إجارة الإنسان
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لا خلاف
ولا إشكال بين
المسلمين في جواز
إجارة الآدمي، بل عليه دعوى
الإجماع أيضاً؛
لأنّ له منافع محلّلة ومتقوّمة تتعلق بها أغراض العقلاء، وقد تقدمت (في الفصل الأوّل من بحث
حكم الإجارة .) الآيات
والروايات الدالّة على الجواز.
ويكره إجارة الإنسان نفسه،
فإن فعل ذلك فقد حظر عليه الرزق، والأفضل التعرّض
للتجارة ،
كما تدلّ عليه بعض الأخبار، كرواية
مفضّل بن عمر : سمعت
أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق».
وكذا رواية
عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: الرجل يتجر فإن هو آجر نفسه أعطى ما يصيب في تجارته، فقال:
«لا يؤاجر نفسه ولكن يسترزق اللَّه عز وجل ويتجر فانّه إذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق».
ويؤكّد ذلك في الصنائع الدنيئة مع الشرط
كالحجامة كما سيأتي.
ويشترط في إجارة الإنسان جميع ما يشترط في إجارة الأعمال من
القدرة على العمل وجواز التصرف
والولاية عليه والمعلومية
والإباحة وغيرها مما تقدم.
وتقدم الكلام أيضاً في حقيقة إجارة الأعمال وأنّها التزام شخصي أو عيني.
تارة يكون الإنسان الأجير حراً، واخرى يكون مملوكاً، وسوف نتعرّض هنا إلى الأجير الحرّ فقط، وأمّا المملوك فحيث إنّ رقبته لمالكه، فجميع منافعه وأعماله أيضاً مملوكة للمالك، فتكون
إجارته حينئذٍ كإجارة سائر الأعيان.
أمّا الأجير الحر فقد تقدم صحة تمليكه لعمله بالإجارة مع أنّ عمله غير مملوك له، بل له أن يتعهد بكلّي في ذمته لمكان سلطنة الإنسان على نفسه، أو يتعهّد بعمل على نفسه
وإن لم يطلق اسم
المال على ذلك قبل الإجارة.
كما يجوز إجارة الذكر والانثى إلّا أنّه في إجارة الانثى يحرم على المستأجر الأجنبي جميع ما كان يحرم عليه قبل الإجارة حتى
النظر والخلوة بها
سواء كانت جميلة أو قبيحة، مسنّة أو شابة.
وإنّما حلّ له بالإجارة الخدمة والعمل.
نعم، صرّح العلّامة في
القواعد والمحقق الثاني باستثناء النظر إلى الأمة من ذلك إذا كان باذن المولى.
واستشكل في جوازه بعض المحققين؛
لعدم الدليل عليه، فانّه ليس بعقد ولا تملّك ولا تحليل، اللهم إلّا أن يجعل
الإذن تحليلًا أو من قبيل النظر لمن يريد
النكاح أو
الشراء .
تقدم في بحث سابق أنّ الأجير إذا آجر نفسه على عمل مباشرة في مدة معينة سمّي أجيراً خاصاً؛ لأنّه لا يجوز له العمل لغيره في تلك المدة بما ينافيه، وفي قباله الأجير المشترك وهو الذي قد آجر نفسه مجرداً عن المدّة.
كما أنّه قد يعبّر عن الأوّل بالمنفرد
والمقيَّد،
وعن الثاني بالعام
والمطلق.
قال الشيخ في
المبسوط : «الأجير المنفرد هو الذي يستأجر مدة معلومة للعمل ويسمّى الأجير الخاص، ولقّب بذلك من حيث المعنى... والمشترك هو الذي يكري نفسه في عمل مقدّر في نفسه لا بالزمان... ولقّب مشتركاً لأنّ له أن يتقبّل الأعمال لكلّ أحد في كلّ مدّة، ولا يستحق عليه أحد من المستأجرين منفعة زمان بعينه».
وقال المحقق: «الأجير الخاص هو الذي يستأجره مدّة معيّنة... والمشترك هو الذي يستأجر لعملٍ مجردٍ عن المدّة».
وذكر بعضهم في توضيح ذلك أنّ الخاص هو ما اخذ فيه قيد المباشرة والمدة معاً.
والذي يظهر من مراجعة كلمات الفقهاء- على اختلافها- أنّ المقصود من ذلك تحديد الملاك المعتبر في الأجير الخاص، وهو عدم جواز العمل لنفسه أو لغيره؛
لمنافاته مع مقتضى الإجارة وحق المستأجر.
وأمّا المشترك فهو من فقد فيه بعض ما يعتبر في الأجير الخاص
من قيد المدة والمباشرة،
وهو الذي لا يتعيّن عليه الإتيان بالعمل بحيث يجوز له أن يعمل لنفسه أو لغيره بعد العقد، فيكون له أفراد متعدّدة أيضاً وإن اقتصر
المحقق الكركي وغيره
على بيان بعض الأقسام، واختلف بعض الفقهاء في عدّ بعض المصاديق، وهل أنّها من الأجير الخاص أو المشترك
؟
ثمّ إنّه لا عبرة بعنوان الأجير الخاص أو المشترك بعد تبيّن الملاك المعتبر فيهما؛ لعدم وقوعهما في شيء من الأدلّة موضوعاً للحكم.
نعم، ذكر في بعض الروايات
عنوان الأجير المشترك وكونه ضامناً، إلّا أنّ المراد منه- كما فسّر في بعضها الآخر- المعنى اللغوي، أي من يعمل لهذا وذاك وتكون مهنته هي ذلك العمل لكلّ من يريد، وليس المراد منه من آجر نفسه على ما هو المصطلح عند الفقهاء بالأجير المشترك.
ذكرت للأجير الخاص والمشترك- بالمصطلح الفقهي لا اللغوي- في مطاوي كلمات الفقهاء أقسام متعددة حيث حصر
السيد اليزدي أقسام الأجير الخاص- على أساس الملاك المتقدم- في أربعة أقسام:
۱- من آجر نفسه على أن تكون جميع منافعه للمستأجر في مدة معيّنة.
۲- من آجر نفسه على أن تكون منفعته الخاصة- الخارجية كالخياطة مثلًا- في مدّة معيّنة للمستأجر.
۳- من آجر نفسه على عمل في ذمته بقيد المباشرة في مدة معيّنة.
۴- من آجر نفسه- كما في الصور السابقة- لكن مع فرض أخذ المباشرة أو المدة المعيّنة أو كليهما بنحو الشرط لا التقييد في متعلّق الإجارة.
لكن وقع الخلاف في عدّ بعض المصاديق من الأجير وهل أنّها من الخاص أو المشترك؟ كالقسم الرابع حيث لم يعدّه
المحقق النجفي من الأجير الخاص.
وقد تقدم أنّ البحث ليس في التسمية اللغوية أو العرفية أو ما أطلق عليه في الروايات عنوان الأجير الخاص أو العام، وإنّما المهم لدى الفقهاء أن تكون الإجارة بنحو بحيث يكون منافياً مع عمل الأجير في نفس المدة لنفسه أو غيره تبرّعاً أو باجارة ونحوها. وهذا الملاك- كما ذكر السيد اليزدي- يتصوّر بنحو القسم الرابع، أي أخذ المدة والمباشرة شرطاً سواء سمي أجيراً خاصاً أم لا، وفي قبال ذلك الأجير المشترك، وهو أيضاً يمكن تقسيمه إلى:
۱- من آجر نفسه لعمل في الذمة مجرداً عن قيد المباشرة والمدّة فله أن يحصّل العمل بنفسه أو بغيره وفي أي زمان أراد.
۲- من آجر نفسه لعمل في الذمة مجرداً عن قيد المباشرة لكن مع تعيين مدّة خاصة للعمل.
۳- أن يؤجر نفسه لعمل مجرّداً عن المدّة لكن مع شرط المباشرة.
إلّا أنّه قد تقدم أنّ عدم أخذ قيد المدة وحدها لا يكفي لارتفاع التنافي وجواز إجارة الأجير المشترك في هذا القسم نفسه لإجارة اخرى، وقد صوّرنا ذلك ضمن حالات ثلاث تكون على أساس الملاك المذكور من الأجير الخاص فراجع (
فروع الأحكام الأصلية للإجارة .)
انظر:
أقسام إجارة الأعمال .
انظر:
الفرع الثالث من الفروع المتعلّقة بالأحكام التبعية للإجارة .
اتفق الفقهاء على أنّ المستأجر لو تسلّم أجيراً ليعمل له عملًا فهلك الأجير، لم يكن ضامناً له، بلا فرق في هلاكه بين كونه في مدة الإجارة أو بعدها، وهذا واضح مع عدم
التعدي والتفريط.
أمّا مع التعدي والتفريط فالحكم هو الضمان فيما إذا كان الأجير عبداً؛ لأنّه حينئذٍ كالأعيان المستأجرة يضمنه المستأجر مع التعدّي
والتفريط ؛ لخروج اليد عن كونها مأذونة.
أمّا الأجير الحرّ الذي لا أثر شرعاً
للاستيلاء عليه بالإضافة إلى نفسه وإنّما له أثر بالإضافة إلى منافعه فلا موجب لضمان اليد فيه لو كان بالغاً.
بل قيل: لا فرق بين البالغ العاقل وبين الصغير والمجنون في ذلك. نعم، ربما يظهر الفرق بين الصغير والكبير والعاقل والمجنون في الاتلاف الموجب للدية المقرّرة، من حيث قوّة المباشر تارة وضعفه اخرى، وهو غير ما نحن فيه.
•
أخذ الأجرة على الواجبات والطاعات والمحرمات، صرّح قدماء الفقهاء
بحرمة أخذ
الاجرة على تغسيل الأموات وتجهيزهم وتعليم المعارف وتنفيذ الأحكام ونحو ذلك، قال
الشيخ : «أخذ الاجرة على غسل الأموات وحملهم ومواراتهم
حرام ؛ لأنّ ذلك فرض على الكفاية».
والموارد المذكورة في هذه العبارة كلها من
الواجبات الكفائية ، إلّا أنّ المحقق
والعلّامة
اعتبرا أنّ أخذ الاجرة على ما يجب فعله مطلقاً من المكاسب المحرمة وإن مثّلوا له بتغسيل الموتى
وتكفينهم ونحو ذلك.
فالمستفاد من كلمات الفقهاء حرمة أخذ الاجرة على جميع الواجبات لوجوبها والزامها شرعاً، وهو المنسوب إلى قدماء الأصحاب.
انظر:
الأحكام التبعية للإجارة .
انظر:
فروع الحكم الأصلي للاجارة .
إذا تقبّل الأجير عملًا من غير اشتراط المباشرة ولا مع الانصراف إليها جاز له
إيكال عمله إلى عبده أو صانعه أو أجنبي.
نعم، لو كانت الإجارة مقيدة بالمباشرة أو انصرف العقد إليها لم يجز له توكيل عمله إلى الغير ولا استئجار غيره عليه كما لو آجرت المرأة نفسها لإرضاع ولدٍ فدفعته إلى خادمتها لترضعه، فأرضعته لم تستحق الاجرة
بناءً على المشهور.
ولو كانت الإجارة مشروطة بالمباشرة بنحو الاشتراط ضمن العقد لا بنحو التقييد كان للمستأجر حق الفسخ واسترجاع المسمّى وبذل اجرة المثل، وقد تقدم تفصيل كل ذلك سابقاً.
إذا استؤجر على عمل ليباشره بنفسه ففعله غيره بطلت الإجارة، ولم يستحق العامل وكذا الأجير الاجرة.
ولو استؤجر على عمل في الذمة لا بقيد المباشرة بنفسه ففعله غيره تبرّعاً عنه صحت الإجارة وكان أداءً للعمل المستأجر عليه، وفرغت ذمة الأجير بذلك، ويستحق الاجرة المسمّاة؛
لاقتضاء القاعدة والسيرة العقلائية ذلك في موارد
الدين واشتغال الذمة بالكلّي حيث تبرأ ذمة المدين بدفع الدين إذا كان بعنوان الوفاء، سواء كان المال من المدين أو من غيره، وسواء كان بأمره وبتسبيب منه أو تبرّعاً عنه حيث لا يحتاج إلى إذنه وإجازته؛ لأنّه ليس من التمليك له ليتوقّف على قبوله، بل تبرأ ذمته بتحقق الوفاء، وهذا مما لا خلاف ولا إشكال فيه.
هذا مضافاً إلى أنّه يمكن استفادة ذلك من الأخبار الواردة في موارد متفرقة كأداء دين الأب أو أحد الأرحام بلا حاجة إلى إذن المدين.
ثمّ إنّه يظهر من كلمات بعض الفقهاء الحكم بالتعميم وفراغ عهدة الأجير بالتبرّع وإن كان متعلّق الإجارة هو العمل الخارجي لكن بلا قيد المباشرة؛ لأنّه مع تبرّع الغير عن الأجير لم يجز للمستأجر الامتناع عن القبول، ويستحق الأجير الاجرة إذا كان التبرّع بعنوان الوفاء بالإجارة عن الأجير.
إلّا أنّ
الشهيد الصدر لم يوافق عليه؛ لعدم صدق التبرّع أو الدين، فحكم
ببطلان الإجارة، نظراً إلى عدم صدور ذلك العمل خارجاً من الأجير.
أمّا إذا فعله غيره لا بقصد التبرّع عن الأجير فقد ذهب
السيد اليزدي إلى عدم استحقاق الأجير الاجرة المسماة؛ نظراً إلى عدم انطباق ما في الذمة عليه؛ لعدم القصد، فتنفسخ الإجارة حينئذٍ لفوات المحل، وتبعه على ذلك بعض الفقهاء.
هذا ولكن فصَّل
المحقق الخوئي بين حصول التبرّع قبل مضي زمان يمكن صدور العمل فيه من الأجير فيتجه حينئذٍ القول بالانفساخ لكشف التبرّع عن عدم قدرة الأجير من الأوّل وأنّه لم يكن مالكاً لهذه المنفعة ليملّكها، وبين حصوله بعد مضي زمان يمكن صدور العمل فيه من الأجير سواء كانت الإجارة مطلقة أو محدّدة بزمان خاص موسّع- كالخياطة خلال الاسبوع- فيكون من سنخ
العجز الطارئ؛ لعدم وجود مقتضٍ للانفساخ بعد أن كان العمل مقدوراً بعد العقد، والأجير إنّما أخّره لكون وقت الإجارة موسّعاً مثلًا، فيكون حينئذٍ مديناً بالعمل، كما أنّ المستأجر مدين أيضاً بالاجرة، ولكن يثبت
الخيار له بملاك تعذّر التسليم، فله أن يسترجع المسمّى أو يمضي المعاملة ويطالب
بأُجرة المثل .
والتفصيل المذكور لا يخالف المشهور إن كان متعلّق الإجارة العمل في الذمة. أمّا في الإجارة على العمل الخارجي فقد تقدم عن المشهور أنّ عدم أداء الأجير للعمل الخارجي موجب لانفساخ العقد لا الخيار.
هذا كلّه فيما إذا لم يستند عمل الغير إلى المالك بأمرٍ منه أو إجارة، أمّا إذا استند إليه فقد صرّح
السيد الحكيم ببطلان الإجارة واستحقاق الغير على المالك اجرة المثل، وإن كانت الإجارة الثانية باطلة؛ لعدم إمكان الوفاء بها بعد صحة الاولى.
ولكن ذهب
المحقق الخوئي والشهيد الصدر إلى عدم بطلان الإجارة الاولى في مورد يستند فيه عمل الغير إلى المالك بأمرٍ أو اجارة؛ لأنّه من قبيل
الاستيفاء ؛ إذ التفويت مستند إلى المستأجر فللأجير حينئذٍ المسمى.
يجوز استئجار الأجير للقيام بكلّ ما يأمره المستأجر
مما يكون مقدوراً له ويتعارف القيام به،
فتصير جميع منافعه بذلك متعلّقة بالعقد ومملوكة للمستأجر، وهذا مما لا كلام فيه بينهم.
إنّما الكلام في نفقة الأجير الحرّ مدة الإجارة إن لم يشترط ذلك على أحدٍ ولم تكن قرينة خارجية صارفة إليه كالعرف والعادة، فقد ذهب جملة من الفقهاء
إلى أنّ النفقة على المستأجر، ونسبه الشهيد
إلى المشهور؛ وذلك لأنّ جميع منافعه مملوكة للمستأجر، فلا يمكنه التكسّب لنفسه وتحصيل نفقته والحال هذه.
مضافاً إلى ما في رواية
سليمان بن سالم قال: سألت أبا الحسن
الرضا عليه السلام عن رجل استأجر رجلًا بنفقة ودراهم مسمّاة على أن يبعثه إلى أرض فلما أن قدم أقبل رجل من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر والشهرين، فيصيب عنده ما يغنيه عن نفقة المستأجر، فنظر الأجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافأه به الذي يدعوه، فمن مال من تلك المكافأة؟
أمن مال الأجير أو من مال المستأجر؟
قال عليه السلام: «إن كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله. وإلّا فهو على الأجير».
وعن رجل استأجر رجلًا بنفقة مسمّاة ولم يفسّر شيئاً على أن يبعثه إلى أرض اخرى فما كان من مئونة الأجير من غسل الثياب والحمام فعلى من؟ قال عليه السلام: «على المستأجر».
بدعوى أنّ البقاء عنده إن كان في مصلحة المستأجر والمباشرة بالعمل الذي فيه صلاحه استحق النفقة فيكون ما دفعه الأجير بعنوان العوض عما ينفق عليه محسوباً على المستأجر، وإن لم يكن بقاؤه عنده للاشتغال بما فيه صلاح المستأجر فلا نفقة له، فيكون ما دفعه محسوباً عليه لا على المستأجر.
هذا، ولكن استشكل عليه بعض الفقهاء
بأنّ استحقاق النفقة مفروض السؤال إمّا بعنوان الجزئية للُاجرة كما هو ظاهر صدر الرواية حيث جعلها في الدراهم المسمّاة بحيث يكون عقد الإجارة واقعاً عليهما، أو بعنوان الشرطية ضمن عقد الإجارة؛ لتعارف أمثال هذه العبارات فيما يكون مأخوذاً في العقد ولو بنحو الشرطية، فإنّ الرواية مسوقة في السؤال عن حال النفقة المتعيّنة بين المستأجر والأجير، وإنّما كان السؤال فيها عن شمولها لمثل اجرة الحمام وغسل الثياب أو المكافأة إذا أنفق عليه الغير.
مضافاً إلى أنّ سليمان بن سالم لم يثبت توثيقه، ومن هنا ذهب
الحلّي والعلّامة في بعض كتبه
وأكثر من تأخّر عنهما
إلى أنّ النفقة على نفس الأجير، واختاره
المحقق النجفي أيضاً، حتى أنكر الشهرة التي ذكرها الشهيد بكونها على المستأجر فقال: «إنّا لم نتحققه، بل المشهور خلافه»،
وذلك لمطابقته مع مقتضى القاعدة في الباب؛ لأنّ نفقات الأجير خارجة عن مدلول عقد الإجارة الذي متعلّقه العمل لا غير، وأنّ الأصل براءة ذمة المستأجر، فالزامه بالزائد على مفاد العقد من دون انصراف ولا اشتراط مما لا دليل عليه سوى رواية سليمان المتقدمة، وقد عرفت ما فيها.
وحينئذٍ فلو اشترط على المستأجر ذلك فقد صرّح السيد اليزدي بأنّه لا بد من تعيينها كمّاً وكيفاً، إلّا أن يكون متعارفاً في صورة الاشتراط، وهو مبني على القول بأنّ
الجهالة في الشرط توجب غررية العقد، وإلّا فلا موجب لاشتراط
التعيين ، بل يظهر من الصحيح
الاكتفاء بذكرها إجمالًا، اعتماداً على التقدير الشرعي، وإليه مال المحقق النجفي
وصرّح به السيد الحكيم.
وإن أنفق المستأجر على الأجير طعاماً ومتاعاً ثمّ تغيّر سعر الطعام أو المتاع زيادة ونقصاناً دفع إليه بسعر وقت الانفاق لا بسعر وقت المحاسبة
وعلى فرض وجوب النفقة على المستأجر لو أنفق الأجير من نفسه أو تبرّع بها متبرّع استحق المطالبة بعوضها
بناءً على استلزام الشرط للحق فيملك الإنفاق على المشروط عليه، فإن امتنع عنه كان ضامناً، أو بناءً على أن يكون فحوى شرط الإنفاق بنحو شرط النتيجة بمعنى تملّك النفقة عليه لا إعطائه وتمليكه إياها، ولو في شرط من هذا القبيل، أي شرط المال.
ولو لم يرجع الشرط إلى أحد هذين الوجهين- كما ذهب إليه
السيد الخوئي - فلا موجب لاستحقاق
العوض ، وإنّما يثبت فيه خيار الفسخ للأجير لو تخلّف المستأجر عن الإنفاق.
تقدم الكلام في وجوب تسليم المنفعة بعد العقد، وأمّا لوازم المنفعة والعمل فإنّ صريح كلمات الفقهاء
كون المرجع في لزوم تسليمها على كلّ من المؤجر أو المستأجر هو العرف والعادة كما ذكر ذلك المحقق النجفي حيث قال: «التحقيق اتباع العادة... وهي مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة، لا يمكن للفقيه ضبطها، بل ليس هو وظيفة الفقيه».
ولو لم تكن هناك قرينة معيّنة- ولو نوعية- كالعرف والعادة فقد ذهب
المحقق الأردبيلي وغيره
إلى وجوب التعيين، وإلّا فالإجارة باطلة بالجهالة المؤثرة في المالية فتكون الإجارة غررية.
إلّا أنّ الكثير من فقهائنا صرّحوا بصحة الإجارة وذكروا لتعيين ما يجب على المؤجر والمستأجر بعض الضوابط العرفية، وذهب جمع منهم
كالشيخ والمحقق
وغيرهما
إلى أنّ كلّ ما يتوقّف عليه استيفاء المنفعة فهو على المؤجر كالخيوط والابرة في الخياطة والمواد والقلم في الكتابة والزمام والمقود ونحوه في إجارة البهائم؛ لأنّ ذلك مقتضى إطلاق عقد الإجارة على العمل فتجب عليه مقدماته.
وكذا بالنسبة لإجارة الأعيان؛ لأنّ تسليم العين وامكان الانتفاع بها لا يتم إلّا بذلك فيجب على المؤجر تحصيلها من باب المقدمية لا بملاك شمول مفهوم الإجارة لها، وعليه فلا تضر جهالتها؛ لأنّ المعتبر معلومية متعلّق الإجارة وهو نفس العمل المستأجر عليه الذي هو متعيّن بحسب الفرض،
مضافاً إلى أنّ جميع ما يتوقّف عليه تحقيق العمل من النفقات وسائر المقدمات معلومة ومتعيّنة عرفاً ونوعاً، فلا غرر في الإجارة حينئذٍ.
نعم، يختلف متعلّق الإجارة من عملٍ إلى آخر، كما أنّ المقدمات تختلف من حيث كونها مقدمات لنفس العمل أو لما يعمل فيه، فما هو مقدمة لما يعمل فيه كالجص والآجر والأبواب وغيرها مما يكون من اسس البناء يكون على المستأجر لا الأجير؛ لعدم كونها من مقدمات العمل، بل تكون موضوعة له، ولا يشملها إطلاق عباراتهم، إلّا إذا كان للعمل المستأجر عليه عنوان آخر كإصلاح الطرقات أو تعبيدها وما شابه ذلك مما يطلق عليه في معاملات هذا الزمان بالمقاولات فإنّه ستكون المواد على العامل أيضاً؛ لكونها من شئون ومقدمات العمل المستأجر عليه، وإن كانت أعياناً باقية.
بينما ذهب العلّامة
والشهيد الثاني إلى أنّ مثل الخيوط على المستأجر؛ لفراغ عهدة الأجير عن شيء سوى العمل المحض. وأمّا الأعيان المتوقّف عليها العمل فعلى المستأجر؛ لخروجها عن مفهوم الإجارة، إلّا في موارد نادرة تثبت على خلاف الأصل؛
كالرضاع ونحوه، وإليه ذهب بعض الفقهاء أيضاً
(ولم يوافقه عليه جمع من المحشين كالحائري والاصفهاني والسيدين الخميني والخوئي.)
وفصّل بعض المحققين
في ذلك بين ما كان من قبيل الموضوع أو ممّا لا تبقى عينه بيد المؤجر فعلى المستأجر، وبين ما كان من قبيل المقدمة أو ممّا تبقى عينه فيكون على المؤجر، وحينئذٍ تجب الخيوط على صاحب الثوب والورق على صاحب الكتاب والدواء على المريض، خلافاً لما تقدم ذكره عن الفقهاء، نظراً إلى عدم استحقاق الأعيان بعقد الإجارة، وأمّا آلات العمل اللازمة فيه- كالابرة في الخياطة والقلم في الكتابة- فإنّها على الأجير؛ لأنّه يجب عليه ايجاد العمل وتسليمه، فيكون تحصيل آلاته ولوازمه واجباً كذلك. وحيث إنّ لوازم العمل ليست إلّا مقدمة لتسليم العمل والمنفعة وأنّ العقد لا يقتضي ذلك، فقد صرّح
السيد الحكيم بأنّ الإطلاق وإن كان يقتضي وجوب المقدمات على الأجير والمبادرة إلى العمل إلّا أنّ ذلك لا يقتضي مجانية تلك المقدمات على وجه تكون ملكاً للمستأجر لكونه خلاف عموم «الناس مسلّطون على أموالهم»، فيجب على المستأجر دفع قيمتها إلى الأجير. إلّا أنّه خصّ ذلك بما إذا كان هناك إطلاق للعمل المستأجر عليه، فذهب إلى بطلان العقد في صورة عدم الإطلاق؛ لإجمال موضوعه وإهماله المانع من صحته.
هذا كلّه فيما لو وقعت الإجارة على عمل معيّن في الذمة أو على عين كلّية في الذمة، أمّا في استئجار الدابة الشخصية أو العمل الشخصي فدخول اللوازم والآلات المتعلّقة بذلك وعدمه يدور مدار ما وقع عليه العقد.
•
الأجير المؤتمن، ومن أنواع
الإجارة بلحاظ الموجَر أنه: الأجير إمّا أن يكون صانعاً أو يكون غير صانع وبالنسبة إلى هذا نبحث في
ضمانه لإتلاف العمل أو
براءة ذمته والقسمان يأتيان فيما يلي.
لو أمر شخص العامل بعمل فأتى به لا بقصد التبرّع استحق العامل اجرة المثل إن كان للعمل اجرة عادة، وإن كان من قصد الآمر التبرّع إذا لم يكن العامل عالماً بذلك، ولا فرق في ذلك بين كون العامل ممن شأنه أخذ الاجرة ومعدّاً نفسه لذلك أو لا، بلا خلاف
بين الفقهاء.
وفي حكم الأمر ما لو أذن له في العمل- ولو بالفعل- كأن جلس بين يدي الحلاق لحلق رأسه.
وقد استدلّ لذلك بوجوه:
إنّ الآمر قد استوفى منفعة الغير فيكون ضامناً لقيمته بملاك الاستيفاء.
وهذا مبني على أنّ الاستيفاء موجب
للضمان بعنوانه، وقد تقدم الإشكال فيه من قبل الفقهاء.
إنّ الأمر بالعمل لا يقصر عند العرف عن كونه
معاطاة في الإجارة أو
الجعالة ،
ولا أقل من أن يكون ذلك الأمر والفعل بحكم الإجارة أو الجعالة الفاسدة فيثبت فيه الضمان بقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.
وهذا مبني على قصد إنشاء الإجارة أو الجعالة بالأمر، وهو أخص من المدّعى.
إنّ استناد العمل إلى الآمر بحكم إتلاف العمل من قبله فيكون ضامناً من باب
الإتلاف ، وهذا مبني على صدق الإتلاف بمجرد الأمر مع كون العامل مستقلًا بالتصرف، ولهذا لا يحكم بضمان الآمر لو أمره باتلاف مال الغير.
إنّ عمل
المسلم محترم،
فمقتضى احترامه عدم هدره عليه، فيضمن الآمر.وهذا لا يكفي لإثبات الضمان، فإنّ احترام عمل الغير وماله إمّا بمعنى أنّه ملكه فيحرم التصرف فيه بلا إذنه وهذا أجنبي عن محل البحث، أو بمعنى أنّه لو أتلفه أو استوفاه الغير كان للمالك قيمته وماليته وهذا فرع تحقق الإتلاف أو الاستيفاء فيرجع إلى ما تقدم.
إنّ السيرة العقلائية قد استقرت على الضمان في موارد الأمر ما لم تقم قرينة على المجانية ولم يكن العامل قاصداً للتبرّع، وهذه السيرة قد أمضاها الشارع ولم يردع عنها، بل قد ورد التأكيد عليها في بعض الروايات.
إنّ العمل للغير بأمره يتحقق به- في باب الأعمال- عنوان الأخذ للعمل أو المنفعة الذي هو موضوع
ضمان اليد ، فإذا كان عنوان الأخذ ووضع اليد صادقاً بالأمر كان مقتضى قاعدة اليد وأخذ مال الغير
ضمان الآخذ له.
ولو كان العمل المأمور به مما يمكن تقويمه إلّا أنّه ليس مما يستأجر له عادة فإنّ للعامل المطالبة بأُجرة المثل إن كان العامل ممن يستأجر لمثل ذلك؛ لأنّه استيفاء عمل محترم.
إلّا أنّه قد يستظهر
من العلّامة عدم ثبوت الاجرة هنا حيث اعتبر في لزومها كون العمل ذا اجرة عادة.
أمّا إذا عمل العامل من دون أن يؤمر به فلا يستحق الاجرة بلا خلاف؛
لعدم استناد تلف عمله إلى الغير، ومجرد احترام عمل المسلم لا يوجب الضمان؛ لأنّ معنى الاحترام عدم جواز اجباره على استيفاء عمله الذي هو منتف في المقام،
وكذا لا يستحق
الأجرة إذا امِر بالعمل مجاناً أو كان العامل يعلم بقصد الآمر للمجانية.
ولو قصد الآمر الاجرة على العمل لكن قصد العامل التبرّع بعمله فانّه لا يستحق الاجرة بلا خلاف
فيه ظاهراً؛ لأنّه أقدم على إلغاء احترام ماله بنفسه.
ولو اختلفا في أنّه قصد التبرّع أو لا قدّم قول العامل؛ لأصالة عدم قصد التبرّع بعد كون عمل المسلم محترماً وأنّ فيه الضمان، فيحكم بالضمان بعد ضمّ الوجدان إلى الأصل.
بل يمكن التمسك بقاعدة الاحترام رأساً ولو مع الإغماض عن جريان أصالة عدم التبرع.
أمّا إذا كان الاختلاف في أصل صدور الأمر وعدمه فمقتضى الأصل عدم الأمر.
•
أنواع استئجار الأشخاص، وقع البحث بين الفقهاء في
الإجارة عن صحة بعض أنواع
إجارة الإنسان ، وهي عدة موارد يأتي فيما يلي.
•
آداب الإجارة، فللإجارة آداب من جملتها
كراهة إجارة الإنسان نفسه خاصة للأعمال الدنيئة
وإباحة استئجار
الكافر للمؤمن وكراهة أجر النائحة مع الشرط وكراهة استخدام من يستحق الإكرام وكراهة اشتراط المباشرة على الأجير وكراهة استعمال الأجير قبل المقاطعة على الأجرة وكراهة تفضيل الأجير بعض المستأجرين على بعض آخر وكراهة استئجار الغير للعمل بالأدون وكراهة تضمين الأجير.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۲۷۸-۳۴۷.