اجتهاد بالرأي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهو بمعنى إعمال
الأنظار الشخصية في
الفقه والدين وعدم
مراعاة ملاكات الأحكام الشرعية وهذا مقابل
الاجتهاد في فقه
الشيعة.
وقد اتخذ فقه
أهل البيت عليه السلام من الاجتهاد بالمعنى الأوّل- اجتهاد الرأي- موقفاً حاسماً منذ البداية.
فهو من ناحية أكّد على أنّ
الرأي والترجيح الشخصي لا مجال لإعماله في التشريعات الالهية وأنّ
المصالح والمفاسد وملاكات الأحكام لا يمكن إدراكها
بالعقول البشرية، بل لا بدّ من أخذها وتشخيصها من قبل
الشارع المقدّس. وقد ورد بهذا الصدد
أحاديث مستفيضة عن
أئمة أهل البيت عليهم السلام
نقلًا عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحرّم الرجوع إلى الرأي سواء في الأحكام أو في
تفسير القرآن، وأن من فعل ذلك فليتبوأ
مقعده من
النار،
وأنّ دين اللَّه لا يُصاب بالعقول،
وأنّ
السنة إذا قيست محق الدين.
ومن ناحية ثانية شدّد النكير على من يتهم الشريعة
بالنقص أو يرى
التصويب في آراء
القضاة والمفتين؛ لأنّ الشريعة مكتملة وتامّة بصريح قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...}،
وأنّ البيان الشرعي المتمثل في الكتاب والسنة وافٍ بكل ما يحتاجه
الانسان في
حياته على مدى العصور وقد دلّت على ذلك
الآيات والروايات الكثيرة كقوله تعالى: {وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ}،
وقوله: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}،
وقول
الإمام الصادق عليه السلام: «انّ اللَّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى واللَّه ما ترك شيئاً يحتاج إليه
العباد حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا انزل في القرآن، إلّا وقد أنزله اللَّه فيه».
وجاء في حديث آخر: «ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنة».
وسُئل
الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: «أ كل شيء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه أو تقولون فيه؟ فقال: بل كل شيء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم».
وفي حديث عن الامام الصادق عليه السلام يصف الجامعة التي هي باملاء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام: «فيها كلّ حلال وحرام وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش».
ومن كلام رائع
للامام علي عليه السلام في الردّ على أهل الاجتهاد ومن قال: كل مجتهد مصيب، قوله عليه السلام في
ذمّ اختلاف
العلماء في الفتيا: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند
الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً. وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد، أ فأمرهم اللَّه تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟! أم نهاهم عنه فعصوه؟! أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟! أم كانوا
شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟! أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً تامّاً فقصّر
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغه
وأدائه؟! واللَّه سبحانه يقول: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} وفيه تبيان كلّ شيء وذكر انّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً وانّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: {وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}،
وانّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفنى
عجائبه ولا تنقضي
غرائبه ولا تكشف
الظلمات إلّا به».
ومن ناحية ثالثة خاضت
مدرسة أهل البيت عليهم السلام معركة عنيفة منذ البداية ضدّ الاتجاه الذي وجد بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم- كما أشرنا إليه- للحيلولة دون نقل السنة النبوية الطاهرة والتحديث بها بين
المسلمين ونشرها وتدوينها، وقد واجه الامام علي عليه السلام وبنوه والخواص من أتباعهم الكثير من
المعاناة والجفاء والمواجهة من قِبل الحكام حين وقفوا بوجه هذا الاتجاه فنقلوا السنة النبوية ودوّنوها وحفظوها عن
التلاعب والتحريف للأجيال القادمة لكونها كالقرآن الكريم مصدراً للتشريع وعِدلًا للقرآن في المرجعية
الفكرية والدينية.
وقد أثّر
إصرار علي عليه السلام وأصحابه على هذا الموقف في حفظ
التراث النبوي ونقله حتى في الأوساط غير الموالية لهم؛ حيث انتشر هذا الميراث من خلال طبقات من الصحابة
والتابعين ممن تتلمذ على يد الامام أمير المؤمنين
كابن عباس وأبي رافع، فنجحت مدرسة أهل البيت عليهم السلام في نهاية المطاف في نشر هذا التراث
الطاهر، واستطاع أن يرجع جملة من التابعين وتابعي التابعين إلى تناقل السنة النبوية، حتى اضطر
الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أن يفك الحصار ويرفع المنع عن نقل السنة الشريفة، إلّا أنّ هذا كان يأتي بعد مرور قرابة قرن على
الهجرة النبوية كان الصحابة خلاله ممنوعين عن نقل
الحديث، كما انّ السنة النبوية لم تكن مجتمعة بشكل كامل عند أحد غير
الإمام علي عليه السلام
وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يشهد بذلك التاريخ والروايات المستفيضة الصادرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأنه وبشأن
العترة الطاهرة في مناسبات مختلفة، فكان من الطبيعي أن يكون انتشار أكثر السنة النبوية من خلال أهل البيت وأصحابهم ومن أخذ العلم عنهم وأن ترجع أكثر الطرق والأسانيد الموثقة اليهم، وهذا ما لم يكن يطيب للخلفاء وأتباعهم لأنّه كان يعزز موقع أهل البيت عليهم السلام ويثبت مرجعيتهم الفكرية والدينية.
من هنا حاول الحكام بشكل وآخر الالتفاف على ذلك من خلال خلق أو تعزيز اتجاهات فكرية
ومذهبية اخرى تعتمد مصادر للتشريع مستقلة لا تحوجهم إلى تراث أهل البيت، فظهرت مذاهب فقهية متطرّفة كما طرحت مصادر للتشريع غير الكتاب والسنة كالاجتهاد والرأي
والإجماع وقول
الصحابي والتابعي وغير ذلك، وكثر أيضاً وضع الأحاديث ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الصحابة وتوسّعوا في قبولها وتوثيقها من اناس واضحي
العداء والنصب لأهل البيت، بل وممن يعلم انّه لا يمكن أن ينقل تلك الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد واجه
أئمة أهل البيت عليهم السلام كل هذه الاتجاهات واعتبروها
انحرافاً عن المنهج الصواب، ففي الوقت الذي شجبوا فيه مبدأ اجتهاد الرأي واعتبروه مدعاةً لمحق
الدين، كذلك أخذوا يؤكدون بأنّ مصادر التشريع لا يمكن أن تخرج عن
الكتاب والسنة النبوية وانّ طريق الوصول إلى
معرفة علوم الكتاب العزيز وسنة نبيّه الكريم إنّما هو طريق العترة الطاهرة الذين أذهب اللَّه عنهم
الرجس وطهّرهم تطهيراً. وقد دعاهم ذلك إلى الدخول في كثير من
المناظرات والاحتجاجات مع أتباع تلك المذاهب وأئمتها، كما أنهم وأتباعهم تعرّضوا لكثير من الضغوط والاضطهادات كانت تكلّفهم حياتهم في كثير من الأحيان.
وهذه
الجهود الكبيرة وإن لم تسفر عن توحيد المذاهب والاتجاهات الفكرية والفقهية في الامّة ورجوعها جميعاً إلى مذهب واحد، إلّا انها كانت مؤثرة جداً في تصحيح مسارها الفكري والفقهي العام.
فمن ناحية أوجبت التحديد من غلواء مدرسة الرأي وعدم تماديها في إعمال الرأي والأنظار الشخصية في الفقه والدين نتيجة تلك النقود التي وجّهت اليها من قبل الأئمة عليهم السلام وخصوصاً
الإمام الصادق عليه السلام، فلم يجرأ أصحاب مدرسة الرأي من التوسّع في الرأي
والقياس، بل وضعوا له إطاراً محدوداً، وقد نسب إلى
أبي حنيفة إمام هذه المدرسة قولته المعروفة: «لو لا السنتان لهلك
النعمان»
قاصداً بذلك السنتين اللتين استدعى فيهما
المنصور الامام الصادق عليه السلام إلى
العراق فالتقى به أبو حنيفة واستفاد منه، بل نسب إليه قوله انّه سوف لن يرجع إلى قياس بعد ذلك في مسألة أبداً.
ومن ناحية اخرى
وببركة هذه الجهود قد انتشرت السنة النبوية في أيدي الناس وأهل العلم وانتقلت بالتدريج من الصحابة إلى التابعين وتابعي التابعين، وهكذا حتى جمعت بعد ذلك في
الصحاح والمجاميع الحديثية رغم التحفظات والمواجهات التي قام بها الحكّام ضد مدرسة أهل البيت.
وأكثر من انتشرت هذه الأحاديث من قبلهم خصوصاً في العصور المتقدمة كانوا من
شيعة أهل البيت عليهم السلام أو تلامذتهم- كما أشرنا- أمثال:
سلمان الفارسي {ت/ ۳۵ ه}
وأبي ذر الغفاري {ت/ ۳۲ ه}
والمقداد بن عمرو الكندي {ت/ ۳۷ ه}
وحذيفة بن اليمان العبسي {ت/ ۳۶ ه}
وعمّار بن ياسر الكناني العنسي {ت/ ۳۷ ه}
وابن عباس القرشي الهاشمي {ت/ ۶۸ ه}
وأبي رافع القبطي {ت/ ۴۱ ه} وابنه
علي بن أبي رافع القبطي {ت/ ۱۵۰ ه}
وسعيد بن المسيب القرشي المدني {ت/ ۹۴ ه}
والقاسم بن محمّد بن أبي بكر بن أبي قحافة {ت/ ۱۰۶ ه}
ويحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري {ت/ ۱۵۰ ه} وكثير غيرهم في سائر
الطبقات، حتى انّ
الذهبي {ت/ ۷۴۸ ه} ذكر في كتابه
ميزان الاعتدال في ترجمة
أبان بن تغلب {ت/ ۱۴۱ ه} من أصحاب
الإمام الصادق عليه السلام {ت/ ۱۴۸ ه}: «فهذا- أي التشيع- كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين
والورع والصدق، ولو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيّنة».
ولعلّ هذا أحد
الأسباب التي حملت
الأئمة عليهم السلام على أن يسندوا أقوالهم وأحاديثهم إلى
آبائهم إلى أن ينتهي السند إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن يصرّحوا بشكل عام بأنّ كل ما نقوله فهو عن آبائنا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم
رغم أنّ شيعتهم وخواصهم كانوا يعتقدون
بعصمتهم، فإنّ
الهدف من ذلك
تمكين أتباع المذاهب الفقهية الاخرى من
الاستناد بهذه الأحاديث؛ لكونها جميعاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بتلك
السلسلة السندية الذهبية، فإنّ ورع الأئمة الأطهار
وتقواهم وعلمهم وجلالة منزلتهم لم يكن خافياً على أحد، بل كان مشهوراً معلوماً لدى الجميع، كما يظهر بمراجعة كتب التاريخ والطبقات.
وقد سبّب انتشار الأحاديث النبوية ظهور مدرسة الحديث ووقوف أصحابها في مقابل مدرسة الرأي يتحفظون من إعمال الرأي، بل وصلت إلى إلغائه واعتباره
ضلالة وتحريفاً للدين. يقول الاستاذ
الأشقر في كتابه
تاريخ الفقه الاسلامي: «وكان
ابن شهاب الزهري {ت/ ۱۲۴ ه}- وهو من أعمدة الحديث والرواية- يقول: دعوا السنة تمضي ولا تعرضوا لها بالرأي. وقال
عروة بن الزبير {ت/ ۹۳ ه}- وهو الآخر كذلك-: ما زال أمر
بني إسرائيل معتدلًا حتى نشأ فيهم المولّدون
أبناء سبايا الامم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلّوهم. ويقول
الشعبي {ت/ ۱۰۴ ه}: ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فخذوا به، وما كان من رأيهم فاطرحوه بالحش.
وكان
الأوزاعي {ت/ ۵۷ ه} يقول: عليك بآراء من سلف وإن رفضك الناس، وإيّاك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك
القول. وقيل
لأيوب السجستاني {ت/ ۱۳۱ ه} ما لك لا تنظر في الرأي؟
فقال: قيل
للحمار: ما لك لا تجتر، قال: أكره مضغ
الباطل. وذكر
بكر بن مضر {ت/ ۱۷۴ ه} عمّن سمع
ابن شهاب الزهري {ت/ ۱۲۴ ه} وهو يذكر ما وقع فيه الناس من الرأي وتركهم السنن، فقال: انّ
اليهود والنصارى إنّما انسلخوا من العلم الذين كان بأيديهم حين استقلّوا الرأي وأخذوا فيه».
بيد أنّه بقيت المذاهب الفقهية الاخرى- على الرغم من ذلك- سارية المفعول في التاريخ الاسلامي ومتبعة من قبل الناس، ولم تتوحد في اتجاه واحد يعتمد البيان الشرعي المتمثل في الكتاب والسنة الشريفة مصدراً للتشريع كما في مذهب
أهل البيت عليهم السلام، وهذا الأمر له أسبابه ومبرّراته التاريخية، وأهمها:
الموقف السلبي للخلفاء
والحكام من المنهج الذي نادى به أهل البيت عليهم السلام وما كان في ذلك المنهج من
الخطر والتهديد لشرعيّة
حكوماتهم، لا من جهة تأكيد تلك الأحاديث على مكانة أهل البيت عليهم السلام وإمامتهم وموقعهم الديني الرفيع فحسب، بل ومن جهة ما كانت تتضمنها الأحاديث من توضيح
لسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في قيادة
الأمّة وما يتطلبه تصدّر موقع
الخلافة والقيادة الاسلامية من
مؤهلات فائقة ودرجات عالية من الورع والتقوى والعلم
والكفاءة وغير ذلك مما كان يفتقده اولئك الحكام، وأيضاً ما كانت ترسمه تلك الأحاديث من مسئوليات وواجبات صعبة للحكام تجاه
الرعية والتي كانت على طرفي نقيض مع ما كان يمارسه اولئك، فكان من الطبيعي أن يتخذ الحاكمون موقف
المعارضة لا من مذهب الأئمة وفقهاء مدرستهم فحسب، بل ومن كل من ينقل عنهم الحديث مهما كان على درجة عالية من الورع
والأمانة والعلم والتقوى كما تشهد بذلك كتب التاريخ والسير. كما كان من الطبيعي أيضاً تبنّي وترويج مذاهب اخرى واختلاق شخصيات
كاذبة في قبال أهل البيت عليهم السلام أو إثارة
الطعون والتشكيكات ضد أتباعهم وتراثهم الذي كان هو الامتداد الطبيعي والشرعي للتراث النبوي الطاهر.
إنّ بعض المذاهب الفقهية
العامة قد تبنّته
السلطة الحاكمة واعتبرته المذهب الرسمي للدولة ونصبت علماءه في
المناصب الدينية والرسمية وأجرت الأحكام والقضاء على أيديهم وجعلت المقرّرات على أساس من مذهبهم، وفرضت كل ذلك بالقوّة وعاقبت من كان يخالفه واعتبرته خارجاً عن الدين محروماً من
الحقوق والامتيازات، فكان لهذا الأثر البالغ في استمرار تلك المذاهب وانتشارها مهما كان فيها من عناصر
الضعف والخلل؛ فإنّ الناس على دين
ملوكهم.
إنّ نقل السنة النبوية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ومن واكبهم من الصحابة وإن كان منذ العصر الأوّل وقبل ظهور المذاهب الفقهية إلّا أنّ انتشارها الواسع وتدوينها وتصنيف المجاميع والصحاح فيها جاء متأخراً عن ذلك، كما هو واضح لكلّ من يراجع تاريخ تأليف تلك المجاميع. وهذا يعني أنّ
الفتاوى والأحكام الشرعية في تلك المذاهب كانت مقرّرة ومفروغاً عنها قبل تجميع تلك الأحاديث والتي لم تكن كلها معروفة لدى أئمة المذاهب، وهذا يعني أنّ أكثر تلك الفتاوى لم تكن
مستنبطة بعد
الفحص عن جميع الأحاديث والإشراف الكامل عليها؛ لأنّها لم تكن مجتمعة عندهم، فمن
المحتمل قوياً انّ
اعتناق وتبنّي مؤلفي الصحاح والمجاميع الحديثية لمذهب فقهي معين كان له الأثر البالغ في جمع الأحاديث والروايات الأكثر مطابقة مع مذهبه الفقهي وعدم الاكتراث بما يخالفها، وهذا تماماً على عكس ما حصل في فقه
الإمامية- على ما سيأتي- حيث إنّ مرحلة الاجتهاد الفقهي بدأت فيه بعد أن تكاملت واجتمعت الأحاديث والسنن الصادرة عن
المعصومين طيلة ثلاثة قرون ضمن اصول حديثية ومجاميع كبيرة ضمّت بين دفّتيها من النصوص أضعاف ما نقلته المجاميع الحديثية لدى الجمهور، فكان الفقه الامامي مبنيّاً علمياً وفقهياً على النصوص والأحاديث ومستنبطاً منها، وهذه نقطة هامّة وأساسية جداً في الفرق بين
الاجتهاد في هذا الفقه والاجتهاد في المذاهب الاخرى.
ومن الأسباب التي ينبغي أن تذكر في هذا المضمار ما قامت به السلطة
العباسية من غلق باب الاجتهاد والفقاهة وحصر المذاهب الفقهية في المذاهب الأربعة المعروفة ومصادرة حق الاجتهاد عن غيرهم، وهذا العمل مهما كانت بواعثه ودواعيه- بعد أن صار هو الموقف الرسمي للدولة واضطر الناس والعلماء إلى الالتزام به، بل
والدفاع عنه واعتباره جزءاً من
الدين- كان من أهم أسباب
انحطاط العلم والاجتهاد بكلا معنييه، واستوجب تحديد
طاقات وقابليات أهل العلم والفضل من أبناء الامّة المنتمين إلى المذاهب العامّة وحتى يومنا الحاضر؛ حيث انقلب الفقهاء بعد هذا التاريخ إلى مقلّدة للأئمة الأربعة لا يحق لهم غير الترجيح بين المذاهب وحظر عليهم الخروج عن أقوال أئمتها مهما ظهر ضعفها ومهما تطوّر الاجتهاد أو عثر على أحاديث معتبرة لم تصل اليهم، بل اتجه هؤلاء المقلّدة على العكس من ذلك إلى اعتبار الأئمة الأربعة الذين كانوا اناساً عاديين كغيرهم من أهل العلم في زمانهم كأنّهم معصومون لا يمكن مخالفتهم، فلا بدّ من تأويل أو طرح ما يخالف فتواهم من الروايات ولو كانت معتبرة سنداً.
وقد كانت ترتفع بين آونة واخرى نداءات من قبل بعض العلماء تدعو إلى فتح باب الاجتهاد وكسر هذا الحصار الذي فرض عليه، إلّا انهم كانوا يواجهون بالقمع والطرد من قبل الحكّام والمخالفة
والانكار من قبل جمهور أهل العلم من أتباع المذاهب الأربعة. فهذه أهم العوامل التي سببت الركود والجمود في تلك المذاهب، كما اجبرت الناس على لزوم
الرجوع في
التقليد إلى علماء ماتوا قبل مئات السنين.
الموسوعة الفقهية ج۱، ص۲۲-۲۹.