ضمان الأمر
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الأمر (توضيح).
لا
كلام بين
الفقهاء في أنّ من أسباب
الضمان العقد و
الإتلاف واليد و
التسبّب و
الاستيفاء ،
وإنّما الكلام في
الأمر هل هو من أسباب الضمان أم لا؟ وهذا ما تعرّض له الفقهاء في
القصاص و
الإجارة ، وينقسم
البحث فيه إلى قسمين:
وهو تارة في
النفوس ، واخرى في ما دون
النفس .
لا
إشكال في
حرمة الأمر بقتل النفس
المحترمة أو ما دون النفس من
الأعضاء وأنّه يعاقب عليه- كما تقدّم- وإنّما الكلام في كونه سبباً للضمان أم لا؟ وأنّه مَن يكون
الضامن ، هل هو الآمر أو
المأمور ؟ فهنا حالتان:
لا كلام بين
الفقهاء في عدم ضمان الآمر فيما لو كان أمره بالقتل ولو لزم منه
إكراه الجاني؛
لأنّ
موضوع ضمان النفس أمران:
أحدهما:
استناد الفعل إليه.
ثانيهما: كونه
صادراً ظلماً و
عدواناً .
ومن
المعلوم أنّ
الفعل لا يستند إلى الآمر عرفاً، فلا موجب لضمانه و
القصاص منه، بل هو
مستند إلى
المباشر ، ولذا بحثوا عن ضمان المأمور إلّاأن يكون المأمور
مجنوناً أو
صبياً غير مميّز فيضمن الآمر ويقتصّ منه؛ لأنّ
السبب هنا أقوى من المباشر، فيحسبان عندئذٍ
كآلة الجناية .
نعم،
المشهور في الصبي المميّز أنّ الضمان ينتقل إلى
الدية ، وهي على
عاقلته؛ لأنّ عمد الصبي
خطأ تحمله عاقلته.
وفي مقابل المشهور هناك من قال بضمان الصبي الذي بلغ عشر سنين من عمره.
ولعلّه لأجل ما ورد عن
زرارة عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا أتى على
الغلام عشر سنين فإنّه يجوز في ماله ما أعتق أو تصدّق أو أوصى على حدّ
معروف وحقّ، فهو
جائز ».
وما ورد عن
السكوني عن
الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام في
رجل وغلام اشتركا في قتل رجل فقتلاه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا بلغ الغلام خمسة أشبار اقتصّ منه...».
ولكن ضعّف بأنّ ما ورد في نفوذ
وصيّته و
صدقته لا يوجب جواز
الاقتصاص منه.
و
الخبر معارَض بما دلّ على أنّ عمد الصبي خطأ، حيث إنّ ظاهره الصبي المميّز، وإلّا فلا عمد لغير المميّز، فإنّه كالآلة.
ولضمان المأمور صور متعدّدة، هي:
۱- المأمور بقتل شخص ثالث غير الآمر:
لا
خلاف ولا إشكال في أنّ المأمور ضامن ما لم يكن
مهدّداً بالقتل؛ وذلك لما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: في رجل أمر رجلًا بقتل رجلٍ، فقال: «يقتل به الذي قتله، ويحبس الآمر بقتله في الحبس حتى يموت».
وأمّا لو هدّده بالقتل فقد ضمّنه المشهور أيضاً؛
لاستناد الفعل إليه، وللرواية المتقدّمة، حيث إنّ
إطلاقها شامل لصورة
التهديد أيضاً،
مضافاً إلى عدم
جريان حديث رفع
الإكراه في
المقام من وجهين:
أحدهما: أنّ
الحديث وارد مقام
الامتنان ، فلا يجري فيما لزم من جريانه خلاف
المنّة على الغير.
ثانيهما: أنّه لم يثبت لدليل الإكراه
إطلاق يشمل جميع
المحرّمات حتى
القتل و
الزنى خصوصاً
المحصن منه،
وإنّما هو مختص بما كان الإكراه بما دون النفس.
كما يدلّ عليه قول أبي عبد اللَّه عليه السلام في رواية
أبي حمزة الثمالي : «... إنّما جعلت
التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية
الدم فلا تقية...».
لكن خالف
السيّد الخوئي واستشكل في الضمان ولم يستبعد
جواز القتل- عندئذ- وذلك
لدخول المقام- في هذه الحالة- في باب
التزاحم ، وحيث لا ترجيح لأحد الطرفين فله
اختيار قتل الآخر و
إنقاذ نفسه، فلم يقع القتل منه ظلماً ليثبت عليه الضمان والقصاص.
ونوقش: بأنّ دخول المقام في التزاحم والحكم فيه
بالتخيير يتوقّف على
إحراز تساوي الملاكات، وما يمكن إحرازه هو
تساوي ملاك حرمة قتل نفسه وملاك حرمة قتل الآخر، لا إحراز تساوي ملاك
صلاح التحفّظ على النفس من هلاكها- كما هو محلّ البحث- مع ملاك حرمة قتل النفس المحترمة، فإنّه لا
سبيل إلى إحراز ذلك، بل من
المحتمل قريباً ترجيح ملاك حرمة قتل النفس؛
لإطلاق قول أبي عبد اللَّه عليه السلام- المتقدّم-: «... إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية...».
وتفصيله في محلّه.
۲- المأمور بقتل الآمر:
لو أذن له بالأمر بقتل نفسه بأن قال: اقتلني وإلّا قتلتك، ذهب المشهور إلى نفي الضمان عن المأمور؛
لأنّ الآمر قد أسقط حقّه
بالإذن فيه، فلا يتسلّط
الوارث عليه.
لكنّ السيّد الخوئي ذهب إلى أنّ الضمان
ثابت على المأمور؛
مورداً على المشهور بأنّ
الإنسان غير مسلّط على
إتلاف نفسه ليكون إذنه بالإتلاف
مسقطاً للضمان كما هو الحال في الأموال، فتظلّ عمومات القصاص محكمة.
وانتصر بعض الفقهاء للمشهور وذكر أنّه يشكّ في شمول أدلّة القصاص لحالة
وقوع الإذن من المقتول، خصوصاً مع كون إذنه مقروناً بالتهديد والإكراه، وكذا شمول أدلّة الدية، ولا أقلّ من أن يكون ذلك
شبهةً دارئةً لخصوص القصاص بناءً على كونه كالحدود يدرأ بالشبهات.
۳- المأمور بالانتحار :
لو أمره بأن ينتحر، فإن كان المأمور مجنوناً أو صبياً غير مميّز يثبت الضمان على الآمر ويقتصّ منه،
وإلّا فلا ضمان عليه.
هذا فيما لو كان المأمور مهدّداً بما دون القتل أو بالقتل، وأمّا لو كان مهدّداً بما يزيد على القتل بأن قال: أقتل نفسك وإلّا قطّعتك إرباً إرباً، فهنا ذهب السيّد الخوئي إلى جواز
الانتحار في هذه الحالة؛ لعدم
تصوّر شمول دليل الإكراه للمقام،
فيجوز له الانتحار؛ ليخلّص نفسه ممّا هو
أصعب من القتل. ونوقش بأنّ
الصعوبة غير مجوّزة للانتحار، وإلّا لجاز الانتحار في كلّ مورد يعلم بالموت بعد تحمّل
المشقّة ، كمن يعلم بأنّه سيموت عطشاً فينتحر لكي يتخلّص من
الأذى و
الألم . ومن المعلوم أنّه غير جائز.
أمّا ضمان الآمر في هذه الحال فقد ذهب
الشهيد الثاني إلى ثبوته؛
إذ الإكراه هنا يوجب قوّة السبب الموجبة
لاستناد الفعل إليه دون المباشر. ونوقش بأنّ الإكراه مهما كان لا يوجب استناد الفعل إلى المكره، فلا موجب لضمانه والاقتصاص منه.
نعم، لم يستبعد بعض الفقهاء ثبوت الدية على الآمر؛ لأنّ دم
المسلم لا يذهب هدراً.
لو أمره
بالجناية على ما دون النفس وهدّده بالقتل لو لم يفعل- كما لو أمره بقطع
عضو من أعضاء ذات النفس المحترمة كاليد والرجل وما أشبه ذلك- فلا خلاف بين الفقهاء في جواز
القطع ؛ وذلك لشمول إطلاق دليل الإكراه،
فيرفع به حرمة القطع؛ لأنّ قطع اليد وإن كان محرّماً في نفسه إلّاأنّه مع التزاحم مع ما هو أهم منه- وهو
حفظ النفس المحترمة- يصبح جائزاً.
أمّا الضمان فظاهر الفقهاء عدم ضمان المأمور؛ لأنّ فعله لا يتّصف بالظلم و
العدوان كي يتحقّق به
موضوع الضمان.
وأمّا الآمر فظاهر الفقهاء
ثبوت الضمان عليه فيقتصّ منه،
لكنّ السيّد الخوئي نفى القصاص عنه أيضاً؛ لعدم
استناد الفعل إليه وأثبت الدية على المأمور لكي لا يذهب عضو المسلم هدراً.
وله
الرجوع إلى الآمر فيما خسره من الدية حيث إنّه أتلفها عليه بإكراهه.
ويرى بعض الفقهاء
المعاصرين ثبوت الدية على الآمر، متأمّلًا في ذلك؛ لاحتمال ثبوتها في
بيت المال .
وتفصيله في محلّه.
لا خلاف بين الفقهاء في أنّ عمل
العامل محترم وله قيمة عند
العقلاء و
العرف ، إلّا أن يسقط العامل نفسه حرمة عمله
بالتبرّع به أو
إتيانه مجّاناً. وعليه فلو استوفاه أحد أو أتلف عليه فقد ضمن
اجرة المثل. وهذا ممّا لا كلام فيه، وإنّما الكلام في الأمر بالعمل هل يكون كذلك أم لا؟ هذا ما بحثه الفقهاء في باب
الإجارة وقالوا بأنّه لا خلاف بين الفقهاء
في أنّه لو أمر شخصاً بأن يعمل له عملًا فعمل به يضمن له الآمر اجرة المثل إن كان للعمل اجرة عادةً.
ولا فرق في ذلك بين كون العامل ممّن
شأنه أخذ الاجرة ومعدّاً نفسه لذلك أم لا، وإنّما الخلاف في أنّ الضمان من باب أنّ الأمر سبب لإتلاف عمله فيضمن بالإتلاف، أو أنّه من باب
الاستيفاء ، أو من حيث
احترام عمل المسلم، أو غير ذلك ممّا بحثه الفقهاء مفصّلًا في باب الإجارة مع
مناقشته .
والذي استقرّ عليه رأي الفقهاء المعاصرين هو أنّ
السيرة العقلائية و
ارتكاز العرف والمتشرّعة قاما على الضمان في موارد الأمر من غير نكير، كما هو
المشاهد كثيراً في مثل
الحمّال و
الحلّاق وما شابههما من ذوي
المهن والأعمال، وكذا غيرهم.
وهذه السيرة قد أمضاها
الشارع ولم يردع عنها، بل قد ورد
التأكيد عليها في بعض الروايات،
وأنّ
المناط الموجب للضمان عندهم هو استيفاء العمل غير
المباح من العامل وعدّهم
لاستباحة العمل ظلماً وعدواناً.
كما أنّ المناط في حصول الاستيفاء الموجب للضمان أن يكون بعثاً و
تحريضاً للعامل، ولا فرق في
البعث بين أن يكون بالقول كالأمر، وأن يكون بالفعل كأن يدفع إلى
الخيّاط الثوب ليخيطه أو
الغسّال ليغسله أو يجلس بين يدي الحلّاق أو
الدلّاك ، فيحلق رأسه ويدلك بدنه، فإنّ ذلك بمنزلة الأمر في حصول الاستيفاء
المقتضي للضمان.
وهناك تفاصيل اخرى تراجع في محالّها.
الموسوعة الفقهية، ج۱۷، ص۱۰۱-۱۰۸.