العمل في الإجارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يقع العمل مورداً للإجارة في
إجارة الأعمال حيث يكون المطلوب فيها
أداء عمل وخدمة يستفيد منها المستأجر، وقد تقدم شرح ذلك في تعريف عقد الإجارة.
فالمألوف في
الفقه الإسلامي تبديل الحقوق والالتزامات الشخصية التي تفرزها العقود إلى حقوق عينية؛ وذلك أنّهم ذكروا أنّ حقيقة الإجارة عبارة عن تمليك العمل بعوض كالمنفعة في إجارة الأعيان، فجعلوا المعقود عليه العمل الذي هو حق عيني، والوفاء به حق شخصي متفرع عليه.
وعلى العكس من ذلك في الفقه الوضعي، فقد أولى الحقوق الشخصية أهمية خاصة في باب
العقود والالتزامات، حتى أنّه فسّر عقد الإيجار خصوصاً في إجارة الأعمال بذلك، وجعل الحقوق العينية في طول الحقوق الشخصية، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك.
ثمّ إنّ هناك شروطاً للعمل في إجارة الأعمال لتصح اجارتها لا بد من التعرض لها:
لم يفكك
الفقهاء في بحث شروط الإجارة بين شرائط منفعة الأعيان وشرائط إجارة الأعمال، بل بحثوهما معاً، واستدلّوا على شروط الصحة فيهما معاً لاشتراك الكثير من أدلّتهما. وقد تقدم التعرض لها مفصلًا، ومن هنا نقتصر على ذكر تلك الشروط مع الإشارة إلى فروقها في باب إجارة الأعمال عن إجارة الأعيان.
يشترط في إجارة الأعمال
القدرة على أداء العمل خارجاً؛
لتقوّم موضوع العقد في إجارة الأعمال بذلك عقلًا، فمع عدم القدرة عليه لا مال، فلا موضوع للإجارة كما لا قدرة على
التسليم ، بل ولا مملوكية للعمل،
فتجتمع القدرة على العمل في إجارة الأعمال مع الملكية والقدرة على التسليم ووجود موضوع الإجارة، على خلاف إجارة الأعيان فانّه بعد الفراغ عن
إحراز وجود العين ومنفعتها خارجاً لا بدّ أن تكون مملوكة أيضاً، بل ومقدورة للتسليم والتسلّم وغير ذلك من الشرائط التي ينفك بعضها عن البعض الآخر هناك، وقد تقدم الاستدلال على كيفية اشتراطها، والمراد منها في إجارة الأعيان فإنّها مشتركة بين المنفعة والعمل، فراجع.
ثمّ إنّه يمكن التفكيك في إجارة الأعمال بين القدرة على العمل والملكية وبين القدرة على التسليم فيما إذا كان المؤجر مالكاً لعمل في ذمّة الغير ولكنه غير قادر على إجباره عليه، فتنفك القدرة والملكية عن القدرة على التسليم.
وأيضاً يظهر الفرق بين إجارة الأعمال والأعيان في أنّ المؤجر في الثانية يستحق على المستأجر الاجرة بتسليم العين ولو مع عدم
استيفائه المنفعة،
في حين لا يستحق
المطالبة بالاجرة في إجارة الأعمال إلّا بعد العمل؛ لعدم تحقق التسليم قبله.
ولا يخفى أنّ تحقق القدرة على العمل منوط بامكان تحقق العمل عادة وفي وقته والوثوق بحصوله بحيث يدفع به
الغرر ، وإن لم تكن القدرة ممكنة بالفعل لتوقّفه على مقدمات خارجة عن اختياره الآن، فذهب بعض إلى جواز الإجارة على الطبابة- مثلًا- بقيد حصول
البرء إذا كانت العادة تقضي بذلك، وكذا الأمر بالنسبة إلى سائر موارد إجارة الأعمال المتوقّفة على مقدمات خارجة عن اختيار الأجير لكنها تتوفر عند العمل عادة.
فحكم
السيد الحكيم باختيارية العمل إذا كانت جميع مقدماته اختيارية أو بعضها اختياري وبعضها غير اختياري، مع كون غير الاختياري متحققاً في ظرفه.
لكن ذهب
المحقق النائيني إلى كفاية اختيارية المقدمات في اختيارية ذي المقدمة إذا كان أثراً متولّداً من المقدمة ولم يتوسّط في البين مقدمة اخرى غير اختيارية وإلّا كانت هي الأخيرة من أجزاء علته، ويستند الأثر إليها ويكون تابعاً لها في عدم المقدورية، ولذا لا يجوز الإجارة بقيد البرء.
وتفصيل الكلام فيه في إجارة الطبيب.
ويشترط في الإجارة على العمل أيضاً عدم
انتفاء موضوع العمل المستأجر عليه خارجاً، وإلّا لم يكن ذلك العمل المقيّد بذلك الموضوع مقدوراً، فالثوب- مثلًا- موضوع لعمل الخياطة بحيث مع عدمه لا يصح له أن يستأجر الخيّاط لخياطته، وكذا
الحج فانّه مع عدم وجوبه عليه لا يصح استئجار من ينوب عنه في الحج الواجب
وحجة الإسلام إذا لم يكن مكلّفاً به
(كما يظهر وجهه من الحكم
بالبطلان إذا مات الصبي في الاستئجار
للرضاع . ونحوه من المسائل كما سيأتي.).
ومن شروط العمل أن يكون له
مالية - أي يبذل بازائه المال- عند العقلاء،
وقد تقدم وجهه في شروط المنفعة.
ويشترط أيضاً مملوكية العمل، بمعنى
سلطنة صاحبه عليه وعدم تعلّق حق للغير به.
وقد لا يناسب التعبير عن ذلك بالملكية؛ لأنّ ملكية العامل لعمل نفسه ليست اعتبارية بل ذاتية، نظير ملكية الإنسان لذمة نفسه.
ومن هنا صحّ
تمليك الحرّ لعمله بالإجارة
مع أنّ عمله غير مملوك له سابقاً بالملكية الاعتبارية، بل يملكه لمكان سلطنة الإنسان على نفسه، فله أن يتعهد للغير بكلّي في ذمته أو بعمل على نفسه.
وسيأتي تفصيله.
نعم، يصح اعتبار الملكية بالنسبة إلى عمل الغير بأن يكون مالكاً لذلك العمل في ذمّة الغير، كما أنّه قد يتعلّق به حق اعتباري للغير يمنعه عن
التصرف فيه وإن لم يكن مملوكاً للغير أيضاً، فإن تعلّق به حق الغير فلا سلطنة له على تمليكه، فلا يصح- مثلًا- أن يؤجر الأجير الخاص نفسه لغير المستأجر لغرض القيام بعمل في نفس المدة المتفق عليها،
ولا تصح إجارة الزوجة نفسها للإرضاع ونحوه بدون
إذن زوجها مما يتنافى مع حقه،
ولا تصح إجارة
السفيه أو
المفلّس نفسه على عمل إذا قيل
بمحجوريتهما في أعمالهما أيضاً.
ويشترط أن يكون العمل
مباحاً لم يتعلّق به الزام على فعله أو تركه، فلا تصح الإجارة على طاعة مطلوبة أو معصية ممنوعة قد تعلّق المنع عنها من حيث ذات الفعل.
ومستند البطلان فيما لا يكون مباحاً
شرعاً هو ما تقدم في شروط المنفعة في إجارة الأعيان من انتفاء الغرض النوعي من
المعاوضة مع المنع القانوني والشرعي عن العمل لكونه محرماً، أو سقوط المالية والملكية بذلك،
أو ما ورد في خصوص حرمة التكسّب بالعمل المحرم
كالغناء والكهانة والقضاء والبغي وغير ذلك
مما تقدم البحث عنه في اشتراط إباحة منفعة العين. أمّا البطلان فيما إذا كان العمل طاعة واجبة فسيأتي البحث عنه في أخذ
الاجرة على الواجبات
(ذكره
العلّامة ضمن اشتراط مكان حصولها للمستأجر، وجعله الآخرون من باب عدم المالية أو عدم القدرة على التسليم، كما سيأتي).
•
معلومية العمل، ومن شروط العمل أن يكون معلوماً
من حيث النوع والمقدار ومورد العمل وسائر الخصوصيات الدخيلة في ماليته وفي الغرض المعاملي منه، كما تقدم ذلك أيضاً في
شروط المنفعة في إجارة الأعيان .
والدليل عليه نفس ما تقدم هناك مما تقتضيه القواعد العامة من بطلان
الترديد أو
الجهالة أو
الغرر في المعاوضات، أو
الروايات الدالّة على لزوم التعيين والتسمية في عقد
الإيجار بالخصوص. وقد تقدمت الإشارة إليه هناك فلا حاجة إلى الإعادة.
ويشترط أيضاً تمكّن المستأجر من
أداء العمل خارجاً شرعاً، بمعنى عدم وجود ما يمنع شرعاً من تحقيقه وإن كان ذات العمل المستأجر عليه مباحاً، فقد ذهب المشهور إلى بطلان الإجارة على عمل ليس محرماً في نفسه إلّا أنّه يتوقّف على فعل
الحرام أو ما يلازمه
كإجارة
الجنب أو
الحائض لكنس
المسجد (صرّح الفقهاء ببطلان إجارة الحائض والجنب
لكنس المسجد.) الذي يتوقّف على مكثهما فيه، وهو محرّم؛ لأنّه مع الحرمة يتعذّر على المستأجر شرعاً، فيكون كالممتنع عقلًا.
ونوقش بأنّ الإمكان العقلي ما دام محفوظاً في المقام فلا موجب لاشتراط أكثر من ذلك في الحكم الوضعي بصحة المعاوضة وحصول التمليك
والتملّك .
وقد يتمسّك للمشهور بأنّ عدم التمكن من الانتفاع لمانع شرعي كالحيض يجعل العمل متعذر التسليم،
وقد تقدم أنّ الغرض النوعي في المعاوضات عند العقلاء هو إمكان التسليم والاستيفاء للمال أو العمل، فمع تعذّره قانوناً وشرعاً لا يكون الغرض المذكور محفوظاً، فيبطل العقد.
ومن المعلوم أنّ الوثوق والجزم بالغرض النوعي شرط عند العقد وإلّا كان
غررياً وباطلًا.
ونوقش فيه
بأنّ ذلك قد يتم في غير فرض الوثوق بالاستيفاء، وأمّا مع فرض الوثوق والعلم بذلك فانّه لا موجب لبطلان العقد، كما لو علم المستأجر بأنّ الأجير ممن يقدم على المعصية جزماً، أو كان يعتقد
طهارة المرأة عند الإجارة على الكنس فاتفق الحيض، فانّه في مثل ذلك لا انتفاء للغرض النوعي، كما لا غرر في البين، فلا موجب لبطلان العقد. كما أنّه إذا لم يعصِ الأجير ولم يرتكب مخالفة في تحصيل المنفعة فانّه لا ضير في عدم القدرة على التسليم كذلك، فيكون للمستأجر حينئذٍ
خيار الفسخ على القاعدة.
وكذا استدل بعض الفقهاء بأنّ الاشتراط المذكور يؤول إلى اشتراط الإباحة
التي يكون مرجعها إلى فقد المملوكية، فإنّه بعد الحظر الشرعي لا يكون الدخول في العمل مباحاً، ومن ثمّ لا يكون مملوكاً ليتمكّن من تسليمه.
واجيب عنه بأنّ الفعل المستأجر عليه مباح بحسب الفرض، وإنّما الحرام ما يلازمه وهو خارج عن الإجارة، والحرمة لا تسري من أحد المتلازمين إلى الآخر كما هو محقق في محلّه من
علم الاصول .
واستدلّ له بعض آخر
بعدم شمول دليل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» لمثل هذا العقد، فإنّ وجوب
الوفاء به مطلقاً وبلا قيد مناقض للحرمة ومقيّداً بفرض
العصيان المحرّم اللازم بنحو الترتّب وإن كان معقولًا بناءً على إمكان الترتّب، إلّا أنّه لا يمكن استفادته من خطاب أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. وهذا النحو من الاستدلال قد تقدمت المناقشة فيه
في بحث سابق.
ويستحق الأجير- بناءً على المشهور من البطلان- اجرة المثل لو قام بالعمل؛ لأنّ لعمله مالية
وقيمة سوقية، وأنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده. وهذا بخلاف ما لو آجر نفسه لعمل محرّم بنفسه كالغناء مثلًا- بناءً على أنّ حرمته توجب سلب المالية شرعاً- فانّه لا يستحق على فرض قيامه به شيئاً من الاجرة، لا المسمى منها لبطلان الإجارة، ولا اجرة المثل لعدم المالية الشرعية للعمل المحرّم.
وهل يشترط
إسلام المستأجر إذا كان الأجير مسلماً؟
قال
العلّامة : «إنّ الأقرب المنع»؛
لاستلزامها حصول السبيل المنفي
بالآية ،
لكن صرّح في
التذكرة بأنّه يجوز أن يستأجر
الكافر مسلماً لعمل في ذمته؛ لانتفاء السبيل فإنّها حينئذٍ
كالدين ويتمكن من تحصيله بغيره، ولما روي أنّ بعض
الأنصار آجر نفسه من ذمي ليسقي له كل دلوٍ بتمرة وأنّه أتى به
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم ينكره.
وإن كان على العين لم يجز للسبيل، ووافقه
المحقق الثاني .
وللمناقشة في هذا الاستدلال كبرىً وصغرى مجال واسع.
ثمّ إنّ إجارة الأعمال على أقسام من حيث إنّ
الإجارة
تارة تكون واقعة على عمل الأجير ومنفعته الخارجية من دون اشتغال ذمته بشيء، نظير إجارة الدابة والدار في الأعيان المملوكة.
وفي هذه الصورة قد تكون الإجارة على جميع منافعه في زمن معيّن فيسمّى بالأجير الخاص.
وقد تكون على خصوص عمل له بعينه كالخياطة فيسمّى بالأجير العام أو المشترك.
واخرى تكون الإجارة واقعة على عمل في الذمة
فيكون العمل المستأجر عليه ديناً في ذمته كسائر الديون، سواء كان متعلّقاً بجزئي كحمل هذا المتاع أم بكلّي كحمل متاع وزنه كذا مقدار مثلًا، أو بنحو الكلّي في المعيّن كحمل أحد الأمتعة.
وهذا أيضاً تارة موقّت بوقت مخصوص كحمله في هذا اليوم أو في يوم ووقت سيأتي كالاسبوع أو الشهر أو السنة القادمة.
واخرى غير موقّت بوقت مخصوص كحمله في يوم من أيّام الاسبوع أو الشهر بنحو الكلّي المطلق أو في المعيّن.
ثمّ يقسّم تارة اخرى من حيث إنّ متعلّق الإجارة إمّا أن يكون صدور العمل من شخص واحد كإجارة شخص لخياطة ثوب معيّن، أو من الأشخاص على نحو الاشتراك في عمل واحد كإجارة شخصين لحمل متاع واحد، أو على نحو
الاستقلال في العمل بأن يقصد من كلّ منهما
الإتيان بذلك العمل كاستئجار شخصين للحج نيابة عن أحد أمواته.
لا كلام بين الفقهاء في صحة الإجارة على الصورتين الاوليين، إنّما الكلام في الصورة الأخيرة.
ذهب
السيد الحكيم في مسألة استئجار شخصين لخياطة ثوب معيّن إلى البطلان؛ لعدم إمكان
اجتماع خياطتين في ثوب واحد، فحينئذٍ إن خاطه الخياط الثاني فله اجرة المثل كما في ثوب واحد.
بينما قال
السيد الخوئي بصحتها فيكون للخائط اجرة المسماة في الإجارة الثانية؛ لأنّ الأجير الثاني كالأجير الأوّل قادر على خياطة الثوب ومالك لعمله فيمكنه أن يملّكه للمالك ويلتزم به، غاية الأمر يمكن للمالك في مقام الاستيفاء أن يخيط الثوب عند كلّ منهما، وبذلك يكون مستوفياً لعمل الآخر أيضاً بالتفويت عليه فيكون الخياط مستحقاً للمسمى. والغرض العقلائي من تملّك كلا العملين التمكّن من العمل المستأجر عليه من كلّ واحد منهما إذا تخلّف الآخر ولم يف بالإجارة، وتبعه على ذلك
الشهيد الصدر أيضاً.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۹۹-۱۱۱.