الاستبراء من البول
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
الاستبراء في الطهارة بمعنى طلب البراءة من النجاسة كالبول والمني والدم والجلل، و الاستبراء من البول هو تحري خروج ما يحتمل بقاؤه من البول في قصبة الذكر.
والمراد منه: تحرّي خروج ما يحتمل بقاؤه من البول في قصبة الذكر
بالكيفيّة المعروفة بالخرطات التي يأتي بيانها.
ذكر
الفقهاء من جملة
آداب التخلّي
الاستبراء من البول، والظاهر أنّه لا خلاف بينهم في أصل رجحانه؛ لورود الروايات، ولما فيه من فائدة التوقّي عن نقض الطهارة لو خرج بلل مشتبه بعد ذلك، بل في المستند: «رجحانه ثابت بالإجماع وفتاوى
الأصحاب والمعتبرة من النصوص...».
وممّا ورد فيه من الأخبار صحيحة
حفص بن البختري عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام : في الرجل يبول، قال: «ينتره ثلاثاً، ثمّ إن سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي».
وحسنة
محمّد بن مسلم قال: قلت
لأبي جعفر عليه السلام : رجل بال ولم يكن معه ماء، قال: «يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات وينتر طرفه فإن خرج بعد ذلك شيء فليس من البول ولكنّه من الحبائل».
وغيرهما.
وكذا روى الجمهور عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما مضمونه: أنّ الرجل يعذّب في قبره لأنّه لم يكن يستبرئ عند بوله.
وفي أكثرها (يتنزّه) بدل (يستبرئ).
إلّا أنّه وقع الخلاف في حكمه من الناحية التكليفية على أقوال:
الأوّل: الوجوب، صرّح به ابنا حمزة
وزهرة،
وهو ظاهر الشيخ في
الاستبصار حيث عقد له باباً سمّاه بباب وجوب الاستبراء قبل
الاستنجاء من البول،
ونسبه إليه فيه بعض الفقهاء كالشهيدين
والمحقق الثاني
وغيرهم.
إلّا أنّ ظاهر
المحقق القمّي المناقشة في
إسناد الوجوب إلى الشيخ مستنداً إلى
استعمال الشيخ لفظ الوجوب في غير موضع فيما هو أعمّ من المعنى المتعارف له.
وممّا لعلّه يؤيّد التشكيك في أنّ مراد الشيخ قدس سره المعنى المتعارف للوجوب هو أنّه قدس سره بعد أن ذكر الروايتين المتقدّمتين في الباب المزبور قال: «فأمّا ما رواه
الصفار عن
محمّد بن عيسى قال: كتب إليه رجل هل يجب الوضوء ممّا خرج من الذكر بعد الاستبراء؟ فكتب: «نعم»، فالوجه فيه أن نحمله على ضرب من
الاستحباب دون الوجوب أو نحمله على ضرب من التقية؛ لأنّه موافق لمذهب أكثر العامّة»
فلعلّ مراده من الوجوب عدم ناقضيّة ما يخرج بعد الاستبراء، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الاستبصار كتبه قدس سره للجمع بين الأخبار. ولعلّ هذا ما أشار إليه
السيد الطباطبائي في
الرياض بقوله: «وربّما نسب (القول بالوجوب) إلى الاستبصار، وسياق كلامه في بابه يخالفه».
لكن أورد عليه
المحدّث البحراني أنّ هذا الاستعمال غير متعارف، ولعلّه كان في تلك المواضع مع القرينة ولا قرينة هنا.
وكيف كان فقد استدلّ له- مضافاً إلى دعوى
الإجماع وطريقة
الاحتياط استدلّ بذلك
السيد ابن زهرة في حيث إنّه- بعد أن ذكر أفعالًا واجبة ومستحبّة في الاستنجاء، منها: وجوب الاستبراء من البول- قال: «ويدلّ على جميع ذلك الإجماع المشار إليه وطريقة الاحتياط، فإنّ من استنجى على الوجه الذي ذكرناه وصلّى برئت ذمّته بيقين، وليس كذلك إذا لم يستنج أو استنجى بخلاف ما ذكرناه».
- بالروايتين المتقدّمتين بدعوى دلالتهما على الوجوب.
واجيب عنه بمنع الدلالة على الوجوب؛ لأنّ الأمر فيهما بالجملة الخبريّة، وهي غير ظاهرة في الوجوب،
ولكن نوقش في ذلك بأنّه لا خصوصيّة في ذلك بصيغة (افعل) بل كلّ ما دلّ على الطلب و
إرادة الفعل- سواءً كان بالصيغة المشار إليها أم لا- فإنّه للوجوب إلّا مع قيام القرينة على خلافه، بل ربّما ذهب بعض إلى أنّ الجملة الخبرية أقوى في الدلالة على الوجوب من صيغة (افعل).
ولإعراض المشهور عنهما و
إشعار ذيلهما بإرادة
الأمر فيهما بل وفي غيرهما ممّا ورد في الاستبراء؛ للحكم بعدم المبالات بما يخرج بعد ذلك، من هنا شكّك بعض الفقهاء في دلالتها على الاستحباب فضلًا عن الوجوب، بل هي واردة للإرشاد كما سيأتي.
هذا كلّه مضافاً إلى منافاة القول بالوجوب لما يظهر من كثيرٍ من الروايات الواردة في الاستنجاء الدالّة على حصول الطهارة بدونه والخالية عن ذكر الاستبراء بالمرّة، كصحيحة جميل عن
الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا انقطعت درّة البول فصبّ الماء»،
وغيرها.
وكذا الروايات المشعرة بترك مولانا أبي عبد اللَّه وأبي الحسن عليهما السلام إيّاه: ففي رواية
روح بن عبد الرحيم قال: بال أبو عبد اللَّه عليه السلام وأنا قائم على رأسه ومعي إداوة (
الإداوة - بالكسر-:
إناء صغير من جلد يتّخذ للماء. )
- أو قال: كوز- فلمّا انقطع شخب (الشخب: الدم، وكلّ ما سال فقد شخب.)
البول- قال بيده هكذا إليّ- فناولته الماء فتوضّأ مكانه.
وفي رواية
داود الصرمي قال: رأيت
أبا الحسن الثالث عليه السلام - غير مرّة- يبول ويتناول كوزاً صغيراً ويصبّ الماء عليه من ساعته.
نعم، يمكن المناقشة في ذلك بأنّ هذه الروايات لا دلالة فيها على التعقيب والفوريّة على وجه ينافي الاستبراء.
ثمّ إنّ مراد القائلين بالوجوب إن كان الوجوب التعبّدي فهو في غاية الضعف؛ لما سمعت من ظهور الروايات والفتاوى في خلافه. وكذا ما إذا كان مرادهم وجوب
إعادة الاستنجاء حتى فيما علم أنّ الخارج مذي أو وذي.
نعم، يمكن أن يكون مرادهم الوجوب الطريقي بمعنى لزوم إعادة الاستنجاء والوضوء إن يظهر بلل مشتبه؛ للحكم بكونه بولًا ظاهراً، وهذا اتّفاقي، فيرتفع الخلاف والنزاع حينئذٍ.
وكذا لا يمكن أن يوصف بالوجوب الشرطي لما يتوقّف على الطهارة كالصلاة ونحوها؛ لوضوح عدم اشتراط ذلك في تحقّق الطهارة بالوضوء إذا لم يخرج بلل بعد ذلك حتى إذا لم يستبرأ، وقد نبّه عليه
كاشف الغطاء .
الثاني: الاستحباب، وهو المشهور بين الفقهاء،
بل في
الجواهر : «لا خلاف فيه بين المتأخّرين».
وفي المستند دعوى الإجماع عليه حيث لا يقدح مخالفة الشاذّ النادر فيه.
واستدلّ له بما سمعت من الروايات مع أصل عدم الوجوب بعد المناقشة في دلالتها على الوجوب، فتحمل على الاستحباب.
الثالث: الإرشاد إلى حكم ظاهري، ذهب بعض الفقهاء إلى أنّه لا يستفاد من الأخبار إلّا
الإرشاد إلى التوقّي عن نقض الطهارة- ظاهراً- وإلى ما يترتّب عليه من عدم المبالات بالبلل المشتبه الخارج بعده، وقد يسمّى ذلك بالوجوب أو الأمر الطريقي.
ففي الجواهر- بعد المناقشة في استفادة الوجوب من الروايات وحملها على الاستحباب- قال: «بل لو لا فتوى الجماعة بذلك لأمكن التأمّل فيه؛ لظهور (ها) في
إرادة الإرشاد».
وفي
جامع المدارك : «لا يظهر من الأخبار استحبابه، بل يستفاد منها فائدته، أعني الحكم بطهارة البلل المشتبهة».
وفي
التنقيح للسيد الخوئي: «الأخبار الواردة في الاستبراء إنّما وردت للإرشاد ولبيان ما يتخلّص به عن
انتقاض الوضوء بالبلل المشتبه؛ لأنّه ناقض للطهارة ومحكوم بالنجاسة كما عرفت، فلا دلالة في شيء منها على وجوب الاستبراء ولو شرطاً؛ لكونها واردة للإرشاد...فالاستبراء لا دليل على وجوبه، بل الحكم باستحبابه أيضاً مشكل؛ لما عرفت من أنّ الأخبار الآمرة به وردت للإرشاد، ولا دلالة في شيء منها على وجوب الاستبراء ولا على استحبابه»،
وغيرهم.
•
أثر الاستبراء من البول و فائدته ، يترتّب على
الاستبراء من البول طهارة البلل المشتبه الخارج من الذكر بعده الذي لا يعلم أنّه بولٌ أو غيره، وعدم ناقضيّته للوضوء إذا كان قد توضّأ قبل خروجه، بخلاف ما إذا لم يستبرئ فإنّه يحكم بنجاسته وناقضيّته للطهارة.
ألحق بعض الفقهاء بالاستبراء في الفائدة طول المدّة وكثرة الحركة على
اختلاف في بعض التفاصيل، فقد اقتصر بعضهم على طول المدّة ولم يذكر كثرة الحركة، مضافاً إلى تقييد أكثر من تعرّض للمسألة بصورة حصول القطع بعدم بقاء شيء في المجرى.
قال كاشف الغطاء: «وطول المدّة وكثرة الحركة بحيث لا يخاف بقاء شيء في المجرى يجريان مجرى الاستبراء».
وفي الجواهر- بعد أن حكاه عن بعض مشايخه، ولعلّ مراده كاشف الغطاء- قال: «وهو لا يخلو من وجه بعد حصول القطع بذلك، وإلّا فإطلاق الأدلّة ينافيه، بل يمكن المناقشة حتى في صورة القطع؛ لاحتمال مدخليّة الكيفيّة الخاصّة في قطع دريرة البول، لكنّها ضعيفة».
وفي العروة: «ويلحق به (الاستبراء) في الفائدة المذكورة طول المدّة على وجه يقطع بعدم بقاء شيء في المجرى».
ونحوه عبارتي
السيد الحكيم و
السيد الخوئي وكذا عبارتي
السيد الاصفهاني و
السيد الخميني،
إلّا أنّهما كالجواهر والكشف في
إضافة كثرة الحركة.
ودليلهم على ذلك هو أنّ الظاهر من النصوص كون
اعتبار الاستبراء في الحكم بطهارة المشتبه؛ لاقتضائه
براءة المحلّ من البول، فإذا علم ببراءته بسبب آخر سقط اعتباره، وكان المرجع في خروج محتمل البوليّة أصالة الطهارة من الحدث والخبث.
وبعبارة اخرى: أنّ الأخبار إنّما وردت للإرشاد إلى ما يتخلّص به عن انتقاض الوضوء بالبلل المشتبه بعد البول والوضوء؛ لأنّ الظاهر تخلّف شيء من الرطوبات البوليّة في الطريق قد تخرج بعد البول، والشارع قدّم هذا الظاهر على
الأصل ، فالفائدة المترتّبة على الاستبراء ليست إلّا سدّ هذا الاحتمال؛ إذ مع الاستبراء لا يحتمل أن تكون الرطوبة المشتبهة من الرطوبات البوليّة المتخلّفة في الطريق، ولا يندفع به احتمال كونها بولًا قد نزل من موضعه؛ لوضوح أنّ هذا
الاحتمال كما أنّه موجود قبله كذلك موجود بعده.
نعم، هذا الاحتمال يندفع بالأصل، وليس أمراً يقتضيه ظاهر الحال ليقدّم على الأصل، فعلى ذلك لو قطع المكلّف ولو بطول المدّة أنّ البلل الخارج ليس من الرطوبات البوليّة المتخلّفة في الطريق لم يحتج إلى الاستبراء بوجه وترتّبت عليه فائدته، وإن كان يحتمل أن تكون بولًا نزل من موضعه إلّا أنّه مندفع بالأصل كما مرّ.
وأمّا اعتبار القطع وعدم
الاكتفاء بالظن بعدم البقاء فلعدم العبرة به، ومقتضى
إطلاق الأخبار الواردة في الاستبراء أنّ وجود الظنّ كعدمه.
صرّح بعض الفقهاء
باختصاص استحباب الاستبراء بالرجل دون
المرأة ،
وهو ظاهر البعض الآخر ممّن قيّد استحبابه به،
أو أطلق من هذه الجهة، إلّا أنّه بيّن الكيفيّة المختصّة بالرجل، والتي هي مسح ما بين المقعدة والانثيين ثمّ مسح الذكر ونتره، ولم يتعرّض إلى كيفيّته بالنسبة للمرأة.
من هنا نسبه بعضهم إلى ظاهر الأكثر.
ومعنى عدم استحبابه لها عدم ترتّب أثره، بل البلل الخارج منها محكوم بالطهارة وعدم الناقضيّة مع الاستبراء وعدمه.
وألحق كاشف الغطاء الممسوح والخنثى- مشكلًا أو لا- بالمرأة مع الخروج من الفرج، وأمّا مع الخروج من الذكر فيقوى جريان حكم الاستبراء فيه ولو علمت زيادته على الأقوى.
واستدلّ لذلك بالأصل وعدم الفائدة بالنسبة لها للحكم بطهارة الخارج منها على وفق الأصل.
وبعبارة اخرى: أنّه لا دليل على استحباب الاستبراء لها؛ لاختصاص الروايات بالرجل، وحيث إنّ الحكم بنجاسة البلل المشتبه وناقضيّته على خلاف القاعدة فلا بدّ من
الاقتصار على مورد النصوص وهو الرجل، ويبقى حكم المرأة على وفق الأصل وهو يقتضي طهارة الخارج منها بعد البول.
هذا مجمل
الاستدلال وإن اختلف تعبيرهم عنه، فعبّر بعضهم بالأصل،
وآخر بعدم الدليل،
وثالث بعدم الفائدة،
وغير ذلك.
ومرجع الجميع ما تقدّم كما هو واضح.
إلّا أنّ العلّامة في
المنتهى والنهاية ذهب إلى التعميم حيث قال: «(إنّ) الرجل والمرأة في ذلك سواء».
ولم يبيّن كيفيّته لها، وكذا نسب بعض الفقهاء القول باستحبابه لها إلى القيل،
وآخرون إلى جماعة فتستبرأ عرضاً
ويلحقها حكم الاستبراء، لكنّنا لم نعثر على قائل به من فقهاء
أهل البيت عليهم السلام عدا العلّامة في الكتابين المذكورين.
واجيب عنه بما تقدّم من عدم الدليل والفائدة، بل في المستمسك: «(أنّ) ما في المنتهى... غير ظاهر المراد ولا ظاهر المستند».
هذا كلّه فيما إذا كان المراد باستحبابه لها ترتّب أثره كما في الرجل، وأمّا إذا كان لمجرّد
الاستظهار في خروج البول و
الاطمئنان بنقاء المجرى فلا بأس به، بل صرّح به بعض الفقهاء على سبيل
الأولويّة والاحتياط.
ففي كشف الغطاء- بعد أن قصّر ثمرته على الرجل، وأنّ المرأة لا تجري فيها ثمرته، بل الخارج منها محكوم بالطهارة على وفق الأصل- قال: «ولا يبعد استحباب المسحات الثلاث للمرأة والخنثى بالنسبة إلى الفرج والممسوح من الدبر إلى حاشية الفرج أو الثقب والتعصّر والتنحنح والتحرّك والتمهّل والقبض بقوّة ونحوها ممّا يقضي بالخروج».
وفي الجواهر- بعد أن نقل ما في المنتهى والنهاية من التعميم- قال: «ويمكن الحكم به؛ للتسامح والاستظهار في خروج البول، لكن ينبغي القطع في عدم جريان حكم المشتبه قبله بالنسبة إليها كما في الرجال وإن قلنا باستحبابه؛ لعدم الدليل، مع
أصالة الطهارة المنافية لحدثيّته».
وفي العروة قال: «ليس على المرأة استبراء. نعم، الأولى أن تصبر قليلًا وتتنحنح وتعصر فرجها عرضاً، وعلى أيّ حال الرطوبة الخارجة منها محكومة بالطهارة وعدم الناقضيّة ما لم تعلم كونها بولًا».
ونحوها عبارتي السيدين الحكيم
والخوئي.
وقال السيد الخوئي في التنقيح في تعليقته على عبارة العروة المزبورة: «حتى تطمئنّ بعدم كون البلل من الرطوبات البوليّة المتخلّفة في الطريق؛ لأنّها من المائعات، وبالصبر تنزل وتخرج ولا يبقى شيء منها في الطريق حتى يخرج بعد البول. نعم، هذا على سبيل الاحتياط والأولويّة لا على وجه اللزوم والوجوب؛ لأنّ البلل في المرأة محكوم بالطهارة وعدم الناقضيّة كما مرّ، وكذلك الحال في التنحنح وعصر فرجها عرضاً، بل الأولويّة في تلك الامور ليست محتاجة إلى النص؛ لما مرّ من أنّ الاستبراء مختصّ بالرجال، والامور المذكورة في حقّ المرأة من باب الاحتياط، ولا كلام في أولويّتها؛ إذ بها تنزل الرطوبات المتخلّفة في محلّها، ولا تبقى لتخرج بعد البول فيوجب الشكّ في نجاستها وناقضيّتها، ويحتاج في دفع احتمالهما إلى التثبّت بالأصل».
وظاهر هذه العبائر بل صريحها القطع بطهارة الخارج منها وإن قيل بأولويّة واستحباب الاستبراء لها، لكن ظاهر المحقق الثاني والاصفهاني عدم الجزم بذلك.
ففي
جامع المقاصد : «فإن قلنا به (استحباب الاستبراء للمرأة) فهل تتعدّى إليها فائدته بحيث يحكم بطهارة البلل المشتبه بعده وعدم كونه ناقضاً؟
وجهان، ويحتمل قويّاً الحكم بطهارة الخارج منها وعدم النقض به مع
اشتباهه وإن لم تستبرئ».
وفي
كشف اللثام - بعد نقل القول بالتعميم لها عن العلّامة في المنتهى و
نهاية الإحكام - قال: «وفي خروج البلل المشتبه منها بعد استنجائها من غير استبراء وجهان، أقربهما عدم
الالتفات وإن استحبّ لها الاستبراء».
والمستخلص من جميع ما تقدّم أنّه لم يقل أحد باستحبابه للمرأة كاستحبابه للرجل، ولا بترتّب أثره عليه، إلّا ما نسب إلى القيل أو إلى جماعة، ولم نعثر عليه لغير العلّامة كما ذكرنا.
نعم، يحسن لها ذلك على سبيل الأولويّة والاحتياط؛ لرجحان الاستظهار و
الاستنقاء والتنزّه كما عرفت.
من قطع ذكره يصنع ما ذكر من المسحات فيما بقي منه، فيستبرئ بمسح ما بين المقعدة والانثيين إذا قطع من أصله، أو بمسحه ومسح المقدار الباقي من ذكره إذا قطع مقدار منه، وهكذا.
قال كاشف الغطاء: «ومقطوع الذكر من أصله يبقى على ثلاث، وبها تتمّ الثمرة، ومن وسطه مع بقاء شيء من الحشفة يبقى حكمه، ومع عدم بقاء شيء من الحشفة يبقى على ستّ، ويقوى لزوم اعتبار ثلاث النتر».
وقال
المحقق النجفي : «ولعلّ الظاهر عدم سقوطه بقطع الحشفة بل ولا ثلاثة النتر. نعم، لو كان الذكر مقطوعاً من أصله أمكن
الاجتزاء بثلاثة المقعدة».
وقال
الفقيه الهمداني : «لا يسقط الاستبراء بقطع الحشفة، بل ولا بقطع الذكر من أصله، فيمسح من عند المقعدة ثلاثاً إلى موضع القطع».
وقال السيد اليزدي: «من قطع ذكره يصنع ما ذكر فيما بقي».
واستدلّ له بأنّ الأمر به في الأخبار ليس على وجه التعبّد، بل المرتكز أنّ
الأمر به من جهة النقاء و
إخراج الرطوبة المتخلّفة في الطريق. وهذا لا يفرق فيه بين سليم الذكر ومقطوعه؛ لحصول النقاء بمسح الذكر وما بين المقعدة والانثيين.
بل يمكن
الاستغناء عن هذا الوجه
الاستحساني - وإن كان صحيحاً في نفسه- و
استفادة ذلك من رواية حفص
المتقدّمة؛ لأنّ قوله عليه السلام: «ينتره ثلاثاً» يدلّ بإطلاقه على جذب البول ثلاثاً بالإضافة إلى سليم الذكر ومقطوعه.
لكن هذا بناءً على
إرجاع الضمير في (ينتره) إلى البول، وليس للذكر كما هو واضح.
هذا، وذكر السيد الحكيم: «أنّ لازم هذا أنّه لو علم سليم الذكر نقاء ما بين المقعدة والانثيين لم يحتج إليها واحتاج إلى الباقي».
•
كيفية الاستبراء من البول ، بعد
الاتّفاق على أنّ
الاستبراء من البول هو تحرّي نقاء المجرى منه لغرض التخلّص من النجاسة والحكم بالطهارة وعدم ناقضيّة ما يخرج بعده اختلفت كلمات الفقهاء- بسبب
اختلاف الروايات- في كيفيّته وعدد المسحات المعتبرة فيه على أقوال.
لا تعتبر المباشرة في الاستبراء، ولا كونه باليد، بل يكفي في ترتّب الفائدة إن باشره غيره كزوجته أو مملوكته.
وكذا يحصل بكلّ آلة تؤدّي حقّها بالمباشرة أو بالتسبيب.
كلّ ذلك لوضوح أنّ المقصود من الاستبراء تنقية المجرى وإخراج بقيّة البول، وهذا يحصل بكلّ ما يتحقّق به نتر الذكر أو عصره أو غمزه أو مسحه، فإنّ المتبادر من أخبار الباب وإن كان حصول المسح أو ما هو بمنزلته بمباشرة يده ولكنّه لا يتقيّد الحكم بها بعد وضوح المقصود.
وبعبارة اخرى: أنّ مقتضى الأخبار المتقدمة أنّ نتر البول ثلاثاً موضوع للحكم بطهارة البلل وعدم ناقضيّته سواء في ذلك أن ينتره
بالإصبع أو بالخرقة أو بغيرهما ممّا يمكن به النتر، وسواءً كان ذلك بالمباشرة أو بالتسبيب، كما إذا نترته مملوكته أو زوجته؛ لما تقدّم من أنّ الغرض من الاستبراء إنّما هو النقاء، وهذا لا يفرّق به بين آلات النتر وأنحائه.
لم يتعرّض أكثر الفقهاء لاعتبار الترتيب والموالاة وعدمه، إلّا أنّه ربّما يستظهر من عبارات بعضهم في بيان كيفيّة الاستبراء اعتبار الترتيب فيه، حيث عطفوا ب (ثمّ) المفيدة للترتيب،
وعليه يعتبر تقديم مسح بين المقعدة والانثيين على مسح القضيب، ومسح القضيب على نتر الحشفة، بل ذلك ظاهر كاشف الغطاء أو صريحه حيث قال: «وأكمل أنحائه المسح من طرف حاشية الدبر... ثمّ عصر ما بين أصله وطرفه بجذب، ثمّ نتر طرفه ثلاثاً ثلاثاً، مترتّبات متعقّبات أفراداً وأبعاضاً، فلو أخلّ بالترتيب أو حصلت فرجة أعاد من الأصل».
واستظهر السيد الخوئي اعتبار ذلك من عبارة العروة حيث عبّر بكلمة (ثمّ) وأجاب عنه بما مجمله: أنّ هذا لم يقم عليه دليل، بل الأخبار مطبقة على أنّ المسحات لا يعتبر الترتيب بينها، فإنّ رواية حفص
ظاهرها أنّ الضمير في (ينتره) راجع إلى البول المدلول عليه بجملة (يبول). وعليه فالرواية تدلّ على اعتبار عصر ما بين المقعدة ونهاية القضيب، وجذب البول المتخلّف فيما بينهما ثلاثاً، وما بين المقعدة ونهاية الذكر قطعات ثلاثة وهي: ما بين المقعدة والانثيين والقضيب والحشفة، فالرواية دلّت على اعتبار المسحات التسع من دون أن تعتبر الترتيب بينها بحيث لو مسح من عند المقعدة إلى نهاية القضيب ثلاث مرّات كفى في تحقّق المسحات التسع، مع أنّ المسحات الثلاثة الاولى لم تتقدّم بأجمعها على الوسطى، كما أنّها بتمامها لم تتقدّم على الأخيرة. وكذا حسنة
محمّد بن مسلم ،
فإنّ أصل الذكر الوارد فيها ظاهره العروق التي يقوم عليها الذكر الكائنة فيما بين المقعدة والانثيين، وعليه فهي تدلّ على اعتبار المسح فيما بين المقعدة وطرف الذكر ثلاث مرّات، ولا دلالة لها على الترتيب. وكذا رواية
عبد الملك .
فالمتحصّل: أنّ الأخبار الواردة في المقام مطبقة على عدم اعتبار الترتيب في المسحات، فالقائل باعتبار التسع إن أراد ما قدمنا تفصيله فهو، وأمّا لو أراد مسح كلّ قطعة من القطعات الثلاث مترتّبة- على الترتيب الذي ذكره (
السيد اليزدي )- فهو ممّا لا دليل عليه.
هذا.
وقد تقدّم في كيفيّة الاستبراء ما يرتبط بالمقام حيث إنّ بعضهم حاول الجمع بين القول باعتبار تسع مسحات والقول باعتبار ستّ مسحات، بدعوى أنّ المراد من نتر القضيب الجمع بين مسح القضيب من أصله إلى رأسه مع نتره كذلك.
واختار بعض القائلين بالتسع كفاية هذه الكيفيّة بناءً على عدم اعتبار الترتيب بين مجموع النترات ومسحات الذكر، بل يكفي تعقّب كلّ مسحة بنترة.
ويمكن أن يقال: إنّ الروايات لم تدلّ على أكثر من اعتبار المسحات على الاختلاف في عددها، ولم تدلّ على أزيد من ذلك من اعتبار الترتيب بين أبعاضها أو أفرادها أو انفصال كلّ مسحة عن الاخرى أو
الموالاة بينها أو غير ذلك، فكلّ ذلك لا دليل عليه، فمقتضى الأصل والإطلاقات عدم اعتبار شيء منها.
نعم، بما أنّ المقصود من الاستبراء هو إخراج الرطوبة البوليّة من المجرى فمع عدم الترتيب بين أفراد المسحات كما لو عكس المسحات تماماً- بأن قدّم النتر بكامله على مسح الذكر وهو على مسح ما بين المقعدة والانثيين أو قدّمهما عليه كذلك- فالظاهر عدم الاكتفاء بذلك؛
لإمكان عدم تحقّق المقصود بذلك، بل يتحوّل الرطوبة ممّا بين المقعدة والانثيين إلى القضيب وتخرج فيما بعد كما هو واضح.
ولعلّ ذلك يستفاد من ذكر الفقهاء للمسحات بهذا الترتيب، أعني مسح ما بين المقعدة إلى الانثيين وأصل القضيب إلى طرفه ونتر طرفه، بل ذلك أوضح في عبارة من عطف ب (ثمّ)، ولم نعثر على من عكس أو قدّم وأخّر، وربّما لم يصرّحوا بذلك لوضوحه.
الظاهر أنّ المشهور بين الفقهاء اختصاص حرمة
استقبال القبلة واستدبارها بحالة التبوّل والتغوّط، وعدم شموله لحالة الاستنجاء والاستبراء، وحيث أنّ الفقهاء لم يفصّلوا بين الاستنجاء والاستبراء هنا- وإنّما اقتصر بعضهم على الاستنجاء، وذكر آخر الاستنجاء والاستبراء معاً- نقتصر على من تعرّض للاستبراء محيلين تفصيل المسألة إلى محالّ تفصيلها من مصطلح (استقبال) فنقول:
قال المحقق النجفي: «الظاهر خروج الاستبراء والاستنجاء عن هذا الحكم (أي حرمة الاستقبال و
الاستدبار )».
وقال السيد اليزدي: «الأقوى عدم حرمتهما في حال الاستبراء والاستنجاء، وإن كان الترك أحوط».
واستدلّ لذلك باختصاص الأدلّة بالبول والغائط
وعدم ظهور تناولها لمثل ذلك، بل قد يدّعى ظهور العدم؛ لظهورها في التخلّي، كقوله عليه السلام (الآتي): «إذا دخلت المخرج»
وقول السائل: (أين يضع الغريب)
ونحو ذلك.
نعم، قد يقال بعموم الحكم لهما بل حكي
ذلك عن الدلائل والذخيرة؛ لموثّق عمّار عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت له: الرجل يريد أن يستنجي كيف يقعد؟ قال: «كما يقعد للغائط».
وإطلاق النبوي: «إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها».
ونوقش فيهما: أمّا النبوي فبالمنع من إطلاقه، بل الظاهر إرادة خصوص حالة البول والغائط، مع أنّ ضعفه يأبى
الاعتماد عليه.
وأمّا الموثّق فإنّ منصرفه الكيفيّة بلحاظ بدن المتخلّي لا بلحاظ أمر آخر خارج عنه،
أي بيان الكيفيّة اللازمة في القعود، وأنّ كيفيّة الاستنجاء ككيفيّة التخلّي، فلا يعتبر في القعود له أن يرخي نفسه، ولا أن يوسع فخذيه بأكثر من تفريجهما للتخلّي، وإن التزم الجمهور باستحباب
الاسترخاء حينئذٍ، بل ذهب بعضهم إلى وجوبه،
فلا دلالة في الرواية على حرمة استقبال القبلة واستدبارها في الاستنجاء. وأمّا الاستبراء فهو أيضاً كسابقه، ولا دليل فيه على حرمة
استقبال القبلة واستدبارها.
نعم، اعتبر السيد اليزدي تركهما أحوط، وجعل الاحتياط أشدّ فيما إذا علم ببقاء شيء من البول في المجرى يخرج بالاستبراء،
بل ذهب السيد الحكيم إلى أنّه المتعيّن في صورة العلم بالخروج بدعوى عدم قصور النصوص عن شموله.
لكن ناقش فيه السيد الخوئي بأنّ الحكم في لسان الدليل تعلّق بالبول، وأنّ البول إلى القبلة محرّم، ولا تأمّل في عدم ترتّب الحكم حينئذٍ على مجرّد خروج قطرة أو قطرتين؛ لأنّه لا يصدق بذلك أنّه قد بال، ومع عدم صدقه لا مانع من استقبال القبلة واستدبارها.
وبعبارة اخرى: ليست الحرمة في الأدلّة اللفظيّة مترتّبة على مجرّد خروج البول من مخرجه، وإنّما هي مترتّبة على عدم جواز البول مستقبل القبلة ومستدبرها ومن البديهي أنّ الاستبراء- ولو خرج به البول- لا يسمّى بولًا عرفاً، ولا يصدق معه أنّه يبول، بل يقال: إنّه يستبرئ.
هذا إذا كان المدرك في المسألة هو الروايات، وأمّا إذا كان هو التسالم والإجماع فالأمر أوضح؛ لأنّ المتيقّن منه حرمتهما لدى البول والغائط دون الاستبراء، كما لعلّه ظاهر.
إذا شكّ في الاستبراء يبني على عدمه، ولو مضت مدّة، بل ولو كان من عادته؛
لأصالة عدم الاستبراء، ولا تجري قاعدة التجاوز هنا؛ لأنّ الاستبراء ليس له محلّ مقرّر شرعي، والتجاوز عن المحلّ الاعتيادي لا اعتبار به في جريانها، فأصالة عدم الاستبراء عند الشكّ فيه هي المحكّمة.
نعم، لو علم أنّه استبرأ وشكّ بعد ذلك في أنّه كان على الوجه الصحيح أم لا بنى على الصحة؛
لقوله عليه السلام: «كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو»
وغيرها من الأخبار.
الموسوعة الفقهية، ج۱۰، ص۳۵۱- ۴۷۰.