معاملات الأخرس
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
تقوم إشارة
الأخرس مقام عبارته في معاملاته إذا كانت مفهمة لقصده
وإنشائه ، كما تقوم كتابته المستبينة المرسومة مقام عبارته فيها، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء في الجملة.قال
المحقّق النجفي : «لا خلاف ولا إشكال في أنّه يقع طلاق الأخرس وعقده وإيقاعه
بالإشارة الدالّة على ذلك على نحو غيره من مقاصده».
وقد استدلّ على ذلك بوجوه عديدة:
الأوّل: أنّ حقيقة العقود
والإيقاعات اعتبارات وإنشاءات قصديّة يبرزها العاقد بإبراز مفهوم مستبين عرفاً. وهذا
الإبراز كما يختلف باختلاف اللغات كذلك يختلف في الأخرس العاجز عن الكلام، الذي يتمكّن من الإبراز المفهم المستبين عن غيره، فيكون صدور هذه التصرّفات من الأخرس بالإشارة أو الكتابة المفهمة المستبينة مصداقاً لتلك التصرّفات من عقود أو إيقاعات حقيقة، فتشمله أدلّة صحّتها ونفوذها بلا حاجة إلى دليل خاصّ في البين.ولو فرض ورود دليل شرعي خاصّ في بعض العقود أو الإيقاعات على اشتراط لفظ خاصّ في صحّته، فتلك الأدلّة المقيّدة لتلك الإطلاقات منصرفة إلى القادر على النطق والكلام، ولا تشمل الأخرس، خصوصاً إذا كان الدليل إجماعاً ونحوه، فيبقى تصرّف الأخرس مشمولًا لعموم أدلّة الصحّة والنفوذ.
الثاني:
استفادة صحّة تصرّفات الأخرس ومعاملاته بشكل عام من بعض الروايات الخاصّة الواردة في بعض معاملات الأخرس- كطلاقه مثلًا- وأنّه يصحّ منه بإشارته، وكتابته، والتي تدلّ
بالإطلاق أو بالفحوى على صحّة سائر تصرّفاته.
الثالث:
الإجماع وتطابق الفتاوى، بل والسيرة العقلائيّة الممضاة، بل والمتشرّعيّة المستقرّة على صحّة تصرّفات الأخرس بإشارته لدى المتشرّعة في معاملاتهم.لّا أنّ هذا الدليل
باعتباره لبّيّاً، فإنّه يقتصر فيه على القدر المتيقّن، فلا يمكن أن يرجع إليه في موارد الشكّ والخلاف في صحّة العقد أو الإيقاع الواقع بإشارة الأخرس، أو شكّ في كفاية ذلك من دون حاجة إلى تحريك لسانه- مثلًا- زائداً على الإشارة أو نحو ذلك.
ثمّ إنّ لقيام إشارة الأخرس مقام عبارته أبحاثاً تتعلّق بها، منها:
الاكتفاء بإشارة الأخرس يختصّ بما إذا كانت مفهمة مستبينة للمقصود، وأمّا إذا لم تكن له إشارة معقولة ولا كناية مفهومة فلا يكتفى بما يفعل ويصدر منه؛ لعدم
إمكان إحراز قصده، بل لعدم تحقّق الإبراز العرفي المعتبر في صحّة العقود والإيقاعات.قال
الشيخ الطوسي : «الأخرس على ضربين: أحدهما: أن لا يكون له إشارة معقولة ولا كناية مفهومة. والثاني: الذي له إشارة معقولة أو كناية مفهومة، فإذا لم يكن له إشارة معقولة ولا كناية مفهومة فلا يصحّ قذفه ولا لعانه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا شيء من عقوده؛ لأنّه لا يفهم ما يريده بلا خلاف، وأمّا الأخرس الذي له إشارة معقولة أو كناية مفهومة فإنّه بمنزلة الناطق في سائر الأحكام، فيصحّ قذفه ولعانه ونكاحه وطلاقه وسائر عقوده».
ومثله قال الآخرون،
ومن هنا قيّد الفقهاء الاكتفاء بإشارة الأخرس بأن تكون إشارته مفهمة للمراد ودالّة على القصد بحسب ما يعلم بحاله ولو من القرائن المحتفّة بها، قال
الشهيد الثاني : «ويعتبر كون الإشارة مفهمة للمراد ودالّة على القصد القلبي بحسب ما يعلم من حاله».
وقال في موضع آخر : «ويعتبر في صحّته (الطلاق) بإشارته أن تكون مفهمة لمن يخالطه، ويعرف إشارته إن لم يتّفق فهمها على العموم».
وقال
السيد المراغي : «هل يعتبر في إشارة الأخرس أن تكون على طبق إشارة الأخرسين، بمعنى أن يكون استعماله الإشارة على نحو ما هو عند سائر أفراد الأخرس كاللفظ بالنسبة إلى سائر المتكلّمين من أهل ذلك اللسان أم لا يعتبر ذلك؟ وعلى الثاني، هل يعتبر كون تلك الإشارة معتادة عند نفسه ولو كانت مغايرة لإشارة سائر الأخرسين في هذا المقام- كما لو اخترع الأخرس لنفسه إشارة لكلّ مطلب واعتاد ذلك وإن لم يكن على طبق إشارات الأخرسين- أم لا يعتبر، بل يكفي مطلق إشارته المفهمة للمراد ظنّاً وإن لم تكن تلك الإشارة معتادة؟
الظاهر أنّ كون إشارته معتادة لأفراد الأخرس ممّا لا دليل على اعتباره، وقياسه على الألفاظ لا وجه له؛ لأنّ مبنى الألفاظ إنّما هو على التعلّم والتعليم، بخلاف الإشارات؛ فإنّها إلهاميّة له من اللَّه- سبحانه وتعالى- على حسب ما يخطر بباله من الكيفيّات، ولا يمكن تطابق أخرسين في ذلك، فضلًا عن الكلّ، مع أنّ دلالة الإشارة مطلقة تعمّ المعتاد للكلّ وغيره. وأمّا مع كونها معتادة عند نفسه فالظاهر اعتباره، بمعنى أنّه لا يوثق
بإفادة المراد (إلّا) مع كون إشارته بذلك الوضع معتادة له حتّى يقوم مقام اللفظ. وأمّا غير المعتاد، فلا عبرة به إلّا مع حصول القطع بالمراد، لكن في مقامٍ لم يكن للخصوصية مدخليّة كما في
الإقرار والوصيّة ونحو ذلك».
وقال
السيد اليزدي : «الظاهر أنّه لا فرق بين أقسام الإشارة، فلا يعتبر كيفيّة خاصّة، ولا كونها معتادة لنوع الأخرسين، ولا للشخص. نعم، يعتبر كونها مفهمة للمراد ولو
بالاحتفاف بالقرائن، وهل يعتبر كونها مفيدة للقطع أو يكفي الإشارة الظنّية قد يقال بالأوّل والحقّ الثاني... نعم، يعتبر كونها في حدّ نفسها ولو بمعونة القرائن كذلك، فلو أفادت الظنّ لخصوصيّة في الشخص الفاهم من غير أن تكون في حدّ نفسها كذلك. وبعبارة أخرى: إذا لم تكن مفهمة للمراد بالنسبة إلى نوع المخاطبين أو الحاضرين لا تكون كافية؛ وذلك لأنّه يعتبر في إنشاء المعاملات أن يكون بما يكون دالّاً في حدّ نفسه ولو بملاحظة القرائن».
وقال
السيد الخوئي بعد
استعراضه الأدلّة الدالّة على حجّية إشارة الأخرس: «إنّ مقتضى القاعدة الأولويّة وفحوى الروايات الخاصّة الواردة في طلاق الأخرس وقراءته هو كفاية إشارته في مقام الإنشاء ما لم يدلّ دليل خاصّ على خلاف ذلك، من غير فارق بين أقسام الإشارة وكيفيّاتها، ولا بين ما يكون معتاداً للأخرسين أو للأشخاص الآخرين، وبين ما لم يكن كذلك. بل الضابطة الكلّية في ذلك: أن تكون الإشارة مفهمة للمراد بالنسبة إلى نوع المخاطبين والحاضرين ولو كان
الانفهام بمئونة القرائن كما هو الشأن في الإنشاء اللفظي. بداهة أنّ الأفعال والأقوال سيّان في حجّية ظواهرها من ناحية بناء العقلاء».
إنّ المستفاد من كلمات الفقهاء المتفرّقة حول كفاية إشارة الأخرس في المعاملات وتطبيقاتها
الاجتزاء بكلّ إشارة مفهمة للمقصود، وعدم اعتبار كيفيّة خاصّة في الإشارة لا في نوعها، ولا في شخصها.لكن يظهر من كلمات بعض الفقهاء اعتبار إشارة خاصّة للأخرس في بعض تصرّفاته وعدم الاكتفاء بغيرها وإن أفادت مقصده وأدّت الغرض في التفهيم، فمن ذلك:
قال
الشيخ الصدوق : «إنّ الأخرس إذا أراد الطلاق ألقى على امرأته قناعاً يُرى أنّها قد حرمت عليه».
وهو مضمون بعض الروايات، فعن
السكوني عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:«طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها، ويضعها على رأسها ويعتزلها».
ومثلها ما عن أبي بصير
أيضاً.وعن
أبان بن عثمان قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن طلاق الخُرس؟ قال: «يلفّ قناعها على رأسها ويجذبه».
لكنّ هذه الروايات تعارض رواية
البزنطي التي ورد فيها: أنّه سأل
أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الرجل تكون عنده المرأة يصمت ولا يتكلّم؟ قال: «أخرس هو؟» قلت: نعم، ويعلم منه بغض لامرأته وكراهة لها، أ يجوز أن يطلّق عنه وليّه؟قال: «لا، ولكن يكتب، ويُشهد على ذلك»، قلت: أصلحك الله، فإنّه لا يكتب ولا يسمع كيف يطلّقها؟ قال: «بالذي يُعرف به من أفعاله مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها».
ورواية
يونس : في رجل أخرس كتب في الأرض بطلاق امرأته، قال: «إذا فعل في قبل الطهر بشهود وفهم عنه كما يفهم عن مثله ويريد
الطلاق جاز طلاقه على السنّة».
فإنّهما صريحتان في كفاية كلّ إشارة وكتابة مفهمة تدلّان على الطلاق، وعدم
اختصاص الطلاق بإلقاء المقنعة على رأس الزوجة.وبهما أفتى مشهور الفقهاء، حملًا للروايات الأولى على المثال أو على من لم تكن له إشارة مفهمة.
وربّما حاول البعض الجمع بينهما
بالتخيير بينهما، ومردّ هذا الجمع إمّا إلى المشهور باعتبار أنّ
إلقاء القناع هو احدى الإشارات المفهمة للمقصود، أو إلى أنّه طريق تعبّدي لإيقاع الطلاق في مقابل الطريق العرفي الذي يكفي فيه مطلق الإشارة المفهمة، كما رماها بعض آخر بالشذوذ قال الشيخ الطوسي : «ومن لم يتمكّن من الكلام مثل أن يكون أخرس، فليكتب الطلاق بيده إن كان ممّن يحسنه. فإن لم يُحسن فلْيومِ إلى الطلاق كما يومئ إلى بعض ما يحتاج إليه، فمتى فهم من
إيمائه الطلاق وقع طلاقه. وقد روي: أنّه ينبغي أن يأخذ المقنعة فيضعها على رأسها ويتنحّى عنها فيكون ذلك منه طلاقاً»..
وقال
ابن إدريس الحلّي بعد نقل الرواية: «وهذه الرواية يمكن حملها على من لم تكن له كناية مفهومة ولا إشارة معقولة».
وقال
ابن حمزة الطوسي : «وما يكون في حكم الطلاق أربعة أشياء: الكتابة من الأخرس، ومن الغائب بأربعة شروط: أن يكتب بخطّه ويُشهد عليه ويسلم من الشاهدين ولا يفارقهما حتى يقيما الشهادة ويعلما المطلّقة، والإيماء من الأخرس على وجه يفهم منه الطلاق، أو إلقاء
المقنعة على رأسها مع التنحّي عنها».
وقال
المحقّق الحلّي : «ويقع طلاق الأخرس بالإشارة الدالّة. وفي رواية: يلقى عليها القناع فيكون ذلك طلاقاً، وهي شاذّة».
وقال
ابن سعيد : «وطلاق الأخرس بكتابة أو إيماء أو إشارة أو وضع المقنعة على رأسها والتنحّي عنها».
وقال العلّامة الحلّي
وقال الشهيد الثاني
في شرحها: «وطلاق الأخرس بالإشارة المفهمة له وإلقاء القناع على رأسها؛ ليكون قرينة على وجوب سترها منه، والموجود في كلام الأصحاب الإشارة خاصّة، وفي الرواية:إلقاء القناع، فجمع المصنّف ( الشهيد الأوّل) بينهما، وهو أقوى دلالة. والظاهر أنّ إلقاء القناع من جملة الإشارات، ويكفي منها ما دلّ على قصده الطلاق كما يقع غيره من العقود والإيقاعات والدعاوى والأقارير».
وقال
المحدّث البحراني : «لو تعذّر النطق كفت الكتابة والإشارة من غير خلاف يعرف، ومنه الأخرس، فيصحّ طلاقه بذلك كما تصحّ سائر عقوده وأقاريره وعباراته... ومن الأخبار الواردة في المقام ما رواه المشايخ الثلاثة عن البزنطي... وما رواه في الكافي عن أبان بن عثمان... وما رواه الكافي عن يونس.... وهذه الأخبار كلّها متّفقة الدلالة على ما ذكره، ونقل عن الصدوقين وجماعة من الأصحاب أنّهم اعتبروا فيه إلقاء القناع على المرأة يُرى أنّها قد حرمت عليه؛ لرواية
السكوني وأبي بصير، ومنهم من خيّر بين الإشارة وإلقاء
القناع ، ومنهم من جمع بينهما. والتحقيق: الاكتفاء بما يفهم ذلك كائناً ما كان، وذكر بعض الأفراد في الأخبار إنّما خرج مخرج التمثيل».
كما صرّح الصدوق بأنّ طلاق الأخرس إلقاء القناع على رأس المرأة صرّح أيضاً بأنّ رجعته رفع القناع عنها يُرى أنّها حلّت عليه.
وتبعه على ذلك الشيخ الطوسي حيث قال: «فإذا أراد مراجعتها أخذ القناع من رأسها».
وكذا ابن حمزة الطوسي حيث قال:«والمراجعة ضربان قول وفعل، فالقول أحد ستّة ألفاظ... والفعل أربعة:
الوطء والقُبل واللمس بشهوة
وإنكار الطلاق، ويزداد للأخرس واحد وهو كشف المقنعة عن رأسها».
لكن اختصاص رجعة الأخرس بذلك- بخلاف طلاقه- لا دليل عليه من رواية أو غيرها. نعم، هي واردة في
الفقه الرضوي ،
لكنّ الأكثر على نفي نسبته إلى الرضا عليه السلام، ولذلك أنكر الفقهاء على من خصّها ذلك، وربّما استفيد من روايات الطلاق، ومع ذلك فتحمل على التمثيل.
قال المحقّق الحلّي: «ورجعة الأخرس بالإشارة الدالّة على المراجعة، وقيل:يأخذ القناع عن رأسها، وهو شاذّ».
وقال ابن فهد الحلّي بعد قول المحقّق:«ورجعة الأخرس الإشارة، وفي رواية:بأخذ القناع» : «الأوّل هو المشهور...وأخذ القناع مذهب الصدوقين وابن حمزة.وأمّا الرواية بأخذ القناع تنصيصاً في الرجعة فلم نقِف عليها، بل في الطلاق، وهي رواية السكوني...».
وقال الشهيد الثاني في جمع الشهيد الأوّل بين القولين بالعطف: «ورجعة الأخرس بالإشارة وأخذ القناع» : «ولا نصّ هنا عليه بخصوصه، فلا يجب الجمع بينهما، بل يكفي الإشارة مطلقاً».
وقال
السيد الطباطبائي : «ورجعة الأخرس بالإشارة المفهمة كسائر تصرّفاته على المشهور بين الطائفة، خلافاً للصدوقين فبإلقاء القناع عنها؛ عملًا بضدّ ما هو أمارة طلاقها وهو وضعه عليها كما في الخبر، وهو شاذّ... وفي قول الماتن (المحقّق الحلي) (وفي رواية: يأخذ القناع عنها) إشارة إلى وجود الرواية بصريحها فيه، ولو لم نقف عليها».
وقال المحقّق النجفي : «ورجعة الأخرس بالإشارة الدالّة على المراجعة، وفاقاً للمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة... فما قيل- كما عن الصدوقين- من اختصاص ذلك بأخذ القناع من رأسها واضح الفساد... بل يمكن حمل الرواية على تقديرها، بل وعبارة الصدوقين على
إرادة كون ذلك أحد الأفراد».
المعروف بين فقهائنا كفاية مطلق الإشارة المفهمة من الأخرس في
اليمين ، كما هي كافية في غيره من العقود والإيقاعات، فحكمهم هذا يتطابق مع ما تقتضيه القاعدة في إشارة الأخرس.لكن في عبارات جماعة من قدامى الفقهاء إضافة إلى ذلك وضع اليد على اسم اللَّه في المصحف أو غيره، وهو ما أوهم التقييد أو التخيير أو التبيين والتوضيح تبعاً لاختلاف النسخ والتعابير الواردة فيها.
كما تضمّنت بعض عباراتهم أيضاً الإشارة إلى بعض الروايات المبيّنة لكيفيّة استحلاف الأخرس.قال الشيخ الطوسي: «وإذا أراد الحاكم أن يحلِّف الأخرس حلّفه بالإشارة وبالإيماء إلى أسماء الله، وتوضع يده على
اسم الله في المصحف، وتعرف يمينه على الإنكار كما يعرف إقراره. وإن لم يُحضر
المصحف وكتب اسم الله تعالى ووضعت يده عليه أيضاً جاز... وقد روي أنّه:يُكتَب نسخة اليمين في لوحٍ، ثمّ يُغسل ذلك اللوح ويجمع ذلك الماء ويؤمر بشربه، فإن شرب كان حالفاً، وإن امتنع من شربه الزم الحقّ».
وبهذا المضمون وردت عبارة ابني البرّاج
وحمزة الطوسي.
والرواية المشار إليها في كلماتهم هي ما رواه محمّد بن مسلم في الصحيح قال:سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين وأنكره ولم يكن للمدّعي بيّنة؟ فقال: «إنّ
أمير المؤمنين عليه السلام اتي بأخرس فادّعى عليه دين ولم يكن للمدّعي بيّنة، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الحمد للَّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنتُ للُامّة جميع ما تحتاج اليه، ثمّ قال: ائتوني بمصحفٍ فأُتي به، فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه إلى السماء، وأشار أنّه كتاب اللَّه عزّ وجلّ، ثمّ قال: ائتوني بوليّه، فأُتي بأخٍ له، فأقعده إلى جنبه، ثمّ قال: يا
قنبر عليَّ بدواة وصحيفة، فأتاه بهما، ثمّ قال لأخي الأخرس: قل لأخيك هذا بينك وبينه: إنّه عليٌّ، فتقدّم إليه بذلك، ثمّ كتب أمير المؤمنين عليه السلام: واللَّه الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، الضارّ النافع، المهلك المدرك، الذي يعلم السرّ والعلانيّة: إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قِبَل فلان بن فلان- أعني الأخرس- حقّ، ولا طلبة بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب، ثمّ غسله وأمر الأخرس أن يشربه فامتنع، فألزمه الدين».
وحمل ابن إدريس الرواية على من ليست له إشارة مفهومة ولا كناية معقولة، والحكم الأوّل على من له ذلك.
وكيف كان، فقد جعل بعض الفقهاء الأقوال في استحلاف الأخرس ثلاثة:
قال المحقّق الحلي: «وحلف الأخرس بالإشارة، وقيل: توضع يده على اسم اللَّه في المصحف أو يكتب اسم اللَّه سبحانه وتوضع يده عليه. وقيل: يكتب اليمين في لوح ويغسل ويؤمر بشُربه بعد
إعلامه ، فإن شرب كان حالفاً، وإن امتنع الزم الحقّ؛ استناداً إلى حكم عليّ عليه السلام في واقعة الأخرس».
ونحوها عبارة العلّامة في القواعد.
وقال في التحرير بعد نقله الأقوال والرواية: «وهذه الرواية قضيّة في عين، فلا تُعدّى، وإنّما العمل على الإشارة».
وحاول بعض الفقهاء رفع التنافي بين مضمون الرواية ومقتضى القاعدة بجعله أحد جزئيّاته.
وجعل معها بعضهم ذلك من باب التغليظ بعد الاستحلاف بالإشارة. قال الشهيد في الدروس: «وحلف الأخرس بالإشارة، وفي رواية محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام كتب صورة اليمين على نحو ما سلف من التغليظ في صحيفة، ثمّ خلطه وأمره بشربه فامتنع فألزمه الدين». وفيه دلالة على القضاء بالنكول».
فاتّضح من جميع ما تقدّم أنّ اشتراط الإشارة بقي هو الرأي السائد بين الفقهاء رغم محاولات التخريج والتوجيه لمعالجة مضمون الرواية. نعم، أصرّ
المحقّق الأردبيلي على كفاية ما في الرواية أيضاً بلا حاجة إلى الإشارة، ووافقه عليه بعض من تأخّر عنه، قال المحقّق الأردبيلي قدس سره : «إنّ الذي نجده رجحان ما في الرواية؛ لصحّتها، وعدم ظهور دليل غيرها، ومجرّد كون
الإشارة معتبرة في مواضع لا يوجب كونها كلّية، وعدم جواز العمل بالرواية، وأنّ التخيير بين الإشارة وما في الرواية أولى من تعيين الإشارة، وما نجد دليلًا للشيخ بوضع اليد، سواء قلنا
بالانضمام أو أنّه على حدة»..
كما جعل النراقي القول به أتقن وأظهر حيث قال: «يحلف الأخرس بالإشارة المفهمة على المشهور كما صرّح به جماعة؛ لأنّ الشارع أقام إشارته مقام تلفّظه في سائر اموره... ونسب جماعة إلى ابن حمزة الطريق المروي خاصّة، ونفى عنه البعد
الفاضل المقداد ، ورجّحه المحقّق الأردبيلي، واختاره الإرشاد وشرح المفاتيح؛ للرواية الصحيحة الخالية عن المعارض، وضعف دليل المشهور كما ذكره الأردبيلي.... وتضعيف دلالة الصحيحة بكونها قضيّة في واقعة ضعيف غايته؛ إذ ذكر أبي عبد اللَّه عليه السلام ذلك بعد السؤال منه عن كيفيّة حلف الأخرس مطلقاً أوضح شاهد على عدم اختصاصه بواقعة خاصّة، وكذا قول أمير المؤمنين عليه السلام: «الحمد للَّه الذي...» إلى آخره. ومنه يظهر ضعف ما قيل أيضاً من جواز كون حلفه بهذا الطريق بعد الحلف بالإشارة، ويكون ذلك من باب
التغليظ ، بل ذلك أضعف جدّاً؛ لأنّه لو كان كذلك لما كان وجه للإلزام بالدين بعد
الامتناع من ذلك الحلف. واحتمال امتناعه عن الإشارة أيضاً أسخف بكثير؛ لأنّ معه لم يكن وجه لذلك لو كان المقصود بالذات الأوّل، فهذا القول أتقن وأظهر».
وقد اتّضح من جميع الموارد المتقدّمة التي استشهد بها على اعتبار إشارة خاصّة عدم اعتداد مشهور الفقهاء بها وبناؤهم على تحكيم مقتضى القاعدة
والاكتفاء بمطلق الإشارة في الجميع.
هل يشترط في عقد الأخرس أو إيقاعه بالإشارة تحريك لسانه أيضاً أو لا يشترط ذلك؟المعروف عدم الاشتراط، وهو ظاهر كلّ من أطلق الاكتفاء في عقد الأخرس أو إيقاعه بالإشارة، وبهذا تختلف معاملات الأخرس عن عباداته.قال المحقّق الأردبيلي في البيع:«وليس هذا مثل الصلاة؛ لعدم جواز التوكيل فيها، ولهذا ما يوجبون هنا
الإتيان بالمقدور بتحريك اللسان والإشارة بالإصبع، بل يكتفون بما يفيد الرضا، وهو يدلّ على أنّه الغرض من العقد».
وقال المحقّق النجفي فيه أيضاً: «إنّ الظاهر القطع بعدم وجوب تحريك اللسان هنا، وإن قيل به في
القراءة ؛ ضرورة وضوح الفرق بين المقامين بالتعبّد باللفظ ثَمّ دون المقام».
وقال
السيد اليزدي : «ثمّ لا يعتبر فيها لوك اللسان، ولا تحريك الشفة، وإن قلنا بذلك في القراءة والأذكار من جهة خبر السكوني؛ لأنّ
الإلحاق قياس، ومع ذلك الفارق موجود؛ فإنّ فيها للتكلّم خصوصيّة وموضوعيّة، بخلاف باب البيع وسائر المعاملات. ودعوى أنّ ذلك مقتضى قاعدة الميسور، مدفوعة:أوّلًا: باختصاصها بالمطلوبات النفسيّة دون المقدّميّة كما في المقام.وثانياً: أنّ تحريك اللسان ليس ميسوراً للتكلّم؛ إذ هو ليس عبارة عن التحريك
وأداء الحروف. وبعبارة أخرى: ليس مركّباً، بل تحريك اللسان مقدّمة له. ومن ذلك يظهر أنّه لا وجه للتمسّك بها في القراءة والأذكار أيضاً؛ لأنّ المانع الأوّل وإن كان منتفياً حيث انّ التكلّم فيها مطلوب نفسي، إلّا أنّ المانع الثاني موجود، وهو عدم كون حركة اللسان من أجزاء التكلّم».
وقال السيد الخوئي: «البيع عبارة عن الاعتبار النفساني المبرز بمبرز خارجي، وعليه فإبراز الاعتبار النفساني بالإشارة المفهمة للمراد مصداق لمفهوم البيع بالحمل الشائع فيكون مشمولًا للعمومات، وعندئذٍ لا يلزم على الأخرس أن يستحضر الصيغة اللفظيّة في ذهنه لكي تكون إشارته إليها أوّلًا، وإلى مدلولها ثانياً حتّى يكون إبراز ما في النفس بتلك الصيغة الحاضرة في الذهن، كما لا يلزم عليه أن يحرّك لسانه على النهج الذي يحرّكه عند التكلّم بالصيغة».
فالمستفاد من عبارات الفقهاء أنّ ما يكون للعبارة والنطق بما هو تلفّظ أو ذكر- لا بما هو دالّ على المعنى- دخل في متعلّق الحكم، كالقراءة والذكر في الصلاة،
والتلبية في الحجّ- فمع العجز عن التلفّظ- يقوم تحريك اللسان مقامه مضافاً إلى الإشارة، على ما سيأتي مزيد توضيح له.
وأمّا ما أخذ ليكون أداة للتعبير عن المعاني وسبيلًا لتفهيم المقاصد والأغراض كاللفظ المستعمل في المعاملات المختلفة من بيع
وإجارة ونحوهما، فتستوي فيه كلّ وسيلة تؤدّي الغرض المذكور كالإشارة المفهمة مثلًا. وحينئذٍ لا حاجة إلى تحريك اللسان؛ لأنّه إنّما يجب مراعاةً لموضوعيّة اللفظ، فمع انتفائها لا وجه
لإيجابه .وقد يقال: بأنّ لازم ذلك كفاية الإشارة المفهمة في ذلك وإن صدرت من القادر على النطق؛ إذ المفروض أنّ اللفظ مأخوذ على سبيل الطريقيّة في هذه الموارد، لا على سبيل الموضوعيّة، والإشارة طريق يحصل به الغرض المقصود. مع أنّ بناء الفقهاء على عدم اعتبارهم الإشارة منه.والجواب: ما تقدّم من أنّ درجة من وضوح الدلالة وعرفيّتها وتعارفها قد تكون مأخوذة بنحو الموضوعيّة في ترتّب
الأثر ، وهي في حقّ القادر على النطق تكون باللفظ والعبارة، بخلاف من لا يتمكّن منه فإنّها تكون منه بالإشارة. قال السيد المراغي : «هل يشترط في الأخرس لوك اللسان في جميع المقامات أم لا؟ ظاهر النصّ الوارد في كتاب الصلاة في القراءة اعتباره، ويدلّ عليه أيضاً قاعدة الميسور؛ فإنّ اللازم على الأخرس تحريك اللسان والتكلّم بالألفاظ الخاصّة، فإذا سقط الثاني للتعذّر، فيبقى الأوّل بحاله، ولا يفترق الحال بين التكاليف والوضعيّات في ذلك. ويجيء
احتمال عدم القول بالفرق بين الصلاة وغيرها، مضافاً إلى أنّ
الأصل عدم تحقّق الأثر إلّا بسبب متيقّن، والإشارة مع لوك اللسان متيقّنة في التأثير دون ما عداها فيبقى في حكم الأصل. ويمكن أن يقال: إنّ ظاهر الفتوى في العقود والإيقاعات كون إشارته كالقول، ولم يشترطوا لوك اللسان، وقاعدة الميسور إنّما تأتي في المركّبات الخارجيّة دون العقليّة، وما نحن فيه من الثانية دون الاولى، وعدم القول بالفرق ممنوع؛ إذ ظاهر إطلاق الأصحاب عدم اشتراطه في الأسباب وإن اشترطوه في الصلاة للنصّ. والذي يقوى في النظر: أنّ إشارة الأخرس نازلة منزلة الكلام، ولا عبرة بلوك اللسان أصلًا. نعم، قام الدليل عليه في الصلاة، وهو ليس من أجزاء الإشارة، ولا من مقوّماتها، بل هو تكليف آخر. نعم، لو كان المعتاد في الإشارة لوك اللسان بحيث انّ الأخرس إذا أراد تفهيم معنى يلوك لسانه بحيث انّه لولاه لا يعتمد أنّه أراد هذا المعنى فلا بدّ من تحقّقه، بخلاف ما لو لم يكن له مدخليّة. وربّما تبنى المسألة على أنّ إشارة الأخرس هل هي إشارة إلى الألفاظ أو إلى نفس المعنى؟ فعلى الأوّل يعتبر لوك اللسان؛ إذ غاية ما قام الدليل عليه هو قيام الإشارة مقام دلالة الصوت وتقطيع الحروف، وأمّا قيامها مقام حركات اللسان فلا. وعلى الثاني لا يعتبر؛ لأنّ السبب إنّما هو المعنى وقد اعتبر اللفظ للكشف عنه. والإشارة في الأخرس كاشفة عن ذلك، فلا ربط لتحريك اللسان؛ لأنّه مقدّمة للّفظ، وحيث لا لفظ فلا وجه للتحريك، وذلك نظير تحريك الرجلين في السفينة لمن نذر المشي في الطريق، مع أنّه لو لزم ذلك للزم
إظهار الصوت أيضاً؛ لأنّه أيضاً لا بدل له وهو مقدور. ومن هنا يمكن أن يقال بالفرق بين العبادات والمعاملات؛ إذ العبرة في العبادات بنفس الألفاظ تعبّداً؛ إذ لا ريب في عدمِ جوازِ إفادةِ ذلك المعنى بلفظٍ آخر. وبالجملة: لخصوصيّة الألفاظ فيها مدخليّة وإن كان المعنى أيضاً مطلوباً في الجملة، أو كاللفظ في بعض المقامات. وأمّا المعاملات فالعبرة فيها بالمعاني؛ ولذلك لا يصحّ مع عدم العلم بمعنى اللفظ، أو مع عدم قصد
الإنشاء ونحو ذلك، والألفاظ قد اعتبرت فيها للكشف. فاللازم على الأخرس لوك اللسان في العبادة مع الإشارة لئلّا يصير أجنبيّاً عن عالم اللفظ بالمرّة. وأمّا المعاملات فيكفي فيها الإشارة الدالّة على المدّعى؛ لأنّ كشف الإشارة قائم مقام كشف اللفظ. ولا خصوصيّة للوك اللسان. وهذا الوجه عندي غير بعيد».
وقد يقال: إنّ التفريق بين العبادات والمعاملات باشتمال الاولى على
مراعاة خصوصيّة للّفظ فيها دون الثانية وارد مورد الغالب، وإلّا فبعض المعاملات والإيقاعات كاللعان والطلاق للّفظ فيها خصوصيّة كذلك.والجواب: أنّ أخذ اللفظ المخصوص في تلك الموارد أيضاً باعتبار درجة الدلالة وصراحته أو نكتة في الدلالة لا بما هو لفظ محض، وهذا غير حاصل في لوك الكلام، فالقياس على العبادات مع الفارق.
نعم، ذكر السيد الخوئي في نكاح الأخرس ما يظهر منه أنّه كلّما كان اعتبار اللفظ في معاملة بدليل لفظي تعبّدي- كما في النكاح والطلاق- وكان له إطلاق فهو يقتضي اشتراط اللفظ في الحكم بالصحّة حتّى في حقّ العاجز كالأخرس، فنحتاج في الاكتفاء بغير اللفظ في حقّه إلى دليل خاصّ، ولا يمكن تصحيحه بغير اللفظ على القاعدة، والدليل في المقام هو فحوى الرواية المتقدّمة في طلاق الأخرس وما ورد في قراءته في الصلاة وتلبيته وما أشبه ذلك، وحيث انّها ظاهرة في اشتراط تحريك اللسان مع إشارته فيلزم ذلك في
النكاح أيضاً. قال: «غير أنّ مقتضى هذه النصوص لزوم
إضافة تحريك اللسان إلى الإشارة بإصبعه وعدم الاكتفاء بالإشارة المجرّدة، كما ورد ذلك في معتبرة مسعدة بن صدقة المتقدّمة، ويظهر من روايات الطلاق، حيث قيّد الحكم بكون إبرازه للنكاح بالإشارة كإبراز سائر مقاصده واموره، ومن الواضح أنّ المتعارف عند الأخرس في مقام بيان مقاصده هو تحريك لسانه مضافاً إلى الإشارة بإصبعه أو يده أو غيرهما، ومن هنا فلا محيص عن اشتراط تحريك اللسان في إنشاء الأخرس للنكاح بالإشارة».
ثمّ إنّ
الإمام الخميني قدس سره توسّع في معاملات الأخرس فاكتفى فيها بتحريك اللسان من دون إشارة، كما أنّه اكتفى بجعل إشارته إلى اللفظ ليكون به إنشاء
المعاملة قال قدس سره: «يمكن أن يقال: إنّ إشارة الأخرس على قسمين:
أحدهما: ما هي آلة لإيقاع المبادلة، فهي كسائر الأسباب سبب
ابتدائي له وليست قائمة مقام اللفظ لدى العقلاء.وثانيهما: ما هي إشارة إلى سبب آخر هو اللفظ ليكون ذلك آلة لإيجاد المعاملة وهي قائمة مقام اللفظ؛ لأنّ ما هو السبب لإيقاعها هو اللفظ المشار إليه.وبعبارة أخرى: أنّ إشارته تارة تكون سبباً وأخرى إشارة إلى السبب، فالأوّل في عرض سائر الأسباب، والثاني قائم مقام السبب... وللأخرس نوع آخر من المعاملة يقوم مقام اللفظ عرفاً وهو تحريك لسانه للإفادة، فإنّ تحريكه إنّما هو
لإيجاد اللفظ الدالّ على المعنى لا لإيقاع المعنى».
اختلف الفقهاء في تقديم إشارة الأخرس في المعاملات على كتابته- لو كان الأخرس قادراً عليهما معاً- أو العكس أو التخيير بينهما، وفي أنّ الكتابة من الأخرس من جملة الإشارات المفهمة ومصداق لها. وقد تقدّم في بحث طلاق الأخرس رواية البزنطي التي قُدّمَ فيها كتابة الأخرس على إشارته وإيمائه. وتقدّم أيضاً من الشيخ الطوسي هناك قوله بأنّ من لم يتمكّن من الكلام مثل أن يكون أخرس فليكتب الطلاق بيده إن كان ممّن يحسنه،فإن لم يحسن فليومِ إلى الطلاق كما يومئ إلى بعض ما يحتاج إليه، فمتى فهم من إيمائه الطلاق وقع طلاقه، فقد يستظهر من مثل ذلك تقدّم الكتابة على الإشارة.إلّا أنّ المعروف المستظهر من كلمات أكثر الفقهاء التخيير بين الكتابة والإشارة والإيماء وكفاية كلّ منهما، بل رجّح بعض الإشارة.
قال
الشيخ الأنصاري : «والظاهر أيضاً كفاية الكتابة مع العجز عن الإشارة؛ لفحوى ما ورد من النصّ على جوازها في الطلاق، مع أنّ الظاهر عدم الخلاف فيه، وأمّا مع القدرة على الإشارة فقد رجّح بعض الإشارة؛ ولعلّه لأنّها أصرح في الإنشاء من الكتابة، وفي بعض روايات الطلاق ما يدلّ على العكس، وإليه ذهب الحلّي هناك».
وما ورد في رواية البزنطي ليس ظاهراً في الترتيب بينهما، بل ظاهر ذيلها أنّ المعيار والميزان ما يدلّ دلالة مفهومة مستبينة على قصده وإرادته.
المعروف أنّه لا يشترط العجز عن التوكيل في اعتبار إشارة الأخرس في معاملاته؛ لإطلاق الأدلّة المتقدّمة على اعتبار إشارته، وقد صرّح بذلك جملة من الفقهاء.قال
السيد العاملي في مسألة صحّة عقد النكاح بغير العربية مع مشقّة التعلّم:«وكيف كان، فينبغي
القطع بإجزاء العقد بغير العربية مع المشقّة اللازمة من تعلّم العربية...
لاتّفاق الأصحاب وورود الأخبار بالاكتفاء بإشارة الأخرس في عقوده وإيقاعاته، وأنّه لا يجب عليه التوكيل».
وقال السيد اليزدي في نكاح الأخرس:«الأخرس يكفيه الإيجاب والقبول بالإشارة مع قصد الإنشاء وإن تمكّن من التوكيل».ولكن علّق عليه المحقّق العراقي بقوله:«الأولى والأحوط توكيله، خصوصاً إذا كان أحد طرفي العقد، بل لا يترك
الاحتياط فيه؛ لإمكان التشكيك في شمول الدليل لمثل ذلك».
وقال
المحدّث الجزائري في نكاح الأخرس أيضاً: «وفي وجوب التوكيل حيث يمكن وجه».
والوجه في ذلك أنّ مقتضى القاعدة في المعاملات مع العلم باعتبار شيء فيها والعجز عنه عدم صحّة الخالية منه، فينحصر وجه الصحّة فيها
باستنابة الغير وتوكيله، إلّا مع العجز عن ذلك أيضاً فيصار إلى البديل
الاضطراري حينئذٍ، وهي الإشارة في العاجز عن الكلام.لكنّ المشهور بين فقهائنا عدم اشتراط العجز عن التوكيل في اعتبار معاملة الأخرس الواقعة بالإشارة، فتصحّ منه وإن أمكن التوكيل، إمّا لصدق عنوان المعاملة عليها كذلك فتشملها أدلّتها، أو لكونها أولى بالصحّة من غيرها من المعاملات التي وردت الأدلّة بوقوعها صحيحة من الأخرس بإشارته.
المستفاد من كلمات جملة من الفقهاء أنّ معاملة الأخرس لازمة، سواء وقعت بالإشارة والكتابة أو بالمعاطاة، أمّا إذا وقعت بالإشارة والكتابة ممّا قام مقام اللفظ فلأنّها على حدّ المعاملة اللفظيّة بعد اعتبارها من قبل الشارع كذلك.وأمّا إذا وقعت بالمعاطاة فباعتبار أنّ
المعاطاة يعمّها ما يعمّ سائر المعاملات من أدلّة اللزوم- ك أَوْفُوا بِالْعُقُودِ- فإنّ الأصل فيها هو اللزوم، ولا يخرج عن هذا الأصل إلّا ما اجتمع مع قدرة المتعاطيين على النطق؛ وذلك للإجماع الدالّ على جواز المعاطاة، والقدر المتيقّن منه هو ما إذا كان المتعاطيان قادرين على الكلام.
قال الشيخ الأنصاري: «قد عرفت أنّ اعتبار اللفظ في البيع- بل في جميع العقود- ممّا نقل عليه
الإجماع ، وتحقّق فيه الشهرة العظيمة، مع الإشارة إليه في بعض النصوص، لكن هذا يختصّ بصورة القدرة، أمّا مع العجز عنه كالأخرس فمع عدم القدرة على التوكيل لا إشكال ولا خلاف في عدم اعتبار اللفظ وقيام الإشارة مقامه، وكذا مع القدرة على التوكيل...لفحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس... ثمّ لو قلنا بأنّ الأصل في المعاطاة اللزوم بعد القول بإفادتها الملكيّة فالقدر المخرج صورة قدرة المتبايعين على مباشرة اللفظ. والظاهر أيضاً كفاية الكتابة مع العجز عن الإشارة؛ لفحوى ما ورد من النصّ على جوازها في الطلاق، مع أنّ الظاهر عدم الخلاف فيه.وأمّا مع القدرة على الإشارة فقد رجّح بعض الإشارة؛ ولعلّه لأنّها أصرح في الإنشاء من الكتابة، وفي بعض روايات الطلاق ما يدلّ على العكس، وإليه ذهب الحلّي رحمه الله هناك».
وهذا المعنى قرّره غيره من الفقهاء.
لكنّ بعضاً آخر من الفقهاء أنكر لزوم معاطاته؛ إذ قسّم المعاملات بلحاظ قوّة دلالتها على المراد ورفعها لوجوه
الاشتباه إلى عهد مؤكّد وعهد غير مؤكّد، وصنّف المعاملة الواقعة من الأخرس بالإشارة ضمن العهود المؤكّدة، والواقعة بالمعاطاة والقبض
والإقباض ضمن العهود غير المؤكّدة، ليرتّب على العهود المؤكّدة حكم اللزوم وعلى غيرها حكم الجواز.قال: «إنّ الأخرس كغيره له عهد مؤكّد وعهد غير مؤكّد، فالتعاطي منه في الخارج فقط كالتعاطي من غيره عهد غير مؤكّد، فله حكمه، والإشارة المفهمة الرافعة للاشتباه منه عهده المؤكّد، كاللفظ الرافع للاشتباه الذي يتطرّق إلى الفعل نوعاً عهد مؤكّد من القادر، فليس مجرّد كون الإشارة فعلًا موجباً لكون معاملة الأخرس معاطاة دائماً، أو أنّ فعله منزّل منزلة القول من غيره دائماً، بل له سنخان من العهد كما في غيره بلحاظ قوّة الدلالة على مقاصده وضعفها نوعاً. وعليه، فإذا كان العقد في قوله تعالى عبارة عن العهد المؤكّد- كما هو مبنى البحث- فهو شامل لإشارة الأخرس؛ فإنّه العهد المؤكّد من مثله...».
وما ذكره نوقش فيه باستلزامه كفاية ما يقع بالإشارة من غير الأخرس، وأنّ قوّة الدلالة غير تأكيد العهد، وبعدم تفريق العقلاء بين الإشارة وغيرها من الأفعال في الصحّة واللزوم.
وبعض آخر انتهى إلى نفس النتيجة من لزوم ما يقع بالإشارة دون ما يقع بالمعاطاة، لكن على أساس تفاوت الفعلين ماهيّة وتفاوتهما في الدور، فإشارة الأخرس لها خصوصيّة لا توجد في إشارة الناطق حيث جُعلت لتقوم مقام لفظ الناطق فلها حكمه، وأمّا معاطاته فليس لها تلك الخصوصيّة فهي ومعاطاة الناطق على حدّ سواء؛ ولذلك يكون لها حكم معاطاته، فتكون جائزة.
قال
الميرزا النائيني : «سواء قلنا بأنّ الفعل (الصادر من الأخرس) ليس مصداقاً لعنوان العقود، أو قلنا بأنّه مصداق، ولكنّما الإجماع قام على اعتبار اللفظ في اللزوم، فالإشارة من الأخرس تقوم مقام اللفظ وإن لم تقم معاطاته، أي أخذه وإعطاؤه مقام اللفظ...وذلك لأنّ إشارة الأخرس وإن كانت فعلًا من أفعاله، إلّا أنّ قصور الفعل عن كونه إيجاداً لعنوان العقد إنّما هو في غير إشارته؛ فإنّ إشارته لا تقصر عن قول غيره، لا سيّما من يفهم مقاصده الكلّيّة والأمور غير المحسوسة بالإشارة، هذا بناءً على الأوّل. وأمّا بناءً على أنّ اللزوم يتوقّف على اللفظ إجماعاً، فالإجماع إنّما قام في مورد القدرة على التكلّم، وأمّا مع العجز عنه فلم يقم إجماع... (لكنّ) محلّ البحث في إشارة الأخرس إنّما هو فيما إذا كانت المعاملة منشأةً بإشارته بحيث كان القبض والإقباض وفاءً بها، لا ما إذا كان الإنشاء بهما؛ فإنّ معاطاته لا خصوصيّة فيها. فما أفاده المصنّف (أي الشيخ الأنصاري) في قوله: (ثمّ لو قلنا...)لا يستقيم؛ لأنّ جهة البحث ليست في معاطاة الأخرس حتى يبحث أنّها لازمة أو جائزة؛ لعدم انعقاد الإجماع هاهنا. نعم، لو أراد من لفظ المعاطاة مطلق الفعل لا خصوص القبض والإقباض لاستقام ما أفاده».
والظاهر أنّ مراده ذلك؛ إذ هو ممّن يرى أنّ عنواني
العقد والمعاملة يصدقان على المعاملة الفعليّة حقيقة وعرفاً كالمعاملة اللفظيّة، وإنّما اشترط اللفظ في صحّة المعاملة ولزومها للإجماع، وهو دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو وجود القدرة على النطق، وأمّا مع عدمها فلا دليل على اشتراطه، وتبقى المعاملة الفعليّة مشمولة للعمومات نحو (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (تجارة عن تراضٍ) من غير فرق في ذلك بين ما يقع بالإشارة وما يقع بالمعاطاة.
قال السيد الخوئي: «لا شبهة في أنّ مقتضى العمومات والمطلقات هو صحّة العقود والإيقاعات، ولكن إذا شكّ في اعتبار قيد في تلك المعاملات كاللفظ- مثلًا- فهل يصحّ التمسّك بالعمومات المذكورة لنفي ذلك القيد أم لا؟ الظاهر هو الأوّل، بديهة أنّ القاعدة الأوّليّة تقتضي صحّة الإنشاء بكلّ ما هو قابل لإبراز
الاعتبار النفساني سواء فيه الفعل أو اللفظ، ولكنّ المغروس في كلمات الأصحاب، والمودع في كتبهم هو قيام الإجماع على اعتبار اللفظ في العقود والإيقاعات. وقد ذكرنا مراراً أنّ الإجماع دليل لبّي فلا بدّ أن يؤخذ منه بالمقدار المتيقّن. ومن البديهي أنّ القدر المسلّم من الإجماع- على تقدير تحقّقه هنا- إنّما هو فرض تمكّن المتعاقدين من الإنشاء اللفظي، ومع عدم التمكّن من ذلك يرجع إلى القاعدة الأوّليّة، ويحكم بعدم اعتبار اللفظ في العقود والإيقاعات، إلّا مع قيام الدليل الخاصّ على الاعتبار المزبور، كقيامه على اعتبار مطلق اللفظ في عقد الزواج، وعلى اعتبار لفظ خاصّ في إنشاء الطلاق... وقد ظهر لك ممّا ذكرناه أنّ مقتضى القاعدة هو الحكم بلزوم معاطاة الأخرس من حين العقد، حتّى على القول بأنّها تفيد
الإباحة مع التمكّن من اللفظ وأنّها لا تفيد الملكيّة؛ وذلك لعدم العلم بشمول الإجماع الذي توهّم قيامه على جواز المعاطاة أو إفادتها الإباحة لصورة عدم التمكّن من اللفظ».
الموسوعة الفقهية، ج۷، ص۴۲۲-۴۴۰.