الإنقاذ
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو في اللغة التخليص و التنجية، و يستعمل المعنى اللغوي نفسه في إطلاق
الفقهاء، و يتعدّد المتعلّق الذي يرتبط به الإنقاذ و تختلف الأحكام تبعاً لذلك.
مصدر أنقذ من النقذ، و هو التخليص و التنجية،
و أنقذه من فلان و استنقذه منه، أي نجّاه و خلّصه.
و يستعمل المعنى اللغوي نفسه في إطلاق الفقهاء. و يتعدّد المتعلّق الذي يرتبط به الإنقاذ و تختلف الأحكام تبعاً لذلك، و هذا ما نبيّنه على الشكل التالي:
ثمّة أحكام تتعلّق بإنقاذ
النفس الإنسانية تعرّض لها الفقهاء في محلّه، و هي كما يلي:
لقد كرّم اللَّه النفس الإنسانية و خصّها بالعناية و التشريف بما لم يوجد في كثير من المخلوقات، فالنفس الإنسانية ذات كرامة في نفسها، حيث إنّ
الإنسان يختصّ من بين الموجودات الكونية بالعقل الذي يعرف به
الحقّ من
الباطل و
الخير من
الشرّ و النافع من الضار، و يزيد الإنسان على غيره من الموجودات في جميع الصفات و الأحوال التي توجد بينها و الأعمال التي يأتي بها.
و قد سار الإنسان في جميع وجوه حياته الكمالية إلى غايات بعيدة، و لايزال يسعى و يرقى، قال
اللَّه تعالى: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»،
و الكلام يعمّ جميع أفراد
البشر.
نعم، قد فضّل اللَّه سبحانه بعض
بني آدم بالكرامة الخاصة الإلهية و
القرب و الفضيلة الروحية، و أعطى لآخرين منزلة و درجة و حرمة لم تشمل الكلّ، و إنّما كان ذلك بحسب ما لهم من
عقيدة و عمل. و قد جعل
الشارع للنفس الإنسانية حرمة خاصّة، فحكم -إلى جانب
العقل- بحرمة قتلها أو التعدّي عليها من دون حقّ، قال تعالى: «وَ لَاتَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ»،
و قال أيضاً: «مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً».
و بناءً على ما تقدّم من بيان
كرامة النفس و حرمة قتلها يأتي البحث في حكم إنقاذها لو تعرّضت إلى ما يسبّب هلاكها أو تلفها، كالغرق أو الحرق أو
الموت جوعاً أو عطشاً و نحو ذلك، و المسلّم به عند الفقهاء وجوب حفظ النفس و إنقاذها من
التلف وجوباً فورياً كفائياً توصّلياً.
أمّا كونه فورياً فلأنّ إنقاذ النفس من
الهلاك و التلف أهمّ من غيره من الأعمال؛ و لذا نرى في بعض الأحكام تقديم الإنقاذ على إكمال العبادة كالصلاة- التي يحرم قطعها في الظرف العادي- للاحتراز عن الوقوع في نقض الغرض. و أمّا كونه كفائياً فلأنّ الإنقاذ و الحفظ يحصلان بقيام البعض بهما، فإذا امتثلهما لم يبق محلّ للوجوب بعده. و أمّا التوصّلية فلأنّ الغرض في المقام هو إنقاذ
النفس المحترمة، و هو يحصل مع عدم قصد القربة أيضاً. نعم، لو قرنه المنقذ بقصد القربة فسوف يحصل على
ثواب جزيل.
بل حكموا بجواز قطع بعض
الواجبات و
العبادات لأجل إنقاذ النفس، و سوّغوا للمكلّف لأجل الإنقاذ ارتكاب بعض
المحرّمات؛ لأهمّية حفظ النفس و إنقاذها على سائر الملاكات الاخرى. و صرّح بعضهم بأنّ ترك حفظ النفس من التلف محرّم في نفسه،
بل صرّح البعض بوجوب ارتكاب المحرّم لو توقّف حفظ النفس على ارتكابه، قال
الشهيد الأوّل: «قد يجب القطع للصلاة كما في حفظ الصبي و المال المحترم عن التلف، و إنقاذ الغريق و المحترق، حيث يتعيّن عليه».
و قال
الإمام الخميني: «لا يجوز قطع
الفريضة اختياراً، و تقطع للخوف على نفسه أو نفس محترمة أو عرضه أو ماله المعتدّ به و نحو ذلك، بل قد يجب القطع في بعض تلك الأحوال».
و قال في موضع آخر: «في كلّ مورد يتوقّف حفظ النفس على ارتكاب محرّم، يجب الارتكاب، فلا يجوز التنزّه و الحال هذه، و لافرق بين
الخمر و
الطين و بين سائر المحرّمات، فإذا أصابه عطش حتى خاف على نفسه جاز شرب الخمر، بل وجب، و كذا إذا اضطرّ إلى غيرها من المحرّمات».
و قد ورد في
الكتاب الكريم قوله سبحانه و تعالى: «وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»،
و وردت نصوص عن
المعصومين (علیهمالسّلام) تفسّر هذا الإحياء بأنّه الإنقاذ من الحرق أو الغرق أو الهدم أو السباع و نحو ذلك.
نعم، وقع الكلام في المراد من النفس هنا، حيث عبّر عنها الفقهاء في المقام بالنفس المحترمة، أي حكموا بوجوب حفظها و إنقاذها من الهلاك، فيقع التساؤل عن النفس المحترمة و القدر المتيقّن من المراد بها. و لاشكّ في أنّ القدر المتيقّن من المراد بها هو نفس المسلم، أمّا غيره من النفوس التي يحرم إتلافها- كالذمّي و
المعاهد- فقد اختلفوا في وجوب حفظها و إنقاذها، فقد يستفاد من ظاهر كلام جماعة
وجوب حفظ نفس الذمّي.
فيما يستفاد من عبارات جماعة آخرين عدمه، كما في مجمع الفائدة حيث تأمّل المحقّق الأردبيلي في تمثيل الآدمي للنفس المحترمة،
و ربما لأنّ الأخير بإطلاقه يشمل
الكافر الذمّي، مضافاً إلى
المسلم الذي يجب حفظ نفسه بلا إشكال.
و كذا بالنسبة إلى عبارات كلّ من
الفاضل الأصفهاني حيث ذكر أنّ المقتضي لجواز التيمّم هو حفظ نفس المسلم، و لم يتطرّق إلى الذمّي و المعاهد، بل قال قبله:
«و زاد في
التذكرة: الذمّي و المعاهد»،
و لم يتبنّاه هو.
و كذا
المحدّث البحراني،
فإنّه لم يتطرّق إلى
الكافر مطلقاً، بل ذكر الرفيق المسلم و حفظ الدابّة، و نحوهما
المحقّق العاملي في
المدارك،
حيث اقتصر على الرفيق المسلم، و لم يتطرّق إلى حفظ نفس غيره.
و كذلك مناقشة
السيّد الخوئي لما أفاده
السيّد اليزدي في
العروة، حيث إنّه قسّم النفوس فيها إلى ثلاثة أقسام، هي:
الأوّل: أن تكون النفس نفساً واجبة الحفظ على
المكلّف؛ لكونها محترمة و يحرم قتلها و إتلافها، و لاينبغي الإشكال في وجوب حفظها.
الثاني: أن تكون النفس غير واجبة الحفظ، و هذه قد تكون محترمة، مثل: الذمّي الذي هو محترم النفس، حيث لا يجوز قتله، لكنّه لا دليل على وجوب حفظ نفسه من التلف.
نعم، حفظ نفسه جائز شرعاً، و مثل: الحيوان المملوك حيث لا يجوز إتلافه من دون إذن المالك، بل مع إذنه إذا كان الإتلاف على غير الوجه الشرعي في
الذبح، إلّا أنّه لايجب حفظه و إنّما هو جائز شرعاً.
الثالث: أن تكون النفس محرّمة الحفظ، مثل:
الكافر الحربي و
المرتد الفطري و الزاني بالمحرَم و أمثالهم ممّن حكم
الشرع عليهم بالقتل.
فقد علّق السيّد الخوئي عليه بأنّ ما ذكره السيّد اليزدي في القسم الثاني، و هو الحكم بالتخيير في
الطهارة بين المائية و الترابية لايمكن المساعدة عليه؛ لأنّ الجواز الطبعي لا ينافي الوجوب الفعلي لعارض كالتزاحم، فإنّ سقي الماء للذمّي و إن كان سائغاً في نفسه و طبعه، لكنّه لمّا كان مزاحماً لوجوب
الوضوء فعلًا لتحقّق شرطه -و هو التمكّن من استعمال
الماء- شرعاً و عقلًا، لا يجوز
التيمّم و ترك الطهارة المائية لسقي الذمّي و نحوه.
و كذا الحال لو قلنا باستحباب السقي في بعض الموارد؛ لقوله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم): «لكلّ كبد حرّى أجر»؛
لأنّ
الاستحباب لايزاحم
الوجوب.
و يستنتج ممّا تقدّم أنّ القدر المتيقّن من الحكم هو وجوب حفظ و إنقاذ نفس المسلم، و قد يتعدّى هذا الوجوب إلى نفس الذمّي و المعاهد إذا كان تلف النفس المذكورة ضرراً على المكلّف أو حرجياً في حقّه؛ لأنّه ممّن يهمّه أمره، كما لو كان الذمّي خادمه و سائق سيّارته و نحو ذلك، فإنّ الوضوء أو
الغسل لا يجب عليه حينئذٍ و وظيفته التيمّم.
من الواضح المتسالم عليه بين
الاصوليين أنّ
الشكّ في القدرة على
التكليف لا يكون مورداً للبراءة، بل على المكلّف الفحص و التبيّن ليتحقّق
الامتثال أو يحرز عجزه؛ ليكون معذوراً، إلّا أنّ البعض خالف ذلك.
فإذا رأى المكلّف شخصاً في حال الغرق، و شكّ في قدرته على إنقاذه، و ذلك للشكّ في إجادته للسباحة في الماء العميق مثلًا، يجب عليه الإقدام على إنقاذه، فإن تبيّن أنّه قادر فهو، و إلّا فيحرز عجزه و يرتفع التكليف عنه و يكون معذوراً، و لايجوز الرجوع إلى
أصالة البراءة في المقام؛ لأنّه من الشكّ في القدرة و هو ليس بمؤمّن لا عقلًا و لا شرعاً كما حقّق في محلّه.
لمّا كان إنقاذ النفس المحترمة من الامور المهمّة عند الشارع و قد حكم بوجوب الإنقاذ، فسوف يبتني الحكم في أخذ الاجرة عليه على الحكم في مسألة أخذ الاجرة على الواجبات، و قد اختلفت كلمات الفقهاء في حكم المسألة و التفاصيل التي أوردوها بهذا الشأن، فهناك من منع من أخذ الاجرة على الواجبات مطلقاً، و آخرون فصّلوا بين
الواجبات التعبّدية و
الواجبات التوصّلية، فجوّزوا أخذ الاجرة في الثاني دون الأوّل.
و هناك من فصّل بين الواجب الكفائي التوصّلي و بين غيره من الواجبات، فأجاز أخذ الاجرة في الأوّل دون غيره من الواجبات، إلى غير ذلك من الأقوال و التفصيلات التي جمعت في ثمانية أقوال.
و هناك من صرّح بالحكم حسب المبنى الذي يذهب إليه في مقام إنقاذ النفس المشرفة على الهلاك، فذهب إلى عدم جواز أخذ عوض مقابل الإنقاذ؛ لأنّه ممّا وجب كفاية لذاته لتعلّقه أوّلًا و بالذات بالأبدان،
و ما يجوز أخذ الاجرة عليه من
الواجب الكفائي هو ما يتعلّق أوّلًا و بالذات بالأموال.
و هذه المسألة تكتسب أهمّيتها اليوم في حقّ فرق الإنقاذ و الإسعاف و الدفاع المدني و مؤسّسات الطوارئ الصحّية في حالات الزلازل و الحروب و غيرها.
و تفصيل ذلك كلّه موكول إلى محلّه.
ذكرنا آنفاً أنّ الشارع الأقدس اهتم كثيراً بمسألة إنقاذ النفس الإنسانية المحترمة، و أوجبه على المكلّف، كما تقدّم أيضاً أنّ القدر المتيقّن من المراد بالنفس المحترمة التي يجب إنقاذها هو نفس المسلم. و بناءً على ذلك فقد يقع البحث في حكم إلقاء المكلّف نفسه في الأخطار أو التهلكة من أجل إنقاذ نفس أو نفوس محترمة.
و يمكن تصوّر ذلك ضمن حالين:
الأوّل: أن تكون النفس المحترمة التي يراد إنقاذها أهمّ من نفس المكلّف، كما هو الأمر بالنسبة لنفس
النبي (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) أو
الإمام المعصوم (علیهالسّلام)، فنفوسهم (علیهمالسّلام) أهم من نفوس كلّ
المسلمين، قال تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»،
فهنا يجب الإقدام على الإنقاذ و إن أدّى إلى هلاك نفس المكلّف.
الثاني: أن تكون النفس المحترمة مساويةً لنفس المكلّف من جهة
الإسلام و الاحترام، فهنا قد يقال بجواز الإنقاذ؛ تمسّكاً ببعض عمومات
الكتاب الكريم، مثل قوله سبحانه و تعالى: «وَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَ لَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ».
و ذهب إليه البعض و عدّه من قبيل ثبات
المجاهد، و لايكون فاعله ممّن ألقى نفسه في التهلكة، بل هو من الفائزين.
و ممّن استظهر الجواز
المحقّق النراقي فيما إذا كان المستنقذ أكثر من واحد.
كما قد يستدلّ له بجواز
الدفاع عن
الأهل و المال و أنّ من قتل دون ماله أو أهله فهو
شهيد، و كذا ما دلّ على جواز -بل وجوب- نصرة المؤمنين و الدفاع عنهم إذا تحقّق عنوان الدفاع. و ذهب بعض إلى عدم الجواز و ردّ القول الأوّل بأنّ ظاهر الآية المستدلّ بها هو في غير فرض إهلاك النفس تماماً لإنقاذ نفسٍ اخرى،
كما أنّ من المعلوم بحكم العقل و كذلك النصوص الواردة تقديم حفظ نفسه التي يعبد اللَّه بها على غيرها، بل لعلّ الإقدام على المخاطرة بنفسه يكون من الإلقاء باليد في
التهلكة.
قد يرى المكلّف أحياناً مورداً لإنقاذ النفس المحترمة، ولكنّه يتنافى مع مورد آخر للإنقاذ في نفس الوقت؛ لعجز المكلّف عن الجمع بين الإنقاذين، فيكون
المورد من باب
التزاحم، و حيث إنّ المكلّف غير قادر على الجمع بينهما كان مخيّراً في مقام الامتثال بينهما؛ لاستحالة بقاء كلا التكليفين على إطلاقه، فلابدّ من تقييد كلّ منهما بعدم إتيان متعلّق الآخر، إلّا إذا كان أحدهما أهم، فالتقييد حينئذٍ يختصّ بالمهم.
و عليه، فإذا كانت إحدى النفسين المراد إنقاذهما أهم -كنفس المعصوم (علیهالسّلام) بالنسبة لغيره من المسلمين، أو كنفس المؤمن بالنسبة لغيره من المسلمين- تعيّن إنقاذ النفس الأهم، وفق ما تقدّم، و أمّا مع تساويهما في الأهمية فيجري القولان المتقدّمان في دوران الأمر بين حفظ نفسه و إنقاذ نفس غيره مع التساوي في الأهمية، حيث قال بعضهم بالجواز و بعضهم بالعدم.
من الواضح أنّ ترك إنقاذ النفس المحترمة من الهلاك مع القدرة على الإنقاذ محرّم في نفسه، و قد ذكرنا أنّه حتى في حال الشكّ في قدرته على الإنقاذ لا يجوز له الترك؛ لأنّ في ترك الإنقاذ فوت للمصلحة الواقعية، و العقل لا يجوّز ذلك ما لم يستند المكلّف إلى عذر شرعي، فلابدّ من الإقدام، و إلّا يأثم.
لكن يأتي هنا بحث في ثبوت ضمان النفس المحترمة على المكلّف في حال تركه الإنقاذ و هلاك النفس، و عدم ثبوته. و مقتضى القاعدة عدم ثبوت
الضمان إلّا بفعل المكلّف ما يؤدّي إلى هلاك النفس مباشرة أو تسبيباً، و في المقام لم يمارس المكلّف فعلًا يحقّق تلف النفس المحترمة بحيث يُنسب الإهلاك إليه، بل هو تَركَ إنقاذها من الهلاك، و كان علّة التلف شيئاً آخر كالغرق في الماء أو الاحتراق بالنار، و ربما يكون هلاكها بفعل شخص ثالث، فالترك لا يترتّب عليه ضمان إذا كانت علّة التلف غيره.
و بعبارة اخرى: الضمان مترتّب على صدق إتلاف مال الغير أو تلفه بعد وضع اليد عليه بلا رضا صاحبه مع التعدّي أو
التفريط، و كلا الأمرين غير متحقّق في المقام فلا موجب للحكم بالضمان.
و قد ذكر بعض الفقهاء أنّ في ثبوت الضمان وجهين، قال
الشهيد الثاني في بحث إطعام المضطر لو كان المالك غير مضطر إليه: «و لو منعه من
الطعام فمات جوعاً، ففي ضمانه له وجهان: من أنّه لم يحدث فيه فعلًا مهلكاً، و من أنّ الضرورة أثبتت له في ماله حقّاً، فكأنّه منع منه طعامه».
لكنّه حكم في مسألة السفينة المشرفة على الغرق و ترك المكلّف إلقاء الأمتعة أو الدواب بعدم الضمان، حيث قال: «و إذا قصّر من لزمه الإلقاء فلم يلقِ حتى غرقت السفينة فعليه
الإثم لا الضمان، كما لو لم يطعم صاحب الطعام المضطر حتى هلك».
و علّق
المحقّق النجفي بعد ذكره لقول الشهيد الثاني بما هو كالقاعدة الكلّية في المقام، حيث قال: «و كذا كلّ من تمكّن من خلاص إنسان من مهلكة فلم يفعل، أثم و لا ضمان؛ للأصل و غيره».
و نحوه ما ذكره المحقّق العاملي في
مفتاح الكرامة،
ولكنّه وافق حكم
العلّامة الحلّي بالضمان لو طلب المضطر الطعام من صاحب الطعام فمنعه فمات جوعاً.
تقدّم فيما سبق أنّ حفظ النفس ممّا لا شبهة في وجوبه عند الشارع الأقدس، كما يحكم
العقل به، و بضرورة
دفع الضرر و التلف عن النفس المحترمة، بل صرّح الفقهاء في أبواب مختلفة في
الفقه بأنّ حفظ النفس المحترمة مقدّم على كثير من الواجبات، و يسوغ لأجله ارتكاب بعض المحرّمات لو توقّف حفظ النفس عليها.
من هنا حكم الفقهاء بجواز قطع
الصلاة الواجبة لأجل إنقاذ النفس المحترمة من
الغرق أو الحرق،
بل أفتوا بوجوب القطع، و كذلك أفتوا بجواز التصرّف في أرض الغير -و لو من دون رضاه- لأجل إنقاذها.
كما صرّح الفاضل الأصفهاني بجواز الأكل من الميتة لو توقّف حفظ النفس عليه،
بل أفتى المحقّق النجفي بعدم جواز الترك تنزّهاً مع خوف التلف، قال المحقّق النجفي فيمن اضطر للأكل من
لحم الميتة حفاظاً على حياته: «فظهر لك أنّه لو أراد التنزّه و الحال حالة خوف التلف للنفس -بل أو الضرر الذي لا يتحمّل عليها- لم يجز ذلك؛ لأنّه إلقاء بيده في التهلكة».
و قال
الوحيد البهبهاني في مقام رفع الضرورة و الحفاظ على النفس و لو بشرب الخمر: «مع أنّه لا يوجد تكليف يقدّم على حفظ النفس و إن كان وجوبه شديداً، بل لا يكون أوجب الفرائض مثل
الفريضة اليومية و أشدّ منها، بل و
اصول الدين يجب فيها
التقية؛ حفظاً للنفس».
نعم، في ارتكاب المحرّم لأجل إنقاذ النفس لابدّ من مراعاة الأدنى حرمة فالأدنى إذا كان الغرض -أي حفظ النفس- يحصل به، و لايجوز للمكلّف أن ينتقل إلى ارتكاب الحرمة الأعلى إذا كان حفظ النفس يمكن بالأدنى منه درجة. و كذلك إذا توقّف حفظ النفس على إتلاف نفس محترمة اخرى، فلا يجوز له الإتلاف لأجل حفظ نفسه. نعم، على بعض المباني إذا كان مكرهاً و قد توعّد بالقتل إن لم يقتل لا يستبعد الجواز ولكن تجب عليه
الدية. و علّله السيّد الخوئي بأنّ القتل في هذا الحال لا يكون محرّماً؛ لأنّ ذلك داخل في باب التزاحم، إذ أنّ الأمر يدور بين ارتكاب محرّم -و هو قتل النفس المحترمة- و بين ترك واجب -و هو حفظ نفسه و عدم تعريضها للهلاك- و حيث لا ترجيح في البين فلا مناص من الالتزام بالتخيير، و عليه يكون
القتل سائغاً و غير صادر عن ظلم و عدوان، فلا يترتّب عليه
القصاص، ولكن تثبت الدية؛ لكيلا يذهب دم امرئ مسلم هدراً.
ذكر الفقهاء -في باب الأطعمة في مسألة
إطعام المضطر و حكمه لو اضطر إلى طعام الغير- كلاماً و تفصيلًا في احتمالات المسألة و صورها، و من ضمنها صورة ما إذا كان المضطر قادراً على دفع ثمن الطعام، فأفتوا فيها بعدم وجوب بذله مجاناً على المالك؛ لأنّ ضرورة الجائع تندفع ببذله الثمن القادر عليه، بل قال البعض حتى لو كان المضطر عاجزاً لم يجب بذله مجّاناً و إن ذهب البعض إلى عدم استحقاقه
العوض؛ و ذلك لمعلومية عصمة مال المسلم كعصمة نفسه، و لو وجب البذل على المالك فإنّ هذا لا ينافي ثبوت العوض في ذمّة المبذول له.
و قد شبّه الحال بوجوب بذل الطعام في الغلاء على
المحتكر و التسعير عليه، الذي لايختلف فيه الفقهاء باستحقاق البائع للعوض فيه.
فإذا ثبت هذا يمكن الجمع بين حقّ مالك الطعام في استحقاق عوضه و حقّ المضطر بوجوب البذل له بالحكم بوجوب دفع العوض على المبذول له وقت القدرة، و هذا ما يظهر من كلمات جمع من الفقهاء.
و في قبال ذلك ذهب بعض آخر إلى وجوب بذل الطعام مجّاناً للمضطر إذا كان عاجزاً عن ثمنه، و لايُلزم بالعوض.
و أورد عليه المحقّق النجفي بأنّ الواجب هو أصل بذل الطعام لا البذل مجّاناً، و عليه لا يمكن نفي استحقاق المالك للعوض».
و هناك من ذهب إلى التفصيل بين من كان قادراً على دفع الثمن في بلده لكنّه غير قادر عليه وقت
الاضطرار، و بين من لم يكن قادراً على دفع الثمن أصلًا، ففي الصورة الاولى لا يجب على المالك بذل الطعام مجّاناً للمضطر، بل له أخذ
البدل.
و لو بذل المالك الطعام للمضطر بعوض و لم يقدّره و أكله، فقد ذهب المحقّق النجفي إلى ثبوت قيمة المبذول في ذلك الزمان و المكان على المبذول له. و ناقش قولَ الشهيد الثاني بثبوت المثل إن كان مثلياً؛ لمنافاته قاعدة (
لا ضرر و لاضرار) كما لو بذل له ماءً -مثلًا- في
الأرض القفراء، و وفّاه المثل عند وروده الماء.
و لو بذل المالك الطعام للمضطر و لم يصرّح بالإباحة أو المجّانية، فهل له الرجوع على المبذول له بعد ذلك أم لا؟
قال الشهيد الثاني: «فيه وجهان، أصحّهما أنّه لا عوض عليه، و يحمل على المسامحة المعتادة في الطعام، سيّما في حقّ المضطر».
و ناقشه المحقّق النجفي، و قال: «الأصل الضمان مع عدم تصريحه بالمجّانية و لو بظهور حال يقوم مقام التصريح».
و مع ثبوت جواز رجوع المنقِذ فيما بذله لأجل إنقاذ المشرف على الهلاك -مع قدرته على دفع البدل أو لا- يثبت حكم رجوع كلّ منقِذ على من أنقذه فيما صرفه في شأن إنقاذه، سواء في مجال إطعام المضطر -كما تقدّم- أو في مجال المعالجة من قبل
الطبيب و صرف الأموال في شراء الدواء المناسب و تحصيله لأجل إنقاذ المريض، أو ما يصرف لأجل إنقاذ الإنسان من الحريق أو الغرق و نحو ذلك.
لا شكّ في أهمّية حفظ المال عن الضياع و التلف و لو كان هذا المال للغير، بلا فرق في ذلك بين كون المال حيواناً أو غير حيوان. إلّا أنّه يقع البحث في الحكم بوجوب هذا الحفظ، و وجوب إنقاذ المال إذا أشرف على التلف و الهلاك. و من الواضح أنّ عدم حفظ مال النفس أو عدم الإنقاذ حرام إذا تعنون ذلك بعنوان
التبذير أو
الإسراف؛ لحرمتهما، أمّا في غير ذلك أو في مال الغير فلم نجد من صرّح من الفقهاء بوجوب الإنقاذ بصورة مطلقة، بل تعرّضوا في أبواب مختلفة من الفقه إلى أحكام يمكن أن يستفاد منها بالملازمة وجوب إنقاذ المال من التلف، لكن لا مطلقاً بل وجوب إنقاذ المال المحترم، كما في ذهاب بعض الفقهاء إلى وجوب قطع
الصلاة لحفظ المال المحترم من التلف،
و إن تأمّل في الوجوب بعضٌ بعد
الإفتاء بالجواز.
كما أفتى بعض الفقهاء بوجوب بذل المال لإنقاذ النفس المحترمة و المال المحترم، و إيجاب بذل المال لإنقاذ المال المحترم إنّما يكون بعد التسليم بوجوب إنقاذه.
قال الشهيد الثاني: «و كما يجب بذل المال لإبقاء الآدمي، يجب بذله لإبقاء البهيمة المحترمة و إن كانت ملكاً للغير».
و قد يستفاد وجوب حفظ المال من التلف من بعض ما أفتوا به في باب
الوديعة أو
الإجارة من وجوب
الإنفاق على حيوان الغير حفظاً له عن التلف، و كذا الأمر في الحيوان الضال إذا التقطه المكلّف، فيجب عليه بذل ما يحفظه من التلف و الهلاك.
قال الشهيد الثاني: «لمّا كانت
الدابّة من الأموال المحترمة التي لا يسوغ إتلافها بغير الوجه المأذون فيه شرعاً، وجب على المستودَع علفها و سقيها بما جرت العادة به لأمثالها. و ينبغي أن يراد بالدابّة هنا مطلق
الحيوان المحترم، أو يكون ذكرها على وجه المثال، و الحكم في الجميع كذلك».
إلّا أنّ وجوب حفظ مال الوديعة و أمثال ذلك ليس بملاك وجوب حفظ المال، و إنّما لتعلّق حكم خاص بالوديعة و
الأمانة و ما شابه ذلك بالمقام.
و قد يستدلّ لوجوب إنقاذ مال النفس بما دلّ على الدفاع عن الأهل و المال، و أنّ المدافع عنهما
شهيد لو قتل، و ما شابه ذلك.
و النتيجة: أنّه لا يحرز ثبوت حكم بوجوب حفظ المال بنفسه ما لم يطرأ عنوان آخر كالإسراف أو التبذير أو التفريط في الأمانة أو نحو ذلك، إلّا إذا استفيد من أدلّة الدفاع عن المال حكم مطلق. ثمّ على فرض ثبوت وجوب حفظ المال و إنقاذه من التلف، فهل هذا الوجوب مختص بمالك المال فقط، أو يعمّ المالك و غيره؟
قال جمع في باب الوديعة بأنّه لو نهى المالكُ المستودعَ عن سقي الدابّة (الوديعة) و علفها، وجب على المستودع علفها و سقيها بما جرت العادة به لأمثالها، بحيث لو أخلّ بذلك كان مفرّطاً، و قد حكى
السيّد الطباطبائي عدم الخلاف و
الاتّفاق على الوجوب.
و كذلك
الشيخ الطوسي قوّى لزوم
الإنفاق لأجل الحفظ و إنقاذ الدابّة من الهلاك.
و يظهر من بعضهم التفصيل بين إنقاذ الحيوان و غيره من الأموال، فيجب حفظ المال و إنقاذه و لو على غير المالك إذا كان حيواناً، و لايجب إلّا على مالكه إذا لم يكن كذلك.
و نعني بالحقّ هنا ما وجب للشخص على الغير فهو يتقاضاه منه، أو ما وجب للغير على الشخص فهو يتقاضاه منه. و لا إشكال في جواز أخذ الحقّ و إنقاذه. نعم، لم نجد في كلمات فقهائنا من صرّح بوجوب إنقاذ الحقّ أو وجوب الأخذ به، ولكن من خلال استعراض المسائل المختلفة المتعلّقة بالحقّ الشخصي أو حقّ الغير نرى أنّ
الحقّ في ذاته لا يتّصف الحفاظ عليه أو إنقاذه بالوجوب إلّا إذا طرأ عليه عنوان ثانوي آخر يلزمه إنقاذ الحقّ؛ ليستفيد منه في معالجة اضطرار أو رفع تهمة أو كان تركه سفهاً، أو إضاعة للمال منهياً عنه.
لذا نرى في كثير من الموارد يترك الأمر لصاحب الحقّ في استنقاذ حقّه أو تركه و عدم الأخذ به، فلربما يرى المكلّف أنّ العمل بالحقّ لا يكون من مصلحته فعلًا فيعرض عنه.
كما أنّ الصفة الغالبة للحقوق هي القابلية للإسقاط، بمعنى التغاضي عنها و عدم تطبيقها من قبل ذي الحقّ، أو التصريح لفظياً و عملياً بالإسقاط، و ما كان شأنه كذلك لا يمكن أن يتّصف إنقاذه و الحفاظ عليه بالوجوب في نفسه.
ذكرنا فيما سبق عند
الحديث عن توقّف إنقاذ النفس على فعل محرّم أو ترك واجب أنّ الإنقاذ الواجب لو توقّف على فعل محرّم، لزم النظر في أهمّية المنقَذ، و هل هو بحيث يكون مقدّماً على كثير من
الواجبات فيصحّ تركها في سبيل إنقاذه و يسوغ لأجل ذلك ارتكاب بعض
المحرّمات؛ لدخول ذلك في
باب التزاحم أم لا؟
و قد ذكرنا هناك أيضاً أنّ ارتكاب المحرّم لأجل إنقاذ النفس لابدّ معه من مراعاة ارتكاب الحرمة الأدنى فالأدنى إذا كان الغرض يحصل به، و لايمكن الانتقال إلى الحرمة الأعلى مع تحقّق الإنقاذ بالرتبة الأدنى.
و أمّا إنقاذ المال فإن كان مورده واجباً -كالضرورة الموجبة للإنقاذ- جرى فيه قانون التزاحم، فتلاحظ الأهمية حينئذٍ.
و أمّا إذا لم يكن المورد واجباً بل كان مجرّد إنقاذ جائز، فهنا لو توقّف الإنقاذ على فعل محرّم فلا يجوز ارتكاب الحرام من أجله إلّا إذا ارتفعت الحرمة في ذلك المورد بدليل خاص أو عام؛ و ذلك لعدم مزاحمة المباح للحرام أو الواجب.
و من المصاديق التي يذكرها الفقهاء في هذا المقام مسألة الترافع إلى حكّام الجور -الذي هو محرّم في نفسه- مع انحصار إنقاذ الحقّ بذلك،
أو الرجوع إلى من لا أهلية له للقضاء،
حيث اختلف الفقهاء في جواز استنقاذ الحقّ بالترافع عند هذا
القاضي، و قد حكم بعضهم بجوازه على تفصيل و شروط تراجع في محلّه.
الإنقاذ المعنوي: من الواضح وجوب العمل على إنقاذ الآخرين من المعاصي و موبقات الذنوب و من نار جهنّم و عذاب الآخرة، و قد وردت في
الإسلام فرائض كبيرة وضعت لهذا الغرض، مثل تبليغ الدين الحق و الدعوة إليه و
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل كانت هذه هي مهمّات
الأنبياء و
الأوصياء (علیهمالسّلام) الذين امرنا بالتأسّي بهم و اتّباعهم.
و قد وردت عن الأئمّة المعصومين (علیهمالسّلام) عدّة
روايات في
تأويل قوله تعالى: «وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»،
و أنّه بمعنى إنقاذها و إخراجها من
الضلال و
الكفر إلى الهدى. و من هذه الروايات:
۱- خبر
سماعة عن
أبي عبد اللَّه (علیهالسّلام) قال: قلت له: قول اللَّه عزّوجل: «مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»، فقال: «من أخرجها من ضلال إلى هُدى فكأنّما أحياها، و من أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها».
۲- خبر
فضيل بن يسار عن
أبي جعفر (علیهالسّلام): قال: قلت لأبي جعفر (علیهالسّلام): قول اللَّه عزّوجل في كتابه: «وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»، قال: «من حرق أو غرق»، قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى، قال: «ذاك تأويلها الأعظم».
و إذا لاحظ الداعية و الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر مفهوم الإنقاذ، و أنّه يقوم بإنقاذ هذه النفوس و تخليصها ممّا هي فيه، فسوف يستشعر معاني
الإعانة و
الإنسانية و المساعدة و
الرأفة و الرحمة بالآخرين، كما لو أنّه ينقذهم من نار أو غرق أو سقوط، و لعلّ هذا أحد المداليل التي تريد هذه الروايات الحكاية عنها.
الموسوعة الفقهية، موسسه دائرة المعارف الفقه الاسلامي، ج۱۸، ص۴۲۳-۴۳۸.