الإعراض
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهو بمعنى
ترك الشيء
والانصراف عنه.
الإعراض لغة: مصدر أعرض، بمعنى
الترك والانصراف ، يقال: أعرض عن الشيء إذا ولّاه ظهره.
وأعرضت عنه، أي أخذت عُرضاً، أي جانباً غير الجانب الذي هو فيه.
ولم يستعمل
الفقهاء كلمة (الإعراض) في معنى مغاير للمعنى اللغوي، فليس لهم اصطلاح خاص لها.
وهو
إسقاط الشخص
حقّاً له في
ذمّة آخر،
فالإبراء مختصّ بما في الذمّة فقط، بخلاف الإعراض، فهو يعمّ العين
والدين .
وهو
مطلق التنازل عن الحقّ سواء كان ثابتاً تجاه الغير أم لا، كحقّ
الملكية والاختصاص المتعلّقين بعين في الخارج أو
حقّ الخيار المتعلّق
بالعقد ، فيكون أعمّ من الإعراض.
يستعمل الفقهاء الإعراض في موارد مختلفة من
الفقه ، نشير إليها إجمالًا فيما يلي:
الإعراض عن
الوطن : الإعراض عن الوطن
والمقرّ بمعنى رفع اليد عن
استمرار التوطّن في بلده والبناء على عدم السكن فيه ثانيةً يوجب عدم ترتّب آثار الوطنيّة التي تذكر في
السفر في أحكام
الصلاة والصيام عليه بعد ذلك.
واستدلّوا لذلك
بالسيرة والإجماع .
كما بحثوا هناك في تفصيلات عديدة تتعلّق بالإعراض، فقد قال
الإمام الخميني : «لو أعرض عن وطنه الأصلي أو المستجد وتوطّن في غيره، فإن لم يكن له فيه
ملك أو كان ولم يكن قابلًا للسكن أو كان ولم يسكن فيه ستة أشهر بقصد التوطّن الأبدي يزول عنه حكم الوطنية».
وممّا يتّصل بمسألة الإعراض عن الوطن ما ذكروه من أنّه لو أعرض المكّي عن
مكّة التي هي وطنه وسكن بعيداً عنها، فإنّ
حجّه يصبح حجاً آفاقياً، فعليه أن يحجّ
حجّ تمتّع ، والعكس هو الصحيح، فلو أعرض الآفاقي عن وطنه واستوطن مكّة صار حجّه مثل حجّ أهل مكة، أي إمّا
إفراد أو
قران .
الإعراض عن فاعل المنكر: ذكر الفقهاء أنّ الإعراض بالوجه عن فاعل المنكر
وتارك المعروف يمثل إحدى المراحل الاولى في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد ذكروا لذلك تفصيلات تراجع في محالّها.
إعراض أحد الزوجين عن صاحبه: بمعنى
المتاركة عن
المعاشرة المتعارفة بينهما. وهذا ما يبحثه
الفقهاء عادة في مباحث
النشوز والشقاق والتمكين وحكم معاشرة الزوجة ونحو ذلك.
الإعراض عن الحقّ: يعني الإعراض عن الحقّ
إسقاط حقّ من الحقوق ورفع اليد عن
إعماله واستخدامه ،
كحقّ الشفعة ،
وحقّ الفسخ ،
وحقّ الرهن ، وغير ذلك.
هذا إذا كان الإعراض بنحو
إنشاء إسقاط الحقّ بقوله: (أسقطت حقّي) مثلًا، أو بفعل موجب لسقوط الحقّ،
كالتصرّف في
المبيع الموجب لسقوط حقّ الفسخ
للمشتري .
وأمّا إذا كان بنحو
ترك الحقّ كمن سبق إلى
حيازة مكان من الأمكنة العامّة
كالمسجد أو
السوق - مثلًا- ثمّ تركه فهنا قد ذكر أنّه يسقط حقّه بالإعراض بمعنى ترك الحقّ وإن لم ينشئ
الإبراء والإسقاط.
قال
الشيخ الطوسي : «وكذلك إذا سبق إلى موضع من تلك المواضع كان أحقّ بها من غيره؛ لأنّ ذلك جرت به عادة أهل الأعصار يفعلون ذلك، ولا ينكره أحد...
فإذا قام عن ذلك الموضع فإن ترك رحله فيه فحقّه باقٍ، وإن حوّل رحله منه انقطع حقّه منه، فمن سبقه بعد ذلك إليه كان أحقّ به منه».
وقال
الإمام الخميني : «من سبق إلى سكنى حجرة منها (المدارس) فهو أحقّ بها ما لم يفارقها معرضاً عنها».
ومفهوم كلامه أنّ الإعراض مزيل للحقّ.
وكذلك قالوا بالنسبة إلى
البئر التي يحفرها الحافر لا بقصد
التملّك : إنّه يكون أحقّ به مدّة مقامه، فإذا رحل فكلّ من سبق إليه فهو أحقّ به مثل
المعادن الظاهرة.
قال
السيد الخوئي : «الظاهر أنّه لا يعتبر في التملّك
بالإحياء قصد التملّك، بل يكفي قصد الإحياء
والانتفاع به بنفسه أو من هو بمنزلته، فلو حفر بئراً في مفازة بقصد أن يقضي منها حاجته ملكها، ولكن إذا ارتحل وأعرض عنها فهي
مباحة للجميع».
وكذلك قالوا بالنسبة إلى
نكول المدّعي عن
اليمين بعد ردّه عليه: إنّه إن ردّ اليمين على المدّعي لزمه
الحلف ، ولو نكل- بمعنى أنّه أعرض عن حقّ الحلف وتركه- سقطت دعواه.
قال
الشيخ الطوسي : «وإن قال (المدّعي) : تركت الحلف ولست أختاره، فقد سقطت اليمين عن جنبته فلا يعود إليه».
وقال
المحقّق الحلّي : «وإن ردّ اليمين على المدّعي لزمه الحلف، ولو نكل سقطت دعواه».
وقال
العلّامة الحلّي : «وأمّا المدّعي فإنّما يحلف مع
الرد أو النكول على رأي، فإن ردّها المنكر توجّهت، فإن نكل سقطت دعواه
إجماعاً ».
نعم، وقع الخلاف في سقوط حقّ
إقامة المدّعي
البيّنة بالإعراض عنها
والتماس يمين المنكر، وفي أنّ له
الرجوع إليها بعد ذلك قبل الحلف، وهو موكول إلى محلّه.
•
الإعراض عن الملك .
الإعراض عن ذكر اللَّه تعالى
وآياته : لا يعني الإعراض عن ذكر اللَّه خصوص الإعراض عن
الذكر اللفظي، بل يمتدّ لما هو أبعد من ذلك.
فقد يستعمل في حق
العاصي الذي يقوم بترك جميع
الطاعات وارتكاب جميع المناهي وعدم قبول كلّ ما يذكره اللَّه تعالى من
المواعظ والأحكام، بل يلقيها وراء ظهره ولا يعير لها بالًا.
وقد ورد في
حديث مسعدة بن صدقة عن
الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام: «أنّ
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أطاع اللَّه (عزّوجلّ) فقد ذكر اللَّه... ومن عصى اللَّه فقد نسي اللَّه...».
ومن هنا عدّه الفقهاء من
المعاصي الكبيرة .
ويستدعي الإعراض هنا
الوقوع في
الغفلة ؛ وهي غفلة توجب
تضاؤل علم الإنسان وفهمه ليقف وعيه عند قضايا الدنيا وشؤونها؛ وذلك أنّ من نسي ربّه وانقطع عن ذكره لم يبق له إلّا أن يتعلّق بالدنيا ويجعلها مطلوبه الوحيد الذي يسعى له ويهتمّ
بإصلاح معيشته
والتوسّع فيها
والتمتّع بها، وعندما تغدو الدنيا بمعناها الضيّق هذا غاية الإنسان ومطلوبه لا يشبع منها ويظلّ يشعر بالضيق لعدم تحصيل الزيادة منها، فيظلّ دائماً في ضيق صدر وحنق ممّا وجد متعلّق القلب بما وراءه، مع ما يهجم عليه من
الهمّ والغمّ والحزن والقلق والاضطراب والخوف بنزول النوازل وعروض العوارض من
موت ومرض وعاهة وحسد حاسد
وكيد كائد وخيبة سعي وفراق حبيب.
ولهذا كلّه عبّرت
الآية الكريمة: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى• قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً• قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى»،
بل قد وردت العديد من الآيات التي تذمّ المعرضين عن آيات اللَّه والناسين له سبحانه.
قال اللَّه تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُعْرِضُونَ».
وقوله تعالى: «وَمَا تَأْتِيهِم مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ• فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».
وقال سبحانه وتعالى: «وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ• فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ»،
إلى غيرها من الآيات الكريمة.
بل في الروايات حديث عن ذلك، ومنه ما رواه
أبو الجارود ، عن
أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: «وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ»
قال: «
العنيد المعرض عن الحقّ».
إعراض الفقهاء عن
الرواية : يقصد بالإعراض عن الرواية في علمي
الاصول والحديث الإعراض العملي، أي أن لا يعمل
الفقهاء برواية- ولو كانت صحيحة
السند - رغم وجودها بينهم وفي متناول أيديهم في كتب الحديث، وقد أسّس بعض العلماء ما سمّي فيما بعد
بقاعدة الوهن هنا، ويقصدون بها أنّ إعراض المشهور عن العمل
والإفتاء والاستناد إلى
خبر صحيح السند موجب
لضعفه ووهنه وسقوطه عن
الحجّية والاعتبار ؛ إمّا لسقوط
الوثوق به في هذه الحال مع كون العبرة في حجّية
الخبر هو الوثوق، أو لاشتراط حصول
الظن بصدق الخبر في حجيته، حيث ينهار هذا الظن بإعراض العلماء أو غير ذلك من الوجوه التي ذكروها.
وقد رفض بعض العلماء- منهم
السيد الخوئي - قاعدة الوهن بالإعراض.
وتفصيله في محلّه من
علم الاصول .
الموسوعة الفقهية، ج۱۵، ص۶۱-۷۳.