استدامة اللبث في المسجد للاعتكاف
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ذكر
الفقهاء من جملة شرائط
الاعتكاف استدامة
اللبث في
المسجد مادام معتكفاً، فلو خرج منه ولو قليلًا بغير الأسباب المبيحة له أو خرج لعلّة فمكث خارجاً لغير علّة بطل اعتكافه؛ لأنّ الاعتكاف هو اللبث، ولا يتحقّق ماهيّته مع الخروج.
وقد نفي عنه الخلاف،
بل ادّعي عليه
الإجماع بقسميه.
منها: ما رواه
داود بن سرحان عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: «ولا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد الجامع إلّا لحاجة لابدّ منها».
ومنها: رواية
عبد اللَّه بن سنان عنه عليه السلام أيضاً، قال: «ولا يخرج المعتكف من المسجد إلّا في حاجة».
ومنها: ما عن داود بن سرحان قال: كنت
بالمدينة في شهر
رمضان فقلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّي اريد أن أعتكف فماذا أقول؟
وماذا أفرض على نفسي؟ فقال: «لا تخرج من المسجد إلّا لحاجة لابدّ منها، ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى مجلسك».
وغيرها من الروايات.
ولا فرق في
بطلان الاعتكاف لو خرج بغير الأسباب المبيحة له بين العالم بالحكم
والجاهل به،
قاصراً كان أو مقصّراً.
أمّا الجاهل المقصّر فلأنّه عامد على فرض تقصيره في التعلّم.
وأمّا الجاهل القاصر فمع انكشاف الخلاف وارتفاع الجهل لا مناص من
الإعادة ؛ إذ
الاجتزاء بالناقص عن الكامل يحتاج إلى الدليل، ولا دليل إلّا في خصوص
الصلاة فيما عدا
الأركان بمقتضى حديث (لا تعاد).
وحيث لم يرد مثل هذا الدليل في الاعتكاف كان اللازم الحكم
بالفساد لدى انكشاف الخلاف.
وعلى أيّ حال، لا فرق في اللبث بين أنواع الكون من القيام والجلوس والنوم والمشي ونحو ذلك، فاللازم الكون فيه بأيّ نحو كان.
ولو تعذّر
إتمام اللبث في المكان الذي اعتكف فيه لخروجه عن قابليّة اللبث فيه بأحد الأسباب، قال
المحقق النجفي :
«احتمل
الاكتفاء باللبث في غيره، بل ربّما قيل به، وهو مشكل. ولو زال المانع احتمل البناء، والأقوى
الاستئناف مع فرض
الوجوب ».
ويترتّب على
استدامة اللبث امور على ما يأتي.
اختلف الفقهاء في أنّ الخروج المبطل للاعتكاف يختصّ بالخروج بجميع البدن أو يشمل الخروج ببعض البدن.
ذهب بعضهم إلى الأوّل؛
وعلّلوا ذلك بأنّ المدار على صدق اللبث فيه وخروج البعض لا ينافي اللبث.
قال المحقّق النجفي: «ينساق من الأدلّة أنّ المنافي الخروج بجملته لا بعضو من أعضائه».
وقال
المحقّق الحلّي : «يجوز أن يخرج رأسه ليرجل شعره ويده وبعض أطرافه لما يعرض من حاجة إلى ذلك؛ لأنّ المنافي للاعتكاف خروجه، لا خروج بعضه، وقد روى الجمهور عن
عائشة : أنّ
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يدني إليّ رأسه لُارجّله وهو معتكف، وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإنسان».
وقال
الشيخ جعفر كاشف الغطاء :
«يعتبر فيه أن لا يخرج من البدن قدر معتدّ به كنصفه وثلثه، أمّا ما لا يعتدّ به من بعض الأطراف فلا بأس بخروجه وإن خالف الاحتياط. وروي
إخراج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأسه للتنظيف».
واختار
الشهيد الثاني القول الثاني،
والشهيد الأوّل استثنى خروج الرأس فقط، حيث قال: «وبعضه ككلّه في
الإخراج ، إلّا أن يخرج رأسه ليغسل
تأسّياً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم».
ذهب المشهور إلى عدم بطلان الاعتكاف لو خرج من المسجد
نسياناً ،
بل نفى عنه الخلاف
المحقق النجفي .
قال الشهيد الثاني: «هذا إذا لم يطل الزمان بحيث يخرج عن كونه معتكفاً، وإلّا بطل وإن انتفى
الإثم ، وحيث لايبطل يجب عليه المبادرة حين الذكر، فلو أخّر لحظة
اختياراً بطل».
والسيد العاملي بعد نقل كلام الشهيد قال: «ولا بأس به».
واختار
السيد الخوئي القول بالبطلان، حيث قال: «بل الأقوى البطلان، فلو اتّفق مثل ذلك في اعتكاف واجب، إمّا
بإجارة أو
نذر ونحوهما وجبت الإعادة، كما تجب هي أو
القضاء لو اتّفق ذلك في الصلاة فيما إذا كان المنسي من الأركان».
وقد استدلّ
لقول المشهور تارة بانصراف دليل النهي عن الخروج عن مثله حيث لا يصدر الفعل منه عن اختيار والتفات.
ونوقش فيه بأنّ
الناسي يصدر عنه الفعل عن
إرادة واختيار، غايته أنّه مستند إلى النسيان، فلا فرق بينه وبين ما يصدر عن الملتفت في أنّ كلّاً منهما مشمول للإطلاق،
فالانصراف ممنوع جدّاً.
واخرى
بحديث رفع النسيان
الوارد
بسند صحيح، بدعوى أنّ معنى رفعه فرض الفعل الصادر عن الناسي في حكم العدم وكأنّه لم يكن، ومرجع هذا الرفع في عالم
التشريع إلى رفع الحكم المتعلّق به لولا النسيان، وعليه فالخروج الصادر عن المعتكف نسياناً في حكم العدم، أي لا يترتّب عليه أثره وهو البطلان، فإذا كان البطلان مرفوعاً بمقتضى الحديث صحّ الاعتكاف بطبيعة الحال.
ويندفع بأنّ
الصحة والبطلان بالإضافة إلى الواقعيّات من الأحكام العقليّة التي لا تكاد تنالها يد
الجعل التشريعي لا
وضعاً ولا
رفعاً ؛ إذ هما من الامور التكوينيّة المنتزعة من مطابقة المأتيّ به مع المأمور به وعدمها، فلا معنى لرفع البطلان بحديث النسيان، وعليه فلابدّ وأن يكون المرفوع إمّا مانعيّة الخروج الصادر نسياناً أو جزئيّة اللبث في
المسجد حال الخروج المستند إلى النسيان، حيث إنّ الواجب هو مجموع اللبثات والمكثات على سبيل الارتباط من أوّل اليوم الأوّل إلى آخر اليوم الثالث، فتكون الجزئيّة مرفوعة عن بعضها في بعض الأحوال، فالذي يعقل من رفع الأثر أحد هذين، وحيث إنّ الجزئيّة والمانعيّة كالشرطيّة من الأحكام الوضعيّة التي لا تكون مستقلّة بالجعل إلّا بتبع منشأ
الانتزاع وضعاً ورفعاً، فمعنى تعلّق الرفع بهذه الامور تعلّقه بمناشئ انتزاعها، فرفع الجزئيّة عن اللبث مرجعه إلى رفع الأمر المتعلّق بالمركّب منه، كما أنّ معنى رفع المانعيّة عن الخروج رفع الأمر المتعلّق بالمقيّد بعدمه، وعليه فإذا كان هذا الأمر مرفوعاً فبأيّ دليل يثبت تعلّق الأمر بالباقي ليحكم بصحّته بعد أن لم يكن شأن الحديث إلّا الرفع دون الوضع؟! وعلى الجملة: لا يترتّب على النسيان ما عدا المعذوريّة في ترك الجزء أو
الإتيان بالمانع بمقتضى
حديث الرفع ، وأمّا صحّة الباقي ليجتزى به عن الواقع لدى تبدّله بالذكر فلا يمكن إثباتها بدليل، وإن نسب ذلك إلى المشهور.
لو اكره على الخروج فلا يبطل اعتكافه، إلّا أن يطول الزمان على وجه يخرج عن كونه معتكفاً.
وعلّلوا ذلك بأنّ
الإكراه من مصاديق
الاضطرار حقيقة، غايته أنّ الضرورة في مورده نشأت من توعيد الغير لا من الامور الخارجيّة كما في سائر موارد الاضطرار، ولا فرق بين المنشأين فيما هو المناط في صدق الاضطرار عرفاً، فكما يصدق الاضطرار والحاجة إلى الخروج التي لابدّ منها فيما لو كان له مال خارج المسجد في معرض
الحرق أو
الغرق ، كذلك يصدق مع توعيد الغير بالإحراق أو الإغراق لو لم يخرج، وعليه فتشمله الأدلّة الواردة في صورة الاضطرار إلى الخروج.
وصرّح جملة من الفقهاء بأنّ الخروج مبطل، طوعاً خرج أو كرهاً.
واستدلّ عليه بأنّ الاعتكاف لبث في المسجد، فيكون الخروج منافياً له.
واجيب عنه بأنّ المنافي له إنّما هو الخروج الاختياري، وأمّا
الإخراج منها كرهاً فلا دليل على إبطاله، وليس كلّ منافٍ للّبث موجباً للبطلان؛ لعدم الدليل عليه.
إذا خرج اضطراراً لضرورة دعته إليه فلا إشكال ولا خلاف في عدم كونه مبطلًا؛
لدلالة عدة
روايات صحيحة على ذلك، منها: صحيح
داود بن سرحان قال
الإمام الصادق عليه السلام فيه: «... لا تخرج من المسجد، إلّا لحاجة لابدّ منها».
وغيره.
نعم، هنا بحث في أنّ الحاجة هل يعتبر فيها بلوغها حدّ الضرورة واللابدّية أو أنّ الأمر أوسع من ذلك؟ يأتي الكلام فيه إن شاء اللَّه تعالى.
اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز الخروج من المسجد للُامور الضروريّة
شرعاً أو عقلًا أو
عادة ،
بل ادّعي عليه
الإجماع .
ويستدلّ على ذلك بقول الإمام الصادق عليه السلام في رواية
عبد اللَّه بن سنان :
«لا يخرج المعتكف من المسجد إلّا في حاجة».
ولأنّ الاعتكاف هو اللبث، فإذا خرج بطل الإسم.
وهناك موارد نُصّ على جواز الخروج لأجلها، فيجوز الخروج لها من دون أن يقطع الاعتكاف أو يفسده، وهي كما يلي:
ذكر غير واحد أنّه يجوز للمعتكف الخروج من المسجد لقضاء الحاجة من
بول أو
غائط ،
بل ادّعي عليه الإجماع.
وعللّ ذلك بأنّ هذا ممّا لابدّ منه، ولا يمكن فعله في المسجد، فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه لم يصحّ لأحد أن يعتكف. وبأنّ
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتكف، ومن المعلوم أنّه كان يخرج لقضاء الحاجة.
ويستدلّ عليه أيضاً
بالأخبار :
منها: ما عن عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «ليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلّا إلى
الجمعة أو
جنازة أو غائط».
ومنها: ما ورد عن داود بن سرحان قال: كنت بالمدينة في شهر رمضان فقلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّي اريد أن أعتكف فماذا أقول؟ وماذا أفرض على نفسي؟
فقال: «لا تخرج من المسجد إلّا لحاجة لابدّ منها».
هذا إذا لم يطل مكثه، أمّا إن طال مكثه بعد ذلك فسد اعتكافه.
وقد أوجب بعض الفقهاء تحرّي أقرب الطرق إلى موضع قضاء الحاجة، ونحوه يجري في غيره.
قال
العلّامة الحلّي : «لو كان إلى جانب المسجد سقاية خرج إليها إلّا أن يجد غضاضة، بأن يكون من أهل
الاحتشام (أي
الاستحياء )
فيجد المشقّة بدخولها لأجل الناس، فعندي هاهنا يجوز أن يعدل عنها إلى منزله وإن كان أبعد»، ثمّ قال: «لو بذل له صديق منزله- وهو قريب من المسجد- لقضاء حاجته لم يلزمه
الإجابة ؛ لما فيه من المشقّة بالاحتشام، بل يمضي إلى منزله».
وربّما ظهر من جماعة الميل إليه.
لكن استشكل فيه
المحدث البحراني بأنّه تقييد لإطلاق النصّ بغير دليل، والتعليل بالغضاضة ونحوها لا يصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.
ونوقش فيه: أنّ مرجع هذا التعليل إلى ما علم من نفي الحرج في الدين وسهولة الملّة وسماحتها. ولا فرق بين البعيد والقريب ما لم يخرج عن مسمّى الاعتكاف.
صرّح بعض الفقهاء بجواز الخروج لحاجة أخيه
المؤمن ؛ لأنّه طاعة، فلا يمنع الاعتكاف منه؛
استناداً إلى ما رواه
الصدوق عن
ميمون بن مهران قال: كنت جالساً عند
الحسن بن علي عليهما السلام فأتاه رجل فقال له: يابن
رسول اللَّه إنّ فلاناً له عليّ مال ويريد أن يحبسني، فقال: «واللَّه ما عندي مال فأقضي عنك»، قال: فكلّمه فلبس عليه السلام نعله، فقلت له: يابن رسول اللَّه أنسيت اعتكافك؟ فقال: «لم أنس ولكنّي سمعت أبي عليه السلام يحدّث عن (جدّي) رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: من سعى في حاجة أخيه
المسلم فكأنّما عبد اللَّه عزّوجلّ تسعة آلاف سنة
صائماً نهاره قائماً ليله».
فإنّ هذه الرواية صريحة في المطلوب.
لكن قد نوقش فيها سنداً
بالإرسال ، وجهالة الراوي، وضعف الطريق،
فلا تصلح لتخصيص الأخبار المتضمّنة لإطلاق المنع من الخروج.
يستفاد من مطاوي كلمات بعض الفقهاء أنّه يجوز الخروج من المسجد
للأكل والشرب .
وذهب بعضهم
إلى جواز الخروج للأكل إن كان فيه غضاضة ويكون من أهل الاحتشام، بخلاف الشرب؛ إذ لا غضاضة فيه ولا يعدّ تركه من المروّة، ولم يستبعد ذلك بعض المعلّقين.
وأمّا الخروج لشراء المأكول وتحصيل المشروب فإنّه يجوز إذا لم يكن له من يأتيه بهما،
وادّعي عليه
الإجماع ؛ لأنّ الحاجة تدعو إليه، والضرورة ثابتة فيه، فجاز كغيره من الضروريات.
يجوز الخروج
للاغتسال من
احتلام الجنابة أو
الاستحاضة أو
مسّ الميّت ،
بل ادّعي عليه الإجماع.
وأمّا الأغسال المندوبة فصرّح عدّة من الفقهاء بعدم الجواز لها.
وأطلق بعض جواز الخروج للاغتسال من غير تقييد بالواجب
والمندوب .
ويُستظهر من كلام
المحقق النجفي الميل إلى جواز الخروج للأغسال المندوبة، واستدلّ له بعموم ما دلّ على الحثّ عليه في الجمعة
ونحوها، وإن كان بينهما تعارض العموم من وجه، لكن قد يؤيّد ذلك بما دلّ على الخروج للحاجة المتعلّقة به وبغيره؛ ضرورة إطلاق الأدلّة جواز الخروج لها، ولا حاجة إلى تخصيصها بالغير، بل كما أنّه لا حاجة إلى إرادة خصوص
الغائط والبول منها.
ولو أمكن الغسل في المسجد على وجه لا تتعدّى إليه
النجاسة ، قال في
المدارك :
«فقد أطلق جماعة المنع من ذلك؛ لما فيه من
الاستهانة المنافية لاحترام المسجد، ويحتمل الجواز كما في
الوضوء والغسل المندوب».
واختار ثاني الشهيدين الجواز.
وقال
السيد اليزدي والسيد الأصفهاني :
هو الأحوط.
يجوز لمن اعتكف في مسجدٍ لا تقام فيه الجمعة الخروج لصلاة الجمعة، ولا يفسد اعتكافه؛
لما ورد عن
عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «ليس للمعتكف أن يخرج من المسجد، إلّا إلى الجمعة أو جنازة أو غائط».
ومن جملة الموارد التي تبيح الخروج من المسجد أن يخرج المعتكف لعيادة المرضى من
المؤمنين ،
ونفي عنه الخلاف،
بل هو قول علمائنا أجمع،
سواء اشترط ذلك في اعتكافه أم لا، وسواء كان ممّا يعدّ من الضروريّات العرفيّة أم لا، وسواء تعيّن عليه أم لا.
نعم، قيّده
الإمام الخميني بما إذا كان له نحو تعلّق به حتى يعدّ ذلك من الضروريّات العرفيّة،
والمستند في ذلك ما ورد عن
الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «... ولا يخرج في شيء إلّا لجنازة أو يعود
مريضاً ».
صرّح كثير من الفقهاء بأنّه يجوز للمعتكف أن يخرج لشهادة جنازة المؤمنين
تشييعاً أو تجهيزاً من
كفن أو
دفن أو
تغسيل أو
صلاة ؛
استناداً إلى صحيحة عبد اللَّه بن سنان المتقدّمة.وهل الحكم بالجواز يختصّ بما إذا كان متعيّناً عليه أم لا؟
قال
المحدث البحراني : «والمراد حضورها لتشييعها والصلاة عليها أعمّ من أن يكون ذلك متعيّناً عليه أم لا؛ لإطلاق النص».
نعم، قيّده جملة منهم بما إذا تعيّن عليه.
قال
العلامة الحلي : «لو تعيّنت عليه صلاة الجنازة وأمكنه فعلها في المسجد لم يجز له الخروج إليها، فإن لم يمكنه ذلك فله الخروج إليها، وإن تعيّن عليه دفن الميّت أو تغسيله، جاز له الخروج لأجله؛ لأنّه واجب متعيّن، فيقدّم على الاعتكاف كصلاة الجمعة».
وقال
المحقق الكركي : «(يجوز الخروج من المسجد لصلاة الجنازة) إذا لم يقدر عليها في المسجد».
أمّا جواز تشييع المؤمن الحيّ بمعنى مشايعته فلم يرد عليه نصّ بالخصوص.
نعم، ذكره الفاضلان من الأسباب المبيحة للخروج.
منع أكثر الفقهاء من صعود المؤذّن المنارة
للأذان ؛
لأنّه لا ضرورة إليه.
إلّا أنّ
الشيخ الطوسي قال في
المبسوط : «يجوز للمعتكف صعود
المنارة والأذان فيها، سواء كانت داخلة المسجد أو خارجه؛ لأنّه من القربات».
وقال في
الخلاف : «يجوز للمعتكف أن يخرج فيؤذّن في منارة خارجة للجامع وإن كان بينه وبين الجامع فضاء لا يكون في الرحبة... دليلنا: كلّ ما روي في الحثّ على الأذان من الأخبار؛
إذ لم يفصّلوا فيه بين حالة الاعتكاف وغير حاله، فوجب أن تكون على عمومها».
واستشكل فيه بأنّ «الأذان
مستحب يمكن فعله في المسجد، كما يمكن فعله في خارجه، فيكون خروجه لا لضرورة فيكون ممنوعاً منه، وأيضا معارض بالحثّ للأمير على الصلاة فإنّه مندوب إليه، فإذا كان هذا مبطلًا فكذا الأوّل».
وكذا يبطل الاعتكاف إذا خرج إلى دار
الوالي وقال: حيّ على الصلاة أيّها
الأمير ، أو قال: الصلاة أيّها الأمير.
ومن الموارد التي يجوز الخروج لها أداء
الشهادة أو تحمّلها على خلاف بين الفقهاء، فقال عدّة منهم: إذا تعيّنت عليه إقامة شهادة أو تحمّلها جاز له الخروج ولا يفسد اعتكافه، ويقيمها قائماً ويعود إلى موضعه.
وعللّ
ذلك بالأصل، وبأنّه لا دليل يفضي إلى العلم بالمنع منه فيقال به، وبقوله سبحانه: «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا».
وذهب العلّامة الحلّي في
المنتهى إلى جواز الخروج مطلقاً، حيث قال: «يجوز الخروج لإقامة الشهادة... تعيّن عليه التحمّل والأداء أو لم يتعيّن عليه أحدهما إذا دعي إليها؛ لنا: أنّ إقامة الشهادة ممّا لابدّ منه فصار ضروريّاً
كقضاء الحاجة فلا يكون مبطلًا، وإذا دعي إليها مع عدم التعيين تجب
الإجابة ».
إذا مرض المعتكف وكان مرضه مرضاً خفيفاً لا يحتاج معه إلى الخروج من المسجد ولا يتضرّر
بالصوم - كحمى يوم أو صداع يسير أو وجع ضرس وما أشبهه ممّا لا يضطرّ معه إلى الخروج- لا يخرج من المسجد، ولو خرج بطل اعتكافه ووجب عليه
الاستئناف إن كان واجباً متتابعاً.
وإن كان مرضه مرضاً لا يسعه معه اللبث في المسجد واضطرّ إلى الخروج منه ويحتاج إلى الفراش والطبيب
والمعالجة ، فقد ذهب جملة من الفقهاء إلى جواز خروجه من المسجد،
وادّعي عليه
الإجماع .
ثمّ إن زال
العذر رجع فبنى على ما مضى من اعتكافه.
وقد استدلّ عليه بقول
الإمام الصادق عليه السلام في رواية
عبد الرحمن بن الحجاج : «إذا مرض المعتكف أو طمثت المرأة المعتكفة فإنّه يأتي بيته، ثمّ يعيد إذا برئ ويصوم».
قال العلّامة الحلّي: «إذا مرض المعتكف مرضاً يخاف منه تلويث المسجد- كإدرار
البول وانطلاق البطن والجرح السائل- فإنّه يخرج منه إجماعاً؛ صيانةً للمسجد عن
النجاسة ، وإذا برئ بنى على اعتكافه، ولا يبطل ما تقدّم».
نقل
المحقق النجفي عن استاذه اموراً اخرى تبيح للمعتكف الخروج، وإليك نصّ كلامه: «ويجوز الخروج للضرورة الشرعيّة والعقلية والعادية، وللأكل والشرب، والغسل، والإقامة للشهادة والتحمّل، ولمقدّماتها مع التوقّف عليها، وردّ الضالّ،
وإعانة المظلوم، وإنقاذ المحترم،
وعيادة المريض، وتشييع المؤمن الحيّ، وجنازة الميّت وصلاتها وحضور دفنها وسننه،
واستقبال المؤمن، وغسل النجاسات
والقذارات ، والاستحمام لشديد الحاجة، ولصلاة الجمعة، والعيدين بناءً على جواز صومه
للقاتل في
أشهر الحرم، بل لمطلق الصلاة في
مكّة ، وخوف ضيق وقتها، وقضاء حاجة المؤمن، وإعانة بعضٍ- خصوصاً المعتكفين- على مطالبه، والخروج معه دفعاً لخوف أو ردّاً لماله الضائع والشارد والمسروق، أو قياماً بحقّه، وانتظاره لدفع خوفه، وفعل ما فيه غضاضة في المسجد»، وإخراج الريح خارج المسجد- إلى أن قال:- وما تعلّق بمصالح نفسه من الإتيان بماء أو حطب أو علفٍ لدابّته أو نحو ذلك، لا بأس به، ولا يلزم
الاستئجار والاستعانة وإن كان واجداً ومطاعاً، ويشكل في واجد المملوك والأجير، ومن الحاجة
امتثال أمر المالك، والوالدين، والخادم لمخدومه، والمتعلّم لمعلّمه، والمنعم لصاحب نعمته، ومعرفة الوقت والتأذين،
وجهاد العدوّ، ومصاحبة المَحرَم الامرأة الجميلة، أو الخادم المشخّص أو الجليلة، والقويّ للشيخ الضعيف، والمريض للاعتماد عليه، ومن الحوائج طلب
الاحتياط في غسل أو
إزالة نجاسة ونحوها ما لم يدخل في
الوسواس ، فإن دخل فسد الاعتكاف، ومنها: ما لو احتاج إلى مسألة
والمجتهد خارج المسجد، أو احتاج إلى
قرآن وكتاب
دعاء أو شيء ممّا تتوقّف عليه
العبادة ، ولو أضرّ به الشعر ولم يسعه
الحلق في المسجد خرج له، ومثله طلي
النورة والحجامة والفصادة ونحوها من الأعذار، ومظنّة تمام الاعتكاف فتبيّن خلافه بعد خروجه أو نيّة فراغه».
وبعد نقل كلام استاذه وكلاماً من
الشيخ الطوسي والعلّامة الحلّي قال: «إلى غير ذلك من كلماتهم المتّفقة على الزيادة على المنصوص في الجملة، وكأنّ مبناه فهم المثالية ممّا في النصوص، لكن ينبغي الاقتصار حينئذٍ على ما علم فيه المماثلة، أو ظنّ ظناً معتبراً شرعاً- إلى أن قال:- إلّا أنّه لا يخفى عليك بعد ذلك كلّه رجحان الاحتياط- الذي هو ساحل بحر الهلكة- في كلّ ما هو غير منصوص ولم يعلم إلحاقه به، كما أنّه لا يخفى عليك تقييد ذلك كلّه بما إذا لم يستلزم محو صورة الاعتكاف، وإلّا بطل على كلّ حال».
وكلّ مورد جاز الخروج لأجله فهو مقيّد بما إذا لم يستلزم طول الخروج محو صورة الاعتكاف، وإلّا بطل.
إذا خرج المعتكف لشيء من الأعذار لم يجز له الجلوس تحت الظلال اختياراً إلى أن يعود إلى المسجد،
بل قد نفى عنه الخلاف المحقّق النجفي، وقال: «بل يمكن تحصيل
الإجماع عليه».
ويستدلّ عليه بصحيحة
داود بن سرحان قال: كنت بالمدينة في شهر
رمضان فقلت
لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّي اريد أن أعتكف فماذا أقول؟ وماذا أفرض على نفسي؟
فقال: «لا تخرج من المسجد إلّا لحاجة لابدّ منها، ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى مجلسك».
وصحيحة
الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أيضاً قال: «لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلّا لحاجة لابدّ منها، ثمّ لا يجلس حتى يرجع».
وأطلق النهي عن الجلوس المطلق بعضهم،
واستشكل فيه بأنّه لا دليل عليه.
وأمّا المشي تحت الظلال
فلا يحرم؛ للأصل،
ولكن حرّمه بعضهم
بل عن
السيد المرتضى : «المعتكف ليس له إذا خرج من المسجد أن يستظلّ بسقف حتى يرجع إليه»، ثمّ استدلّ عليه بالإجماع.
واعترف بعضهم بعدم الوقوف على مستنده.
هذا كلّه مع الاختيار، وأمّا مع
الاضطرار فلا بأس، كما صرّح به جماعة.
ذكر بعض الفقهاء أنّه لا يجوز للمعتكف في غير مكّة الصلاة خارج المسجد الذي اعتكف فيه حتى يعود إلى المسجد، إلّا مع الضرورة كضيق الوقت، فمعه يصلّيها حيث أمكن؛
وذلك لصحيحة
عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول:
«المعتكف بمكّة يصلّي في أيّ بيوتها شاء سواء عليه صلّى في المسجد أو في بيوتها- إلى أن قال:- ولا يصلّي المعتكف في بيت غير المسجد الذي اعتكف فيه إلّا بمكّة فإنّه يعتكف بمكّة حيث شاء؛ لأنّها كلّها
حرم اللَّه».
ويستثنى من المنع من الصلاة خارج المسجد في غير مكّة صلاة الجمعة، فإنّه يخرج لأدائها إذا اقيمت في غير المسجد الذي اعتكف فيه؛
لأنّه خروج لابدّ منه شرعاً، ولقول الإمام الصادق عليه السلام في صحيحة ابن سنان: «ليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلّا إلى الجمعة أو جنازة أو غائط».
وألحق الشيخ الطوسي في المبسوط بصلاة الجمعة
صلاة العيد .
وأمّا في مكّة فإنّه يصلّي المعتكف بمسجدها أين شاء من بيوتها، وقد نفي عنه الخلاف،
كما صرّح به في صحيحة ابن سنان المتقدّمة.
ذكر
الشيخ المفيد أنّه ينبغي كفّ الجوارح
وغضّ البصر والتشاغل بالخيرات للمعتكف إذا خرج عن المسجد اضطراراً.
قال
الشيخ جعفر كاشف الغطاء : «كذا (يحرم عليه) مسبّبات الخروج كجرح نفسه أو إجنابها أو
جناية أو
إتلاف أو نحوها، وفعل ذلك كلّه باعث على
الإثم مع وجوب الاعتكاف وعلى فساده أيضاً... (و) لو أفسد اعتكافه كان له الخروج من المسجد، واستعمال المحرّمات في الاعتكاف من النساء وغيرها في المسجد وخارجه عدا ما حرم لنفسه أو للمسجدية، وإنّما يلزمه القضاء مع تعيّنه عليه، وليس كمفسد
الحج والعمرة حيث يبقى على
الإحرام حتى يأتي
بالمحلّل ، بل حكمه مغاير له. نعم، لو أفسد اعتكافه بنفس الجماع بعد الوجوب لا قبله لزمته
الكفّارة ، والأحوط ترك
الجماع مطلقاً مع لزوم
القضاء ».
الموسوعة الفقهية، ج۱۴، ص۴۶۰-۴۷۶.