ إلى إحضار المكفول حال الحياة، ولكن الأحوط ذلك.
رياض المسائل ج۹، ص۲۸۹-۲۹۸.