لواحق موانع الإرث
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
والمراد منها ما ينتفي به حقّ
الإرث لعدم توفّر
أركان الإرث أو مقتضيه. وهي بهذا المفهوم كثيرة، والعمدة منها امور: أ-اللعان، ب-الزنا، ج-الغيبة المنقطعة، د-الحمل، ه-
استيعاب الدين للتركة.
وهو رمي الزوج زوجته بالزنا ونفي الولد عنه على وجهٍ مخصوص. كأن يقول: «أشهد باللَّه أنّي لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا».
وإنّما أدرجوه في لواحق المنع لا في الموانع نفسها؛ لأنّ المنع فيه من حيث
انقطاع النسب والسبب، والحال أنّ الكلام في الموانع على تقدير ثبوتهما؛ إذ باللعان تنقطع الزوجية وينفى الولد عن
الأب فينتفي التوارث.
لكنّ
الانتفاء به تارةً يكون من الجانبين، كما لو قذف زوجته بالزنا فوقع اللعان بينهما لأجله، أو لأجل نفي الولد.
واخرى يكون من جانب واحد، كما لو وقع اللعان لنفي الولد ثمّ رجع واعترف به، فإنّ الولد حينئذٍ يرثه ولا يرثه الأب.
ويدلّ عليه قول الصادق عليه السلام : «فإن ادّعاه أبوه لحق به، وإن مات ورثه الابن ولم يرثه الأب».
وقد يشمله عموم
الإقرار أيضاً.
وكما أنّ
اللعان ينفي التوارث بينهما، كذلك ينفي التوارث بين الولد وبين من يتقرّب إليه بالأب، فلا يرثهم ولا يرثونه من غير خلاف بين الفقهاء؛
لانقطاع النسب شرعاً.
هذا فيما إذا لم يعترف الملاعن بعده، وأمّا لو اعترف به بعد ذلك وألحقه به فقد تقدّم أنّ
الابن يرث أبيه ولا يرثه هو.
لكن هل يتعدّى الحكم إلى من يتقرّب إليه بالأب أيضاً أم لا؟ في المسألة أقوال ثلاثة:
الأوّل: أنّه لا يرثهم ولا يرثونه، وهو المشهور،
بل ادّعي
الإجماع عليه؛
لانقطاع النسب باللعان بعد إقرار الأب أيضاً.
الثاني: أنّه يرثهم؛
لأنّ الإقرار به كالبيّنة في
إثبات النسب.
الثالث: أنّه يرثهم ويرثونه إن اعترفوا بالنسب وكذّبوا الأب في اللعان، وإلّا فلا.
اتّفق الفقهاء
على أنّ الزنا قاطع للنسب بين الولد وأبيه شرعاً؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»
فلا توارث بينهما، وقول الصادق عليه السلام: «أيّما رجل وقع على وليدة قوم حراماً ثمّ اشتراها فادّعى ولدها فإنّه لا يورث منه شيءٌ، فإنّ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر».
وكذا يقطع النسب بين الولد وامّه أيضاً إذا كان الزنا من الطرفين، فلا ترثه هي ولا أحد من أنسابها ولا يرثهم هو، وهذا هو المشهور،
بل ادّعي عليه الإجماع.
ويدلّ عليه
إطلاق قول
الإمام الصادق عليه السلام في صحيحة ابن سنان قال: كم دية ولد الزنا؟ قال: «يعطى الذي أنفق عليه ما أنفق عليه»، قلت: فإنّه مات وله مال من يرثه؟ قال: «الإمام».
نعم، ذهب
الشيخ الصدوق وابن الجنيد
و
الحلبي إلى أنّه يرث امّه وأقاربها وهم يرثونه.
واستدلّ له بعمومات التوارث بين الوالدين والولد وسائر الأقارب.
وأيضاً بالنصوص المصرّحة بأنّ ميراث ولد الزنا نحو ميراث
ولد الملاعنة ،
وردّ بأنّ العمومات قد خصّصت والنصوص ضعيفة أوّلًا، وموافقة للجمهور ثانياً، واحتمالها الزنا من قبل الأب دون
الامّ ثالثاً، ومعارضة للنصوص المعتبرة رابعاً.
المنع هنا بمعنى
إيقاف نصيب الوارث حتى يستبين
أمر المورّث أنّه حيّ أم ميت، ومرجع ذلك إلى عدم
إحراز شرط التوريث الذي هو تحقّق موت المورّث وتحقّق حياة الوارث عند موت المورّث، وكلا الأمرين مفقود هنا؛ لأنّ الغائب إذا فرضناه مورّثاً لم يحرز موته، وإذا فرضناه وارثاً لم يحرز حياته، فالبحث في مقامين:
اتّفق الفقهاء
على أنّ المفقود يتربّص بماله.
نعم، اختلفوا في مقدار
الانتظار والتربّص على خمسة أقوال:
الأوّل: يحبس ماله أربع سنين يطلب فيها في
الأرض ، فإن لم يوجد يقسّم ماله بين ورثته كما ذهب إليه بعض الفقهاء،
بل ادّعى بعضهم الإجماع عليه.
واستدلّ له ببعض الروايات الخاصّة:
منها: قوله عليه السلام: «المفقود يحبس ماله على الورثة قدر ما يطلب في الأرض أربع سنين، فإن لم يقدر عليه قسّم ماله بين الورثة».
الثاني: يحبس ماله عشر سنين، ثمّ يقسّم من غير طلب.
واستدلّ عليه بصحيحة
علي بن مهزيار عن
أبي جعفر الثاني عليه السلام الواردة في شراء دار
امرأة لها ابن وبنت، وغاب الابن وماتت المرأة، وادّعت البنت أنّ امّها باعت أشقاصاً من الدار وبقيت قطعة من الدار إلى جانب دار رجل وهو يكره أن يشتريها لأجل غيبة الابن، وقد سئل
الإمام عليه السلام عن حكم شراء تلك القطعة؟ فردّ الإمام عليه: أنّه «منذ كم غاب (الابن)؟» فأجاب: منذ سنين كثيرة، قال: «ينتظر به غيبة عشر سنين ثمّ يشتري...».
القول الثالث: التفصيل بين من انقطع خبره لغيبة أو لكونه مأسوراً، وبين من فقد في عسكر قد شهدت هزيمته وقتل من كان فيه أو أكثرهم، ففي الصورة الاولى ينتظر مدّة عشر سنين من غير طلب، وفي الصورة الثانية يكفي انتظار أربع سنين.
واستدلّ له بالجمع بين صحيحة علي بن مهزيار المتقدّمة وبعض الروايات المستند إليها للقول الأوّل.
قال
المحقّق النراقي : «والرواية وإن لم تدلّ على التفصيل الذي ذكره، إلّا أنّه يمكن أن يكون وجهه الجمع بينها وبين روايتي
سماعة وإسحاق».
القول الرابع: يدفع المال إلى ورّاثه الملاء
فإن جاء ردّوه عليه.
واستدلّ له بذيل رواية
إسحاق بن عمّار قال: سألته (أبا الحسن عليه السلام) عن رجل كان له ولد فغاب بعض ولده فلم يدر أين هو ومات الرجل، فكيف يصنع بميراث الغائب من أبيه؟ قال: «يعزل حتى يجيء»، قلت: فقد الرجل فلم يجئ، قال: «إن كان ورثة الرجل ملآء بماله اقتسموه بينهم، فإن هو جاء ردّوه عليه».
القول الخامس: يتربّص بماله حتى يثبت موته بالحجّة الشرعية من التواتر والبيّنة والخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم، أو
انقضاء مدّة لا يعيش مثله فيها غالباً، وهذا هو القول المشهور.
واستدلّ له بأصلي بقاء حياته وماله على ملكه من غير معارض،
ومعهما يشمله ما دلّ من العقل والنقل على المنع من التصرّف في مال الغير إلّا على الوجه الشرعي.
أمّا الروايات المستدلّ بها للأقوال الاخر، فقد ناقش فيها
المحقّق النجفي بأنّ رواية علي بن مهزيار- المتقدّمة في القول الثاني- شاذّة لم يعمل بمضمونها
أحد إلّا
الإسكافي ،
فهي ساقطة عن الاعتبار.
وكذا رواية إسحاق بن عمّار وسماعة المستدلّ بهما للقول الأوّل، فهما- مضافاً إلى
إعراض المشهور عنهما- معارضتان مع رواية اخرى لإسحاق بن عمّار
التي استدلّ بها للقول الرابع، فبالتعارض تسقطان عن
الاعتبار ، فلا يبقى مجال إلّا لهذا القول حيث استدلّ له بإطلاق المنع من التصرّف في مال الغير بعد تنقيح موضوعه باستصحاب بقاء حياة المفقود وماله على ملكيّته.
ثمّ قال: «ومن ذلك كلّه وغيره يعلم أنّ هذا القول أولى وأحوط وأبعد من التهجّم على الأموال المعصومة بالأخبار الموهومة المعارضة للُاصول القطعيّة التي منها
أصالة بقاء الحياة وعدم دخول التركة في ملك الورثة المؤيّدة بالنصوص الواردة في مجهول المالك»،
فإنّها دلّت على عدم جواز التصرّف في المال المجهول المالك وإبقائه حتى يصل إلى أهله، والظاهر عدم الفرق بين الميراث وبين غيره من الحقوق.
لكن يبدو أنّ هذه المناقشة غير تامّة؛ لأنّ الإعراض عن رواية ابن مهزيار غير ثابت بعد كونها جزء من الدليل للقول الثالث بالجمع بينها وبين غيرها كما قال المحقّق النراقي،
مضافاً إلى نسبة القول بمضمونها إلى الإسكافي بل وإلى
الشيخ المفيد أيضاً في بيع عقاره خاصّة وجواز ما عداها من سائر الأموال بشرط الملاءة،
جمعاً بينه وبين غيره ممّا دلّ على ذلك، فلم يتحقّق الإعراض.
وكذا لم يتحقّق الإعراض بالنسبة إلى روايتي إسحاق وسماعة بعد ذهاب جماعة من المتقدّمين والمتأخّرين
إلى القول بمضمونهما،
بالإضافة إلى أنّ التعارض إنّما يتحقّق فيما إذا لم يمكن الجمع بالإطلاق والتقييد، وهذا ممكن في المقام؛ لأنّ النسبة بين روايتي إسحاق عموم مطلق، حيث إنّ روايته المستدلّ بها للقول الرابع مطلقة لم يعيّن فيها مدّة التربّص والانتظار، بخلاف روايته الاخرى فيحمل إطلاقها على المقيّد، فهي واردة على
الاستصحاب أو حاكمة عليه فتكون النتيجة لصالح القول الأوّل. هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى لا منافاة بين مدلول رواية إسحاق بن عمّار ورواية علي بن مهزيار، حيث إنّ إحداهما مقيّدة في مدلولها بالفحص والطلب، والاخرى مطلقة في مدلولها، فيمكن القول بمضمونهما جميعاً، ولعلّ هذا هو تخريج فتوى
السيد الخوئي و
السيد الشهيد الصدر من التفصيل بين الفحص وعدمه فيكفي أربع سنين معه وينتظر عشر سنين مع عدمه، حيث قال السيد الخوئي: «المفقود خبره والمجهول حاله يتربّص بماله، وفي مدّة التربّص أقوال، والأقوى أنّها أربع سنين يفحص عنه فيها، فإذا جهل خبره قسّم ماله بين ورثته الذين يرثونه لو مات حين
انتهاء التربّص، ولا يرثه الذين يرثونه لو مات بعد انتهاء مدّة التربّص، ويرث هو مورّثه إذا مات قبل ذلك، ولا يرثه إذا مات بعد ذلك، والأظهر جواز التقسيم بعد مضيّ عشر سنوات بلا حاجة إلى الفحص».
وكذا السيد الشهيد في تعليقته على قول
السيد الحكيم (الأقوى أنّها أربع سنين يفحص عنه) قال: «ومع عدم الفحص ينتظر عشر سنين ثمّ يقسّم المال».
إذا مات شخص وله وارث غائب قد انقطع خبره ولا
أثر له في البلاد يوقف نصيبه من الميراث ويتربّص به
حتى يعلم موته بالبيّنة، أو تنقضي مدّة لا يعيش مثله فيها عادة، ويدفع إلى كلّ وارثٍ غيره أقلّ ما يستحقّ من نصيبه،
فإذا تبيّن أنّه حيّ أخذ نصيبه.
أمّا إذا تبيّن أنّه ميّت فهنا حالتان:
فتارة يعلم موته قبل موت مورّثه ففي هذه الحالة يدفع المال إلى ورثة مورّثه.
واخرى يتبيّن موته بعد موت مورّثه فحينئذٍ يدفع المال إلى ورثته الموجودين حين الحكم.
وأمّا إذا انتهت المدّة وبقي مجهول الحال فقد ذهب العلّامة في
التحرير - وتبعه غيره- إلى أنّ المال يُردّ إلى ورثة مورِّثه؛
للشكّ في حياته حين موت مورِّثه، فلا يورّث مع الشكّ.
ويعارض بأنّ الانتقال إلى غيره مشروط بموته قبله؛ للعلم بحياته أوّلًا، والعلم بالمشروط مشروط بالعلم بوجود الشرط، وهو منتفٍ؛ للشكّ في موته قبله، على أنّ الشرط في الأوّل مستصحب فيترتّب عليه مشروطه.
وذهب آخرون إلى أنّ المال يردّ إلى ورثة الغائب؛
لاستصحاب بقاء حياته إلى حين موت مورّثه المنقّح لموضوع إرثه منه، فيكون لورثته بعد موته.
وهو مانع عن
الإرث ، بمعنى أن يوقف نصيبه ويعزل
حتى يظهر حال الحمل، فإن انفصل حيّاً يرث نصيبه، وإن انفصل ميّتاً لا يرث، وينتقل المال إلى سائر الورثة؛ والسرّ في ذلك هو توقّف إرث المولود على انفصاله حيّاً ولا يكفي مجرّد تكوّنه في بطن امّه على ما سيأتي، وهذا الشرط لا يمكن إحرازه ما لم يولد الحمل.
فالمانعيّة في الحمل ترجع إلى عدم إحراز شرط التوريث.
ثمّ إنّ الحمل كما يُحجب عن الإرث إلى أن ينفصل كذلك يَحجب غيره من الوارث، فلو كان ممّن لا يرث مع الولد
كالأخ حجب مطلقاً، ولو كان ممّن ينقص نصيبه معه كالأبوين والزوجين يمنع عن الزائد.
ثمّ إنّ كون الحمل يرث ويورّث إذا ولد حيّاً موضع
اتّفاق الفقهاء؛
تبعاً للنصوص،
ويعرف حياته بالصياح أو بالحركة
الاختيارية وإن مات بعد ذلك.
وأمّا كيفيّة توريثه ومقدار ما يوقف له من النصيب فيأتي تفاصيله في ميراث الحمل.
وهو مانع من الإرث بناءً على منعه من
انتقال التركة إلى الورثة بالموت، وأمّا بناءً على القول بعدم منعه من ذلك وإنّما يمنع من التصرّف فيها إلى أن يوف الدين فلا يعدّ مانعاً. وعلى أيّ حال فقد دلّ الكتاب العزيز
على أنّ الإرث يكون بعد الدين.
ومن هنا ادّعي عدم الخلاف والإجماع على أنّه لا يجوز التصرّف في التركة حتى يستوفى الدين،
وإنّما الخلاف في أنّ المال هل ينتقل إلى الوارث، والدائن يستوفي حقّه منه أم يبقى بحكم مال الميّت؟ فيه قولان:
وهو المشهور بين الفقهاء
-:
أنّ التركة تبقى في حكم مال الميّت،
بل ادّعى بعضهم الإجماع عليه.
ويدلّ عليه- مضافاً إلى أصالة عدم الانتقال
- ظاهر الآية، وهي قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ»،
بناءً على أنّ ظاهر اللام في آيات الإرث هو التمليك، فمقتضى القيد توقّف ملك الوارث على الوفاء بالوصية والدين.
وظاهر كثير من الأخبار الواردة في موارد مختلفة- حيث يستظهر منها- توقّف الإرث على
براءة ذمّة الميّت من الدين،
كما في صحيحة
سليمان بن خالد عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام ، قال: «قضى
علي عليه السلام في دية المقتول: أنّه يرثها الورثة على كتاب اللَّه وسهامهم إذا لم يكن على المقتول دين».
ومثلها في الدلالة صحيحة
عبّاد بن صهيب عن
الإمام الصادق عليه السلام : في رجل فرّط في
إخراج زكاته في حياته، فلمّا حضرته الوفاة حسب جميع ما فرّط فيه ممّا لزمه من الزكاة، ثمّ أوصى أن يخرج ذلك فيدفع إلى من يجب له، قال: فقال عليه السلام: «جائز، يخرج ذلك من جميع المال إنّما هو بمنزلة الدين لو كان عليه، ليس للورثة شيء حتى يؤدّى ما أوصى به من الزكاة...».
أنّ المال ينتقل إلى الوارث كما ذهب إليه جمع من الفقهاء،
بل ربّما استظهر من بعضهم أنّه المشهور.
واستدلّ له بأنّ المعلوم من الشرع عدم بقاء المال بلا مالك كمعلومية عدم كونه في المقام للغرماء؛ للإجماع بقسميه وغيره، وعدم كونه للميّت؛ ضرورة كون الملك صفة وجودية لا تقوم بالمعدوم؛
لأنّ الميّت إمّا أن يراد به نفس الجسد، ولا يخفى عدم قابليّته للتملّك، وإمّا أن يراد به النفس الناطقة الباقية بعد الموت، وهو وإن تصوّر فيه الملك- نظير ما يقال في حصول الملكية للَّه تعالى في الوقف العام- إلّا أنّ ملاحظة أحكام الملك والمالك تكشف كشفاً قطعيّاً عن بطلانه؛
لما يستلزم من محاذير فقهيّة اتّفقوا على
بطلانها ، فيتعيّن كون المال للوارث.
واستدلّ له أيضاً باطلاقات الإرث، مثل قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ»،
وقوله تعالى: «إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ»،
حيث دلّ على سببيّة الهلاك لتملّك الوارث.
واجيب عنه بأنّه لا مانع من بقاء التركة على ملك الميّت، فإنّ الملكيّة أمر اعتباري يمكن جعله للميّت بشخصيّته الحقيقية أو بجعل شخصيّة اعتباريّة حقوقيّة له، ولهذا نظائر في الشريعة، بل في الميّت بالخصوص، حيث إنّه ظاهر روايات دية ما يقطع من جسد الميّت بعد موته من أنّها مملوكة للميّت، ولا تكون إرثاً، بل تصرّف في وجوه الخير عنه. وإطلاق أدلّة الإرث يمكن تقييدها بما بعد الدين والوصية.
وتظهر ثمرة الخلاف في مواضع:
منها:
النماء المتخلّل بين زمان الموت و
الأداء ، فعلى القول بالانتقال يكون للورثة خاصّة ولا يجب دفعه إلى الغرماء، وعلى القول بعدم الانتقال يكون كالأصل.
إلّا أنّ هذا مبنيّ على تعلّق حقّ الديّان بعين التركة فقط، لا بها وبما يتولّد منها من النماء، وقد يمنع؛ لأنّ نماء التركة تركة الميّت، فيتعلّق بها حقّ الديّان أيضاً.
ومنها: وجوب
تسليم الوارث العين إلى الديّان
على القول بعدم الانتقال، وعلى القول بالانتقال له الخيار بين تسليمها وبين الأداء من غيرها.
إلّا أنّه ممنوع حتى على القول ببقاء التركة على ملك الميّت، فإنّ العين لا تنتقل إلى الديّان وإن كان لهم فيها حقّ.
ومنها: وجوب فطرته لو كان عبداً على الوارث،
بناءً على الانتقال إليه، بخلافه على القول ببقائه على ملك الميّت.
ومنها: جواز بيع التركة قبل
الإيفاء ،
بناءً على انتقالها إلى الوارث.
إلّا أنّه ممنوع أيضاً؛ لأنّ حقّ الديّان قد يمنع عن بيعها حتى إذا قيل بانتقالها إلى الورثة.
بل هو منافٍ لما دلّت عليه الأخبار، وادّعي عليه الإجماع من عدم
استقلال الوارث بالتصرّف قبل أداء الدين.
ومنها: وجوب الزكاة على الوارث وعدمه
إذا كان مالًا زكويّاً وتحقّق موضوعها.
وهو أيضاً ممنوع؛
لاشتراط حقّ التصرّف من قبل المالك في العين الزكويّة خلال الحول وحقّ الديّان مانع عن ذلك.
كلّ ما تقدّم كان في الدين المستوعب.
وأمّا غير المستوعب ما قابل الدين حكمه يظهر ممّا تقدّم في الدين المستوعب؛ لأنّ الخلاف السابق مع ما له من الأدلّة يأتي هنا أيضاً.
وأما الفاضل عن الدين فلا خلاف بينهم
في تملّك الوارث له.
قال
المحقّق الحلّي : «وإن لم يكن مستوعباً انتقل إلى الورثة ما فضل».
ومثله عبائر غيره.
واستدلّ له
بظهور اللام في الآية
في
إرادة الملك المستقرّ بعد الدين والوصيّة،
فيمكن انتقال التركة إلى الوارث مع تعلّق حقّ الديّان بها.
واعترض عليه بأنّ الآية جعلت الإرث بعد الدين والوصية.
وأجاب عنه
الشيخ الأنصاري : «بأنّ الظاهر من الآية سوقها لبيان كيفيّة القسمة بعد كون مالكيّة الورثة و
استحقاقهم مفروغاً عنه، لا لتأسيس الحكم بأصل التملّك، فالمتأخّر عن الوصيّة والدين هي قسمة الإرث بين الورثة على النحو المذكور في الآيات، فالمراد أنّ الورثة لا يزاحمون الموصى له ولا الديّان».
ويمكن أن يجاب عنه أيضاً بأنّ هذا لو سلّم فهو بمقدار الدين والوصية لا أكثر، فلا وجه لمنع انتقال الفاضل إلى الورثة.
ثمّ إنّهم اختلفوا في جواز التصرّف في الفاضل عن الدين، فذهب جماعة منهم إلى جوازه؛
لأصالة تسلّط المالك على ملكه إلّا أن يثبت الحجر.
مضافاً إلى دلالة معتبرة
عبد الرحمن ابن الحجّاج عن
الإمام الكاظم عليه السلام : أنّه سئل عن رجل يموت ويترك عيالًا وعليه دين أ ينفق عليهم من ماله؟ قال: «إن كان يستيقن أنّ الذي ترك يحيط بجميع دينه فلا ينفق عليهم، وإن لم يكن يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال»». ونحوه رواية
أبي نصر البزنطي .
وذهب آخرون إلى عدم جواز التصرّف فيه حتى يؤدى الدين، كما في الدين المستوعب.
واستدلّ له بالأخبار المتقدّمة في الدين المستوعب الظاهرة في أنّ الورثة لا يملكون شيئاً إلّا بعد الأداء أو الضمان.
ولكن قد تقدّم عدم صحّة ذلك، وأنّ الفاضل ينتقل إلى الورثة بالموت فلا يصحّ المنع عن التصرّف من جهة عدم الملك.
واختار بعضهم جواز التصرّف لكن مع قيد ضمان الورثة أو وليّهم دين الغرماء.
واستدلّ له بأنّ الأخبار المتقدّمة النافية بإطلاقها جواز التصرّف قبل أداء الدين تقيّد بمعتبرة
زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث جاء في موضع منها: «أرى أن ليس للورثة سبيل على رقبة العبد، ولا على ما في يده من المتاع والمال إلّا أن يضمنوا دين الغرماء جميعاً فيكون العبد وما في يده للورثة».
إلّا أنّ هذه الرواية أيضاً أجنبيّة عن المقام؛ لأنّ الظاهر منها تحقّق عقد الضمان بين الورثة والديّان، وهو بحكم
الاستيفاء للدين من قبلهم، فيكون خارجاً عن البحث.
ومنشأ الخلاف هنا هو الخلاف في كيفيّة تعلّق حقّ الديّان بالتركة، فإن قيل بأنّهم يملكون من عين التركة أو ماليّتها الخارجيّة بمقدار دينهم كانوا شركاء في التركة الخارجيّة بنحو الشركة في العين أو الماليّة- وهي شركة عقلائيّة في المال الخارجي تختلف عن الشركة في العين الخارجيّة من حيث حصول الوفاء بدفع القيمة وعدم حقّ الشريك في المطالبة من العين- فلا يجوز للورثة التصرّف في التركة قبل وفاء الدين أو
الاستئذان من الديّان؛ لتعلّق حقّهم بالمال الخارجي بنحو الشركة، ولا يجوز لبعض الشركاء التصرّف بغير
إذن سائر الشركاء.
وإن قيل بتعلّقه بالتركة الخارجية بنحو الكلّي في المعيّن جاز التصرّف فيها بمقدار الفاضل لا أكثر، كما في سائر موارد انتقال بعض المال للغير بنحو الكلّي في المعيّن كبيع صاع من صبرة، فإنّه يجوز لصاحب الصبرة التصرّف فيها ما دام مقدار الصاع باقياً فيها.
وإن قيل بأنّ تعلّق حقّ الديّان يكون من قبيل حقّ
الرهانة المتعلّق بالعين الخارجيّة أيضاً وإن لم يكن بنحو التمليك بل بنحو الحجر ومنع المالك عن التصرّف- بل قيل:
إنّ هذا هو المشهور
- فإن كان هذا الحقّ متعلّقاً بتمام التركة لا بمقدار الدين فأيضاً لا يجوز التصرّف في شيء منها بلا إذنالديان، وإن كان بمقدار الدين لا أكثر- بنحو الكلّي في المعيّن- جاز التصرّف في الفاضل بمقداره لا أكثر.
وإن قيل بأنّ تعلّق حقّ الديّان يكون من قبيل
أرش الجناية المتعلّق برقبة العبد يأخذه المجنيّ عليه من العبد أينما انتقل جاز التصرّف مع انتقال الحقّ إلى التركة إذا نقلت إلى الغير أيضاً، وقد نسب ذلك إلى بعض الفقهاء.
وذهب
المحقّق الثاني إلى أنّه تعلّق مستقلّ حيث قال: «والأصحّ أنّ هذا تعلّق مستقلّ برأسه ليس من قبيل واحد منهما»،
وهو ظاهر صاحب الجواهر.
إلّا أنّه لا بدّ من توضيح أنّ هذا الحقّ المستقلّ والمغاير مع حقّ الرهانة والجناية هل يمنع عن التصرّف في التركة ولو بمقدار الفاضل أم لا، ولا ينبغي التشكيك في أنّ ظاهر الآية الدالّة على تعلّق حقّ الديّان بالتركة بالموت عدم جواز التصرّف فيها إذا كانت بمقدار الدين، فالقياس على حقّ الجناية في غير محلّه.
كما أنّ
استفادة الشركة في العين أو المالية الخارجيّة أو بنحو الكلّي في المعيّن من الآية المباركة غير واضح، فيكون مقتضى القاعدة جواز التصرّف من قبل الوارث في عين التركة بمقدار الفاضل لا أكثر. وهذا يطابق ما دلّت عليه الروايتان المتقدّمتان أيضاً.
لا يقال: إذا كانت الآية بلحاظ
استثناء الدين والوصية مجملًا من هذه الناحية، فحيث إنّه متّصل بدليل الإرث سرى
الإجمال إلى حقّ الورثة أيضاً، فلا يبقى دليل على انتقال التركة إليهم بنحو يجوز لهم التصرّف في شيء منها.
فإنّه يقال- مضافاً إلى
إمكان دعوى ظهور الاستثناء في الآية في أنّ اللازم حفظ حقّ الديّان والموصى له في
التركة لا أكثر فلا إجمال فيه-: إنّ أدلّة ولاية الوارث على التصرّف في التركة لا تنحصر في هذه الآية، بل هناك أدلّة اخرى منفصلة من آيات اخرى وروايات كثيرة تدلّ على كبرى الإرث و
ولاية الورثة على التصرّف في التركة وهي باعتبار
انفصالها عن هذه الآية لا يسري إليها الإجمال، فيمكن الرجوع إليها في الزائد عن حقّ الديّان و
الموصى له من التركة.
الموسوعة الفقهية، ج۹، ص۷۲- ۸۷.