الاستبراء من الدم
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
المراد من
الاستبراء من الدم طلب
براءة الرحم منه، ويكون ذلك للطهارة من الحيض أو النفاس عند
انقطاع دمهما ظاهراً قبل أقصى المدّة، مع
احتمال بقائه في
الباطن ، ويرد الاستبراء من الدم في موارد اخرى في
الفقه ليس المراد منه فيها طلب البراءة، وإنّما
الاستظهار و
الاختبار لتشخيص الحال ومعرفة نوعيّة الدم كما في استبراء المستحاضة لمعرفة نوعيّة
الاستحاضة ومن ثمّ ترتيب وظيفتها، وكما في استبراء من اشتبه عليها الحيض بالعذرة أو القرحة.
والمهمّ بحثه هنا هو الأوّل، وأمّا الثاني فيناسب تفصيله في محالّه من مصطلح (استحاضة) و (حيض)، وتفصيل ذلك حسب الموارد كما يلي.
النصّ والفتوى على أنّ الحائض إذا انقطع عنها الدم في الظاهر واحتملت بقاءه في
الباطن مع
إمكان الحيضيّة- بأن كان
الانقطاع لدون العشرة الذي هو أكثر الحيض- تستبرئ وجوباً بقطنة أو نحوها تدخلها في موضع الدم ثمّ تخرجها، فإن خرجت نقيّة فقد انقطع حيضها وإلّا فلا.
وقد ذكر بعض المحقّقين أنّ الوجه في ذلك هو أنّ الحيض وإن كان بحسب الحدوث يعتبر فيه الرؤية والخروج إلّا أنّه بحسب البقاء لا يعتبر فيه ذلك، بل وجوده في المجرى والمحلّ كافٍ في تحقّقه، فلا تجب عليها الصلاة ولا تحلّ لها بقيّة المحرّمات إلّا بنقائها ظاهراً وباطناً.
وأمّا كون
الاستبراء حينئذٍ على نحو الوجوب فهو ظاهر عبارات القدماء
وصريح المحقّق في
المعتبر والعلّامة
والشهيدين
ومن تأخّر عنهم، بل نسبه بعضهم إلى الأشهر أو الأكثر،
وآخر إلى المشهور،
بل في
الحدائق : «الظاهر أنّه لا خلاف (فيه) بين الأصحاب،
وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده سوى ما عساه يظهر من المنقول عن
الاقتصاد للتعبير بلفظ (ينبغي) المشعر بالاستحباب».
والموجود في الاقتصاد: «... ينبغي أن تستبرئ نفسها».
وهو ظاهر في
الاستحباب ، وفي الرياض: «ولأجله احتمل الخلاف».
إلّا أنّ ضعفه يعرف من مخالفته لظاهر
الأمر لها بالاستبراء في الأخبار المعتضد بفتوى الأصحاب كما في الجواهر،
ولعلّه لذلك وصفه
الفاضل النراقي بأنّه بعيد عن السداد.
وفي كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: لا يبعد
إرادة الوجوب منه.
ثمّ إنّ هذا الحكم- أي وجوب الاستبراء عليها حينئذٍ- ثابت بالنصّ على خلاف
الأصل ؛ إذ مقتضى الأصل عدم وجوب الفحص و
الاختبار عليها، وجواز اعتمادها على استصحاب الحيض ما لم تستيقن بانقطاعه من أصله كما في غيره من الشبهات الموضوعيّة؛
وذلك لإطلاق أدلّة
الاستصحاب ،
وجريانه في الامور التدريجيّة التي لها وحدة عرفيّة؛ إذ الوحدة بين المتيقّن والمشكوك التي هي شرط في جريان الاستصحاب يكفي فيها الوحدة العرفيّة وإن لم تتحقّق الوحدة العقليّة، فالاستصحاب كما يجري في الامور القارّة كذلك يجري في الامور التدريجيّة التي لها وحدة عرفيّة، والأمر في المقام كذلك، فإنّ خروج الدم وسيلانه تدريجي وقد علم خروج مقدار منه وشكّ في خروج مقدار آخر منه، وبما أنّه أمر واحد في النظر العرفي فلا مانع من استصحابه، وبذلك يتعيّن كونها حائضاً.
واحتمال القول بوجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة في مثل هذه الموارد- التي يستلزم الرجوع فيها إلى الاصول الوقوع في مخالفة الواقع كثيراً،
أو كان رفع الشبهة سهلًا كالنظر والاختبار، أو كان الموضوع ممّا يترتّب عليه أمر مهمّ مثل ترك الصلاة- مدفوع بإطلاق الأدلّة.
وأمّا الروايات التي وردت في المقام- والتي استدلّ بها على وجوب الفحص وعدم جواز
الاعتماد على الاستصحاب ولا
الاكتفاء بالانقطاع الظاهري- فهي:
۱- صحيحة
محمّد بن مسلم عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة، فإن خرج فيها شيء من الدم فلا تغتسل، وإن لم تر شيئاً فلتغتسل، وإن رأت بعد ذلك صفرة فلتوضّ ولتصلّ».
۲- مرسلة يونس عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سئل عن
امرأة انقطع عنها الدم فلا تدري أطهرت أم لا، قال: «تقوم قائماً وتلزق بطنها بحائط وتستدخل قطنة بيضاء وترفع رجلها اليمنى، فإن خرج على رأس القطنة مثل رأس الذباب دم عبيط لم تطهر، وإن لم يخرج فقد طهرت تغتسل وتصلّي».
۳- رواية
شرحبيل الكندي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت: كيف تعرف الطامث طهرها؟ قال: «تعمد برجلها اليسرى على الحائط وتستدخل الكرسف بيدها اليمنى، فإن كان ثَمّ مثل رأس الذباب خرج على الكرسف».
۴- موثّقة
سماعة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت له: المرأة ترى الطهر وترى الصفرة أو الشيء فلا تدري أطهرت أم لا، قال: «فإذا كان كذلك فلتقم فلتلصق بطنها إلى حائط وترفع رجلها على حائط كما رأيت الكلب يصنع إذا أراد أن يبول، ثمّ تستدخل الكرسف، فإذا كان ثمّة من الدم مثل رأس الذباب خرج فإن خرج دم فلم تطهر، وإن لم يخرج فقد طهرت».
۵- وما في
الفقه الرضوي : «إذا رأت الصفرة أو شيئاً من الدم فعليها أن تلصق بطنها بالحائط وترفع رجلها اليسرى كما ترى الكلب إذا بال، وتدخل قطنة فإن خرج فيها دم فهي حائض، وإن لم يخرج فليست بحائض».
لكن نوقش في هذه الروايات- عدا الصحيحة- من حيث السند والدلالة، أو من حيث الدلالة خاصّة.
أمّا من حيث السند فكما في مرسلة يونس ورواية شرحبيل،
فإنّ الاولى مرسلة والثانية ضعيفة بشرحبيل الكندي وسلمة بن الخطّاب؛ لإهمالهما في الرجال بل وتضعيف الثاني.
وكذا الرضوي فإنّ الكلام فيه معروف بين المتأخّرين من حيث صحّة النسبة وعدم ثبوت كونه كتاب رواية. لكن في المستند أنّ ضعفه في المقام منجبر بدعوى الشهرة وعدم الخلاف،
وركّز بعض الفقهاء على المناقشة في دلالته مع
الإغماض عن سنده.
وأمّا المناقشة في الروايات من حيث الدلالة فهي أنّها ظاهرة- عدا الصحيحة- في بيان كيفيّة معرفة المرأة بطمثها وطهرها، ولا دلالة فيها على وجوب الاستبراء.
قال
السيد الحكيم - ما خلاصته-: إنّ العمدة في
إثبات الوجوب صحيح ابن مسلم، وأمّا موثّق سماعة فالظاهر أنّه في مقام بيان طريق العلم بالنقاء من دون دلالة له على وجوب شيء عليها، وأظهر منه في ذلك خبر شرحبيل الكندي ومرسل يونس.
وقال
السيد الخميني - ما نصّه-: «وهما مرسلة يونس ورواية شرحبيل- مع ضعفهما سنداً- لا تدلّان على وجوب الاختبار، بل ظاهرتان في كيفيّة معرفة المرأة بطمثها وطهرها عند الشكّ فيهما، ومثلهما موثّقة سماعة... وسؤاله وإن احتمل فيه أمران: أحدهما: السؤال عن الوظيفة الشرعيّة. وثانيهما: عن كيفيّة معرفتها بالطمث كما في رواية الكندي، بل الاحتمال الأوّل أقربهما، لكن يظهر من الجواب أنّ مقصوده كان معرفة الطمث، فإنّ قوله: «فإذا كان ثمّة من الدم مثل رأس الذباب خرج» هو الجواب عن سؤاله، وهو مناسب للاحتمال الثاني.
وبالجملة: أنّ جوابه إنّما يكون عن أمر تكويني، إلّا أن يقال: إنّه مقدّمة للأمر الشرعي والوظيفة، وهو كما ترى، فلا تدلّ الموثّقة على المطلوب بوجه. ومنه يظهر الحال في دلالة ما عن الفقه الرضوي مع الغضّ عن سنده، فالعمدة هي صحيحة ابن مسلم مع تأيّدها بدعوى الشهرة وعدم الخلاف».
ولكن ظاهر
الفقيه الهمداني اختصاص المناقشة الدلاليّة المذكورة بمرسلة يونس ورواية شرحبيل، وعدم قصور الموثّقة عن
إفادة الوجوب، وكذا الرضوي لو اغمض عن سنده وقيل بانجباره.
ومن كلّ ذلك يتّضح أنّ العمدة في المقام هي الصحيحة والموثّقة، أو الصحيحة خاصّة.
هذا، ولكنّ
الشيخ الأنصاري استشكل في استفادة الوجوب من هذه الأخبار أجمع لو لا فتوى الأصحاب محتملًا أن يكون الأمر فيها للإرشاد؛ لئلّا يظهر الدم فيقع الغسل وما يترتّب عليه لغواً؛ وذلك لأنّ بعضها كصحيحة محمّد بن مسلم مسوق لبيان وجوب ذلك عند إرادة
الاغتسال ؛ لئلّا يظهر الدم فيلغو الغسل، وبعضها مسوق لبيان كيفيّة
استعلام براءة الرحم من غير تعرّض لوجوبه.
وردّه
السيد الخوئي بأنّ صحيحة محمّد ابن مسلم وإن لم يمكن
استفادة الوجوب النفسي منها، إلّا أنّ دعوى دلالتها على الوجوب الشرطي بمكان من
الإمكان حيث علّقت وجوب الاستبراء على إرادة الاغتسال، فيمكن أن يدّعى أنّ ظاهرها كون الاستبراء شرطاً أو قيداً في الاغتسال، فإنّ التعبير عن الوجوب الشرطي بذلك أمرٌ متعارف، كما في قوله تعالى: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ»،
فليكن الحال في المقام أيضاً كذلك، على أنّ القائل بالوجوب النفسي في الاستبراء صريحاً غير معلوم، فمراد القائل بالوجوب إنّما هو الوجوب الشرطي، وقد عرفت أنّ الصحيحة يمكن دلالتها على ذلك.
كما أنّ الشيخ الأنصاري ذكر في المقام: أنّه يمكن أن يؤيّد القول بالوجوب بدعوى أنّ الحكم في مثل هذه الموارد- التي لا تعلم غالباً إلّا بالفحص أو التي يستلزم الرجوع فيها إلى الاصول الوقوع في مخالفة الواقع كثيراً- هو وجوب الفحص.
هذا، وقد عرفت أنّ وجوب الاستبراء هو المشهور، بل لا خلاف فيه بين الفقهاء.
لكن هل المراد من هذا الوجوب الوجوب النفسي أو الشرطي أو الطريقي؟
الأوّل: الوجوب النفسي، بمعنى أنّ الاستبراء عند انقطاع الدم ظاهراً واجب في حدّ نفسه، وهذا ما يظهر من العلمين الأنصاري والهمداني نسبته إلى الفقهاء، أمّا الأنصاري فقد تقدّمت عبارته.
وأمّا الفقيه الهمداني فقال في مقام
الاستدلال على الوجوب بصحيحة محمّد ابن مسلم: «وهذه الصحيحة- كما تراها- ظاهرة في الوجوب الشرطي، بمعنى أنّ من شرط الاغتسال الاستبراء، وأمّا أنّه يجب عليها الفحص وطلب الوثوق ببراءة الرحم إذا انقطع الدم- كما هو ظاهر المتن وصريح غيره- فلا يكاد يفهم من هذه الصحيحة».
لكن استبعد كلّ من السيد الحكيم والسيد الخوئي والسيد الخميني ذلك.
ففي
المستمسك : «لا مجال لاحتمال حمل الصحيح على الوجوب النفسي التعبّدي».
وفي كتاب الطهارة للسيد الخميني أنّه أبعد الاحتمالات.
بل قال السيد الخوئي: «إنّ القائل بالوجوب النفسي في الاستبراء صريحاً غير معلوم، فمراد القائل بالوجوب إنّما هو الوجوب الشرطي...»، وقال أيضاً: إنّ «هذا الاحتمال... لا مثبت له من الأخبار؛ لصراحة الصحيحة... في أنّ الاستبراء إنّما يجب إذا أرادت الاغتسال، وأمّا أنّه واجب في نفسه فلا، وأصرح من ذلك موثّقة سماعة... حيث صرّحت بأنّ الاستبراء إنّما هو لمعرفة الحال و
استخبار أنّها طاهرة أو حائض، لا أنّه واجب نفسي، وهاتان الروايتان هما العمدة في المقام، ولا يعتمد على غيرهما من الروايات، فهذا الاحتمال ساقط».
الاحتمال الثاني: الوجوب الشرطي، بمعنى أنّ الاستبراء شرط في صحّة الغسل فلا يقع بدونه، بل لو اغتسلت من دون استبراء بطل غسلها.
استظهره صاحب الجواهر من عبارات الفقهاء وقوّاه، حيث قال: «وكيف كان فهل هذا الاستبراء شرط في صحّة الغسل فلا يقع بدونه حتى لو استبرأت بعد ذلك ورأت النقاء ما لم تعلم تقدّمه بل ولو علمت؛ لاحتمال كونه شرطاً تعبّديّاً، أو لا؟ لم أعثر على كلام صريح للأصحاب في ذلك، إلّا أنّه قد يظهر الأوّل من ملاحظة عباراتهم، ويؤيّده استصحاب أحكام الحائض، وما يظهر من النصّ والفتوى، ولعلّه الأقوى، كما أنّه يؤيّد الثاني
إطلاق ما ورد في كيفيّة الغسل...».
واحتمله الشيخ الأنصاري قائلًا: «ويحتمل
الاشتراط شرعاً، إمّا لأنّ
الأصل بقاء الحيض، وإمّا لتحصيل الجزم ببراءة الرحم تعبّداً وإن قلنا بأصالة عدم حدوث دم في الرحم، وعدم جريان
أصالة البقاء في الامور التدريجيّة».
وظاهر عبارة السيد الخوئي نسبته إلى القائلين بالوجوب.
لكن نوقش فيه بأنّه خلاف الظاهر؛ فإنّ الاستبراء قد امر به في الروايات لأجل معرفة الحال، فهو غير ملحوظ بذاته، بل بما هو طريق إلى العلم بالواقع.
قال السيد الخوئي- ما ملخّصه-: إنّ الصحيحة وإن أمكن دعوى ظهورها في الاشتراط إلّا أنّ الموثّقة كالصريحة في أنّ الاستبراء إنّما امر به؛ لأنّه الطريق إلى معرفة الحال، حيث دلّت على أنّ الحائض عند انقطاع دمها ظاهراً ليس لها أن تعتمد على استصحاب عدم النقاء باطناً، مع أنّه الغالب عند انقطاع الدم ظاهراً، ومع ذلك لم يرجعها
الإمام عليه السلام إليه، بل أرجعها إلى
استدخال القطنة. فعلم من ذلك أنّه لا طريق إلى معرفة الحال غير الاستبراء، فهو إنّما امر به لأجل فائدة الاستخبار وتحصيل العلم بالحال، لا أنّه قيد في الاغتسال، ولا يمكن قياسه بالوضوء؛ لأنّ في المقام قد اشير إلى فائدة الاستبراء، وأنّه لمعرفة الحال، لا أنّه قيد معتبر في الغسل.
وقال السيد الخميني: «وأمّا الاحتمال الثاني (أي احتمال الوجوب الشرطي بمعنى كون الاختبار شرطاً لصحّة الغسل) فبعيد أيضاً، والقول بظهور أمثال ذلك في الوضع، كقوله تعالى: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»
إلى آخره، وقوله عليه السلام: «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه»
ممّا هي ظاهرة في الشرطيّة والمانعيّة، فوزان قوله عليه السلام: «إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة»
وزان قوله تعالى «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» إلى آخره، فيستفاد منه الوجوب الشرطي، غير وجيه، والقياس مع الفارق؛ ضرورة أنّ الاختبار في المقام ليس له نفسيّة، بل طريق إلى العلم بالواقع، ومعه لا يستفاد منه شرطيّة نفس الاختبار؛ لعدم كونه ملحوظاً بذاته، بل هو ملحوظ لمحض
إراءة الواقع والمنظور إليه نفس الواقع، ومعه لا يبقى له ظهور في الشرطيّة، ويتّضح الفارق بينه وبين المثالين».
الاحتمال الثالث: الوجوب الطريقي، بمعنى وجوب الاختبار لأجل
الاطّلاع على الواقع؛ لكونه منجّزاً عليه بحيث لو تركت الاستبراء والصلاة أو دخلت المسجد فكان مخالفاً للواقع عوقبت على مخالفته، لا على ترك الاختبار، ولو اغتسلت وصلّت وصادف غسلها الطهر صحّ غسلها وصلاتها.
وقد أوضحه السيد الخوئي قدس سره بأنّ المرأة إذا انقطع دمها ظاهراً واحتملت عدم نقائها باطناً- حيث إنّ الاستصحاب ساقط في حقّها؛ للروايات حيث أرجع الإمام فيها إلى الاستبراء ولم يرجعها إلى الاستصحاب- يتردّد أمرها بين كونها حائضاً أو طاهرة، ولكلّ من الحالتين أحكام إلزاميّة متنجّزة في حقّها لعلمها الإجمالي، فلا مناص من أن تخرج عن عهدتها، وطريق ذلك أحد أمرين:
الأوّل:
الاحتياط بالجمع بين أحكام الحائض والطاهرة، وهذا ممكن في مثل الصلاة وغيرها من العبادات بناءً على أنّها محرّمة على الحائض حرمة تشريعيّة لا ذاتيّة، وأمّا في مثل التمكين بالنسبة لذات البعل إذا طلب منها زوجها الوقاع فلا؛ لدوران الأمر بين المحذورين؛ لأنّه واجب عليها إن كانت طاهرة ومحرّم عليها إن كانت حائضاً. وكذلك لا يمكن الاحتياط بناءً على أنّ حرمة العبادة على الحائض ذاتيّة، فإنّ الصلاة حينئذٍ إمّا واجبة في حقّها وإمّا محرّمة الثاني: الفحص والاختبار، وإن كانت الشبهة موضوعيّة لا يجب فيها الفحص، إلّا أنّه في المقام لمّا كانت الأحكام متنجّزة في حقّها ولا تتمكّن من الخروج عن عهدتها بالاحتياط ولا يرخّص العقل في إهمالها لتمكّنها من امتثالها بتحصيل المعرفة بالحال عن طريق الفحص والاختبار، وجب عليها الفحص عقلًا؛ لانحصار طريق
امتثال الأحكام المنجّزة به، ومعه تكون الأوامر الواردة في الروايات إرشاديّة لا محالة.
ثمّ قال- ما حاصله أيضاً-: إنّ المنع في الروايات عن جريان الاستصحاب، وعدم جواز التعويل على الانقطاع الظاهري، والأمر بالاستبراء لا يدلّ على أنّ الاستبراء شرط في صحّة الغسل، بحيث لو اغتسلت من دون استبراء بطل غسلها؛ لدلالة الموثّقة على أنّ الغرض من الأمر به هو معرفة الحال، والصحيحة على أنّه ليس لها أن ترتّب أحكام الطاهرة على نفسها وتغتسل إلّا أن تستبرئ، وأمّا أنّ الاستبراء شرط في صحّة غسلها فلا يمكن استفادته منهما بل الاستبراء واجب عقلًا.
وإن شئت قلت: إنّه واجب شرطي ظاهراً، فإذا اغتسلت وتركته وكانت نقيّة واقعاً صحّ غسلها.
ظاهر إطلاق عبارات بعض الفقهاء
وصريح بعض آخر
بل المنسوب إلى المشهور
عدم
اعتبار كيفيّة خاصّة في الاستبراء، بل يكفي أن تستدخل القطنة بأيّ وجه اتّفق؛ عملًا بإطلاق صحيحة محمّد بن مسلم: «إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة...».
وعدم تقييدها بالروايات الاخرى التي تضمّنت كيفيّة خاصّة؛ لضعف سند بعضها، ودلالة آخر، واختلافها، ومعلوميّة عدم دخل بعض الخصوصيّات كالإدخال باليد اليمنى أو اليسرى، مع صحّة رواية ابن مسلم وورودها في مقام البيان، فتحمل تلك الروايات على الفرد الأفضل والأبلغ، من - هنا أفتى بعض الفقهاء بأنّه الأولى أو الأحوط أو نحو ذلك.
- لكن في قبال ذلك يظهر من
الصدوق الفتوى باعتبار الكيفيّة الخاصّة، والعمل في المقنع بمضمون خبر سماعة مع زيادة تقييد الرجل باليسرى،
والجمع في
الفقيه بين الأخبار بحمل صحيح محمّد بن مسلم على ما إذا لم تر الصفرة، وما في خبر سماعة من الكيفيّة المخصوصة على ما إذا رأت الصفرة.
ويظهر اعتبار الكيفيّة من الشهيد في
المسالك حيث جعل ذلك كيفيّة الاستبراء،
بل اختاره
المحدّث البحراني للتعبير ب (عليها) في عبارة الرضوي مؤيّداً بأنّه أحوط.
وفي
مستند الشيعة بعد ذهابه إلى
أولوية رفع الرجل مخيّرة بين اليمنى واليسرى وعدم وجوب ذلك قال: «لا بأس بالقول بوجوب القيام و
إلصاق البطن على الحائط؛ للأمر بهما في موثّقة سماعة».
وقد اتّضح جواب ذلك من استدلال المشهور على الإطلاق وعدم لزوم الكيفيّة المخصوصة وحمل تلك الروايات على الأبلغ والأولى.
ثمّ إنّه بناءً على لزوم الكيفيّة المخصوصة أو استحبابها فهل الأولى رفع الرجل اليسرى حينئذٍ- كما في رواية شرحبيل والرضوي- أو اليمنى- كما في رواية يونس- أم يتخيّر بينهما؟ ذهب بعض من تعرّض لذلك إلى التخيير.
ففي الحدائق: «الظاهر حصوله بأيّهما اتّفق».
وفي المستند: «الأولى أن ترفع رجلها إلى حائط كالكلب يبول، مخيّراً بين اليمنى كما في مرسلة يونس، واليسرى كما في خبر الكندي والرضوي...».
وقال
المحقّق النجفي في
نجاة العباد : «الأولى لها في كيفيّة إدخالها القيام لاصقة بطنها بحائط- مثلًا- رافعة رجلها اليمنى أو اليسرى...».
لكن ظاهر
الشهيد الثاني في المسالك
اختيار رفع رجلها اليسرى عملًا برواية شرحبيل الكندي التي فيها: «تعمد برجلها اليسرى على الحائط وتستدخل الكرسف بيدها اليمنى...»، حيث استدلّ بها للكيفيّة دون غيرها.
وصرّح بذلك
الميرزا القمّي في
الغنائم حيث قال: «الأولى رفع الرجل اليسرى كما في رواية شرحبيل؛ لكونها أوفق بما رجّحنا من اعتبار (خروج دم الحيض من الطرف) الأيسر».
وفي طهارة الشيخ الأنصاري: «يرجّح ما دلّ على رفع الرجل اليسرى؛ لتعدّده وقوّة سنده».
لكن في طهارة الإمام: «أمّا ترجيح رفع اليسرى كما صنع
الشيخ الأعظم - بدعوى تعدّد ما دلّ عليه وقوّة سنده- فغير معلوم؛ لأنّ سند ما دلّ على رفع اليمنى أرجح، فإنّ مرسلة يونس أرجح من رواية الكندي والفقه الرضوي».
بقي فيما يرتبط بالكيفيّة امور ينبغي التنبيه عليها:
الأوّل: ما ذكره بعض الفقهاء من لزوم
إخراج القطنة بعد الصبر عليها هنيئة،
مع أنّ النصوص وسائر الفتاوى خالية عنه كما اعترف بذلك الشيخ الأنصاري، ثمّ قال: «ولعلّه المتعارف عند النساء في مقام الاستعلام، فلا يبعد دعوى انفهامه من الإطلاقات.
وقال السيد الخميني: «لمّا كان الاستبراء والفحص لا يحصل غالباً إلّا بالمكث ولو قليلًا لا يبعد لزومه، كما ورد مثله في رواية
خلف بن حماد الواردة في
اشتباه دم العذرة بالحيض، فالأحوط اعتباره لو لم يكن الأقوى».
الثاني: ورد في الروايات أنّها تدخل قطنة وكذا في أكثر الفتاوى، ولا ينبغي
الإشكال في عدم خصوصيّة للقطنة، بل يكفي كلّ ما يحصل به الغرض سواءً كان قطنة أو خرقة أو غير ذلك، من هنا عبّر بعض الفقهاء بإدخال قطنة ونحوها.
الثالث: ورد في مرسلة يونس
إدخال القطنة البيضاء، ولم نعثر على من قيّد بذلك من الفقهاء إلّا من ظاهر ابن سعيد حيث قال: «استبرأت نفسها بقطنة، فإن خرجت ملوّثة فهي بحكم الحائض، وإن خرجت بيضاً اغتسلت».
والظاهر أنّ مراده من البيضاء خروجها نقيّةً.
وصريح
المامقاني في المناهج حيث قال: «طريق الاستبراء أن تستدخل قطنة أو خرقة بيضاء».
وقال الآملي: «المصرّح به في مرسلة يونس إدخال القطنة البيضاء، ولكن مقتضى إطلاق غيرها عدم اعتبار كونها كذلك، ولم يقيّد القطنة في شيء من عبائر الأصحاب بكونها بيضاء، ولعلّ ذكر البيضاء في المرسلة من جهة شدّة ظهور الدم فيها لو كان، خصوصاً إذا كان على غير صفة الحمرة كالصفرة ونحوها؛ لكون الأبيض أشدّ انفعالًا عن لون آخر كما لا يخفى».
فائدة الاستبراء من دم الحيض معرفة حال
المرأة من حيث النقاء وعدمه، فإنّها بعد إخراج القطنة تنظر، فإن خرجت نقيّة فقد طهرت وعملت عمل الطاهر كأن تغتسل وتصلّي، ولا يجب عليها
الاستظهار وإن احتملت عود الدم، بلا خلاف ظاهر بين الفقهاء في ذلك،
بل ادّعي عليه
الإجماع ،
إلّا ما يظهر من
السرائر من وجود القائل بوجوب الاستظهار حينئذٍ،
وتوهّمه الشهيدان من عبارة
المختلف .
نعم، ظاهر الدروس الاستظهار مع النقاء إذا ظنّت العود.
وفي كتاب الطهارة للشيخ الأعظم: «قد يؤيّد بلزوم الحرج لو وجب الغسل والعبادة بمجرّد احتمال العود ولو ظنّاً».
نعم، وقع الكلام فيما إذا اعتادت النقاء في أثناء العادة ثمّ رأت الدم بعده. ففي
المدارك : «الظاهر عدم وجوب الغسل معه؛ لاطّراد العادة، و
استلزام وجوبه الحرج والضرر بتكرّر الغسل مع تكرّر النقاء، ويحتمل الوجوب؛ للعموم، واحتمال عدم العود».
وفي الجواهر: «... إلّا أن يكون لها
اعتياد في هذا النقاء المتخلّل بحيث تطمئنّ نفسها بعود الحيض، فإنّ تكليفها بالغسل حينئذٍ مع ذلك لا يخلو من تأمّل بل منع؛ للشكّ في شمول الأدلّة لمثلها».
ومعنى ذلك التفريق بين ظنّ العود الحاصل من العادة وغيره كما أشار إلى ذلك الشيخ الأنصاري بقوله: «ويمكن الفرق بين الظنّ الحاصل من العادة وغيره كما يظهر من صاحبي المدارك و
الذخيرة ، وجزم به جماعة ممّن تأخّر عنهم...وعلّله أكثرهم بلزوم الحرج، ويمكن الاستدلال له بالأصل في الثاني، وعموم أدلّة ترك العبادة أيّام العادة على ما هو المنساق منها عرفاً».
وأمّا إذا خرجت القطنة ملطّخة لم تطهر، وتصبر المبتدئة وكذا المضطربة إلى النقاء أو مضيّ عشرة أيّام، وكذا من كانت عادتها عشرة أيّام.
وأمّا ذات العادة التي عادتها أقلّ من عشرة أيّام فتستظهر بعد عادتها بترك العبادة على خلاف في حكم الاستظهار حينئذٍ وأنّه على نحو الوجوب أو الاستحباب، وكذا الخلاف في مدّته.
هذا مجمل المسألة. وتفصيل ذلك في مصطلح (حيض).
ذكر الفقهاء
أنّه يجب على
النفساء إذا انقطع دمها في الظاهر الاستبراء بالقطنة كالحائض.
قال
السيد اليزدي : «يجب على النفساء إذا انقطع دمها في الظاهر الاستظهار بإدخال قطنة أو نحوها والصبر قليلًا وإخراجها وملاحظتها على نحو ما مرّ في الحيض».
وعلّق عليه السيد الحكيم بالقول: «كما صرّح به جماعة مرسلين له
إرسال المسلّمات، ويدلّ عليه ما يأتي في المسألة العاشرة (من أنّ النفاس كالحيض في الأحكام)، مضافاً إلى نصوص الاستبراء الشامل لها وللحائض...».
واستدلّ له السيد الخوئي بوجوه اخرى وناقش فيها.
والكلام في كيفيّته وأثره كالكلام في استبراء الحائض. وتفصيل ذلك في مصطلح (نفاس).
هذه هي موارد الاستبراء من الدم في الطهارة بمعنى طلب معرفة الحال وبراءة الرحم منه وعدمه، وهناك موارد اخرى، معنى
الاستبراء فيها تشخيص نوعيّة الدم بعد العلم بظهوره، كما في استبراء المستحاضة التي رأت الدم وحكم عليه بأنّه دم استحاضة - إمّا لكونه في غير أيّام الحيض أو لكونه أصفر، أو غير ذلك- ولكن لم تعلم أنّه من أيّ قسم من أقسامها الثلاثة- القليلة أو المتوسّطة أو الكثيرة- حتى ترتّب على ذلك ما يجب من الغسل مرّة أو ثلاث مرّات، أو لا يجب الغسل أصلًا.
وكما في اشتباه دم الحيض أو
الاستحاضة بدم القرح أو العذرة بما ذكره الفقهاء من علائم لتشخيص ذلك، كالتطوّق أو
الانغماس في اشتباهه بدم العذرة، وخروجه من الأيسر في اشتباهه بدم القرحة، وغير ذلك ممّا يكون تفصيله في مصطلح (حيض) و (استحاضة).
الموسوعة الفقهية، ج۱۰، ص۴۵۲- ۵۰۴.