شروط المزارعة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هنا يأتي شروط ثلاثة للمزارعة من طرف المالك أو العامل أو مشتركين.
(وشروطها ثلاثة) أحدها : (أن يكون
النماء مشاعاً) بينهما (تساوياً فيه أو تفاضلا) بلا خلاف، بل عليه
الإجماع في الغنية وغيرها؛
وهو الحجة.
مضافاً إلى كون عقد
المزارعة والمساقاة على خلاف
الأصل ؛ لتضمنه جهالة العوض، فيقتصر فيه على موضع الإجماع والنقل، وليس إلاّ مع إشاعة النماء، ففي المعتبرة المستفيضة، وفيها الصحيح وغيره : «لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع والخمس».
وخصوص الصحيح : «لا تقبل الأرض بحنطة مسمّاة، ولكن بالنصف والثلث والربع والخمس لا بأس به».
وعليه فلو شرط لأحدهما شيء معيّن وإن كان البذر، وللآخر الباقي أو لهما بطل، سواء كان الغالب أن يخرج منها ما يزيد على المشروط وعدمه.
خلافاً للمحكي عن الشيخ وجماعة،
فجوزوا
استثناء البذر من جملة الحاصل. وفي المختلف جواز استثناء شيء مطلقاً،
ورجّحه في الكفاية؛
استناداً إلى قوله سبحانه (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً)
الآية .وهو كما ترى؛ إذ ليس المستفاد منه إلاّ الجواز مع
المراضاة ، وهو لا يستلزم اللزوم مع فقدها ولو بعدها كما هو المدّعى، مع أنه مخصّص بما مضى.
مضافاً إلى ما دلّ على النهي عن
التجارة المتضمنة للغرر والجهالة، ومنها مفروض المسألة، كما مرّ إليه
الإشارة ، وبه صرّح في الغنية، فقال بعد
الاستناد إلى الإجماع ـ : ولأنه قد لا يسلم إلاّ ما عيّنه، فيبقى ربّ الأرض والنخل بلا شيء، وقد لا يعطب إلاّ غلّة ما عيّنه، فيبقى العامل بغير شيء.
ولو شرط أحدهما على الآخر شيئاً يضمنه مضافاً إلى الحصّة من ذهب أو فضّة صحّ على الأظهر الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر، وظاهر
المسالك والمفلح الصيمري
عدم الخلاف فيه، حيث ذكرا جهالة القائل
بالبطلان ، وأنه إنما حكاه الماتن والعلاّمة؛
وهو مع التمامية يصلح للحجية.
مضافاً إلى عموم الأدلّة بلزوم الوفاء بالعقود والشروط، السليمة عن المعارض من نحو ما قدّمناه من
الغرر والجهالة، ولزوم كون النماء على الإشاعة، لخروجه عنه بالبديهة وفي المفاتيح : وفي بعض الأخبار عليه دلالة.
ولعلّه ما أشار إليه في الكفاية
من بعض المعتبرة : عن الرجل يزرع له الحرّاث
الزعفران ويضمن له أن يعطيه في كلّ جريب أرض يمسح عليه وزن كذا وكذا درهماً، فربما نقص وغرم، وربما استفضل وزاد، قال : «لا بأس به إذا تراضيا».
وحيث صحّ يكون قراره مشروطاً بالسلامة، كاستثناء أرطال معلومة من الثمرة في المبايعة، ولو تلف البعض سقط من الشرط بحسابه؛ لأنه كالشريك وإن كانت حصّته معيّنة.ويحتمل قويّاً أن لا يسقط شيء بذلك؛ عملاً
بإطلاق الشرط، إلاّ أن يكون هناك عرف يوجب الصرف إلى الأوّل، فيتبع.
(و) ثانيها : (أن يقدّر لها مدة معلومة) يدرك فيها الزرع علماً أو ظنّاً، وفاقاً لشيخنا
الشهيد الثاني وجماعة.
فلو لم يعيّن مدّة أو عيّن أقل من ذلك بطل؛ لأن مقتضى العقد اللازم ضبط أجله، والأجل الناقص خلاف وضع
القبالة وتفويت للغرض منها.
خلافاً لظاهر إطلاق العبارة هنا وفي الشرائع والإرشاد
في الثاني، فجوّزوا
الاقتصار على المدّة الناقصة.قيل : لجواز التراضي بعدها.
ويضعف بعدم لزومه، فلا يعلّق عليه شرط اللازم.
ولبعض متأخّري الأصحاب
في الأوّل إذا عيّن المزروع، مدّعياً على خلافه الوفاق، وجعله في الشرائع وغيره
وجهاً، ولم يذكروه قولاً، وفيه نوع
إشعار بالوفاق كما ادّعاه؛ فإن تمّ كان هو الحجة، وإلاّ فما اختاره من عدم اعتبار ذكر المدّة في تلك الصورة لا يخلو عن قوة؛
إقامةً للعادة مقام ذكر المدّة، وإن كان ما ذكره الأصحاب أحوط البتة، سيّما مع عدم الخلاف، وقوة احتمال
انعقاد الإجماع.
وحيث عيّنت ومضت والزرع باقٍ لم يدرك لفساد الظن كان للمالك إزالته، على الأشهر الأظهر؛
لانقضاء المدّة التي يستحق فيها التبقية، والأصل تسلّط المالك على ملكه كيف شاء.وفيه قول بالعدم مطلقاً،
وآخر به مع عدم
الأرش ، وأمّا معه فالأوّل.
وهو أحوط، وأحوط منه العدم المطلق.
وعليه ففي
استحقاق المالك الأُجرة، كما عن التذكرة،
أو لا، كما عن القواعد
وليس كذلك
لاختياره الأوّل قولان، أجودهما الأوّل.أمّا لو اتفقا على التبقية جاز بعوض وغيره، إلاّ أنها مع العوض يفتقر في لزومها إلى تعيين مدّة زائدة
كالإجارة .
ولو ترك المزارعة حتى انقضت المدة لزمته أجرة المثل مع تمكين المالك له منها، كالإجارة؛ لتفويت منفعتها عليه. ولا فرق في ذلك عند الأكثر بين الترك اختياراً أو غيره، وقيل
بالاختصاص بالأوّل.
ولا يبعد.
(و) ثالثها : (أن تكون الأرض مما يمكن
الانتفاع بها) في الزراعة المقصودة منها أو في نوع منها مع الإطلاق، بأن يكون لها ماء من نهر، أو بئر، أو مصنع، أو تسقيها الغيوث غالباً، أو الزيادة كالنيل. والضابط إمكان الانتفاع بزرعها المقصود عادة، فإن لم يمكن بطلت المزارعة وإن رضي العامل.
والوجه في اشتراطه ظاهر؛ لمنافاة عدم
الإمكان بها للعقد؛
لانصرافه إلى ما يمكن حصول المقصود من المزارعة منه؛ إذ مع غيره تكون لغواً، هذا. مضافاً إلى مخالفة أصل العقد من حيث تضمّنه جهالة العوض للأصل، فيقتصر فيه على المتيقن من النص
والإجماع ، وليس إلاّ مع إمكان الانتفاع.
مع أنه لا خلاف في
اشتراطه في الجملة، وإن اختلفوا في متعلّقه هل هو الصحة مطلقاً، كما هو ظاهر العبارة، فيبطل العقد مع عدمه مطلقاً ولو مع العلم بفقده ابتداءً وعدمه بعد وجوده؟ أو في صورة الجهل بعدمه حين العقد خاصّة، كما هو ظاهر الفاضل في الإرشاد،
حيث حكم بالبطلان بعدمه إلاّ مع العلم به؟ أو اللزوم في صورة الجهل خاصّة، فللعامل الخيار فيها بعد العلم؟
وأمّا صورة العلم
ابتداءً بعدمه حين العقد فليس بشرطٍ أصلاً، بل يلزم فيها، كما هو صريح القواعد،
ووجهه كالسابق غير واضح بعد ما قرّرناه، سيّما هذا.وحمل على محامل مع بُعدها لا ينطبق شيء منها مع ما قدّمناه من الأدلّة.
وقريب منهما في الضعف ما ذكره الفاضلان
وتبعهما الشهيدان في الروضتين
: من أن مع انقطاع الماء في الأثناء يتخيّر العامل بين الفسخ
والإمضاء .
قيل : لطروّ العيب، ولا يبطل العقد، لسبق الحكم بصحته فيستصحب، والضرر يندفع بالخيار.
وفيه نظر.قالوا : فإن فسخ فعليه من
الأُجرة بنسبة ما سلف من المدّة؛ لانتفاعه بأرض الغير بعوض لم يسلم له وزواله باختياره الفسخ.ويشكل بأن فسخه لعدم إمكان
الإكمال ، وعمله الماضي مشروط بالحصّة لا بالأُجرة، فإذا فاتت بالانقطاع ينبغي أن لا يلزمه شيء آخر.
نعم، لو كان قد استأجرها للزراعة توجه.وبالجملة لزوم الأُجرة عليه لما سلف من أحكام
الإجارة دون
المزارعة ؛ إذ لا شيء عليه فيها سوى الحصة، وقد فاتت. وحيث استفيد من حقيقة المزارعة أن المعقود عليه هو الأرض ينبغي أن تكون مملوكة ولو منفعة، وصرّح جماعة من المحققين
بكفاية الأولوية الحاصلة في الأرض الخراجية،
وبالإحياء إن لم نقل بكونه مفيداً للملك.
وفي النصوص ما يدلّ على جواز تقبيل
الأرض الخراجية للزراعة، ففي الصحيح : عن مزارعة
أهل الخراج بالربع والثلث والنصف، فقال : «لا بأس».
وفي آخر : عن الرجل يكون له الأرض من أرض الخراج فيدفعها إلى الرجل أن يعمرها ويصلحها ويؤدّي خراجها، وما كان من فضل فهو بينهما، قال : «لا بأس».
إلى غير ذلك من النصوص.
خلافاً للمسالك،
فمنع عن مزارعتها إلاّ مع الحيل التي فيه ذكرها.والمعتبرة حجة عليه كما ترى، وحملها على صورة الحيل بعيد جدّاً.
(وله) أي للعامل (أن يزرع الأرض بنفسه وبغيره ومع غيره) وإن لم يأذن المالك، سواء كان ذلك بعنوان التوكيل
والاستنابة ، أو نقل بعض الحصة بعنوان الشركة والمزارعة الثانية، قالوا : لنقل منفعة الأرض إليه بالعقد اللازم، والناس مسلّطون على أموالهم. وقيل : لا يجوز له تسليم الأرض إلاّ
بإذن المالك، كما في الإجارة.
وقيل : إنما يجوز مزارعته غيره أو مشاركته له إذا كان البذر منه؛ ليكون تمليك الحصة منوطاً به؛ ولأن
الأصل أن لا يتسلّط على البذر إلاّ المالك أو من أذن له.
وأمّا
المساقاة فليس للعامل فيها أن يساقيه؛ لأنه لا يملك منها سوى الحصّة من الثمرة بعد ظهورها، والأصل فيها للمالك، وهو فيها كالبذر في المزارعة، فيعامل عليه من يملكه، وهو للعامل مقصود بالعرض كالأرض للمزارع.
وهو أحوط في الجملة، وإن كان القول بعدم اشتراط كون البذر منه في الجواز لا يخلو عن قوة، مع كونه الأشهر بين الطائفة، بل عليه الإجماع في ظاهر الغنية.
(إلاّ أن يشترط عليه زرعها بنفسه) فلا يجوز التعدّي إجماعاً؛ لأنّ المؤمنين عند شروطهم.
(و) كذا له مع إطلاق المزارعة (أن يزرع ما شاء) على الأظهر الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر، وفي ظاهر الغنية
الإجماع عليه؛ وهو الحجّة.مضافاً إلى ما قيل من دلالة المطلق على الماهية من حيث هي، وكلّ فرد من أفراد الزرع يصلح المطلق أن يوجد في ضمنه.
وهو حسن إن تساوت أفراد الماهية في
التبادر والغلبة، وإلاّ فما ذكر محلّ مناقشة، بل الظاهر تعيّن الراجح بأحد الأمرين، كما قالوا بمثله في مواضع عديدة، فلولا إجماع الغنية المعتضد بالشهرة لكان المصير إلى ما ذكرنا في غاية القوّة.
وبه صرّح بعض الأفاضل، فقال : والحق أن
الإطلاق إن اقتضى بالنظر إلى ذلك الأرض وذلك الوقت تعيين نوع من الزرع تعيّن، وإلاّ فالأولى مراعاة مصلحة المتعاملين أو المالك، كما في إطلاق
الوكالة وغيرها من العقود. انتهى. نعم، لو عمّم الإذن اتّجه ما ذكروه؛ لدلالته على كلّ فرد فرد.
وكيف كان، فتعيين نوع الزرع بالخصوص غير لازم؛ لكون كلّ من العموم والإطلاق المتساوي الأفراد في حكم التعيين، من حيث دخول جميع الأفراد فيهما عموماً في الأوّل، وإطلاقاً في الثاني، فيكون المالك بهما قادماً على أضرّ الأنواع. وكذا المطلق الغير المتساوي الأفراد إذا كان الأضرّ من الأفراد الراجحة ويكون غير الأضرّ داخلاً بالأولوية.
ولو انعكس فكان الأضرّ من الأفراد المرجوحة فإن قلنا بتعيّن الراجح كان عن الإطلاق خارجاً ويكون صرفه إلى الراجح من قبيل تعيينه. وإن قلنا بعدم تعيّنه ولزوم الصرف إلى جميع أفراده نظراً إلى ما قدّمناه من الدليل كان كذلك؛ لكون الدليل كالرجحان الموجب للتعيين. فعلى أيّ تقدير تعيين النوع بالخصوص غير محتاج إليه.
فما عن التذكرة
من لزومه لتفاوت ضرر الأرض
باختلاف جنس المزروعات فيلزم بتركه الغرر غير ملتفت إليه، فإنّ ما ذكرناه بجميع تقاديره في حكم التعيين، فلا غرر يلزم بتركه، فلا ريب في صحّة العقد وتخيّر العامل في زرع ما شاء مع العموم أو الإطلاق مطلقاً أو في الجملة.
(إلاّ أن يعيّن له) المالك شيئاً من الزرع، فلا يجوز التعدّي عما عيّن له، سواء كان المعيّن شخصيّاً كهذا الحبّ، أو صنفيّاً كالحنطة الفلانية، أم نوعيّاً أم غيره، بلا خلاف، بل عليه الإجماع ظاهراً، وصرّح به في الغنية؛
وهو الحجة.مضافاً إلى عموم أدلّة لزوم الوفاء بالعقود والشروط.
فلو خالف وزرع الأضرّ ففي بطلان المزارعة مع
انقضاء المدّة ولزوم اجرة المثل عما زرعه، أو تخيّر المالك بين الفسخ فله الأُجرة،
والإبقاء فله المسمّى والأرش قولان :
من أن مقدار المنفعة المعقود عليها قد استوفى بزيادة في ضمن زرع الأضرّ، فيتخير بين الفسخ لذلك فيأخذ الأُجرة لما زرع، لوقوعه أجمع بغير إذنه، لأنه غير المعقود عليه، وبين أخذ المسمّى في مقابلة مقدار المنفعة المعيّنة مع أخذ
الأرش في مقابلة الزائد الموجب للضرر.
ومن أن الحصّة المسمّاة إنما وقعت في مقابلة الزرع المعيّن ولم يحصل، والمزروع لم يتناوله العقد ولا
الإذن ، فلا وجه
لاستحقاق المالك فيه الحصة. ولعل هذا هو الأجود، وفاقاً للشهيد الثاني وغيره،
خلافاً للماتن في الشرائع وغيره،
فالأوّل.
ومن وجه المختار يظهر وجه
الإشكال فيما ذكره جماعة من الأصحاب
: من أن للعامل زرع ما هو أقلّ ضرراً فيستحق ما سمّاه من الحصّة، ولا أرش ولا خيار؛ لعدم الضرر.وذلك لأنه غير معقود عليه أيضاً، فكيف يستحق فيه شيئاً مع أنه نماء بذر العامل الذي لا دليل على
انتقاله عن ملكه؟
والاعتذار بأن الرضاء بزرع الأضرّ بالنسبة إلى الأرض يقتضي الرضاء بالأقلّ ضرراً. مضعّف بأن غرض المالك ليس منحصراً فيما يتعلّق بمصلحة الأرض، بل القصد الذاتي إنما هو
الانتفاع بالزرع، ومصلحة الأرض تابعة وليست بالذات مقصودة، ولا شك أن الأغراض تختلف في أنواع المزروع، فربما كان غرضه في الأشدّ ضرراً من حيث نفعه أو الحاجة إليه وإن حصل للأرض ضرر، ولا يتعلق غرضه بالأخفّ وإن انتفعت الأرض به.
نعم، مثل هذا يجري في إجارة الأرض لزرع نوع معيّن، فإنّ عدول المستأجر إلى زرع الأخفّ متّجه؛ لأن الغرض في
الإجارة لمالك تحصيل الأُجرة خاصة، وهي على التقديرين حاصلة، ويبقى معه زيادة تخفيف الضرر عن أرضه.
رياض المسائل، ج۹، ص۳۶۷-۳۷۷.