نماذج من آيات الأحكام
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هنا يأتي نماذج من الآيات التي مضمونها الأحكام الفقهية والعقلية.
۱- تضمّنت بعض الآيات أحكاماً وقواعد فقهية كلّية، نحو قوله تعالى: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»،
وقوله:«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»،
وقوله: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ»،
وقوله: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»
في حين وردت آيات أخرى بيّنت أحكاماً فرعية نحو قوله تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ».
۲- بعض آيات الأحكام ورد فيها
الإرشاد إلى حكم العقل، كقوله تعالى:«وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»،
حيث إنّ وجوب الطاعة وقبح المعصية حكم عقلي عملي فتكون مثل هذه الآيات إرشاداً إليها- أي إخباراً عنها- لا
أمراً مولويّاً؛ وذلك إمّا على أساس قرينة أو ظهورٍ في سياقها أو على أساس برهان عقلي أقامه علماء الأصول
لإثبات استحالة الأمر المولوي بمثل هذه الأحكام، ويطلب تفصيلها في علم الاصول (عقل عملي).وفي قبال هذا النوع آيات الأحكام المولويّة، وهي التي تتضمّن أمراً أو نهياً أو تشريعاً آخر مولويّاً، أي بجعل
واعتبار حقيقي من المولى سبحانه.
ثمّ إنّ آيات الأحكام المولويّة تقسّم إلى آيات أحكام تأسيسيّة وآيات أحكام إمضائيّة، ويقصد بالأوّل ما يكون بلسان
التأسيس والجعل المستقلّ، كقوله تعالى:«أَقِيمُوا الصَّلاةَ»، وبالثاني ما يكون بلسان
الإمضاء لما عليه العقلاء أو العرف. وإن كان ثبوتاً لا بدّ من جعل الشارع لها أيضاً، كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، فالتقسيم إلى التأسيسي والإمضائي تقسيم بلحاظ عالم الإثبات والدلالة، بينما التقسيم إلى الإرشادي والمولوي تقسيم بلحاظ عالم الثبوت واللّب.
۳- تدلّ بعض الآيات على قواعد أصولية تدخل في عمليّة
استنباط الأحكام الفقهية، من قبيل:
أ- قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ»،
حيث استدلّ بها بعض الاصوليين على حجّية خبر الواحد يراجع في تفصيله المصطلح الاصولي (خبر الواحد).
ب- قوله تعالى: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»،
فقد استدلّ بها أيضاً على حجّية خبر الواحد. يراجع في تفصيله المصطلح الأصولي (خبر الواحد).
ج- قوله تعالى: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»،
فإنّ الاصوليّين استدلّوا بهذه الآية على إثبات البراءة الشرعية. يراجع في تفصيله المصطلح الأصولي (براءة).
د- قوله تعالى: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»،
حيث استدلّ به على
البراءة الشرعية أيضاً. يراجع مصطلح (براءة).
ه- قوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ»،
فإنّه استدلّ به على عدم حجّية
الظنّ . وكذا قوله تعالى: «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً»،
إلى كثير من الآيات الأخرى التي وقع
الاستدلال بها على قواعد أصوليّة عامّة تراجع في محالّها من علم
الأصول .
۴- يمكن الاستدلال ببعض الآيات في عمليّة استنباط النظم والنظريّات الفقهيّة العامّة التي تمثّل الأبنية التحتيّة الجامعة لشتات الأحكام الفقهيّة الفرعيّة المتناثرة، من قبيل:
قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ».
فهذه الفقرات تقرّر بوضوح نظرة الشريعة تجاه المشكلة الاقتصاديّة وأسباب نشوئها؛ فإنّ اللَّه تعالى قد حشد للإنسان في هذا الكون كلّ الموارد التي يحتاجها، ولكنّ
الإنسان هو الذي ضيّع على نفسه هذه الفرصة بظلمه وكفرانه، وهذان هما السببان الأساسيّان للمشكلة الاقتصاديّة.ومن قبيل: قوله تعالى: «وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ».
وقوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا».
وقوله تعالى: «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً».
فقد استدلّ بعض الفقهاء بهذه الآيات وأمثالها على إثبات شكل الحكم في
الإسلام ، القائم على أساس خطّي الخلافة والشهادة.
۵- يستفاد من بعض الآيات حكم واحد، كقوله تعالى: «وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»،
فإنّه ينبغي أن تُعطى المطلّقة شيئاً متعارفاً فيما لو كان
الطلاق قبل الدخول ولم يكن قد فُرض لها مهر.
وبعضها يستفاد منه أحكام عديدة، فقد حكى
الشيخ الطوسي القول بأنّ في البقرة خمسمائة حكم، ثمّ ذكر أنّه يستفاد من آية الدَّين
أربعة عشر حكماً:
الأوّل: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ».
الثاني: «وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ».
الثالث: «وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ».
الرابع: «فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ».
الخامس: «وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً»، أي لا يخون ولا ينقصه.
السادس: «فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ».
السابع: «وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ».
الثامن: «فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى».
التاسع: «وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا».
العاشر: «وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ»، أي لا تضجروا.
الحادي عشر: «ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها».
الثاني عشر: «وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ». الثالث عشر: «وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ».
الرابع عشر: «وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ».
ثمّ قال: وقال قوم: فيها واحد وعشرون حكماً، وذكرها.
بل قال
الفاضل المقداد - عند قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً»
-: «وفي الآية أحكام كثيرة:
۱- تحريم السكر؛ لكونه منافياً للواجب.
۲- نقضه الوضوء.
۳-
إبطاله الصلاة.
۴- وجوب قضاء صلاة وقعت حالة السكر.
۵- كون عدم التعقّل مبطلًا للطهارة، فيدخل فيه النوم
والإغماء والجنون.
۶- كون ذلك مبطلًا للصلاة.
۷- كون الجنابة ناقضة للوضوء.
۸- كونها مبطلة للصلاة.
۹- كونها موجبة للغسل.
۱۰- كون التيمّم لا يرفع حدث الجنابة، بل يبيح معها الصلاة.
۱۱-
احترام المساجد.
۱۲- منع السكران وشبهه من دخولها.
۱۳- منع الجنب من
الاستقرار فيها.
۱۴- تسويغ الجواز فيها.
۱۵- كون الغسل رافعاً لحكم الجنابة.
۱۶- عدم
افتقار الغسل إلى الوضوء؛ لقوله تعالى: «حَتَّى تَغْتَسِلُوا» وإلّا لكان بعض الغاية غاية وهو باطل.
۱۷- تسويغ التيمّم.
۱۸- كونه بحيث يقع بدلًا من كلّ واحد من الوضوء والغسل.
۱۹-
إباحته حال المرض للمتضرّر باستعمال الماء.
۲۰- كونه مباحاً إمّا للعجز عن الماء بالضرر من استعماله أو لعدمه.
۲۱- كون وجود الماء ناقضاً للتيمّم.
۲۲- كون الغائط ناقضاً للوضوء موجباً له.
۲۳- كون الجنابة تقع بمجرّد الوطء من غير
إنزال .
۲۴- وجوب كون التيمّم بالتراب.
۲۵- جوازه بالحجر الصلب؛ لصدق اسم الصعيد عليه.
۲۶- وجوب كون الصعيد طاهراً.
۲۷- وجوب كونه مباحاً.
۲۸- وجوب مسح الوجه واليدين.
۲۹- كون الوجه يراد به بعضه؛ لمكان الباء عند القائل بذلك، وكذا اليد لعطفها على الوجه.
۳۰- وجوب
الابتداء بمسح الوجه؛ لفاء التعقيب.
۳۱- وجوب
الموالاة إن قلنا: الأمر للفور».
۶- توجد بعض الآيات وردت في بعض الأحكام ثمّ نسخت بعد ذلك، كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»،
فقد أمرت الآية بالتصدّق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأوجبت ذلك على الموسرين، وأمّا المعدَمُون، الذين لا يجدون شيئاً، فقد رخّص لهم. ثمّ نُسخت بالآية التي تليها، وهي قوله تعالى: «أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ»،
فإنّ المؤمنين تركوا مناجاته صلى الله عليه وآله وسلم خوفاً من بذل المال بالصدقة، فلم يناجه منهم أحد إلّا عليّ عليه السلام، وقد ورد بذلك عدّة روايات من طرق الفريقين.
۷- ثمّة آيات يتمّ الاستدلال بها على حكم شرعي بعد ضمّها إلى غيرها، من قبيل قوله تعالى: «وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ...» الدالّ على كون
الإرضاع عامين، فإذا ضمّ إلى قوله تعالى: «وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً...»
الدالّ على كون مجموع
مدّة الحمل ومدّة الرضاع ثلاثين شهراً، استفدنا
إمكان كون الحمل ستّة أشهر، وهو أقلّ الحمل؛ وقد وقع هذا الاستدلال
لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
۸- تتمّ دلالة بعض الآيات على الحكم الشرعي بناءً على بعض الوجوه في تقريب الاستدلال، كما ذكر ذلك
المحقّق الأردبيلي قدس سره حيث بيّن وجه الاستدلال ببعض آيات سورة
الفاتحة على بعض الأحكام مبتدئاً بقوله تعالى: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» إلى قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ...»،
حيث ذكر إمكان الاستدلال
بالبسملة على رجحان
التسمية عند كلّ فعل إلّا ما أخرجه الدليل، بل يمكن الاستدلال بها على وجوب ذلك إلّا ما وقع الاتّفاق أو قام دليل آخر على عدمه. ونحو ذلك الاستدلال بقوله تعالى:«الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» على رجحان قولها عند كلّ فعل.وقوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ»، فإنّ الظاهر أنّ المقصود هو التخصيص بالعبادة، أي العبادة
والإخلاص فيها، وهي النيّة، فيفهم وجوبها، فيحرم تركها
والرياء بقصد غيره تعالى بالعبادة.
وقوله تعالى: «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» يدلّ على عدم جواز الاستعانة في العبادة بغيره تعالى، بل في شيء من الأمور إلّا ما أخرجه الدليل، والأوّل أظهر، والثاني أعمّ. فعلى الأوّل يدلّ على عدم جواز
التولية في العبادات، مثل الوضوء والغسل، بل على عدم جواز التوكيل في سائر العبادات، وعلى عدم جواز الاستعانة في الصلاة
بالاعتماد على الغير، مثل
الآدمي والحائط قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً وغير ذلك ممّا لا يحصى. وعلى الثاني يدلّ عليها وعلى عدم
الاستعانة بغيره تعالى في شيء من الأمور حتّى السؤال.
وقوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» يدلّ على رجحان طلب الخير من اللَّه تعالى، سيّما أصل الخير وأساسه، وهو الصراط المستقيم.ثمّ أشار الأردبيلي إلى أنّ في نظم السورة دلالةً ما على طريق تعليم الدعاء، وهو كونه بعد التسمية والتحميد والثناء والتوسّل بالعبادة.
۹- تعرّضت بعض الآيات إلى أدب التعامل مع
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ»،
فقد نهت هذه الآية المؤمنين عن أن تكون أصواتهم أعلى من صوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند مخاطبته، بل نهت عن مطلق
الجهر بالصوت مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّ فيه إساءة أدبٍ.
۱۰- إنّ آيات الكتاب الكريم بيّنت مختلف الأحكام المرتبطة بجوانب مختلفة في نظام الحياة، فقد تكفّلت بعض الآيات ببيان العلاقات الاجتماعيّة بين المؤمنين، ورسمت الحدود للمجتمع الإسلامي، والأصول التي يبنى عليها
التعامل بين أبنائه، كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ».
فذكرت الآية جملة من الأحكام:
منها: حرمة الظنّ السيئ بالمؤمن، بمعنى أن لا يرتّب على ذلك
أثراً في تعامله معه،
كإهانة المظنون به، وقذفه، وغير ذلك من الآثار السيّئة المحرّمة.وكذلك حرمة التجسّس
والاطّلاع على أمور الآخرين وتتبّع عيوبهم.وأيضاً تعرّضت الآية إلى حرمة الغيبة، وبيّنت قبح ذلك.
۱۱- أشارت مجموعة من الآيات إلى ظاهرة
النفاق في المجتمع الإسلامي، وبيّنت كيفيّة التعامل مع المنافقين حسب الظروف والحالات المختلفة، مثلًا قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً»،
فالآية الكريمة تأمر بعدم معاقبتهم، وانتهاج طريق الوعظ والنصح لهم، مشفوعاً بالتهديد بالعقاب الشديد إن لم ينتهوا عمّا ينطوون عليه من النفاق،
في حين نجد الموقف مختلفاً عند قوله تعالى: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا»،
فقد ورد الأمر بمواجهتهم بغلظة في حالة عدم
ارتداعهم عن
الإخلال بالنظام وترويج الإشاعات المشوّشة للرأي العامّ؛ فإنّ النفي والتبعيد- بل القتل-
بانتظارهم .
بل يمكن القول بأنّ الآيات التي ذكرت أوصاف المنافقين كما في سورة (المنافقون) إنّما كانت بصدد تحديد وتشخيص هذا العنوان الذي يترتّب عليه بعض الأحكام، وعليه فيمكن
إدراجها ضمن آيات الأحكام أيضاً.
۱۲- لقد ثبّتت بعض الآيات اسساً ومبادئ عامّة قد لا يتبادر إلى الذهن في الوهلة الأولى كونها من الأحكام الفقهيّة، إلّا أنّه يمكن أن ترتّب عليها بعض الآثار العمليّة المؤثّرة في تحديد
الاتّجاه العامّ للشريعة تجاه جملة من المسائل، نظير قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»؛
إذ وضعت الآية أساساً للتعامل ومعياراً للتفاضل بين الناس، فليس هو الفارق التكويني والاختلاف الظاهري، بل الملاك هو مقدار ما يتحلّى به
الإنسان من قيمة جوهرية وحقيقيّة ألا وهي التقوى.
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۳۹-۴۷.