الشك في نية الإحرام
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
إذا عيّن ثمّ نسى وشكّ بما ذا أحرم بحجّ أو عمرة؟ فهنا تارة يكون ذلك في
أشهر الحجّ ، وتارة في غيرها، وفي كلا الفرضين قد يكون أحدهما معيّناً عليه وقد لا يكون معيّناً، فهنا عدّة صور:
إذا كان
الإحرام في
أشهر الحجّ ولم يتعيّن عليه أحدهما ونسي ما عيّنه:
ذهب كثير من
الفقهاء إلى صحّة الإحرام و
التخيير بين الحجّ والعمرة؛ نظراً إلى جواز الإحرام بأيّهما شاء في
ابتداء الأمر، فمع عدم التعيين و
النسيان يستمرّ هذا الجواز عملًا باستصحاب الحال السالم عن معارضته حال الذكر، فله حينئذٍ صرف إحرامه إلى أيّهما شاء؛ لعدم
الرجحان .
مضافاً إلى عدم جواز
الإحلال بدون النسك بعد
انعقاد الإحرام صحيحاً، إلّا إذا صد أو احصر، ولا يجوز الجمع بين
النسكين في إحرام أيضاً، فلا بد من التخيير بينهما.
ولكن ذهب
الشيخ الطوسي في
الخلاف إلى أنّه يجعله للعمرة لأنّه «لا يخلو إمّا أن يكون إحرامه بالحجّ أو بالعمرة، فإن كان بالحجّ فقد بيّنا أنّه يجوز له أن يفسخه إلى عمرة يتمتّع بها، وإن كان بالعمرة فقد صحّت العمرة على الوجهين، وإذا أحرم بالعمرة لا يمكنه أن يجعلها حجّة مع القدرة على
إتيان أفعال العمرة، فلهذا قلنا: يجعلها عمرة على كلّ حال».
واستحسنه العلّامة في
المنتهى و
التحرير .
وجعله
كاشف الغطاء أحوط حيث قال: «لو عيّن في مقام التخيير ونسي تخيّر، و
العدول إلى العمرة في محلّ الجواز أحوط».
بينما ذهب
المحقّق النجفي وغيره إلى
البطلان ثمّ حمل التخيير الذي في كلامهم على معنى يمكن معه
التحلّل من الإحرام وقال في وجه
المناقشة لهم: «إنّ التخيير في الابتداء لا يقتضي ثبوته بعد التعيين؛ ضرورة تغيّر الموضوع المانع من جريان
الاستصحاب ، وكذا عدم الرجحان وعدم جواز
الإحلال بدون النسك، ودعوى
اقتضاء العقل التخيير
لإجمال المكلّف به وعدم طريق إلى امتثاله.
يدفعها: أنّ المتجه حينئذٍ
ارتفاع الخطاب به فيبطل، لا التخيير، ولو فرض توقّف
التحليل على
اختيار أحدهما- ليحصل به الطواف المقتضي للتحليل وإلّا كان محرماً أبداً- فهو ليس من التخيير على نحو الابتداء؛ ضرورة عدم تحقّق خطاب به، بل هو طريق لتحليله وافق أو خالف».
ثمّ نقل كلام الشيخ في الخلاف من أنّه يجعله عمرة، وقال: «نعم، ما ذكره الشيخ قوي بناءً على أنّ له ذلك على كلّ حال، وأنّ حكم العدول يشمله، وإلّا كان المتجه البطلان، بمعنى سقوط الخطاب به بعد عدم طريق إلى امتثاله ولو بالاحتياط بفعل كلّ محتمل، فإنّه وإن كان ليس هذا جمعاً بين النسكين، بل هو مقدّمة ليقين
البراءة ، إلّا أنّ فعل أحدهما يقتضي التحليل
لاشتماله على الطواف، ولعلّ مرادهم بالتخيير هذا المعنى، لا أنّ خطابه ينقلب إلى التخيير كما في الابتداء».
ومن هنا ذهب المحقّق النجفي إلى البطلان والتخيير بالمعنى المتقدّم
لكي يتحلّل من الإحرام، ثمّ احتمل أن يكون مراد الفقهاء من التخيير هو
التجديد .
وكذا صرّح
السيد اليزدي بالبطلان ووجوب التجديد فقال: «لو نسي ما عيّنه من حجّ أو عمرة وجب عليه التجديد سواء تعيّن عليه أحدهما أو لا».
واستبعد
السيد الحكيم حمل كلامهم في التخيير على التجديد مؤيداً ذلك بما استظهر من
الشرائع فقال: «كما يظهر من ملاحظة عبارة الشرائع، فإنّه ذكر التجديد مقابل التخيير في المسألة الآتية (أي الإحرام بالحجّ والعمرة بنيّة واحدة)، وفي هذه المسألة ذكر التخيير مقتصراً عليه، فليس المراد منه إلّا التخيير بالمعنى الظاهر له».
ولذا صرّح السيد الحكيم بأنّه لا مقتضي لبطلان الإحرام بعد وقوعه على الوجه الصحيح، و
إمكان إتمام أعماله إمّا رجاءً أو علماً، عملًا بمقتضى
العلم الإجمالي و
الاحتياط ، لكنّه ذهب إلى عدم
الاجتزاء بهذا النسك عقلًا وعدم فراغ الذمّة به وإن تمكّن من إتمامه؛ لتردّده فيما نواه فلم يجزه ذلك عمّا في ذمّته.
ولكن حكم
السيد الخوئي بالصحّة وانعقاد الإحرام وسلوك طريق الاحتياط حتّى يتحصّل يقيناً، فقال: «أمّا إذا كان كلّ منهما (الحجّ والعمرة) صحيحاً- كما إذا أحرم في شهر
شوال فشكّ- فلا موجب للحكم بوجوب تجديد الإحرام وبطلان الإحرام الأوّل، مع العلم بوقوعه صحيحاً ووجوب إتمامه وهو متمكّن من ذلك. بيان ذلك: أنّ شكّه إذا كان في أنّ إحرامه كان
لعمرة التمتّع أو
للعمرة المفردة فيجب عليه الاحتياط بالإتيان
بطواف النساء ، وعدم الخروج من مكّة إلى زمان الحجّ للعلم الإجمالي، فإذا بقي إلى الحجّ وأتى بأعماله أحرز فراغ ذمّته من حجّ التمتّع لو كان واجباً عليه وإن كان إحرامه للعمرة المفردة واقعاً؛ لأنّها تنقلب إلى عمرة التمتّع حينئذٍ، وأمّا إذا كان شكّه في أنّ إحرامه كان للحجّ أو للعمرة المفردة فطريق الاحتياط ظاهر، وأمّا إذا دار أمر الإحرام بين أن يكون للحجّ أو لعمرة التمتّع فيدور الأمر حينئذٍ بالنسبة إلى
التقصير قبل الحجّ بين الوجوب و
التحريم ، فلا محالة يكون الحكم هو التخيير، وإذا جاز التقصير وجب
لإحراز الامتثال بالنسبة إلى وجوب إتمام إحرامه».
وكذا ذهب إلى القول المذكور جمع من المعلّقين على العروة أيضاً
كالإمام الخميني و
السيد الگلبايگاني وغيرهما،
حيث حكموا بالصحّة والعمل على قواعد العلم الإجمالي مع الإمكان وعدم الحرج، وإلّا فبحسب إمكانه.
ثمّ إنّه لو تجدّد الشكّ بعد الطواف فقد ذكر
العلّامة الحلّي أنّه يجعلها عمرة متمتّعاً بها إلى الحج.
واستحسنه الشهيد فقال: «هو حسن إن لم يتعيّن عليه غيره وإلّا صرف إليه».
وتبعهما عليه
السيد العاملي .
وناقش فيه
المحقّق الكركي بأنّه «مع الشكّ في وقوع النيّة صحيحة كيف يحكم بالصحّة؟».
وكذا المحقّق النجفي
حيث حكم بالبطلان، كما أنّه ظاهر كلّ من لم يفصّل في المقام.
إذا نسي بما ذا أحرم وكان قد تعيّن عليه أحد النسكين في أشهر الحجّ:
ذهب أكثر الفقهاء إلى
الانصراف إلى المتعيّن؛
لأنّ الظاهر من حال المكلّف الإتيان بما هو فرضه، خصوصاً مع العزم المتقدّم على الإتيان بذلك الواجب.
وهو ظاهر كلام المحقّق النجفي أيضاً، حيث قال- بعد
الاستشكال في اقتضاء
أصالة الصحّة تشخيص المأتي به هنا-: «نعم، قد يقال: بتشخيص
أصل الصحّة إذا كان الفعل لا يصح إلّا للمعيّن وإن وقع غفلة لغيره، بل وإن صحّ مع الغفلة أيضاً في وجه قوي، باعتبار أنّ الأصل عدم الغفلة».
وعليه، فإنّ
المستند عنده في انصراف الإحرام إلى المتعيّن ليس هو ظهور حال المكلّف الإتيان بما هو فرضه ولا هو أصالة الانصراف، بل هو
تشخيص أصل الصحّة واقعاً إذا كان الفعل لا يصحّ إلّا للمعيّن في الواقع.
وقد ناقش في الظهور المذكور في كلامهم بعدم دليل على
اعتبار هذا الظهور مع تعيّن أحدهما عليه، كما ناقش أصالة الصحّة فقال: «
أصالة الصحّة لا تقتضي التشخيص في وجه، كما عساه يرشد إلى ذلك في الجملة ما ذكروه من البطلان في مسألة الشكّ في أنّه هل نوى ظهراً أو عصراً إذا لم يكن قد حفظ ما قام إليه، وإلّا عمل عليه؛ للنصّ، على أنّ الصحّة أعم من الانصراف إلى ما تعيّن عليه؛ إذ الظاهر حصولها مع الجهل أو
النسيان أو الغفلة أو غير ذلك. نعم، هو متجه بناء على الصرف شرعاً نحو الصوم في
شهر رمضان ، ولكن لا دليل عليه هنا».
وناقش السيد الخوئي في أصل دعوى الانصراف إلى المتعيّن الواقعي ب: «أنّ العمل قصديٌّ يحتاج إلى النيّة، ومجرّد التعيين الواقعي لا يوجب كونه منويّاً وممّا تعلّق به القصد، إلّا إذا كان
ارتكازه على إتيان هذا الفرد بخصوصه، كما إذا كان أحدهما واجباً والآخر مندوباً، وارتكازه على إتيان ما هو الواجب عليه، فحينئذٍ لا مانع من الانصراف إلى ما هو المرتكز، وقد لا يكون كذلك كما إذا فرضنا أنّه لم يكن عالماً بما تعيّن عليه أو كان عالماً به وغفل عنه بالمرّة».
وفي قبالهم ذهب السيد اليزدي إلى بطلان الإحرام ولزوم تجديده، فقال: «لو نسي ما عيّنه من حجّ أو عمرة وجب عليه التجديد سواء تعيّن عليه أحدهما أو لا».
وممّا تقدّم يعلم وجه المناقشة فيه من أنّه لا موجب للحكم ببطلان الإحرام بعد انعقاده صحيحاً، وكيف يجدّد الإحرام مع أنّه محرم بالفعل؟! ولا يصحّ الإحرام على الإحرام مع إمكان الامتثال له على النحو المتقدم ذكره.
ولذا ذهب السيد الخوئي والإمام الخميني
إلى الصحة وانعقاد الإحرام والعمل على مقتضى العلم الإجمالي كما تقدّم تفصيله في الصورة السابقة.
إذا أحرم في غير أشهر الحجّ ثمّ نسي وشكّ في أنّ إحرامه كان للعمرة المفردة ليكون إحرامه صحيحاً أو للحجّ فيكون فاسداً؟ وفيها عدّة أقوال:
ذهب البعض إلى الانصراف إلى العمرة المفردة، وليس هذا المورد من موارد دوران الأمر بين
الصحيح والفاسد، بل يحكم في مثله بالصحّة عملًا بأصالة الصحّة؛ لأنّ كلّ عمل يشكّ في صحّته وفساده يبنى على الصحّة فيه، وهذا ظاهر كلّ من ذهب إلى الصحّة في الصور السابقة؛ لعدم لزوم التعيين كالشيخ ومن تبعه، وكذا كلّ من ذهب إلى
الانعقاد والانصراف إلى ما يتعيّن عليه في أشهر الحجّ.
ونوقش فيه ب «أنّ قاعدة الصحّة إنّما تجري بعد إحراز العنوان الذي يكون موضوعاً للصحّة والفساد لا مع الشكّ فيه»؛
لأنّ دليل أصالة الصحّة هو
السيرة القطعيّة وبعض الروايات الواردة في موارد خاصّة، و
القدر المتيقّن من السيرة جريان أصالة الصحّة في مورد يكون عنوان العمل محفوظاً ومعلوماً، ولكن يشكّ في بعض الخصوصيّات من الأجزاء والشرائط، وأمّا إذا لم يكن أصل العنوان وصورة العمل محفوظين بل كانا مشكوكين فلا مجال لجريان أصالة الصحّة.
وصرّح السيد اليزدي ببطلانه ولزوم تجديد النيّة؛
لعدم جريان أصالة الصحّة كما تقدّم، وأنّ السابق إن كان نفس ما هو الواجب عليه لم يضرّه هذا التجديد، وإن كان غيره وقع
باطلًا فصحّ التجديد، وتبعه عليه بعض المعلّقين على العروة
كالسيد البروجردي و
الخوانساري وغيرهما.
وقال السيد الحكيم أيضاً: «إذا كان لا يصحّ منه إلّا أحدهما، فإذا تردّد فيما نوى جاز له رفع اليد بالمرّة- بناء على عدم جريان أصالة الصحّة في المقام، ومقتضى
الأصل العملي البطلان».
ولكن السيد الخوئي فصّل في ذلك بين صورة
انحفاظ عنوان العمل فتجري أصالة الصحّة وبين صورة عدم انحفاظ عنوان العمل فلا تجري. وقد قرّب انحفاظ صورة العمل، فقال: «إذا كانت صورة العمل محفوظة كما إذا رأى نفسه في العمرة ولكن يشكّ في الإحرام الصادر منه وأنّه كان للحجّ أو للعمرة المفردة، فإن كان شكّه بعد الدخول في الغير كالطواف إذا أتى به بعنوان العمرة جرت
قاعدة التجاوز وحكم بصحّة إحرامه عمرة؛ نظير ما لو شكّ في حال الطواف في أصل صدور الإحرام منه في أوّل الأعمال. وإن كان شكّه قبل الدخول في الأعمال وقبل التجاوز لم تجر قاعدة التجاوز ولا قاعدة الصحّة، بل مقتضى الأصل عدم صدور الإحرام الصحيح منه، وعليه تجديد الإحرام الصحيح».
ويمكن موافقة البعض الآخر له بناءً على جريان أصالة الصحّة إذا كان الشكّ بعد الطواف، لكنه لم يصرّح به أحد في المقام.
وممّا تقدم من آراء الفقهاء ومبانيهم في الصورة السابقة يعلم حكم الفروع التالية:
إذا أحرم ثمّ شكّ في أنّه هل أحرم للحجّ أو للعمرة أو بأحدهما معيّناً؟
والفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أنّ الإحرام في تلك المسألة كان معيّناً حين النية ثمّ طرأ عليه النسيان والشكّ في نوع الإحرام. لكن هنا الشكّ في نوع الإحرام ولا يعلم أنّه هل عيّنه حين النية أم صدر منه الإحرام غفلة عن نوعه ولذا ذهب بعض هناك إلى التخيير بينما ذهب هنا إلى البطلان كالعلّامة في المنتهى، وكيف كان فقد ذهب الشيخ في الخلاف
إلى جعله عمرة يتمتّع بها، لكنه قال في
المبسوط : «من أحرم ونسي بما ذا أحرم كان بالخيار إن شاء حجّ وإن شاء اعتمر؛ لأنّه لو ذكر أنّه أحرم بالحجّ جاز له أن يفسخ ويجعله عمرة على ما قدّمناه، (و) متى أحرم بهما فقد قلنا: أنّه لا يصحّ ويمضي في أيّهما شاء، وكذلك إن شكّ هل أحرم بهما أو بأحدهما؟ فعل أيّهما شاء».
وتبعه العلّامة في بعض كتبه حيث ذهب إلى التخيير،
لكنه صرّح في القواعد تبعاً
للمحقّق الحلّي بأنّه: «لو نسي ما عيّنه تخيّر إذا لم يلزمه أحدهما، وكذا لو شكّ هل أحرم بهما أو بأحدهما».
وقال
الفاضل الهندي : «لو شكّ هل أحرم بهما أو أحدهما معيّناً؟ انصرف إلى ما عليه إن كان عليه أحدهما، وإلّا تخيّر بينهما ولزمه أحدهما، وإن كان الأصل البراءة وكان الإحرام بهما فاسداً فإنّ الأصل في الأفعال الصحّة».
وكذا إذا شكّ أنّه هل أحرم بهما أو بأحدهما معيّناً أو مبهماً، أما إذا علم أنّه إمّا أحرم بهما أو بأحدهما مبهماً فهو باطل بناء على
اشتراط التعيين في النيّة كما تقدّم تفصيله.
وأمّا بناءً على مبنى الشيخ الطوسي ومن تبعه من عدم اشتراط التعيين انعقد الإحرام وتخيّر، كما يشمله
إطلاق ما تقدّم منه «إن شكّ هل أحرم بهما أو بأحدهما فعل أيّهما شاء» وهو أعمّ على مختاره من أحدهما معيّناً ومبهماً.
وأمّا إذا كان في أثناء نوع خاصّ كأعمال الحجّ وشكّ في أنّه نواه أو نوى غيره، بنى على أنّه نواه كما صرّح به السيد اليزدي وتبعه على ذلك المعلّقون حيث لم يعلّقوا عليه؛ نظراً إلى جريان قاعدة التجاوز والصحّة، وليس الشكّ في أصل النيّة حتى يكون الشكّ في أصل العنوان.
ولكن مع ذلك أشكل عليه السيد الحكيم وذهب إلى عدم جريان قاعدة التجاوز أو الصحّة هنا؛ لأنّها «إنّما تجري مع الشكّ في تحقّق ما له دخل في تماميّة المعنون بعد إحراز عنوانه. والنيّة لمّا كانت بها قوام العنوان فمع الشكّ فيها يكون الشكّ في
العنوان لا في المعنون».
الموسوعة الفقهية، ج۶، ص۳۳۶-۳۴۴.