البضاعة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هي شيء من مال الرجل يبعثه
للتجارة.
البضاعة: قطعة أو طائفة من المال تبعث
للتجارة ، ومنه قوله سبحانه وتعالى:«وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ».
وأصلها البَضع بمعنى
القطع ،
يقال:أبضعت الشيء واستبضعته، أي جعلته بضاعة، وأبضعته بضاعة، إذا دفعتها إليه،
[لسان العرب، ج۱، ص۴۲۶.
]
والاسم منه البضاع
كالقراض .
تستعمل البضاعة لدى
الفقهاء بمعنى
المال ، كما تستعمل بمعنى البضاع-البضاعة- بالتاء-: بالمعنى المصدري أو الاسم المصدري المستعمل في كلمات الفقهاء غير مذكورة في كتب اللغة، وإنّما المذكور فيها (البضاع)، وكأنّ الفقهاء قاسوها بمثل الكرامة من
الإكرام .
أي بمعنى الاسم المصدري- المقابل للقراض والقرض
والجعالة والإجارة ونحوها، وهو المراد هنا بالبحث.وقد عُرّفت بدفع المال لأحد للتجارة على أن يكون
الربح بأجمعه
للمالك .
قال
الشيخ الطوسي : «وعقد يقتضي أنّ الربح كلّه لربّ المال، وهو البضاعة، يقول له: خذ هذا المال فاتّجر به والربح كلّه لي».
وقال ابن فهد: «وهي أن يدفع الإنسان إلى غيره مالًا أمانة يتّجر له به، وليس له في فائدته حصّة».
وأمّا دفع المال للتجارة بشرط التبرّع والمجّانيّة في العمل بحيث لا يتعلّق به حتى
أجرة المثل فلعلّ الظاهر من بعض العبائر أنّه أيضاً من البضاعة المصطلحة. قال
ابن حمزة : «إن دفع إليه (المال) ليتّجر به له من غير أجرةٍ، كان بضاعة».
وقال الشيخ الطوسي في موضع من
المبسوط : «البضاعة أن يتّجر له فيها بغير جُعل ولا قسط من الربح»،
فإنّ المتفاهم من قوله: «من غيرأجرة» أو «بغير جُعل ولا قسط من الربح» المجّانيّة لا الأجرة والجعل الوارد في الإجارة والجعالة.
بل هو صريح عبارة
الشهيد الثاني :«ولأنّ البضاعة توكيل في التجارة تبرّعاً».
وليس غرضهما
انحصار البضاعة في هذه الصورة، كما لا يخفى على من لاحظ كلامهما.وأمّا دفع المال للتجارة من دون شرط- وهو الفرض الثالث- فصريح جماعة أنّه أيضاً من البضاعة.
قال الشهيد الثاني: «اعلم أنّ من دفع إلى غيره مالًا ليتّجر به، فلا يخلو إمّا أن يشترطا كون الربح بينهما أو لأحدهما، أو لا يشترطا شيئاً، فإن شرطاه بينهما فهو قراض، وإن شرطاه للعامل فهو قرض، وإن شرطاه للمالك فهو بضاعة، وإن لم يشترطا شيئاً فكذلك (أي بضاعة) إلّاأنّ للعامل أجرة المثل».
وظاهر كلام
المحقّق النجفي أيضاً تقريره في صدق البضاعة وإن أشكل عليه في حكمه بعدم الأجرة في الصورة الاولى،
.
وهو صريح المحقّق النجفي أيضاً حيث قال: «وتارة لا يشترطان شيئاً، وعلى هذا أيضاً يكون تمام الربح للمالك، فهو داخل في عنوان البضاعة».
فهذه أقسام ثلاثة للبضاعة على خلاف بينهم في
استحقاق العامل للُاجرة وعدمه، على تفصيل يأتي.
- بالفتح- في اللغة:
القطع، يقال: قَرَضَ الشيء يقرضه: إذا قَطَعه.
وفي الاصطلاح: عبارة عن
إنشاء تمليك عين
بضمان المثل أو
القيمة ، أو تمليك الجزئي وتملّك الكلّي.
والفرق بين القرض والبضاعة أنّه إذا قال المالك: خذه فاتّجر به والربح لك فهو قرض، وإن قال: خذه واتّجر به على أنّ الربح لي كان بضاعة.
وهو
المضاربة بلغة أهل
الحجاز ،
وهو أن يدفع الرجل إلى الرجل نقداً ليتّجر به على أنّ الربح بينهما على ما يشارطانه.والفرق بين القراض والبضاعة، أنّ القراض شركة في الربح بين ربّ المال والعامل، بينما البضاعة لا تحمل صورة
المشاركة ، بل صورة التبرّع من العامل في التجارة لربّ المال دون مقابل.
وهي- في اللغة- اسم للُاجرة، وهي ما اعطيت من أجر في عمل.
وفي الاصطلاح: عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض كسائر أسامي المعاملات.
والفرق بينها عندئذٍ وبين البضاعة أنّ الأخيرة لا تمليك فيها، ولا قسط من الربح للعامل.
وهي- في اللغة- ما جعلت لإنسان أجراً له على عمل يعمله.
وفي الاصطلاح: هي
الالتزام بعوض على عمل محلّل مقصود، وهي غير لازمة، بمعنى أنّه لا يملك الجاعل عمل العامل بمجرّد ذلك، فلا يكون ملزماً به وإن كان يملك العامل الجعل بمجرّد
إتيان العمل.
وتفترق الجعالة مع البضاعة في أنّ الجعالة جعل
العوض على عمل العامل، بخلاف البضاعة؛ لأنّ العامل يعمل ويتّجر تبرّعاً دون ربح وجعل.
وهي- في اللغة- صفة من ودع الشيء يدعه إذا تركه، فالعين
وديعة ، أي مودوعة متروكة، وهي
استنابة في الحفظ، واستودعته وديعة، إذا استحفظته إيّاها.
وفي الاصطلاح عبارة عن إنشاء استنابة في الحفظ وقبولها، فهي عقد يحتاج إلى
إيجاب وقبول.
والصلة بين الوديعة والبضاعة أنّهما من العقود الجائزة ويكون المال أمانة عند الودعي والعامل ولا جعل لهما.
- بتشديد الياء وتخفيفها في اللغة-: الشيء المنسوب إلى العار لجلبه العار إلى آخذها.
والمنسوب إلى العارة، أي المعطى من أعرته
إعارة وعارة
كالإطاقة والطاقة، فالعين عارية، أي منسوبة إلى وقوعها معطى
للانتفاع .
وفي الاصطلاح هي إنشاء
إباحة الانتفاع بعين بلا عوض على
المشهور ،
بينما البضاعة لا إباحة فيها للعامل للانتفاع من العين أو الربح.
والمستفاد من المجموع أنّ المائز بين البضاعة وغيرها من المعاملات اشتراط عود جميع الربح إلى المالك في البضاعة، دون اتّفاق منهما على أجرةٍ أو جُعلٍ أو شيء من منافع العين وأرباحه للعامل في قبال عمله، بخلاف غيرها من الإجارة والجعالة والقراض ونحوها.
وأمّا العارية فهي دفع المال للمستعير للانتفاع منه فيعود نفعه إليه، بخلاف البضاعة التي يعود الربح فيها إلى المالك.
هل البضاعة عقد أو
إيقاع ؟ صريح بعضهم أنّها من العقود.
ولعلّ ظاهر مَن أدخلها في المضاربة ذلك أيضاً، مع إطلاقهم عقديّتها، قال
ابن فهد : «ويدخل تحت المضاربة البضاعة، وهي...».
إلّاأن يراد الدخول في البحث لا الحقيقة، أو يراد بالمضاربة غير معناها الاصطلاحي، كما ذكره
الإمام الخميني ذيل قول السيّد اليزدي: «إذا قال: خذ هذا المال مضاربة والربح بتمامه لي كان مضاربة فاسدة إلّاإذا علم أنّه قصد الإبضاع» حيث قال: «لا يجتمع قصد المضاربة بمعناها الاصطلاحي والربح بتمامه للمالك، فلابدّ من كون المقصود من المضاربة الكذائيّة البضاعة لا المضاربة الاصطلاحيّة، والبضاعة نوع من المضاربة(بمعناها اللغوي) وإن كانت قسيمة لها بمعناها الاصطلاحي. نعم، مع الإنشاء الصوري بلا جدّ يمكن الجمع، ويكون فاسداً لغواً، بل لا يصدق عليه مضاربة فاسدة أيضاً».
وكذا تظهر العقدية من قول بعضهم:البضاعة توكيل،
بناءً على المشهور من عقديّة
الوكالة .
أضف إلى جميع ذلك سكوت الفقهاء في مقابل تصريح
الشيخ والحلّي بعقدية البضاعة من دون إشكال وإيراد عليهما في هذا التعبير، فكأنّه عندهم من المسلّمات، ولعلّه لتقوّمها بطرفين ممّا قد يستشعر منه عقدية الوكالة أيضاً.
وإن كان من المحتمل قويّاً أنّ سكوتهم إنّما هو لعدم دخله فيما هو المهمّ في غرضهم في مبحث المضاربة؛ إذ غرضهم البحث عن صحّة هذا العمل وترتّب
الأثر الشرعي وعدمه، سواء كانت حقيقته العقد أو الإيقاع.
نعم، بناءً على جعل البضاعة نوعاً من التوكيل الذي حقيقته الاستنابة في التصرّف حال الحياة كما مرّ التصريح به من الشهيد وصاحب
الجواهر ، والقول بإيقاعية الوكالة للكفاية مجرّد الإذن فيه من دون احتياج إلى القبول، كما صرّح به بعض،
واحتمله آخر،
فالبضاعة الحاصلة بقول القائل: (خذه واتّجر به والربح لي) أيضاً إيقاع.
تعرّض الفقهاء لجملة من الأحكام المرتبطة بالبضاعة، وثمّة فروع كثيرة للبضاعة ذكرها الفقهاء في باب المضاربة يؤخذ حكمها من خلال القواعد والمسائل العامة في باب العقود والضمان وممّا سيأتي في النقاط التالية، وفي فروع المضاربة، مثل: حكم
نفقة العامل في البضاعة بالمال، من مؤونة السفر الذي يتوقّف عليه التجارة، وحمل المتاع ونحوها، هل هي على المالك أو العامل؟
وحكم ضمان
تلف المال مع صحّة البضاعة أو فسادها، وحكم ما إذا اشترى العامل بالمال مَن ينعتق على المالك في البضاعة، وحكم
اختلاط مال البضاعة بغيره من أموال العامل،
وتنازع المالك والعامل في كون العقد الواقع مضاربة صحيحة أو فاسدة أو بضاعة أو غيرهما، وأنّه لو قال المالك للعامل: خذ هذا المال مضاربة والربح بتمامه لي، هل هو مضاربة فاسدة أو بضاعة أو هناك تفصيل؟
وغير ذلك ممّا ذكروه في كتاب المضاربة، ومرجع كثير منه إليها، فلا وجه
للتكرار.ونتعرّض هنا لما يختصّ أو بحثوه بخصوصه تحت عنوان البضاعة، وذلك كما يلي:
تقدّمت الكلمات في تعريف البضاعة والفرق بينها وبين سائر العقود، وسيأتي أيضاً البحث عن بعض الأحكام وما يترتّب عليها من آثار. وهي كالصريح في وضوح أصل مشروعيّتها عندهم؛ إذ لا معنى لهذه التفاصيل بالنسبة لأمر غير مشروع عندهم.فينبغي الكلام عن أدلّة مشروعيّتها من العمومات والأدلّة الخاصة.
فمن العمومات
الآيات والأخبار الدالّة على صحّة التجارة ولزوم الوفاء بالعقود والشروط، مضافاً إلى أدلّة مشروعية
الوكالة بناء على جعلها قسماً من الوكالة كما مرّ، وقد استدلّ بها
المحقّق الأردبيلي .
ومن الأدلّة الخاصة آيات ذكرها ابن فهد الحلّي،
وهي قوله تعالى: «وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ»،
وقوله تعالى: «وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ»،
وقوله عزّوجلّ:«وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ».
ولكن عدم دلالة هذه الآيات على نفوذ البضاعة بما هي عقد من العقود واضح؛ إذ المذكور في هذه الآيات إنّما هي البضاعة بمعنى المال المتّخذ للتجارة، والكلام في نفس التجارة.
قال المحقّق الأردبيلي: «عدم دلالتها على المطلوب واضح؛ فإنّه دفع مالٍ إلى أحد ليتّجر له مجّاناً، ومعلوم أنّ المراد في الآيات مال إخوة
يوسف الذي اشتروا به طعاماً...».
وقال
الفاضل السيوري : «والبضاعة في هذه الآيات هي ثمن طعام اشتروه من يوسف، وفي العرف لا يطلق إلّاعلى ما وقع فيه التجارة»،
وكلامنا في نفس التجارة.
وأمّا الأخبار وهي العمدة فرواية
ابن رئاب ، قال: قال
أبو عبد اللَّه عليه السلام:«لا ينبغي للرجل
المسلم أن يشارك
الذمّي ، ولا يبضعه بضاعة، ولا يودعه وديعة، ولا يصافيه المودّة».
ورواية
هارون بن حمزة ، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: يروى عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: لا تحلّ
الصدقة لغني، ولا لذي. مرّة سَوِيّ، ذو مرّة سويّ: أي قويّ صحيح
البدن .
فقال: «لا تصلح لغني»، قال: فقلت له: الرجل يكون له ثلاثمئة درهم في بضاعة، وله عيال، فإن أقبل عليها أكلها عياله ولم يكتفوا بربحها؟ قال:«فلينظر ما يستفضل منها فليأكله هو ومن يسعه ذلك، وليأخذ لمن لم يسعه من عياله».
ورواية
حمّاد بن بشير عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: إنّي أردت أن أستبضع بضاعة إلى اليمن، فأتيت
أبا جعفر عليه السلام فقلت له: إنّي اريد أن أستبضع فلاناً، فقال: «أما علمت أنّه يشرب
الخمر ؟» فقلت: بلغني من
المؤمنين أنّهم يقولون ذلك، فقال: «صدّقهم؛ فإنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: «يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ»،
- ثمّ قال-: إنّك إن استبضعته فهلكت أو ضاعت فليس لك على اللَّه أن
يأجرك ، ولا يخلف عليك، فاستبضعته فضيّعها...».
ودلالة الاولى مبنيّة على القول بمفهوم اللقب
واحترازية القيود، والأخيرتين بمقتضى سكوت
الإمام الظاهر في
الإمضاء والتقرير .
لا شكّ في
اللزوم بناءً على القول
بإيقاعية البضاعة على ما هو المشهور من عدم جريان
الفسخ في الإيقاعات.
وأمّا بناءً على العقديّة فحيث كانت من العقود الإذنية- كالوكالة
والعارية والوديعة ونحوها- فلا خلاف بينهم في كونها من العقود الجائزة؛ إذ قوام العقود الإذنية بالإذن حدوثاً وبقاءً، فتنتفي بمجرّد الرجوع عن
الإذن، ومثله موت أحدهما أو جنونه أو نحو ذلك.
وأمّا عموم أدلّة لزوم الوفاء بالعقود الشامل للمقام فقد أجيب عنه بما ذكره
النائيني من أنّ صدق
العقد على العقود الإذنية لا يخلو عن
مسامحة؛ لأنّ العقد عبارة عن العهد المؤكّد، ولا عهد في العقود الإذنيّة؛ لأنّ قوامها إنّما هو بالإذن فقط، وإنّما أدرجوها في العقود لمكان
اشتمالها على
الإيجاب والقبول، وعلى هذا فلا يشملها عموم أوفوا بالعقود تخصّصاً أو تخصيصاً.
وبتعبير السيّد الخوئي في المضاربة:«قصور أدلّة
اللزوم عن شمول العقود الإذنيّة التي لا يكون فيها أيّ التزام من أحدهما بشيء كي يشمله أوفوا بالعقود، وأنّ من التزم بشيء فعليه أن ينهيه، وإنّما هي مجرّد إباحةٍ وإذنٍ في
التصرّف من أحدهما وقبولٍ من الآخر كالعارية، وعليه فمتى ما رجع الآذن في إذنه- لكونه مسلّطاً على ماله يتصرّف فيه كيف يشاء- ارتفع الموضوع، ومعه ينتفي الحكم لا محالة».
لا
إشكال في عدم
استحقاق العامل الأجر لو كان قد أتاه بنيّة المجّان، سواء قيل بمشروعية البضاعة أم لا، وسواء اشترط فيه المجّانية أم لا.
كما لا إشكال في عدم استحقاقه بناء على صحّة البضاعة إذا كان المالك قد اشترط عليه المجّانية، أو بني على ظهور كون
الربح بجميعه للمالك في المجّانية- كما لعلّه ظاهر كلّ من حكم في البضاعة المزبورة بالصحّة وعدم تعلّق أجر بالعامل- ووجهه عدم التزام المالك له بشيء
وإقدامه على العمل بهذا العقد المشروط فيه المجّانية.
نعم، لو اشترط فيها كون الربح للمالك وفرض عدم ظهوره في المجّانية- لعدم الملازمة بينهما، كما صرّح به المحقّق النجفي
- والفرض عدم قصد المجّان أيضاً فمقتضى القاعدة لزوم أجرة المثل لاحترام عمل المسلم،
بل وكذلك الكلام مع الشكّ في قصد التبرّع كما سيأتي من
السيّد الحكيم .
وأمّا لو قارضه واشترط عليه كون الربح لنفسه فبعد البناء على بطلان هذه المضاربة تارة يحكم بوقوعها بضاعة- لاشتمالها على معناها- فتجري فيها التفاصيل المتقدّمة، واخرى يحكم بعدمها أيضاً فليست هي مضاربة ولا بضاعة، فمقتضى القاعدة هنا كون الربح بجميعه للمالك.
وأمّا الأجرة فلولا إقدامه على العمل مجّاناً
وإهداره له بنفسه لكان مقتضى القاعدة تعلّقها به أيضاً.وقد يقال بأنّ
إقدامه على ذلك إنّما هو وفاءً بالعقد المتقدّم لا مطلقاً، فإنّ العقلاء قد يقدمون في خلال معاملة على شيء بما لا يقدمون عليه مطلقاً، وذلك لبعض الأغراض العقلائية المترتّبة على ذلك، فالمرجع حينئذٍ قاعدة احترام عمل المسلم.
قال المحقّق النجفي- بعد البناء على عدم
الملازمة بين اشتراط كون الربح للمالك
والتبرّع -: «وقيام احتمال التبرّع... لا يدفع أصالة احترام عمل المسلم المأذون فيه من المالك، فضلًا عن الواقع بأمره
واعترافه ، من غير فرق في ذلك بين الوقوع بصورة المضاربة وغيرها ما لم يعلم منه
إرادة التبرّع، ولا بين كون العامل من المعدّين لأخذ الأجرة
كالسمسار ونحوه وغيره، مع فرض كون العمل ممّا له أجرة في العادة، بل مقتضى الأصل المزبور استحقاق الأجرة على العمل المأذون فيه وإن لم ينو العامل الرجوع بها، بل يكفي عدم قصده التبرّع».
وقال
السيّد اليزدي : «إنّ من دفع مالًا إلى غيره
للتجارة ، تارة... على أن يكون (الربح)تمامه للمالك، ويسمّى عندهم باسم البضاعة، وتارة لا يشترطان شيئاً، وعلى هذا أيضاً يكون تمام الربح للمالك، فهو داخل في عنوان البضاعة، وعليهما يستحقّ
العامل أجرة المثل لعمله، إلّاأن يشترطا عدمه، أو يكون العامل قاصداً للتبرّع، ومع عدم الشرط وعدم قصد التبرّع أيضاً له أن يطالب الأجرة، إلّاأن يكون الظاهر منهما في مثله عدم أخذ الأجرة، وإلّا فعمل المسلم محترم ما لم يقصد التبرّع».
وقال السيّد الحكيم: «إنّ
استيفاء عمل الغير موجب للضمان، كاستيفاء ماله حتى مع
احتمال التبرّع ما لم يثبت التبرّع، وعلى ذلك استقرّت طريقة العرف والعقلاء بلا رادع عنها».
نعم، قال السيّد اليزدي في موضع آخر من كلامه: «ولا يستحقّ العامل أجرة إلّا مع الشرط أو القرائن الدالّة على عدم التبرّع، ومع
الشكّ فيه وفي إرادة الأجرة يستحقّ الأجرة أيضاً؛ لقاعدة احترام عمل المسلم».
وظاهر كلامه في هذه المسألة كأنّه يخالف ما مرّ منه من قوله: «يستحقّ العامل
أجرة المثل لعمله إلّاأن يشترطا عدمه أو يكون العامل قاصداً للتبرّع»؛
ولذا علّق عليه
الإمام الخميني بقوله: «بل يستحقّ إلّامع
اشتراط عدمها».
ومن ذلك يتّجه
الإشكال أيضاً فيما يظهر من بعض الفقهاء-
كالمحقّق الأردبيلي والسيّد الطباطبائي - حيث حكم بأنّ مقتضى الأصل عدم ضمان المالك للُاجرة إلّاإذا ثبت عدم التبرّع.
قال المحقّق الأردبيلي: «وبالجملة، إذا كان هناك ما يفيد ذلك- ويدلّ عليه بحيث يكون نصاً ومفيداً لذلك عرفاً غالباً- لزم أجرة المثل، وإلّا فهو متبرّع؛ لما مرّ»،
ومراده من ما مرّ قوله المتقدّم: «إذ الأصل عدم لزوم الأجرة».
وقال السيّد الطباطبائي: «نعم، يتوجّه عليهما في حكمهما بلزوم الأجرة في الصورة الأخيرة أنّه لا دليل عليه مع كون الأصل عدمه، ومرجعه إلى قيام احتمال التبرّع، ولا أجرة معه».
وتمام الكلام في أنّ الأصل عدم
الضمان إلّافيما ثبت عدمه أو أنّ الأصل الضمان إلّافيما ثبت التبرّع بمقتضى أدلّة الشرع
والسيرة العقلائية متروك إلى محلّه من مصطلح (ضمان).هذا كلّه بالنسبة لمقام الثبوت، وأمّا مقام
الإثبات فمع الشكّ في تبرّع العامل وعدمه فمقتضى الأصل عدمه.
قال السيّد الحكيم: «ومع الشكّ في التبرّع يبنى على أصالة عدمه عندهم، لا على
أصالة البراءة »،
ومراده من أصالة عدمه
استصحاب عدم التبرّع، فينقّح به موضوع قاعدة الاحترام- بناءً على القول بها- كما صرّح به الإمام الخميني هنا،
وإن كان ظاهره وجود إشكال في أصل هذا الاستصحاب.
حيث كان المفروض في البضاعة أنّ العامل إنّما هو وكيل ومأذون من قبل المبضع في التجارة
والاسترباح فهو أمين، وقد ثبت في محلّه عدم ضمان
الأمين إلّا مع التفريط.
والأخبار الواردة في ضمان العامل في تجارة مال
اليتيم إنّما هي متوجّهة إلى
الولي المقدم على
الإبضاع والاتّجار بمال اليتيم بالمباشرة أو
التسبيب بإبضاعٍ أو
إيجارٍ ونحوهما، لا العامل المستبضع الذي هو أجنبي عن اليتيم وأمواله، بلا فرق بين اطّلاعه بالحال وعدمه، والقول باستحقاقه الأجرة وعدمه. وقد صرّح بذلك جماعة من الفقهاء.
قال
الفيض الكاشاني : «العامل أمين لا يضمن ما يتلف إلّاعن تفريط أو تعدّي، وقوله مقبول في
التلف ؛ لأمانته، سواء في المضاربة- كما في النصوص- أو البضاعة كما في
الخبر : الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال:«ليس عليه غرمٌ بعد أن يكون الرجل أميناً»
».
ودليله النصوص الواردة في المضاربة، وقد علّق الضمان فيها على
المخالفة والتعدّي، مضافاً إلى قاعدة ضمان
اليد ، حيث تصير اليد بعد التعدّي والمخالفة عدوانية، لا قبله.
الموسوعة الفقهية، ج۲۰، ص۳۴۵-۳۵۶.