تعقيب الإقرار بما ينافيه
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
والبحث فيه تارة عن تعقيب
الإقرار بالاستثناء، واخرى عن تعقيبه بما عداه.
يجوز
الاستثناء ب (إلّا) وما في معناه في الإقرار
ولم يختلف فيه أحد،
بل ادّعي
الإجماع بقسميه عليه.
نعم، يعتبر فيه
الاتّصال العادي، فيغتفر التنفّس بين المستثنى والمستثنى منه والسعال ونحوهما ممّا لا يعدّ معه الاستثناء منفصلًا عرفاً.
وتارة يكون هذا الاستثناء من جنس المستثنى منه، فهذا هو الاستثناء المتّصل، واخرى يكون من غير جنسه، ويعبّر عنه بالمنقطع:
أمّا الأوّل فقد ادّعي الإجماع على جوازه.
وأمّا الثاني فقد نسب جوازه أيضاً إلى الأشهر بين الاصوليّين والفقهاء.
وقد ادّعى بعضهم عليه إجماع النحاة و
أهل اللغة،
لكن تردّد فيه بعضهم.
نعم، وقع الخلاف في كونه حقيقة أو مجازاً؟ والمحقّقون على الثاني؛
لعدم التبادر.
وكيف كان، فلو قال: (له عليّ عشرة إلّا درهماً) بالنصب كان إقراراً بتسعة دراهم ونفياً للدرهم. ولو قال: (إلّا درهم) كان إقراراً بالعشرة؛ لأنّ كلمة (إلّا) حينئذٍ بمعنى (غير) الصفتية، وهي ليست استثناءً بل صفة، فقد أقرّ بعشرة موصوفة بأنّها غير درهم.
ثمّ من الواضح أنّ الاستثناء من
الإثبات نفي- كالمثال السابق- ومن النفي إثبات، كقول القائل: (ليس لك عليّ إلّادرهمٌ أو درهماً)، و: (ما قتلت إلّازيداً) فهذا إقرارٌ بالنسبة للمستثنى بلا
إشكال . وهناك أبحاث اخرى بالنسبة للاستثناء، كجواز أن يكون الباقي بعد الاستثناء أقل من المستثنى، كأن يقول: (لك عليّ عشرة إلّا ثمانية دراهم)، وغيره ممّا لا يرتبط بالمقام، لا نتعرّض لها؛ إذ غاية ذلك أن يكون هذا
الاستعمال على غير الحقيقة، ولكن لا يخرجه ذلك عن الإقرار وحكمه.
وهو تارة في المقرّ به، واخرى في المقرّ له:
أمّا
الإضراب ب (بل) في المقرّ به فإن كان ما قبلها وما بعدها مطلقين- مختلفين أو متّحدين معيّنين- فحكمه أنّه لم يقبل إضرابه والزم بهما؛
لعموم (إقرار العقلاء)، وبما سيأتي من قاعدة (عدم سماع
الإنكار بعد الإقرار ) بعد أن كان كلّ منهما إقراراً مستقلّاً غير الآخر، ولا يدخل فيه.
فلو قال في المختلفين: (له عليّ قفيز حنطة، بل قفيز شعير) لزمه القفيزان (أي قفيز حنطة وقفيز شعير). وكذا لو قال في المعيّنين: (له هذا الدرهم، بل هذا الدرهم) لزمه الدرهمان،
وقد ادّعي نفي وجدان الخلاف في ذلك كلّه.
لكن نقل عن
ابن الجنيد أنّه أوجب ما بعد (بل) في المختلفين دون ما قبلها؛
ولعلّه نظراً إلى معلوميّة كون (بل) للإضراب من غير نكير، ولأنّ
الإنسان قد يسهو وقد يغلط فيستدرك ب (بل)، مضافاً إلى
أصل البراءة .
ونوقش فيه بعدم سماع
الإنكار بعد الإقرار، فيتمسّك بعموم إقرار العقلاء. نعم، لو دلّت القرائن على صدور ذلك منه غلطاً عمل عليه وحكم بالثاني.
وقد يشكل هنا بأنّ قول الاصوليّين: «لا ينعقد للكلام ظهور إلّابعد تمامه بما له من القرائن»، وقولهم: «إذا اتّصل بالكلام ما يحتمل القرينيّة فإنّه يمنع من
انعقاد أصل الظهور فضلًا عن حجّيته»، ربما يكون قد أغفل هنا، أو أنّهم يدّعون نفي القرينية في بل الإضراب مع قبول كونه من القرائن المتصلة. وهو بعيد جدّاً.
وقولهم بعدم نفوذ الإنكار بعد
الإقرار إنّما هو بعد فرض ثبوت الإقرار وتحقّقه، والكلام هنا في أصل ثبوته كما لا يخفى. ولو كانا مطلقين متّحدين كلّيين غير معيّنين، وكان أحدهما أكثر، لزمه الأكثر، فلو قال: (له عليّ قفيز، بل قفيزان) أو عكس فقال: (قفيزان، بل قفيز) لزمه القفيزان. وكذا لو قال: (له قفيز، بل قفيزان، بل ثلاثة) لزمه الثلاثة؛
نظراً إلى ضرورة ظهور اللفظ في
إرادة دخول الأقلّ في الأكثر، ولا أقلّ من الشكّ، و الأصل
البراءة من الزائد.
وقد يقال بتسليم هذا الظهور فيما إذا كان الأكثر متأخراً عن الأقل دون ما إذا كان بعكس ذلك؛ إذ ليس له هذا الظهور، إذ هو كالصريح في
الاستدراك . بل قد يقال بأنّ الظاهر منه الاستدراك في الصورتين معاً، فيكون قد أراد في الصورة الاولى أيضاً الإضراب عن الواحد وإثبات اثنين. نعم، الاثنين يشتمل على الواحد أيضاً بالطبع لا بدلالة اللفظ وإرادة المتكلّم والمقرّ. فالصحيح في وجه إثبات الأكثر في صورة تقدّم الأكثر هو عدم سماع الإنكار بعد الإقرار؛ أخذاً بإطلاق أدلّة نفوذ الإقرار، وأمّا صورة تأخّر الأكثر فيؤخذ به؛ لأنّه إقرار نافذ- سواء كان إضراباً أو لم يكن- لأنّه حيث كان إقراراً بالأكثر ممّا أقرّ به أوّلًا فلا يعدّ هذا الإضراب إنكاراً حتى لا يسمع. وإن لم يكن أحدهما أكثر لم يلزمه إلّا واحد، فلو قال: (له عليّ درهم، بل درهم) لزمه درهم واحد؛ نظراً إلى
الأصل بعد
احتمال إرادته من الثاني عين الأوّل، بمعنى أنّه أضرب ليستدرك، فذكر أنّه ليس عليه إلّاذلك، فأعاد الأوّل ولم يستدرك.
ويمكن توضيحه بوجه آخر: وهو أنّ الاستدراك إنّما يتصوّر فيما إذا كان الثاني غير الأوّل، إمّا عيناً أو في القلّة والكثرة، وهما منتفيان في المقام، فلا إضراب. لكن ذهب بعض الفقهاء إلى القول بلزوم الاثنين؛ نظراً إلى أنّ (بل) للاستدراك، ولا يصحّ استعمالها إلّامع مغايرة ما بعدها لما قبلها، فلا يصحّ (له درهم، بل درهم) إلّا بتأويل أنّ الأوّل غير الآخر، وإلّا كان الإضراب لاغياً.
ونوقش فيه بعدم تعيّن هذا التأويل؛
لإمكان تأويله بما سبق، والأصل براءة الذمّة.
ولو كان أحدهما مطلقاً والآخر معيّناً، وكانا متساويين قدراً وصنفاً لزمه المعيّن، كما لو قال: (له عليّ هذا الدرهم، بل درهم)، أو قال: (له درهم، بل هذا الدرهم) لزمه الدرهم المعيّن؛ لأنّ المطلق يحمل على المعيّن،
وهنا أيضاً احتمل بعضهم لزوم الاثنين.
وإن كان أحدهما أكثر وكان المعيّن هو الأقل تعيّن
إكمال المقرّ به بالمعيّن لزوماً وبغيره تخييراً، كما لو قال: (له عليّ هذا القفيز، بل قفيزان) لزمه المعيّن مع أحد ما شاء منهما.
ولو عكس فقال: (له عليّ قفيزان، بل هذا القفيز) فقد صرّح بعضهم بأنّه يلزم بالمعيّن وبغيره ممّا هو مصداق للمطلق، بل يمكن دعوى ظهور اللفظ في ذلك.
ولكن ذكر بعض آخر في الفرض الأخير دخول المطلق في الإقرار، وعدم تغيّر حكم الأكثر.
ونوقش فيه بمنع التفاوت بين تقديم المعيّن وتأخيره في
الإلزام به.
ولو كانا مختلفين بأن جمع بين المختلفين كميّة وتعييناً، كما لو قال: (له هذا القفيز من الحنطة، بل هذان القفيزان من الشعير) فأولى بعدم التداخل ويلزمه الثلاثة.
وأمّا الإضراب ب (بل) في المقرّ له، فقد ذكروا له صوراً وأمثلة، نتعرّض لأهمّها فيما يلي:
لو قال مقرّاً: (هذه الدار لفلان، بل لفلان) قضي بها للأوّل، وغرم المقِرّ للثاني قيمتها إن لم يصدّقه الأوّل بأنّها للثاني؛ لأنّه حال بينه وبينها- أي بين المقرّ له الثاني وبين العين المقرّ بها بإقراره للأوّل- فهو كالمتلف للعين، فيغرم قيمتها. وهذا قد صرّح به جماعة من الفقهاء،
بل نفى بعضهم وجدان الخلاف فيه،
بل يظهر من آخر الإجماع عليه حيث قال: «إنّ من قواعدهم أنّ كلّ إقرارين متساويي الدلالة على الإقرار صدرا من شخص واحد أهل للإقرار حكم عليه لا على غيره بموجب كلٍّ منهما لولا الآخر، ويقدّم الأوّل فيما يتعارضان فيه- وهو العين المقرّ به- ويكون (إقراره الأوّل) تفويتاً له منه على (المقرّ له) الثاني».
ولا فرق في ذلك بين أن يكون سلّمها هو للمقرّ له الأوّل أو الثاني أو الحاكم المستند لإقراره، أم لم يسلّمه أصلًا.
لكن نقل
العلّامة الحلّي عن ابن الجنيد أنّه قال: «إن كان المقرّ حيّاً سئل عن مراده وعمل عليه، وإن كان ميّتاً كان المقرّ لهما بمنزلة متداعيين لشيء هو في يد غيرهما، فيأخذه ذو البيّنة، ومع عدمها فالحالف، فإن حلفا جميعاً اقتسماه بينهما».
ونفى
الشهيد الأوّل عنه البعد؛
نظراً إلى أنّه قد يسهو، وقد ينسى، وقد يغلط، وقد يشكّ، و (بل) للإضراب من غير
ارتياب ، فرجوعه عن الأوّل إلى الثاني إمّا عن تحقيق أو تخمين، وهو سبب الإقرار لهما في كلام متّصل، فالمعلوم
انحصار الحقّ فيهما، أمّا تخصيص أحدهما فلا.
ونوقش فيه بأنّ احتمال السهو وغيره لا ينافي التعبّد بظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»،
إلّاأنّ الإقرار الثاني وقع بعد تعلّق حقّ الغير به، فلا ينفذ فيه في نفس العين، لكن لمّا كان ذلك من جهة إقراره الأوّل صار هو السبب في
الحيلولة ، نحوُ الشهادة التي رجع عنها.
واتّصال الكلام مع هذا الاحتمال لو أثّر لاقتضى
الاختصاص بالثاني الذي هو مقتضى رجوعه، بل واستقرّ عليه؛ ولذا لو اتّفق ملكيّته لها سلّمها للمقرّ له ثانياً.
لو قال: (هذه الدار لزيد، بل لعمرو، بل لخالد) فإنّه يدفع للأوّل الدار ولزمته
الغرامة لكلٍّ من الأخيرين كمال القيمة. نعم، لو قال: (بل لعمرو وخالد) لزمه قيمة واحدة تقسّم بينهما.
ولو قال: (لزيدٍ وعمروٍ، بل لخالدٍ) لزمه كمال القيمة لخالد،
ولكلّ من الأولين نصف العين بمقتضى الإقرار الأوّل.
ولو قال: (لزيد وعمرو بل ولخالد) دفع الثلث إلى خالد،
فالكلّ شركاء فيه.
واحتمل بعضهم أنّ لخالد النصف؛ نظراً إلى أنّ (بل) للإضراب، وهو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، والواو تقتضي التشريك، فوجب كونه مع أحدهما لا غير؛ ليحصل معنى التشريك وتتحقّق المغايرة،
فكأنّه قال المقرّ: (لزيد وعمرو، بل لزيد وخالدٍ). ونوقش فيه بأنّه يكفي في المغايرة حكمه أوّلًا بكونه للاثنين، ثمّ حكمه بكونه للثلاثة، وهذا هو ظاهر اللفظ، وتمحّل غيره تعسّف.
لو قال: (غصبت هذه الدار من زيد، بل من عمرو)، أو قال: (لا، بل من عمرو) فإنّ إقراره الأوّل لازم، وتكون الدار لزيد، ويغرم للثاني- وهو عمرو- القيمة؛
لأنّ الإقرار بالغصب من الشخص يستلزم الإقرار باليد الدالّة على الملكية، وأمّا القيمة فللحيلولة بين ما أقرّ به والمقرّ له الثاني وتفويته عليه بالإقرار الأوّل.
ولكن استشكل فيه العلّامة الحلّي؛
نظراً إلى أنّ الإقرار بالغصب ليس إقراراً بالملك لا مطابقة ولا تضمّناً ولا التزاماً ، فلا وجه للغرامة للثاني، بخلاف ما لو قال: (هذه الدار لزيد، بل لعمرو)؛ لظهور اللام في الملك.
ولذلك أيضاً أمثلة مختلفة، وهي:
لو قال: (غصبتها من زيد وغصبها زيد من عمر) فإنّه يلزمه- على رأي بعض الفقهاء- أن يدفع الدار إلى زيد ويغرم قيمتها لعمرو.
وأمّا لو قال: (غصبتها من زيد وهي لعمرو، أو هي ملك لعمرو) لزمه تسليمها إلى المغصوب منه؛ لاعترافه بالغصب منه المقتضي لوجوب الردّ إليه؛
لاستلزامه كون اليد شرعيّة.
وهل يضمن لمن أقرّ له بملكها؟ قال بعضهم: لا يضمن؛ للأصل مع عدم
التفريط فيه بإقراره للأوّل؛ لأنّ الإقرار الثاني إقرار بما في يد شخص لغيره، فلا يكون مسموعاً، كما لو كانت دار في يد غيره فأقرّ بها الخارج لآخر، وأنّه يجوز أن يكون في يد زيد بحقّ،
إجارة أو وصيّة أو
عارية ، فلا ينافي ملكيّة عمرو.
ولعلّ هذا الوجه بعينه جارٍ في الفرض الأوّل أيضاً؛ إذ بالإقرار الأوّل يصير ملكاً للأوّل، فيكون إقراره الثاني بمنزلة إقرار الخارج للغير، وهو شهادة غير نافذة. ولكن قال جماعة بالضمان، وأنّه يغرم للثاني القيمة؛ لأنّه صرّح بملكيّة الثاني وصدر منه ما أحال بين المالك وملكه فيضمن،
واحتمله العلّامة الحلّي بعد أن قال بعدم الضمان.
لو قال: (هذه الدار ملك لزيد، أو هي لزيد غصبتها من عمرو) فيحكم بأنّها لزيد؛
لسبق الإقرار بها له، وأمّا الإقرار بالغصب ثانياً فعلى القول بأنّه لا يغرم للثاني- كما سبق- فهنا أيضاً لا يغرم، وعلى القول الآخر يغرم للثاني القيمة.
وكذا الحكم لو عكس وقدّم الإقرار بالغصب بأن قال: (غصبت هذه الدار من زيد وهي لعمرو أو ملك له) في أنّه يدفع الدار إلى من أقرّ له أوّلًا بأنّه غصبها منه، وأمّا الغرامة للذي أقرّ له ثانياً- وهو عمرو- فهو مبني على القولين في الضمان وعدمه.
وربّما يقال هنا بأنّه لا يمكن تحميل المقِرّ مهما أقرّ بما هو أزيد من الواقع، ففي الصورة الاولى إذا ألزمناه بدفع الدار إلى زيد وقيمتها إلى عمرو نكون قد ألزمناه بما هو أزيد من الواقع بحيث يعلم عدم
اشتغال ذمّته به، لا سيّما وأنّه في كلامه الثاني قد شهد بغصب زيد من عمرو، وهذه تهمة منه لزيد وليست إقراراً، فكيف يلزم بعد ردّ العين أن يدفع- زيادةً عليها- القيمة؟ إنّ هذا معناه أنّه صار للإقرار موضوعية وأنّه لم يعد مجرّد طريق لإثبات الواقع. هذا كلّه
إضافةً إلى ما مرّ من أنّ بعض هذه الأبحاث يرجع إلى عمل القاضي بما يلزمه بمراجعة حيثيات الإقرار، وإلّا فكثير منها لا ينطبق في كلّ الحالات والأعراف واللغات.
وقد ذكروا هنا أمثلة ونماذج نذكر بعضها:
لو قال: (له عندي دراهم وديعة) قُبل تفسيره بالوديعة مطلقاً، سواء اتّصل كلامه أم انفصل، وسواء وافقه المالك أم خالفه.
والوجه في ذلك: أنّه مع الاتّصال لا يرفع هذا التفسير مقتضى الإقرار ولا ينافيه، فيقبل، وأمّا مع
الانفصال فلأنّ قوله: (عندي) يحتمل الوديعة وغيرها، فيكون التفسير بها تفسيراً للفظ ببعض محتملاته، مع
اعتضاده بأصالة البراءة.
وحينئذٍ تترتّب عليه أحكام
الوديعة من قبول ادّعاء التلف والردّ.
ولكن ظاهر كلام العلّامة الحلّي
اشتراط قبول التفسير- بالوديعة- بعدم مخالفة المالك.
ونوقش فيه بإطباقهم على قبول التفسير، سواء صدّقه المالك أم لا.
وصرّح
المحقّق النجفي بأنّه قد ثبت في محلّه تقديم قول مدّعي القرض على مدّعي الوديعة؛
مستدلّاً له بموثّق
إسحاق بن عمّار عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام في رجل قال لرجل: لي عليك ألف درهم، فقال الرجل: لا، ولكنّها وديعة، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «القول قول صاحب المال مع يمينه».
وموثّقه الآخر، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل استودع رجلًا ألف درهم فضاعت، فقال الرجل: كانت عندي وديعة، وقال الآخر: إنّما كانت لي عليك قرضاً، قال: «المال لازم له، إلّاأن يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة».
وظاهر بعض الفقهاء موافقة هذين الموثّقين لمقتضى الضوابط التي منها أصالة الضمان
بالاستيلاء على مال الغير،
فادّعاء الوديعة يحتاج إلى
الإثبات . وفصّل العلّامة الحلّي بين
الإقرار بالوديعة والإقرار بالأمانة، وكأنّه ناظر إلى
اقتصار الخبرين على الوديعة، ففرّق بينها وبين
الأمانة ، فيقبل تفسيره بالثاني دون الأوّل.
وزاد بعضهم: أنّ
الاعتراف بالوديعة يستلزم القبض، والأصل فيه الضمان؛ للخبر.
ونوقش فيه بأنّ الاعتراف بكونها أمانة أيضاً يستلزم الاعتراف بالقبض على معنى دخولها في قبضته واستيلائه، وعلى فرض أنّ الأصل فيه الضمان لا فرق بين دعوى الوديعة وغيرها، ممّا يندفع به الضمان.
فصّل ابن إدريس بين قوله: (له عليّ ألف درهم وديعة) فلا يقبل تفسيره؛ لأنّ لفظة (عليّ) للإيجاب و
الالتزام ، والوديعة غير لازمة له، ولا واجبة في ذمّته. وبين قوله: (له عندي ألف درهم وديعة) فيقبل منه تفسيره؛ لأنّ (عندي) كلمة غير موجبة ولا لازمة.
وكذلك قال بهذا التفصيل العلّامة الحلّي في
القواعد .
ونوقش في هذا القول بأنّ كلمة (عليّ) وإن اقتضت
الإيجاب ، فقد يكون لحقّ في ذمّة المقرّ فيجب عليه تسليمه بإقراره، وقد يكون بعين في يده- ولو وديعةً- فيجب عليه ردّها وتسليمها إلى المقرّ له بإقراره، فبأيّهما فسّره كان مقبولًا، كما لو قال: (عليّ ثوب لفلان) كان عليه أن يعيّنه من أيّ نوع شاء، فإذا عيّنه كان القول قوله.
وقال بعض الفقهاء: «إنّ كلمة (عليّ) لا تقتضي الثبوت في الذمّة؛ لأنّه كما يجوز أن يريد بها ذلك يجوز أن يريد بها صيرورتها مضمونة عليه بالتعدّي، أو يريد بها لزوم حفظها لذمّته، والتخلية بينه وبينها. وأيضاً فإنّ (عليّ) تقتضي كون المقرّ به حقّاً على المقرّ، وذلك يحتمل اموراً ووجوهاً متعدّدة، ولا صراحة فيه بكونه في الذمّة، والأصل البراءة ونقل الشيخ إجماعنا على أنّه إذا قال: (لفلان عليّ ألف درهم وديعة) يقبل منه ذلك».
وبناءً على ذلك لا فرق بين قوله: (له عندي ألف درهم وديعة)، وبين قوله: (له عليّ ألف درهم وديعة).
لو قال: (لفلان عليّ ألف) ثمّ دفع إليه ألفاً، وقال: (هذه التي كنت أقررت بها كانت وديعة)، فإن صدّقه المقرّ له فلا بحث، وإن كذّبه وقال: (هذه هي وديعة، ولي عليك ألف اخرى ديناً، وهي التي أردتها بإقرارك) كان القول قول المقرّ مع يمينه.
وقد نسب هذا القول إلى الأكثر؛
نظراً إلى الأصل، وإلى أنّ (عليّ) غير منحصر مدلولها في الثبوت في الذمّة؛ لاحتمال إرادة صيرورتها مضمونة عليه بالتعدّي وإن كانت عينها باقية.
ولو سلّم
انسياق الأوّل منها فهو تبادر إطلاقي يقبل فيه التفسير بخلافه الذي لم يخرجه عن حقيقته.
وقد مرّ خلاف
ابن إدريس في ذلك؛ إذ قال: الأظهر أنّه لا يقبل قوله في ذلك، ويلزمه ما أقرّ به؛ لأنّ لفظ (عليّ) للإيجاب و
الإلزام ، والوديعة غير لازمة له.
واحتمل العلّامة الحلّي أيضاً تقديم قول المقرّ له.
ونوقش فيه بأنّ كلمة (عليّ) وإن اقتضت الإيجاب إلّا أنّه لا يجب أن يكون لحقّ في الذمّة، بل قد يكون وديعةً في يده، فيجب ردّه وتسليمه إلى المقرّ له بإقراره، فبأيّهما فسّره كان مقبولًا.
وقال بعضهم في وجه ترجيح قول المقرّ: لعلّه أراد بكلمة (عليّ) وجوب حفظ الوديعة والتخلية بينها وبين المالك و
الإخبار عن هذا الواجب، ويحتمل أيضاً أنّه تعدّى فيها حتى صارت مضمونة عليه، فلذلك قال: (هي عليّ). وأيضاً فقد يستعمل (عليّ) بمعنى (عندي)، وفسّر بذلك قوله تعالى: «وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ»،
مضافاً إلى
أصالة براءة الذمّة من غير ما اعترف به.
لو قال: (لك في ذمّتي ألف) وجاء بها، وقال: (التي أقررت بها وديعة، وهذه بدلها) ففسّر كيفيّة كونها في ذمّته، ففي القواعد فيه احتمالان،
ورجّح
المحقّق الكركي قبول قول المقرّ؛
إذ لعلّها تلفت منه بتعدٍّ أو تفريط، فصحّ الإخبار عنها أنّها في ذمّته، وأنّ ما دفعه
بدل عنها.
وخالف
الشهيد الثاني في ذلك وقوّى عدم قبول قول المقرّ،
كما مرّ أنّه تردّد فيه العلّامة الحلّي؛
نظراً إلى أنّ العين لا تثبت في الذمّة، والأصل في الكلام الحقيقة.
ونوقش فيه بأنّه لو فسّر كلامه وقال: (كانت وديعة وهذه بدلها) طابق دعواه مع تفسيره، فيكون المراد أنّها كانت وديعة، ولكن تلفت تلف ضمان، فصار بدلها في الذمّة، فدفعه بدلًا عنها، وحينئذٍ يقبل تفسيره.
أمّا لو قال: (لك في ذمّتي ألف، وهذه هي التي أقررت بها، وقد كانت وديعة حين الإقرار) فصريح جماعة من الفقهاء أنّه لا يقبل قوله، ويلزمه ألف في الذمّة وألف اخرى وديعة؛ نظراً إلى أنّ ما في الذمّة لا يكون وديعة.
والفرق بين هذه المسألة والمسألتين السابقتين- وهما قوله: (له عليّ ألف)، و (له في ذمّتي ألف) وتفسيرهما بالوديعة، والاعتراف فيهما بأنّ الألف الذي يأتي به بدل الوديعة التي أقرّ بها- أنّه في الاولى لم يصرّح بكون المقرّ به في الذمّة، فلا ينافي كونه وديعة
ابتداءً .
وأمّا في الثانية فإنّه وإن صرّح بكونها في الذمّة المنافي لكونها وديعة، إلّاأنّه ادّعى أنّ الذي أحضره بدلها لا عينها، فرفع التنافي بتأويله وتفسيره. وأمّا في ما نحن فيه فقد جمع فيها بين وصفها بكونها في الذمّة وكونها وديعة من غير تأويل وتفسير؛ ولذا لم يسمع. والمجاز وإن كان ممكناً هنا بأن تكون قد تلفت بعد الإقرار، والذي أحضره بدلها، وأطلق عليه الوديعة باعتبار كونه عوضاً ومسبّباً عنها، إلّاأنّه لمّا لم يدّع المجاز لم يكن عن الحقيقة صارف؛ فلذا لا يقبل قوله.
====المثال السادس====
ولو قال: (له عليّ ألف درهم) ثمّ قال منفصلًا عن الإقرار: (كانت الألف التي أقررت بأنّها عليّ وديعة، وكنت أظنّها باقية فبانت تالفة قبل الإقرار من غير تعدٍّ ولا تفريط، فلا يلزمني ضمانها) فإنّه لا يقبل منه تفسيره الثاني، وهو أنّها: (بانت تالفة قبل الإقرار)؛ لأنّه مكذّب لإقراره الأوّل؛
إذ تلف الوديعة على وجه لا يضمن لا يجامع كونها عليه؛ لأنّ (عليّ) يقتضي صيرورتها مضمونة عليه لتعدّيه، فتفسيره بتلفها قبل الإقرار على وجه لا يوجب الضمان مناقض لذلك، فلا يسمع.
لكن قال الشهيد الثاني: «ولو قيل بقبول قوله في هذه المسألة أيضاً- كما في السابقة- كان وجهاً، بل هنا أولى؛ لأنّ قوله: (له عليّ ألف) كان مبنيّاً على الظاهر من أنّها موجودة يجب عليه حفظها، وكونها عنده كما سبق، وإنّما ظهر بعد
الإقرار تلفها قبله، فلا منافاة بين كلاميه إلّا على تقدير تفسير (عليّ) بكونها في الذمّة، ولعلّ إطلاقهم ذلك بناءً على أنّ الظاهر من (عليّ) هو هذا المعنى لا مجرّد وجوب الحفظ، وذلك المعنى لو سلّم كونه مجازاً فقد سمع منه دعوى المجاز فيما سبق».
ونوقش فيه بأنّ دعواه التلف قبل الإقرار منافٍ لقوله: (عليّ) بجميع معانيه الحقيقيّة والمجازيّة؛ ضرورة أنّه مع تلفها بغير تفريط ليس عليه حفظها ولا
التخلية بينها وبين مالكها، فضلًا عن دخولها في عهدته. وكون إقراره مبنيّاً على الظاهر لا ينافي الأخذ منه تعبّداً من هذه الجهة.
هذا كلّه لو ادّعى التلف قبل الإقرار، وأمّا لو ادّعى تلفها بعد الإقرار فصريح بعض الفقهاء أنّه يقبل قوله؛
لعدم التنافي بين إقراره الأوّل والتلف بعده، من دون حاجة إلى
إقامة البيّنة، ووجهه: أنّ قوله: (عليّ) مشترك بين الالتزام وغيره، والدعوى الاولى غير منافية له.
ولكنّ العلّامة الحلّي ذكر في القواعد أنّه يقبل قوله بالبيّنة.
ونوقش فيه بأنّ البيّنة على تلفها بعد الإقرار لا يرفع ضمانه المستفاد من إقراره الأوّل إذا كان الضمان بمعنى الالتزام، وإلّا فلو كان ما يعمّ وجوب الحفظ فلا حاجة إلى البيّنة على دعوى التلف.
الموسوعة الفقهية، ج۱۶، ص۹۶- ۱۱۱.