كيفية تقدير الأرش
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يعرف
الأرش بمعرفة قيمتي الصحيح والمعيب ليعرف التفاوت بينهما فيؤخذ بنسبة ذلك التفاوت من الثمن وفي عبارات بعض الفقهاء أنّ طريق معرفته أن يقوّم المبيع صحيحاً ومعيباً، وينظر في نسبة النقيصة فيؤخذ من الثمن بنسبتها، أو ما يقرب من ذلك.
وذلك كما لو اشترى متاعاً بتسعين ديناراً وكانت قيمته السوقيّة صحيحاً مائة وعشرين ديناراً ومعيباً ثمانين ديناراً فالتفاوت أربعون ديناراً أي الثلث، فتؤخذ هذه النسبة من القيمة المعاوضيّة التي هي تسعون ديناراً في الفرض وثلثها ثلاثون، فيؤخذ من الثمن ثلاثون ديناراً وهو الأرش.هذا فيما إذا كانت القيمة معلومة، وأمّا مع
الجهل بها فلا بدّ من الرجوع إلى العارف بها،
وهذا كلّه واضح لا كلام فيه بين الفقهاء.إنّما الكلام في صفات المقوّم، والحكم في صورة
اختلاف المقوّمين، وصورة تعذّر التقويم، وغير ذلك، والتفصيل كالتالي:
وقع الكلام بين الفقهاء في أنّه هل يشترط في المقوّم الذي يرجع إليه في معرفة الأرش ما يشترط في
الشهادة من العدالة والتعدّد وغير ذلك أم لا؟ ومردّ ذلك إلى الاختلاف في أنّ التقويم من باب
الشهادة أم من باب قول أهل الخبرة.ظاهر بعض الفقهاء ومنهم الشهيد في
الدروس اعتبار شروط الشهادة، حيث قال: «ويشترط في المقوّم
العدالة والمعرفة والتعدّد والذكورة
وارتفاع التهمة».
بل صرّح بذلك المحقّق الثاني في جامع المقاصد،
والسيد العاملي في مفتاح الكرامة،
وهو ظاهر
السيد الحكيم في المنهاج،
حيث أفتى باعتبار التعدّد والعدالة. وكذا السيد الاصفهاني في وسيلة النجاة،
وإن قال: «وفي الاكتفاء بقول العدل الواحد وجه».وعلّق عليه المحقّق النجفي: بأنّه- مع
ابتنائه على أنّ التقويم من باب الشهادة- لا يخلو بعضها عن نظر، خصوصاً مع تعذّرها
وانحصار المقوّمين في فاقديها.
وممّن ذهب إلى عدم
اعتبار تلك الشروط
السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب؛ لمنع كون التقويم من باب الشهادة؛ إذ لا فرق بين الخبر والشهادة عنده قدس سره، إلّا باعتبار التعدّد وعدمه، فكلّ مورد يعتبر فيه التعدّد فهو من باب الشهادة، ومقتضى
الأصل كفاية الواحد في كلّ مقام، خرج ما خرج؛ وذلك لعموم ما دلّ على حجّية خبر العادل حتى في الموضوعات.
وقسّم
الشيخ الأنصاري المقوّم إلى ثلاثة أقسام
:
الأوّل: أن يخبر عن القيمة المتعارفة المعلومة المضبوطة عند أهل البلد، أو أهل الخبرة منهم لهذا المبيع المعيّن أو لمثله في الصفات المقصودة، كمن يخبر بأنّ هذه الحنطة أو مثلها يباع في السوق بكذا.وذهب قدس سره إلى أنّ هذا داخل في الشهادة يعتبر فيه جميع ما يعتبر في الشهادة على سائر المحسوسات من
العدالة والأخبار عن الحسّ والتعدّد.
الثاني: أن يخبر عن نظره وحدسه من جهة كثرة ممارسته أشباه هذا الشيء، وإن لم يتّفق
اطلاعه على مقدار رغبة الناس في أمثاله.وذهب قدس سره إلى أنّ هذا يحتاج إلى الصفات السابقة وزيادة المعرفة والخبرة بهذا الجنس، ويقال له بهذا الاعتبار أهل الخبرة. لكن بما أنّ من الصفات السابقة التي ذكرها في القسم الأوّل والمعتبرة في الشهادة
الإخبار عن حسّ اورد عليه هنا بأنّه مشكل؛ إذ المفروض أنّ إخباره عن الحدس والنظر.
القسم الثالث: أن يخبر عن القيمة باعتبار خصوصيّات في المبيع يعرفها، مع كون قيمته على تقدير العلم بالخصوصيّات واضحة، كالصائغ العارف بأصناف الذهب والفضة من حيث الجودة
والرداءة ، مع كون قيمة الجيّد والرديء معروفة عند الناس، فقوله: (هذا قيمته كذا) يريد به أنّه من جنس قيمته كذا.هذه هي الأنحاء التي ذكرها، ثمّ ذكر أنّ الأوّل والأخير لا يدخلان في المقوّم، بل مرادهم بالمقوّم هو الثاني، ثمّ قال: «لكنّ الأظهر عدم التفرقة بين الأقسام من حيث اعتبار شروط القبول وإن احتمل في غير الأوّل
الاكتفاء بالواحد، إمّا للزوم الحرج لو اعتبر التعدّد، وإمّا لاعتبار الظنّ في مثل ذلك ممّا انسدّ فيه باب العلم، ويلزم من طرح قول العادل الواحد والأخذ بالأقلّ- لأصالة براءة ذمّة البائع- تضييع حقّ المشتري في أكثر المقامات، وإمّا لعموم ما دلّ على قبول قول العادل خرج منه ما كان من قبيل الشهادة كالقسم الأوّل دون ما كان من قبيل الفتوى كالثاني؛ لكونه ناشئاً عن حدس
واجتهاد وتتبّع الأشباه والأنظار وقياسه عليها...».
هذا، وذهب السيد اليزدي إلى عدم وجوب التعدّد حتى في الأوّل؛ لكونه ليس من باب الشهادة، ومقتضى الأصل كفاية الواحد في كلّ مقام إلّا ما خرج بالدليل؛ لعموم حجّية خبر العادل
كما تقدّم.ووافق السيدان الخميني والخوئي الشيخ الأنصاري في كون الأوّل من باب الشهادة، فيعتبر فيه التعدّد وسائر ما يعتبر في الشهادة في الموضوعات، وأمّا الأخيران فمن باب قبول قول أهل الخبرة، وتصديقهم لا يعتبر فيهما ما يعتبر في الشهادة، فالرجوع فيهما من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم.
والأوّل لا إشكال في حجّيته مع توفّر شروط الشهادة، وكذا الآخران لبناء العقلاء على حجّية قول أهل الخبرة، ولم يدلّ دليل على الردع،
أو لأنّ دليل حجّية خبر الواحد الثقة يشمل جميع أقسام الإخبار سواءً تعدّد المخبر أم لا، وسواءً كان الإخبار عن الموضوعات أو عن الأحكام، فدليل حجّية الخبر من بناء العقلاء وغيره يقتضي حجّية الخبر بقول مطلق، واعتبار بعض القيود في بعض الموارد من جهة الدليل الخارجي الخاصّ.
وهذا الرأي هو الذي يظهر من المحقّق الاصفهاني اختياره أيضاً؛ لبناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة فيما يحتاج إلى
إعمال الرأي والنظر، ولا رادع عنه، ومسألة التقويم منه، لا مجرّد الخبر عن القيمة السوقيّة مع عدم كون المخبر من أهل الخبرة، فإنّه ليس الرجوع إليه رجوعاً إلى المقوّم عرفاً، بل رجوع إلى الشاهد على القيمة السوقيّة.
ومن هنا صرّح بعض الفقهاء بكفاية الوثوق وإن كان الأحوط والأولى اعتبار الشهادة. ففي حاشية البهبهاني على المجمع: أنّه يقيّم بنظر أهل الخبرة المعتبرين الذين يحصل من قولهم
الظنّ ، فإن كان شهادة العدلين ميسّرة تكون أولى وأحوط، وإلّا فلا يتوقّف عليها ولا على تحقّق العدالة؛ لأنّ المدار في أمثال المقام على الظنون.
وفي
تحرير الوسيلة : «الأقوى اعتبار الواحد الموثوق به من أهلها ( الخبرة)، وإن كان الأحوط اعتبار ما يعتبر في الشهادة من التعدّد والعدالة».
وفي مناهج المتّقين: «يعتبر في المقوّم التعدّد والعدالة إلّا إذا أفاد قول الواحد
الاطمئنان العادي».
وأفتى السيد الخوئي باعتبار
الأمانة والوثاقة،
والشهيد الصدر بكفاية تقويم الثقة الخبير.
لو تعذّر التقويم لفقد أهل الخبرة أو توقّفهم أو عدم توفّر الشروط اللازمة فيهم فهل يكتفى بالظنّ أو يؤخذ بالأقلّ أو الأكثر أو يصار إلى الصلح؟ وجوه، ذكرها الفقهاء، واختار بعضهم بعضها أقوالًا.فذهب
البهبهاني إلى الرجوع إلى الصلح،
حيث قال: «وأمّا إذا لم تعرفا من جهة الاختلاف وعدم مرجّح يرجّح أو لم تتيسّر لهم فالعلاج المصالحة، كما هو الحال في أمثال المقام»، وتجدر الإشارة إلى أنّه سوف يأتي حكم صورة اختلاف المقوّمين، وللعلماء قولان: الجمع والأخذ بالأقلّ. وكذا المحقّق النجفي قائلًا:«وعلى تقدير
الاشتراط (أي اشتراط العدالة والتعدّد والمعرفة والذكورة وارتفاع التهمة في المقوّم) فالمتّجه حينئذٍ عند التعذّر الرجوع إلى الصلح بما يراه الحاكم، كما أنّ المتّجه هنا سؤال الحاكم ممّن يتمكّن من المقوّمين وإن لم يجمعوا الشرائط ليكون على بصيرة في حكمه، وأمّا احتمال التعطيل حتى يحصل مقوّمون جامعون للشرائط ففيه تعطيل الحقّ عن مستحقّه، كما أنّ احتمال
الاقتصار على المتيقّن ونفي الزائد بأصالة البراءة فيه ضرر على من له الأرش، فالأولى ما ذكرنا».
وتردّد الشيخ الأنصاري ولم يرجّح شيئاً. نعم، ضعّف الأخذ بالأكثر، حيث قال: «ثمّ لو تعذّر معرفة القيمة- لفقد أهل الخبرة أو توقّفهم- ففي كفاية الظنّ أو الأخذ بالأقلّ وجهان، ويحتمل ضعيفاً الأخذ بالأكثر؛ لعدم العلم بتدارك العيب المضمون إلّا به».
وذهب ممّن تعرّض للمسألة من المتأخّرين إلى الأخذ بالأقلّ للأصل؛
لأنّ الشكّ في أمثال ذلك في أصل اشتغال الذمّة بالأكثر، لا أنّ الذمّة اشتغلت حتى يشكّ ببراءتها.
وبهذا ضعّفوا احتمال الأخذ بالأكثر؛ إذ وجهه اشتغال ذمّة البائع، فلا تبرأ إلّا
بأداء الأكثر. كما هو واضح، وأشار إليه السيد الخوئي في عبارته المتقدّمة آنفاً. وكذا الشيخ الأنصاري في المكاسب،
حيث قال: «ويحتمل ضعيفاً الأخذ بالأكثر؛ لعدم العلم بتدارك العيب المضمون إلّا به». قال الآخوند في حاشيته على المكاسب: «أمّا وجه ضعف احتمال الأخذ بالأكثر فهو أنّ ضمان العيب لا معنى له إلّا وجوب الأرش على البائع تعبّداً من دون أن يكون هناك ضمان حقيقة».
ولذلك قوّى السيد اليزدي الأخذ بالأقلّ بناءً على كون الأرش من باب الغرامة، لا
الانفساخ بمقدار ما يقابل وصف الصحّة، وإلّا فالأوجه هو الأخذ بالأكثر؛ لأصالة عدم
انتقال أزيد ممّا هو معلوم، وأضاف: أنّه لا فرق بناءً على كون الأرش غرامة بين ما إذا قلنا باشتغال الذمّة من حين
البيع أو من حين اختيار الأرش؛ إذ على التقديرين يكون الشكّ في الأقل والأكثر، ومقتضى الأصل الاقتصار على الأوّل.
وممّن اختار الأخذ بالأقلّ أيضاً السيد الخميني في كتاب البيع.
وقع الكلام لدى الفقهاء في أنّه هل المدار في التقويم على قيمة يوم العقد أو قيمة يوم القبض أو أقلّ الأمرين من يوم العقد إلى يوم القبض أو حال
استحقاق الأرش باختياره أو بحصول المانع من الرد؟ احتمالات، ذكروا لكلّ منها وجهه.اكتفى العلّامة بذكرها،
واختار جملة من الفقهاء- منهم الشهيدان والمحقّق الثاني
والمقدّس الأردبيلي والمحقّق النجفي والسيد اليزدي وغيرهم
الأوّل؛ استناداً إلى أنّ الثمن يومئذٍ قابل المبيع، وهو وقت دخوله في ملكه، ولأنّه الوقت الذي يلاحظ فيه الصحّة والعيب.وأمّا اعتبار يوم القبض- لأنّه يوم دخول المبيع في ضمانه ويوم
استقرار الملك- ففيه: أنّه لا دخل لذلك في اعتبار القيمة
فهو ضعيف، بل لا وجه له.
ومنه يظهر ضعف احتمال أقلّ الأمرين الذي وجهه أنّه لو كان الأقلّ يوم العقد فالزيادة حصلت في ملك المشتري، وإن كان يوم القبض فالنقص من ضمان البائع؛ لأنّه وقت الاستقرار.
وكذا يظهر ضعف احتمال اعتبار زمان الاستحقاق، فإنّ وجهه كون ذلك الوقت هو وقت استحقاق الأرش؛ إذ قبله كان البائع مخيّراً بين الردّ والأرش، فهو غير مستحقّ على التعيين، ولذا لا تشتغل ذمّة البائع حينئذٍ بخصوصه، إلّا مع اختيار الأرش أو تعذّر الردّ.
فإنّ ذلك كلّه لا دخل له في اعتبار القيمة؛ لأنّ المدار على مقدار نقصان المبيع بسبب عيبه حين المقابلة بالثمن، فلا بدّ من تدارك ذلك النقص، ولا يتفاوت الأزمان في ذلك. والحاصل: أنّ المناط زمان يكون العيب فيه مضموناً لا على زمان الضمان، والمناط هو التفاوت بين الصحيح والمعيب لا القيمة السوقيّة، فكون المبيع مضموناً قبل القبض لا دخل له في ذلك؛ إذ المفروض أنّ التفاوت من حيث القيمة السوقيّة لا من زيادة العيب أو نقصانه.
لكن هذا في العيب الموجود حين العقد، وأمّا الحادث قبل القبض أو في زمان الخيار- بناءً على استحقاق الأرش- ففي الجواهر: المتّجه ملاحظة القيمة حين الحدوث أو حال تعيّن استحقاقه
بالاختبار أو التصرّف مثلًا.
وجزم السيد اليزدي بالأوّل، أي كون المدار فيهما على قيمة حال الحدوث؛ لكون المناط على الزمان الذي يكون العيب فيه مضموناً وإن كان زمان الضمان الفعلي متأخّراً.
وأمّا الاحتمالات الاخر فقد اختار الشيخ في
المبسوط والكيدري في الإصباح
اعتبار التقويم في أقلّ الحالين من وقت العقد ووقت القبض، واستدلّ له
الشهيد في
المسالك بالأخذ من العلّتين ثمّ ضعّفه.
وقال
السيد العاملي في مفتاح الكرامة:إنّ هذا القول قد يلوح من
الإيضاح الميل إليه،
لكن
استفادة ذلك من عبارة الإيضاح غير واضحة، بل لعلّ ظاهره ذكر وجوه الاحتمالات فقط. ففي تعليقه على عبارة القواعد: «فيحتمل قيمته حين العقد والقبض والأقلّ منهما» قال: «منشؤه احتمال كلام الأصحاب كلّاً منهما، ومن أنّ الأوّل حال الانتقال فهو حال التفويت، ولأنّ الأرش جزء من الثمن، والعوض يفوت بفوات معوّضه حاله.
ومن أنّ الثاني حال استقرار الملك فهو حال التفويت، ووجه الثالث أنّه المتيقّن».
وأمّا احتمال اعتبار قيمة يوم القبض فلم نعثر على قائل به. نعم، في
مفتاح الكرامة :أنّه خيرة الشيخ فيما حكى عنه في التحرير،
مع أنّ مختار الشيخ في المبسوط أقلّ الحالين
كما عرفت، وهذا هو المنسوب إليه في التحرير،
بل والمسالك أيضاً.
وأمّا احتمال كون المدار على القيمة حال استحقاق الأرش فذكره المحقّق النجفي وجعله أولى من احتمال قيمة يوم القبض، واحتمال أقلّ الأمرين
وإن لم يختره، وردّه السيد اليزدي؛ بأنّه لا دخل لزمان الاستحقاق في ذلك؛ لأنّ المدار على مقدار نقصان المبيع بسبب عيبه حين المقابلة بالثمن.
بعض الفقهاء بل معظمهم على أنّه لو اختلف المقوّمون الذين يرجع إليهم في ...... مقام معرفة الأرش تجدر
الإشارة هنا إلى ما نبّه عليه
السيّد الخوئي في مصباح الفقاهة من لزوم فرض هذه المسألة بصورة الرجوع إلى أهل الخبرة مع جهل البائع والمشتري معاً بالقيمة، أمّا في صورة اختلافهما بأن ادّعى المشتري- مثلًا- كون مقدار الأرش أكثر وأنكر البائع ثمّ رجعا إلى المقوّمين فاختلف المقوّمون فالظاهر أنّ هذه الصورة خارجة عن مورد كلامهم؛ إذ هو مسوق لبيان حكم صورة الاختلاف في الأرش مع جهل المتبايعين بالحال. وأمّا صورة الاختلاف بينهما من حيث الزيادة والنقيصة فهو من قبيل المدّعي والمنكر وتجري فيه قواعده، من
اختصاص البيّنة بالمدّعي واليمين بالمنكر، وإن قيل بسماع بيّنة المنكر فيكون التعارض بينهما من قبيل تعارض بيّنة الداخل والخارج، والبحث فيه في محلّه.
وإليه أشار
السيد الخميني في كتاب البيع، حيث قال: «لو اختلف الشهود أو المقوّمون ففيه صور كثيرة، لم يتعرّض الشيخ الأعظم قدس سره إلّا لصورة واحدة، ونحن نقتفي إثره؛ لأنّ التعرّض لجميعها موجب للتطويل؛
لاحتياج بعضها إلى تنقيح بعض مسائل باب
القضاء ، فنقول: لو اختلف المقوّمون مع عدم دعوى من المتبايعين فهل يسقطان، ويرجع إلى الأصل وهو البراءة عن الزيادة على التحقيق أو
الاشتغال على رأي...».
يؤخذ بالأوسط،
والمراد به قيمة منتزعة من المجموع نسبتها إليه كنسبة الواحد إلى عدد تلك القيم، فمن القيمتين نصف مجموعهما، ومن الثلاثة ثلث وهكذا، حتى يكون عملًا بالجميع في الجملة؛ وذلك
لانتفاء الترجيح لقيمة على أخرى،
وتمام بيان طريق ذلك يأتي.إلّا أنّ البعض الآخر بل أكثر المتأخّرين ذكروا وجوهاً أخرى، واختار بعضهم بعضها أقوالًا،
وتلك الوجوه
إجمالًا هي: تقديم بيّنة الأقلّ، تقديم بيّنة الأكثر، الرجوع إلى القرعة، الرجوع إلى الصلح، تخيير الحاكم، الرجوع إلى المرجّحات، التساقط والرجوع إلى الأصل، وغير ذلك.
والتفصيل كالتالي:
الاحتمال الأوّل: تقديم بيّنة الأقلّ؛ للأصل، بمعنى أنّ أصالة البراءة مرجّحة هنا للبيّنة الحاكمة بالأقلّ.ونوقش فيه بأنّ الاصول الظاهريّة
لا تصير مرجّحة للأدلّة الاجتهادية، بل تصلح مرجعاً في المسألة لو تساقط الدليلان من جهة ارتفاع ما هو مناط الدلالة فيهما لأجل التعارض.
وبعبارة أخرى: الأصل إنّما يكون دليلًا إذا لم يكن هناك دليل لفظي، وإلّا فلا يكون الأصل دليلًا ولا مرجّحاً للدليل.
الاحتمال الثاني: تقديم بيّنة الأكثر؛ لأنّها مثبتة، بأن يقال: إنّه لا تعارض بين البيّنتين عند التحقيق؛ لأنّ مرجع بيّنة النفي إلى عدم وصول نظرها وحدسها إلى الزيادة، فبيّنة
الإثبات المدّعية للزيادة سليمة.وأجيب عنه بأنّ المفروض أنّ بيّنة النفي تشهد بالقطع على نفي الزيادة واقعاً، وأنّ بذل الزائد في مقابل المبيع سفه.
الاحتمال الثالث: الرجوع إلى القرعة؛ لأنّها لكلّ أمر مشكل، وفي الجواهر أنّه لا يخلو من قوّة.
واستدلّ له بعموم أدلّة القرعة، وجملة من الروايات الخاصّة الواردة في تعارض البيّنات الآمرة بالرجوع إلى القرعة الشاملة بإطلاقها للمقام ومن تلك الروايات صحيح داود عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام في شاهدين شهدا على أمر واحد، وجاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا عليه واختلفوا، قال: «يقرع بينهم، فأيّهم قرع عليه اليمين، وهو أولى بالقضاء»،.
ونحوه صحيح
الحلبي عنه عليه السلام أيضاً غير أنّه قال: «أولى بالحقّ».واختلف الجواب عن هذا الاحتمال باختلاف المباني، فإنّ من ذهب إلى وجوب الجمع هنا بين البيّنات- كالشيخ الأنصاري كما يأتي- أجاب هنا بأنّ قاعدة الجمع حاكمة على دليل القرعة؛ لأنّ المأمور به هو العمل بكلّ من الدليلين لا بالواقع المردّد بينهما كي يعيّن بالقرعة؛ إذ قد يكون كلاهما مخالفاً للواقع، فهما سببان مؤثّران بحكم الشارع في حقوق الناس، فيجب مراعاتها وإعمال أسبابها بقدر
الإمكان ؛ إذ لا ينفع توفية حقّ واحد مع
إهمال حقّ الآخر رأساً.
وبعبارة أخرى: أنّ القرعة إنّما هي لتشخيص نفس الواقع المردّد، وهي فرع كون الواقع منحصراً في الاحتمالين، والمفروض أنّه يحتمل أن يكون خارجاً عنهما، فلا موقع للقرعة. وأيضاً الجمع لما كان عملًا بالدليلين فهو مقدّم على ما هو عمل بالواقع؛ لأنّ الرجوع إلى ما هو قاعدة ظاهريّة في تشخيص الحكم الفرعي متأخّر عن الرجوع إلى ما هو قاعدة في تشخيص الدليل.
واورد عليه بأنّه قد يعلم انحصار الواقع فيهما وعدم خروجه عنهما، وأيضاً عدم تسليم أنّ القرعة لتشخيص الواقع، بل يمكن أن يقرع بين البيّنتين لتعيين إحداهما، فيكون رجوعاً إلى ما يشخّص الدليل فلا حكومة. هذا، مع أنّه يمكن أن يقال بتقديم القرعة وحكومتها بناءً على إعمالها في تشخيص المرجع من البيّنتين، بدعوى أنّه من
الأمر المشكل فيشمله عموماتها. وأمّا الجمع فليس تشخيصاً للدليل، بل هو قاعدة ظاهريّة في مقام العلم.
هذا بناءً على إمكان الجمع، وأمّا من ذهب إلى سقوط البيّنتين والرجوع إلى الأصل فقد أجاب بأنّه لا موضوع للقرعة؛ لأنّها لكلّ أمر مشكل، ومع سقوط قولهما والرجوع إلى الأصل وجريانه لا جهل بالوظيفة ولا مشكل.
بل قال السيد الخوئي: إنّ الأدلّة العامّة للقرعة الدالّة على أنّها لكلّ أمر مشتبه لا يمكن الرجوع إليها هنا، وإلّا فيلزم أن لا يرجع إلى شيء من الأصول والأمارات؛ لوجود الشكّ في مواردها.
وأمّا الروايات الواردة في تعارض البيّنات الآمرة بالرجوع إلى القرعة فقد يورد عليها بأنّها مختصّة بما إذا أمكن اليمين بعد تعيين المرجع من البيّنتين، فلا يمكن
الاستدلال بها في المقام؛ لعدم العلم بالحال وعدم إمكان اليمين.لكن أجاب عنه السيد اليزدي أوّلًا:بإمكان فرض صورة يمكن فيها الحلف، بأن يكون كلّ من المتداعيين مدّعياً للعلم بما يقول، وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة فيتمّ بعدم القول بالفصل. وثانياً: منع فهم الاختصاص من الأخبار، بل الأمر باليمين فيها مخصوص بصورة الإمكان، وإلّا فأصل الحكم مطلق.
هذا، إلّا أنّ بعض المحقّقين أجاب عن الاستدلال بهذه الروايات بأنّها
أجنبيّة عن المقام؛ إذ هي مختصّة بصورة التداعي وإقامة كلّ من المتداعيين بيّنة على ما يدّعيه، فيرجع إلى القرعة لتشخيص من يتوجّه عليه اليمين، والمقام ليس من موارد التداعي، بل ربّما يعترف كلّ من البائع والمشتري بعدم العلم بمقدار التفاوت.
فقياس المقام بتعارض البيّنات وإعمال القرعة لتشخيص ما يتوجّه عليه اليمين كما وردت به الأخبار قياس مع الفارق.
الاحتمال الرابع: الرجوع إلى الصلح، اختاره البهبهاني في حاشيته على مجمع الفائدة.
ووجهه- كما ذكر الشيخ الأنصاري- تشبّث كلّ من المتبايعين بحجّة شرعيّة ظاهريّة، والمورد غير قابل للحلف لجهل كلّ منهما بالواقع.
وأجيب عنه بأنّ الرجوع إلى الصلح قهراً على المتعاملين لا دليل عليه ولا وجه له،
إلّا أن يختارا ذلك، وعليه فلو الزما عليه كان الصلح باطلًا من جهة كونه إكراهيّاً.
الاحتمال الخامس: تخيير الحاكم؛
لامتناع الجمع وفقد المرجّح،
ولأنّ في الجمع مخالفة قطعيّة وإن كان فيه موافقة قطعيّة، لكنّ التخيير ليس فيه إلّا مخالفة احتماليّة، فهو أولى من الجمع.
ذكره في سياق الإشكال على الجمع والتنصيف.
وأجيب عنه بأنّ ترجيح الموافقة الاحتماليّة الغير المشتملة على المخالفة القطعيّة على الموافقة القطعيّة المشتملة عليها إنّما هو في مقام
الإطاعة والمعصية الراجعتين إلى
الانقياد والتجرّي؛ حيث إنّ ترك التجرّي أولى من تحصيل العلم بالانقياد، بخلاف مقام
إحقاق حقوق الناس، فإنّ مراعاة الجميع أولى من إهمال أحدهما رأساً، وإن اشتمل على إعمال الآخر؛ إذ ليس الحقّ فيهما لواحد كما في حقوق اللَّه سبحانه.
لكن ردّ ذلك بأنّ الموافقة الاحتماليّة في الحقوق أيضاً أولى من المخالفة القطعيّة، وإنّما يكون الجمع أولى فيما إذا تزاحم الحقوق الثابتة لا فيما إذا تعارض طرق إثباتها.
وفي مصباح الفقاهة: الحكم بأنّ الحاكم يكون مخيّراً بين الأخذ بأيّ البيّنتين شاء، لا وجه له؛ إذ لا أساس للقول بالتخيير في باب تعارض الدليلين أصلًا، وعلى تقدير جوازه فإنّما يجوز في تعارض الروايتين، وأمّا في تعارض مطلق الدليلين كتعارض البيّنة مع البيّنة والظاهر مع الظاهر والأصل مع الأصل فلا.
الاحتمال السادس: ما اختاره الشيخ الأنصاري ونسبه إلى المعظم،وقد عرفت ذلك في بداية المسألة. وهو وجوب الجمع بينهما بقدر الإمكان حيث قال: «لكنّ الأقوى من الكلّ ما عليه المعظم من وجوب الجمع بينهما بقدر الإمكان؛ لأنّ كلّاً منهما حجّة شرعيّة، فإذا تعذّر العمل به في تمام مضمونه وجب العمل به في بعضه، فإذا قوّمه أحدهما بعشرة فقد قوّم كلّاً من نصفه بخمسة، وإذا قوّمه الآخر بثمانية فقد قوّم كلّاً من نصفه بأربعة، فيعمل بكلّ منهما في نصف المبيع، وقولاهما وإن كانا متعارضين في النصف أيضاً كالكلّ فيلزم ممّا ذكر طرح كلا القولين في النصفين، إلّا أنّ طرح قول كلّ منهما في النصف مع العمل به في النصف الآخر أولى في مقام
امتثال أدلّة العمل بكلّ بيّنة من طرح كليهما أو إحداهما رأساً، وهذا معنى قولهم: (إنّ الجمع بين الدليلين والعمل بكلّ منهما- ولو من وجه- أولى من طرح أحدهما رأساً) ولذا جعل في تمهيد القواعد من فروع هذه القاعدة الحكم بالتنصيف فيما لو تعارضت البيّنتان في دار في يد رجلين يدّعيها كلّ منهما، بل ما نحن فيه أولى بمراعاة هذه القاعدة من الدليلين المتعارضين في أحكام اللَّه تعالى؛ لأنّ الأخذ بأحدهما كلّية وطرح الآخر كذلك في التكاليف الشرعيّة الالهيّة لا ينقص عن التبعيض من حيث مراعاة حقّ اللَّه سبحانه؛ لرجوع الكلّ إلى امتثال أمر اللَّه سبحانه، بخلاف مقام التكليف بإحقاق حقوق الناس، فإنّ في التبعيض جمعاً بين حقوق الناس ومراعاة للجميع ولو في الجملة، ولعلّ هذا هو السرّ في عدم تخيير الحاكم عند تعارض أسباب حقوق الناس في شيء من موارد
الفقه » نقلنا عبارته على طولها؛ لأنّها الأوفى والأهم في مقام الاستدلال على الجمع بالتنصيف، فصارت مدار الكلام في المقام لدى من تأخّر عنه من الفقهاء..
ونوقش فيه بأنّه إن كان مراده الجمع بين الدليلين فلا شبهة في أنّه إنّما يجمع بين الدليلين لو كان الجمع عرفيّاً، وذلك مختصّ بموارد كون أحد الدليلين قرينة على التصرّف في الآخر، وذلك إنّما يكون فيما إذا صدر الكلامان من شخص واحد أو ممّن هو بمنزلة الواحد
كالأئمة عليهم السلام، وهذا لا يجري في المقام، فالبيّنتان لا معنى لأن تكون إحداهما قرينة على التصرّف في الأخرى مع فرض الاثنينيّة ومعلوميّة مراد كلّ منهما. وقد حقّق ذلك نفس الشيخ الأنصاري في الأصول وهو:
أنّ قاعدة الجمع لا أساس لها، وإنّما يجمع بين الدليلين فيما لو كان الجمع عرفيّاً، واختار هنا ما كان مخدوشاً عنده في الأصول في باب
التعادل والتراجيح من الرسائل.
وإن كان مراده الجمع بين الحقّين لقاعدة العدل
والإنصاف كما لعلّه ظاهر ذيل كلامه المتقدّم، فهو وإن كان متيناً لقيام السيرة القطعيّة عليه في الحقوق الماليّة، لكن هذا لا ربط له بالمقام؛ إذ من الواضح أنّه ليس هنا حقّ مالي حتى تنتهي النوبة إلى تلك القاعدة، بل الأمر هنا دائر بين الأقلّ والأكثر، والأقلّ متيقّن، والكلام في أصل اشتغال الذمّة بالأكثر، فالزائد أمره يدور بين الاستحقاق وعدمه، لا استحقاق البائع واستحقاق المشتري.
الاحتمال السابع:
التساقط والرجوع إلى الأصل وهو البراءة عن الزائد، وقد اتّضح وجهه ممّا سبق، فإنّ القاعدة في تعارض الدليلين لما كانت التساقط والرجوع إلى الأصول العمليّة، فالمقام من صغرياتها.ذهب إليه جملة ممّن تأخّر عن الشيخ الأنصاري، فهو ظاهر
المحقّق الاصفهاني إلّا أنّه بنى التساقط على القول بأنّ حجّية
الأمارة على وجه الطريقيّة لا السببيّة، ولكنّه مع ذلك ذكر أنّه حتى بناءً على السببيّة لا يتمّ الاستدلال على ما عليه المعظم من الجمع والتنصيف، ثمّ ذكر وجهاً آخر للسببيّة يصحّ عليه القول بالجمع، واحتمل أن يكون كلام الشيخ الأنصاري والمعظم مبنيّاً عليه.
وصريح
السيد الحكيم والسيد الخميني والسيد الخوئي،
بل ذكر السيد الخميني: أنّ الرجوع إلى المقوّمين من رجوع الجاهل إلى الخبير، ومن الواضح أنّ قول المقوّم من أهل الخبرة من الطرق العقلائيّة لا يحتمل فيه الموضوعيّة والسببيّة بوجه، وإن قيل بها في إخبار الثقة في الأحكام الشرعيّة وفتوى الفقهاء وفي البيّنة أحياناً بحسب الأدلّة أو الاعتبارات الأخرى، خلافاً لمقتضى القاعدة.وأمّا في باب
التقويم وسائر النظائر ممّا لم يتصرّف الشارع فيها، وإنّما انكشف رضاه بها من عدم الردع مع شيوعها فلا يحتمل فيها السببيّة أو التصويب؛ ضرورة أنّ ما عند العقلاء من الأمارات لا تكون إلّا طرقاً للتوصّل إلى الواقع، وليس فيها من السببيّة عين ولا أثر، وعلى الطريقيّة لا شبهة في سقوط الطريقين المتعارضين عقلًا وعرفاً، فالبحث عن تقديم بيّنة الأقلّ أو الأكثر أو التشبّث بالصلح إلزاماً أو تخيير الحاكم أو الجمع بين الدليلين كلّها في غير محلّه، فإنّها مبنيّة على أمر مقطوع الفساد.
هذا على مستوى كتب الاستدلال، وأمّا على مستوى
الفتوى فقد أفتى السيد الخميني بأنّ الأحوط التخلّص بالتصالح، ولا تبعد القرعة خصوصاً في بعض الصور،
على خلاف ما صرّح به في كتاب البيع.
وقال السيد الخوئي في
المنهاج :«... فيه وجوه وأقوال، والذي تقتضيه القواعد لزوم الأخذ بقول أقواهم خبرة، والأحوط التصالح».
وفي مباني المنهاج الاستدلال عليه ب:«أنّ الوظيفة العقلائيّة عند التعارض الرجوع إلى الأعلم... (و) لا إشكال في أنّه ( التصالح) أحوط».
وكذا
الشهيد الصدر في حاشيته على المنهاج؛ إذ علّق على عبارة المصنّف:«الذي تقتضيه القواعد سقوط التقويمين والبناء على الأقلّ» بقوله: «إلّا إذا كان أحدهما أوسع خبرة من الآخر وأكثر فهماً للسوق، فإنّه لا يبعد حينئذٍ تقديمه عند
إصرار الطرفين على الخلاف».
ولعلّ ذلك يرجع إلى الاحتمال الذي ذكره البعض من الرجوع إلى المرجّحات، ومع فقدها فأحد الاحتمالات الأخر.
بناءً على ما عليه المشهور من وجوب الجمع في صورة اختلاف المقوّمين، والعمل على الأوسط وقع الكلام لدى الفقهاء في طريق ذلك، وقد ذكروا لذلك طريقين:
الأوّل: ما هو المعروف
والمشهور
من ملاحظة قيمتي الصحيح وقيمتي المعيب وتنصيف كلّ من القيمتين، فقيمة الصحيح نصف مجموع قيمتي الصحيح، وكذا قيمة المعيب نصف قيمتي المعيب، وهو المراد بالقيمة المنتزعة من القيمتين، فتلاحظ نسبة القيمة المنتزعة للمعيب إلى القيمة المنتزعة للصحيح، فإن كان التفاوت بينهما بالربع مثلًا أخذ من الثمن المسمّى ربعه، وهكذا.
قال الشيخ الأنصاري: «ثمّ إنّ المعروف في الجمع بين البيّنات الجمع بينها في قيمتي الصحيح، فيؤخذ من القيمتين للصحيح نصفهما ومن الثلاث ثلثها ومن الأربع ربعها، وهكذا في المعيب، ثمّ تلاحظ النسبة بين المأخوذ للصحيح وبين المأخوذ للمعيب، ويؤخذ بتلك النسبة، فإذا كان إحدى قيمتي الصحيح اثني عشر والأخرى ستّة وإحدى قيمتي المعيب أربعةً والأخرى اثنين، اخذ للصحيح تسعة، وللمعيب ثلاثة، والتفاوت بالثلثين، فيكون
الأرش ثلثي الثمن».
ويمكن ملاحظة مجموع قيمتي الصحيح بالنسبة إلى مجموع قيمتي المعيب، وملاحظة نسبة المجموع إلى المجموع، والأخذ من الثمن بتلك النسبة.
الطريق الثاني: ما نسب إلى الشهيد الأوّل، وهو أن يرجع إلى البيّنة في مقدار التفاوت، ويجمع بين البيّنات فيه من غير ملاحظة القيم إلّا أنّه قال: «هذا الطريق منسوب إلى المصنّف، وعبارته هنا وفي الدروس لا تدلّ عليه»..
لكن في مفتاح الكرامة : «يمكن أن يقال: إنّ قوله في الكتابين: (فمن القيمتين نصفهما) لا يأبى عنه أيضاً، فإنّ أخذ النصف من القيمتين أعمّ من ملاحظة نصف الصحيحتين مع نصف المعيبتين، وأخذ نسبة واحدة، ومن ملاحظة نصف كلّ صحيح منها مع نصف معيبه وأخذ النسبتين».
هذا، وقد فضّل
حيث قال: «الأولى ما ذكره الشهيد من إعمال كلّ من البيّنتين ببعض ما قامت عليه من التفاوت.ضرورة كونه هو الذي اختلفت البيّنات فيه، والتقويم مقدّمة له.بل اختار بعض المحقّقين من المتأخّرين طريقة الشهيد، ووجه ذلك أنّ الجمع إمّا لأجل الجمع بين البيّنتين بإعمال كلّ منهما في النصف، وإمّا لأجل الجمع بين الحقّين، أمّا على الأوّل فلأنّه لمّا كان لكلّ نصف من المبيع قيمة تغاير قيمة النصف الآخر وجب ملاحظة التفاوت بالنسبة إلى كلّ من النصفين صحيحاً ومعيباً وأخذ الأرش لكلّ نصف على حسب تفاوت صحيحه ومعيبه.
وببيان آخر: أنّه لمّا كان اللازم أخذ الأرش بحسب التفاوت بين قيمتي الصحيح والمعيب، وكان قضيّة قاعدة الجمع تصديق كلّ مقوّم في نصف التفاوت بحسب تقويمه بين القيمتين إذا كان
التعارض بين الطرفين، وثلاثة إذا كان بين الأطراف الثلاثة، وهكذا، كان اللازم الأخذ بمقدار التفاوت بين كلّ قيمتين من الطرفين المتعارضين، أو الأطراف، والجمع بالتصديق في النصف أو الثلث حسب اختلاف الأطراف.
وعلى حدّ تعبير السيد اليزدي: «أنّ الأسهل والأخصر في البيان أن يقال: إنّ اللازم العمل بكلّ من البيّنتين في نصف الثمن، وهو إنّما يتأتّى على طريقة الشهيد كما هو واضح».
ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين قيام البيّنات ابتداءً على ما به التفاوت من دون تعرّض للقيم، وبين قيامها على القيم؛
لأنّ الظاهر أنّ التقويم مقدّمة لتعيين ما به التفاوت بين الصحيح والمعيب، فالاعتبار بالمدلول الالتزامي، والأمر بالتقويم مقدّمي طريقي.
وفيه تفصيل نقلنا محصّله.
وأمّا على الثاني- وهو ما إذا كان مستند الجمع الجمع بين الحقّين- فلا مقتضي لملاحظة قيمتي الصحيح والمعيب
وانتزاع قيمة متوسّطة، ثمّ ملاحظة كسر تلك القيمة المنتزعة، بل الحقّ
ابتداءً يدور أمره بين النصف والربع- مثلًا- فلا بدّ من تنصيفهما.
ومن هنا احتمل الشيخ الأنصاري
إرجاع كلام الأكثر إلى الطريق الثاني، وأنّ كلّ من عبّر بالأوسط يحتمل أن يريد الوسط من حيث النسبة لا من حيث العدد.
ثمّ إنّه قد يتّحد طريق المشهور مع طريق الشهيد وقد يختلف، وهذا لا موضوع له بناءً على مذهب من عرفت من المتأخّرين من
إنكار الجمع والمصير إلى التساقط والرجوع إلى
الأصل ، كما صرّح بذلك بعضهم.
نعم، هو يأتي بناءً على القول بالجمع كما هو واضح، وقد ذكروا صور ذلك
نتركها هنا رعاية
للاختصار بما يناسب.
الموسوعة الفقهية، ج۱۰، ص۷۸-۹۶.