الارتداد (استتابة المرتد)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الارتداد (توضيح) .
قد تقدّم قيام
الإجماع على قبول توبة المرتدّ عن ملّة والمرتدّة ولو كانت فطريّة، بمعنى سقوط أحكام الردّة عنهما بالتوبة، بل أنّهما يستتابان قبل
العقوبة .ولكنّهم اختلفوا في توبة
المرتدّ الفطري بين من نفى قبولها مطلقاً، وبين من أثبت قبولها مطلقاً، وبين مفصّل في ذلك، على أقوال:
عدم قبول
التوبة مطلقاً، لا ظاهراً ولا باطناً، بمعنى أنّه لا تسقط عنه أحكام الردّة جميعها حتى فيما بينه وبين اللَّه تعالى، بل تجري عليه حتى لو أعلن التوبة وأظهر الندم وتنصّل إلى اللَّه تعالى.ويستفاد هذا القول من عبائر جملة من المتقدّمين حيث أطلقوا القول بأنّ المرتدّ إن كان عن فطرة وكان ذكراً وجب قتله،ولو تاب لم تقبل توبته،قال الشيخ في
المبسوط: «وعندنا أنّ المرتدّ على ضربين: مرتدّ ولد على فطرة الإسلام فهذا لا يقبل إسلامه، ومتى ارتدّ وجب قتله.
بل نسب إلى المشهور، وبه صرّح
الشيخ جعفر كاشف الغطاء حيث قال: «ولا تقبل توبته (الفطري) ظاهراً، ولا باطناً، نجس العين، يعاقب على ترك
العبادات ، ولا تصحّ منه، ولا مانع من ذلك بعد أن أهمل المقدّمات باختياره...».
واستدلّ لذلك بإطلاق الأخبار، كحسنة
محمّد بن مسلم عن
أبي جعفر عليه السلام: «من رغب عن
الإسلام وكفر بما انزل على
محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بعد إسلامه فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت منه امرأته، ويقسّم ما ترك على
ولده ».
وقول
أبي عبد اللَّه عليه السلام في موثّقة
عمّار الساباطي : «كلّ مسلم بين مسلمين ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم
نبوّته وكذّبه فإنّ دمه
مباح لكلّ من سمع ذلك منه، وامرأته بائنة منه يوم ارتدّ فلا تقربه، ويقسّم ماله بين ورثته، وتعتدّ امرأته عدّة المتوفّى عنها زوجها، وعلى
الإمام أن يقتله ولا يستتيبه».
وغير ذلك من الأخبار.وظاهرهما عدم القبول مطلقاً؛ لإجرائه مجرى الميّت في الأحكام المذكورة.
قبول التوبة مطلقاً، ظاهراً وباطناً، بمعنى أنّه لو تاب تسقط عنه أحكام الردّة جميعاً حتى
القتل ، نسب
ذلك إلى
ابن الجنيد حيث انّه جعل المرتدّ قسماً واحداً وأنّه يستتاب.واختاره
القاضي في موضع من
المهذّب حيث نصّ على أنّ الفطري إذا تاب لم يكن لأحد عليه سبيل.
وقوّاه
الشهيد الثاني في موضع من
الروضة عند تعرّضه لقضاء عبادات المرتدّ.
واستدلّ له بالأخبار
العامّة في
الاستتابة ، وخصوص صحيحة
هشام بن سالم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «أتى قوم
أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام فقالوا:السلام عليك يا ربّنا! فاستتابهم فلم يتوبوا، فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها ناراً... فلمّا لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة... حتى ماتوا».
والظاهر أنّ موضوعها المرتدّ الفطري حيث انّه يظهر منها أنّ القوم كانوا من
شيعة عليّ عليه السلام ثمّ ارتدّوا وصاروا من الغلاة.ولكن ردّ بأنّه شاذّ لا يعبأ به،
مع أنّه خلاف صريح النصوص.
وأمّا الروايات التي استدلّ بعمومها فقد حملها الفقهاء على الملّي؛ جمعاً بين الأخبار،
مضافاً إلى أنّ بعضها ضعيف السند.
التفصيل بين الأحكام المنصوصة التي أوجبتها الردّة من القتل وبينونة الزوجة وقسمة أمواله على الورثة فلا تقبل التوبة فيها، وبين غيرها من الأحكام فتقبل، وعليه فلو لم يطّلع عليه أحد أو لم يقدر على قتله أو تأخّر بسبب وتاب فإنّه تقبل توبته، وتصحّ عباداته ومعاملاته وتزويجه جديداً حتى بامرأته السابقة، ويطهر بدنه ويدفن في مقابر المسلمين.
وقد عبّر جماعة من الفقهاء عن ذلك بقبول توبته باطناً وعدم قبولها ظاهراً، كالشهيدين
والفيض الكاشاني والمحدّث البحراني وغيرهم.
كما عبّر عنه آخرون بقبول توبته في غير الأحكام الثلاثة باطناً وظاهراً
في قبال ما يأتي من القول الرابع.
ولعلّ أوّل من يظهر منه هذا التفصيل
العلّامة في
التحرير ، فقد أشار إليه بقوله:فإن تاب المرتدّ عن فطرة فالوجه
طهارة بدنه،
مع حكمه في موضع آخر منه بوجوب قتله وعدم قبول توبته.
واستدلّ لذلك: أوّلًا: بأنّه مقتضى الجمع بين الأخبار الدالّة على عدم قبول توبة الفطري، وبين ما دلّ على قبولها من الآيات والروايات.
وثانياً: بما دلّ على توجّه خطاب
التكليف إليه من عموم أدلّة التكاليف لكلّ
بالغ عاقل مسلم، فيلزم صحّة عباداته وقبولها منه المستلزم لقبول التوبة، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق، وهو منفيّ عقلًا ونقلًا.
ولا ينافيه
إجراء تلك الأحكام التي اشتملت عليها الأخبار المتقدّمة- من القتل وبينونة الزوجة وقسمة الأموال على الورثة- فإنّ هذا أمر آخر وراء قبول التوبة باطناً.
وناقش فيه
المحقّق النجفي بأنّ الجمع بين الأدلّة بذلك في غاية
السقوط ؛ إذ فيه «أوّلًا: أنّه يمكن منع
القطع بعدم سقوط التكليف عنه؛ لظهور الأدلّة في تنزيله منزلة الميّت، كما يومئ إليه اعتداد زوجته عدّة الوفاة، وقسمة أمواله بين ورثته وغير ذلك، كإمكان منع كون ما نحن فيه من طهارة بدنه للغير من مقتضيات القبول الباطني؛ ضرورة أعمّية ذلك الشاهد العقلي منها، بل جعل نجاسته من الأحكام الظاهريّة التي حكي الإجماع على عدم قبول توبته بالنسبة إليها...
والالتزام بمقتضى
الدليل العقلي - من قبول أعماله، فيكون بدنه طاهراً بالنسبة إليه خاصّة في الأعمال... لا في حقّ غيره، فلا يؤتمّ به ولا يستناب مثلًا- أولى قطعاً... وثانياً:أنّه لا قبح في التكليف بذلك بعد امتناعه عليه باختياره؛ لما هو مقرّر في محلّه أنّ ما بالاختيار لا ينافي
الاختيار ، وله نظائر كثيرة في
الشرع ».
التفصيل بين ما يتعلّق بعمل نفسه وبالنسبة إلى ما يتعلّق بالغير، فبالنسبة إلى نفسه يعامل معاملة المسلم، فيبنى على طهارة بدنه وصحّة
وضوئه وغسله فيصلّي ويصوم، وبالنسبة إلى الغير فهو
نجس العين. وهو اختيار المحقّق النجفي في قوله: «يقوى في النظر قبول توبته باطناً بالنسبة إليه نفسه لا غيره».
ونسبه
السيد الگلبايگاني إلى (القيل)، قال: «قيل: إنّه تقبل توبته باطناً بمعنى صحّة عباداته وطهارته عند نفسه، لا ظاهراً بمعنى عدم صحّة عباداته بالنسبة إلى الغير، فلا يجوز للغير
الاقتداء به ولو صار بعد إسلامه عادلًا، وكذا لا يجوز للغير معاملته معاملة الطاهر».
وردّ ذلك بأنّه لا دليل عليه إلّا زعم أنّه جمع بين الأدلّة، مع أنّ المقام من العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد، لا
التعارض حتّى يحتاج إلى الجمع؛ لأنّ عمومات قبول التوبة وإطلاقاتها وما دلّ على أنّ الإسلام مجرّد
الإقرار بالشهادتين محكمة.
التفصيل بين
إنكار الشهادتين أو إحداهما، وبين إنكار شيء من الضروريات، فلا تقبل التوبة في الأوّل وتقبل في الثاني؛ للشكّ في شمول الأدلّة النافية للتوبة لمنكر الضروري، فيبقى عمومات التوبة بحالها، حكاه
المحقّق الهمداني عن ظاهر بعض،وقريب من ذلك ما قاله في
كشف الغطاء: «منكروا بعض الضروريّات مع سبق بعض الشبهات، ودخولهم في اسم المسلمين كطوائف الجبريّة.
إذا تابوا قبلت توبتهم؛ للشكّ في شمول أدلّة الفطريّة لهم، وأصالة قبول توبتهم». ولكن تنظّر فيه مدّعياً قصور الأدلّة النافية عن إثبات الجزء الأوّل من مدّعاه،
كما سبق في القول الثالث.
بناءً على قبول توبة الفطري في غير الأحكام المنصوصة لا يجب عليه بعد التوبة تعريض نفسه للقتل، بل يجوز له الممانعة وإن وجب قتله على غيره، كما صرّح بذلك
السيد اليزدي .
وارتضاه عدّة من المحشين بل ولم يستبعد
السيد السبزواري وجوب الممانعة على فرض شمول دليل وجوب حفظ النفس للمورد أيضاً.
واستدلّ له
السيد الحكيم بالأصل، وأمّا قوله عليه السلام: «وقد وجب قتله»
فظاهر في الوجوب على غيره، لا على عامّة المكلّفين حتى نفسه.
وفرّق جماعة من المحشّين على العروة بين صورتي حكم الحاكم بلزوم قتله وعدم حكمه بذلك:ففي الصورة الثانية وقع
الاتّفاق على أنّه لا يلزم تعريض نفسه،
يستفاد ذلك من عبارة العروة وأيّده المحشّون لعدم التعليق على ذلك. بل قال
السيد الخوئي : إنّه «لا ينبغي التردّد في حرمة تعريض المرتدّ نفسه إلى القتل
بإظهاره عند الحاكم أو بغيره؛ لوجوب حفظ
النفس عن القتل».
وأمّا في الصورة الاولى- أي بعد حكم
الحاكم بلزوم قتله- فظاهر السيدين الميلاني
والإمام الخميني وجوب التعريض،
وهو غير بعيد عند السيد الخوئي؛ استناداً إلى وجوب تنفيذ حكم
الحاكم الشرعي وحرمة الفرار عنه؛ لأنّ ردّ حكمه بالفعل أو القول ردّ
للأئمة عليهم السلام وهو ردّ للَّه سبحانه.
سبق أنّ عقوبة الارتداد في الملّي والمرأة المرتدّة تتوقّف على الاستتابة بغير خلاف في ذلك.ولكن يقع البحث في أنّ الاستتابة هل هي واجبة أم مستحبّة؟المعروف بين فقهائنا وجوب الاستتابة في الملّي؛ إذ هو ظاهر الأكثر والمستفاد من قولهم: يستتاب الملّي، فإن امتنع قتل،
وبه صرّح
الشيخ الطوسي والمحقّق والعلّامة الحلّيان وغيرهم.
بل ظاهر الشهيدين وغيرهما الإجماع عليه،
كما نصّ عليه الشيخ في
الخلاف .
واستدلّ لذلك بالأمر بها في الرواية الظاهر في الوجوب،
وبالاحتياط في الدماء.
ومن تلك الأخبار مرفوعة
عثمان بن عيسى ، قال: كتب عامل أمير المؤمنين عليه السلام إليه: إنّي أصبت قوماً من المسلمين زنادقة، وقوماً من النصارى زنادقة، فكتب إليه: «أمّا من كان من المسلمين ولد على الفطرة ثمّ تزندق فاضرب عنقه ولا تستتبه، ومن لم يولد منهم على الفطرة فاستتبه، فإن تاب، وإلّا فاضرب عنقه...».
ورواه الصدوق إلّا أنّه قال: «ولد على الفطرة ثمّ ارتد».
وغير ذلك من الأخبار.والقول
بالاستحباب لم نعثر على قائل به من فقهائنا، وقد نسبه الشيخ في
المبسوط إلى قوم،
وفي الخلاف إلى
الشافعي وأبي حنيفة .
واستدلّ له بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه»،
ولكن ردّ ذلك بأنّ هذا
الحديث مقيّد بأمر الاستتابة.
وأمّا بالنسبة إلى المرأة المرتدّة- سواء كانت عن ملّة أو عن فطرة- فلم يتعرّض الفقهاء إلى أن استتابتها على نحو الوجوب أم الاستحباب، ولكن يستفاد من الأخبار وجوبها بالنسبة إليها أيضاً، حيث علّقت عقوبتها- من الحبس والضرب وغيرها- على الاستتابة
والامتناع عنها، كرواية
عبّاد ابن صهيب عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:«المرتدّ يستتاب، فإن تاب وإلّا قتل، والمرأة تستتاب، فإن تابت وإلّا حبست في السجن، واضرّ بها».
نعم، لو قلنا بعدم قبول توبة الفطرية وأنّها تحبس دائماً حتى مع التوبة- كما تقدّم- فلا تجب الاستتابة.
لا خلاف- كما تقدّم- في أنّ الملّي لا يقتل من أوّل الأمر، بل يستتاب، فإن امتنع يقتل، وإنّما وقع الخلاف في مدّة الاستتابة على أقوال:
فذهب بعض الفقهاء كالمحقّق وابن سعيد الحلّيين والشهيد في بعض كتبه وغيرهم إلى تحديدها بثلاثة أيّام، فإن تاب عفي عنه، وإلّا قتل في اليوم الرابع.
واستدلّ لذلك:
أوّلًا: بأنّه موافق للاحتياط في الدماء
والتحذير عن القتل مهما أمكن،
لما فيه من التأنّي
لإزالة عذره؛ إذ ربّما عرضت له شبهة.
وثانياً: بالاستصحاب، فإنّه كان محقون الدم، وكان لا يجوز قتله، والآن نشكّ في ذلك فهو بعد باقٍ على كونه مصون الدم، وأمّا الموضوع فهو هذا الشخص فلا يتفاوت بتفاوت الأحوال.
وثالثاً: بخبر
مسمع بن عبد الملك عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: المرتدّ عن الإسلام تعزل عنه امرأته، ولا تؤكل ذبيحته، ويستتاب ثلاثة أيّام، فإن تاب، وإلّا قتل يوم الرابع».
وليس فيه: «عن الإسلام». والرواية وإن ضعّفها جماعة،
إلّا أنّ
الصدوق رواها بطريق معتبر عن
السكوني وزاد في آخره: «إذا كان صحيح العقل».
من هنا استدلّ بها بعض المتأخّرين.
وذهب آخرون كالشيخ الطوسي
وفخر المحقّقين والشهيد الثاني وغيرهم
إلى تحديد الاستتابة بالقدر الممكن الذي يؤمّل معه عوده إلى الإسلام، ويقتل بعد اليأس منه وإن كان من ساعته.واحتجّ لذلك بإطلاق سائر الأدلّة، كخبر علي بن جعفر عن أخيه عليهما السلام- في حديث- قال: قلت: فنصرانيّ أسلم ثمّ ارتدّ؟ قال:«يستتاب، فإن رجع، وإلّا قتل».
وغير ذلك من الأخبار، ولا يقيّدها الخبر المزبور بعد ضعفه.
نعم، الصبر عليه ثلاثة أيّام أولى رجاءً لعودته، واحتياطاً في الدماء، وحملًا للخبر- المتقدّم- على الاستحباب.
وذهب ثالث إلى عدم تقدير الاستتابة بشيء، ذكره الشيخ الطوسي- في بعض كتبه- ناسباً له إلى أصحابنا.
ونسبه بعضهم إلى القيل.
قال الشيخ الطوسي: «الموضع الذي قلنا: يستتاب، لم يحدّه أصحابنا بقدر، والأولى أن لا يكون مقدّراً... دليلنا: أنّ التحديد بذلك يحتاج إلى دليل. وأيضاً روي عن عليّ عليه السلام أنّه تنصّر رجل فدعاه وعرض عليه الرجوع إلى الإسلام فلم يرجع، فقتله ولم يؤخّره، وظاهر ذلك أنّه لا تقدير فيه».
ويحتمل أن يكون مراد الشيخ بذلك ما صرّح به في القول الثاني.هذا، ولكن لو قال المرتدّ: حلّوا شبهتي ففيه احتمالان وقد تعرّض بعض الفقهاء للاحتمالين من دون اختيار احتمالٍ كالعلّامة في
القواعد والشهيد في
الدروس والفاضل الاصفهاني في
كشف اللثام:
الأوّل: إلزامه
التوبة في الحال ثمّ يكشف له، قوّاه فخر المحقّقين وبعض آخر؛
وذلك لوجوب التوبة
والإقرار بالإسلام على الفور، والكشف وإن وجب كذلك لكن يستدعي مهلة، وربّما طال زمانه.
والثاني:
الإنظار إلى أن تحلّ شبهته، وهو اختيار
كاشف الغطاء ؛
وذلك لوجوب حلّ الشبهة، فيجب الإنظار لإزالة عذره،
ولأنّ
التكليف بالإيمان مع الشبهة من التكليف بما لا يطاق.
وقيّد بعض الفقهاء الإنظار بتأثير
الإرشاد في حلّ الشبهة، قال
المحقّق الأردبيلي : «فالأجود أن يحال إلى نظر الحاكم، فإن احتمل عنده الرجوع
والارتداع ، وأنّه يسأل عن الإرشاد معتقداً له ومريداً لإزالة شبهته بفعل مقدار ما يمكن دفع مثله بمثله؛ لأنّ ردعه واجب، وهو موقوف على ذلك بظنّه فلا بدّ من فعله. وإن رأى عدم التأثير والعناد وعدم التوجّه إلى التحقيق
والاستكشاف لا يسمع قوله بل يقتله، فهذا هو التحقيق».
ولكن المحقّق النجفي ردّ ذلك كلّه بأنّه منافٍ لإطلاق ما دلّ على قتله مع عدم التوبة؛ ولعلّه لعدم معذوريّته في الشبهة، بل التحقيق أنّه يستتاب ثلاثة أيّام- كما تقدّم- فإن لم يتب قتل، ذكر شبهة أو لم يذكر.
ونسب
الفاضل الاصفهاني إلى القيل تفصيلًا آخر، وهو أنّه «إن اعتذر بالشبهة أوّل ما استتيب قبل
انقضاء الثلاثة الأيّام، أو الزمان الذي يمكن فيه الرجوع امهل إلى رفعها، وإن أخّر
الاعتذار عن ذلك لم يمهل؛ لأدائه إلى طول
الاستمرار على الكفر».
لكن قال في
جواهر الكلام : «لم أجده لأحدٍ من أصحابنا، ولعلّه لبعض العامّة، ولا ريب في وضوح ضعفه بمنافاته لإطلاق الأدلّة؛ ضرورة اقتضائه
الإمهال ولو سنين على الأوّل، ويمكن دعوى القطع بأنّه خلاف النص
والفتوى ».
ثمّ إنّ البحث عن مدّة الاستتابة يجري في المرأة المرتدّة لو قلنا بتوقّف عقوبتها- من السجن والضرب- على الاستتابة، كما قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء:«وحكمه (الفطري من معلوم الانوثة) أن تستتاب بما يرجى عوده به، لا بخصوص ثلاثة أيّام، فإن تابت اطلقت ولا شيء عليها، وإلّا جعلت في السجن وضيّق عليها في المأكل والمشرب...».
إذا تكرّر الارتداد من الملّي فهل يقتل في الثانية أو في الثالثة أو في الرابعة أو لا يقتل؟ فيه أقوال:
أنّه يقتل في الثانية، ذهب إليه
أبو الصلاح الحلبي وابن زهرة .
ولعلّ مستندهم ما روي عن
جابر عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «اتي
أمير المؤمنين عليه السلام برجل من بني ثعلبة قد تنصّر بعد إسلامه فشهدوا عليه، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ما يقول هؤلاء الشهود؟ فقال: صدقوا وأنا أرجع إلى الإسلام، فقال: أما أنّك لو كذّبت الشهود لضربت عنقك، وقد قبلت منك فلا تعد، فإنّك إن رجعت لم أقبل منك رجوعاً بعده».
لكن في الجواهر: «لم أجد بها عاملًا، فهي مطّرحة أو محمولة على سبق رجوع منه».
وقال في
الدرّ المنضود: «فهي وإن كانت صريحة في عدم القبول إن رجع إلّا أنّ مقتضاها عدم قبول التوبة في المرّة الثانية ولم يقل به أحد، هذا مضافاً إلى أنّه ربّما يستظهر منه أنّها متعلّقة بالفطري دون الملّي».
بل ناقش فيها
السيد الخوئي بأنّها ضعيفة السند، على أنّ متنها مخالف للمقطوع به.
أنّه يقتل في الثالثة وإن كان الأحوط التأخير إلى الرابعة، وهو قول الشهيد الثاني والفيض الكاشاني والشيخ جعفر كاشف الغطاء وغيرهم.
واستدلّ لذلك بعموم رواية
يونس عن
الكاظم عليه السلام قال: «أصحاب الكبائر كلّها إذا اقيم عليهم الحدّ مرّتين قتلوا في الثالثة».
بتقريب أنّ الكفر من أعظم الكبائر.
ويمكن أن يستدلّ له أيضاً بخبر جميل
ابن درّاج وغيره عن أحدهما عليهما السلام: في رجل رجع عن الإسلام، قال: «يستتاب، فإن تاب وإلّا قتل»، قيل لجميل: فما تقول: إن تاب ثمّ رجع عن الإسلام، قال:يستتاب، قيل: فما تقول: إن تاب ثمّ رجع؟ فقال: لم أسمع في هذا شيئاً، ولكنّه عندي بمنزلة الزاني الذي يقام عليه الحدّ مرّتين ثمّ يقتل بعد ذلك.
أورد صدره في الوسائل،
ونوقش في الروايتين:
أمّا خبر يونس فإنّه لا يشمل المقام؛ لأنّ الرواية خاصّة بما إذا اقيم الحدّ على الجاني مرّتين، وهو غير متحقّق في المقام.
وأمّا خبر جميل فضعيف ب (علي بن حديد)، على أنّ المذكور فيه فتوى لجميل، فلا حجّية فيها.
أنّه يقتل في الرابعة، وهو اختيار
الشيخ الطوسي والعلّامة وابن سعيد الحلّي
وغيرهم.
واحتجّ له الشيخ بقيام
الإجماع على أنّ أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة.
ما ذهب إليه السيد الخوئي من الاستشكال في جواز قتله، بل استظهر أنّه لا يقتل بتكرّر
الارتداد ؛ لأنّه لا دليل على القتل في المرّة الرابعة إلّا ما ادّعاه الشيخ من الإجماع، على أنّ أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة، وهو نقل إجماع لم يثبت، بل ثبت عدمه؛ لذهاب جماعة إلى قتله في الثالثة، مع أنّه لا دليل على ذلك أيضاً، إلّا صحيحة يونس من أنّ أصحاب الكبائر إذا اقيم عليهم الحدّ يقتلون في الثالثة، وهذه الصحيحة لا تشمل المقام باعتبار أنّ المأخوذ فيها سبق
إقامة الحدّ وتخلّله، فهي مختصّة بمورد خاصّ، فتكون أجنبيّة عن المقام، ورواية جميل فتوى له
واجتهاد منه لا يمكن
الاستناد إليها فلا يكون هناك دليل على القتل.
إلّا أنّ السيد الگلبايگاني استدلّ لوجوب قتله بدليل آخر هو أنّ حكم قتل هذا المرتدّ كان من باب تنقيح المناط والأولويّة، كما أنّ الظاهر من كلام جميل هو أنّه أيضاً قد قال بذلك من هذه الجهة؛ لأنّه قال بعد التصريح بعدم رواية في المقام: ولكن عندي بمنزلة الزاني الذي يقام عليه الحدّ مرّتين ثمّ يقتل. فهذا يفيد أنّه لم ير خصوصيةً لباب الزنا، بل رأى أنّ المناط الموجود هناك موجود هنا، وقد روى
محمّد بن سنان عن
الإمام الرضا عليه السلام: «وعلّة القتل بعد إقامة الحدّ في الثالثة على الزاني والزانية لاستخفافهما وقلّة مبالاتهما بالضرب حتى كأنّه مطلق لهما ذلك، وعلّة اخرى أنّ المستخفّ باللَّه وبالحدّ كافر فوجب عليه الحدّ لدخوله في الكفر».
فإذا كان علّة قتل الزاني بعد إقامة الحدّ عليه مرّتين هو أنّه مستخفّ باللَّه تعالى فهذه العلّة موجودة في المقام بأشدّ من ذلك المورد.
لا يقال: على هذا يلزم الحكم بجواز قتل الزاني في المرّة الثالثة وإن لم يتخلّل الحدّ بينها.لأنّا نقول: ورود دليل خاص في مورد الزنا- مثلًا- على اعتبار تخلّل الحدّ لا ينافي
الأخذ بعموم العلّة في سائر الموارد الشامل لها.
هذا كلّه في الرجل، وأمّا المرأة فحكمها حكم الملّي كما ذكره
الفيض الكاشاني والشيخ جعفر كاشف الغطاء وغيرهما،
وظاهرهم عدم الفرق بين ما كان ارتدادها عن ملّة أو عن فطرة.وكذا يلحق بالمرأة
الخنثى المشكل والممسوح فحكمهما حكم المرأة أيضاً،
بلا فرق بين كون ارتداد الخنثى عن ملّة أو عن فطرة.
الكلام هنا فيما يتحقّق به الإسلام بعد الارتداد، قد ذكر الفقهاء أنّ كلمة الإسلام هي الشهادتان وهما قول: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قال المرتدّ ذلك كفى في رجوعه وتوبته، نصّ عليه الشيخ الطوسي والمحقّق والعلّامة الحلّيان وغيرهم.
ولا يعتبر في تحقّق الإسلام زائداً على
أداء الشهادتين أن يتبرّأ من كلّ دين غير الإسلام كما اشترطه بعض العامّة. نعم، لو قالها كان تأكيداً.
هذا إذا كان منكراً للَّه تعالى أو
النبى صلى الله عليه وآله وسلم فإنّه يكتفى في توبته بما ذكر.
وأمّا لو كان مقرّاً باللَّه تعالى وبالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لكنّه جحد عموم نبوّته أو وجوده، أو جحد فريضة علم ثبوتها من دين الإسلام لم يكف الإقرار بالشهادتين في
التوبة ، بل لا بدّ من زيادة تدلّ على رجوعه عمّا جحده.
قال العلّامة الحلّي: «فيقول من جحد عموم النبوّة: أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه إلى الخلق أجمعين، أو يتبرّأ مع الشهادتين من كلّ دين خالف الإسلام. ولو زعم أنّ المبعوث ليس هو هذا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بل آخر يأتي بعد افتقر أن يقول: هذا المبعوث هو رسول اللَّه، أو يتبرّأ من كلّ دين غير الإسلام. وكذا لو جحد نبيّاً أو آية من كتابه تعالى أو كتاباً من كتبه أو ملكاً من
ملائكته الذين ثبت أنّهم ملائكته أو استباح محرّماً فلا بدّ في إسلامه من الإقرار بما جحده».
وقال
الشهيد الثاني : «وتوبته الإقرار بما أنكره فإن كان
الإنكار للَّه وللرسول فإسلامه بالشهادتين، ولا يشترط التبرّي من غير الإسلام وإن كان آكد، وإن كان مقرّاً بهما منكراً عموم نبوّته صلى الله عليه وآله وسلم لم تكف الشهادتان، بل لا بدّ من الإقرار بعمومها، وإن كان بجحد فريضة علم ثبوتها من الدين ضرورةً فتوبته الإقرار بثبوتها على وجهها، ولو كان
باستحلال محرّم فاعتقاد تحريمه مع
إظهاره إن كان أظهر الاستحلال، وهكذا».
ثمّ إنّ المراد بالشهادتين ما يعمّ ما في معناهما أو ما يرادفهما،
بأن يقول: وأنّ محمّداً قد أرسله اللَّه أو بعثه اللَّه. أو يقول بالنسبة إلى الشهادة الاولى: أشهد أنّ الإله هو اللَّه، أو يقول ذلك بلغته من الفارسية أو التركيّة أو غيرهما.
بل لو ترك لفظ
الشهادة فحكم الفاضل الاصفهاني بإسلامه ما لم يظهر منه ما ينافيه،
وقد نفى عنه البأس المحقّق النجفي
أيضاً إذا كان ذلك منه
لإرادة الإسلام.ولكن استشكل في ذلك بعض المعاصرين مع الشكّ، بل اللازم عنده هو
الإتيان بلفظ الشهادة.
ثمّ إنّه هل يكفي أن يقول: أشهد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسول اللَّه أو لا يكتفى به؟
قال العلّامة الحلّي: «لم يحكم بإسلامه؛ لاحتمال أن يريد(بالنبيّ)غيره».
ولكن احتمل المحقّق النجفي
الاكتفاء بظاهر إرادته العهد؛
لأنّ النبيّ المعهود بين المسلمين هو سيّدنا
محمّد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا كلّه في غير الساب، وأمّا الساب فلا توبة له؛ لما تقدّم من أنّه يقتل سواء كان عن فطرة أو عن ملّة، كما أنّ
الساحر أيضاً يقتل إن كان مستحلّاً له، بل ولو كان غير مستحلّ لذلك عند بعض،
إلّا أنّ الشيخ الطوسي ذهب إلى أنّه يستتاب مطلقاً،
وتوبته- كما في
الرواية - أن يحلّ ولا يعقد.
الموسوعة الفقهية، ج۸، ص۳۹۵-۴۱۰.