المحاذاة لأحد المواقيت الخمسة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ذكر جمع من
الفقهاء أنّ
محاذاة أحد
المواقيت الخمسة هي ميقات من لم يمرّ على أحدها، فيجوز
الإحرام من موضع المحاذاة، ولا يجب المرور بالميقات وإن تمكّن منه.
ونسب
ذلك إلى
الشهرة العظيمة، ولم يظهر مخالف صريح في
أصل المسألة إلى زمان
المحقّق الأردبيلي ،
حيث خالف فيه المحقّق المذكور ومن تبعه وبعض المعاصرين.
وقد يظهر من المحقّق في
الشرائع وجود مخالف، مع توقّفه في الحكم المذكور، فإنّه قال: «ولو حجّ على طريق لا يفضي إلى أحد المواقيت قيل: يحرم إذا غلب على ظنّه محاذاة أقرب المواقيت إلى مكّة، وكذا من حجّ من
البحر ».
ويحتمل أن يكون التوقّف في
اعتبار الظن أو في اعتبار القرب إلى مكّة، لا لاعتبار وجوب المرور بالميقات.
نعم يظهر من
أبي المجد الحلبي اختصاص ذلك بحال الضرورة؛ فإنّه قال: «لا ينعقد قبل بلوغ الميقات، وينعقد من محاذاته إذا منعت ضرورة خوف أو غيره من
إتيانه ».
واستدلّ
لجواز الإحرام من محاذاة الميقات- مضافاً إلى
أصالة البراءة من المسير إلى الميقات، واختصاص نصوص المواقيت في غير أهلها بمن أتاها- بما رواه
الكليني ، عن
عبد الله بن سنان ، عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام ، قال: «من أقام بالمدينة شهراً وهو يريد الحجّ، ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق
أهل المدينة الذي يأخذونه فليكن إحرامه من مسيرة ستّة أميال، فيكون حذاء
الشجرة من
البيداء ».
ورواه الصدوق أيضاً بنقل آخر.
والخبر وإن كان وارداً في محاذاة مسجد الشجرة إلّا أنّه يقال: لا خصوصية له، فيتعدّى منه إلى محاذاة سائر المواقيت.
وذهب جماعة إلى لزوم الإحرام من المواقيت مطلقاً؛
لمعارضة الخبر المتقدم مع خبر
إبراهيم بن عبد الحميد عن
الكاظم عليه السلام قال: سألته عن قوم قدموا المدينة فخافوا كثرة البرد وكثرة الأيّام- يعني الإحرام من الشجرة- وأرادوا أن يأخذوا منها إلى
ذات عرق فيحرموا منها فقال: لا وهو مغضب، من دخل المدينة فليس له أن يحرم إلّا من المدينة»
والدالّ على لزوم الإحرام من الشجرة، والمؤيّد بمرسلة الكليني؛ فإنّه بعد ما روى
صحيح ابن سنان قال: وفي رواية: «يحرم من الشجرة، ثمّ يأخذ أيّ طريق شاء»،
وقد استدلّ بها
الفاضل الهندي حيث قال: «لا ريب أنّ
الاحتياط الإحرام من الميقات ما أمكن، خصوصاً وقال الكليني- بعد ما مرّ من صحيح ابن سنان-: وفي رواية: «يحرم من الشجرة ثمّ يأخذ أيّ طريق شاء»».
واجيب عنه بأنّ الروايتين- لضعفهما وهجر الفقهاء لهما- لا تصلحان لمعارضة الصحيحة، سيّما مع
اعتضادها بالأصل ونفي الحرج في
الشريعة والشهرة العظيمة في الجملة،
مضافاً إلى
إمكان حمل خبر إبراهيم بن عبد الحميد على
الكراهة .
وقد ذكر
السيد الخوئي في رفع المعارضة: بأنّ خبر إبراهيم وإن كان معتبراً؛ لأنّ
جعفر بن محمّد بن حكيم المذكور في السند وإن لم يوثّق لدى الرجاليين، لكنّه ثقة؛ لكونه من رجال
كامل الزيارات ، إلّا أنّ الصحيح أن يقال: إنّه لا
معارضة في البين؛ لأنّ مفاد خبر إبراهيم المنع عن
العدول من الشجرة إلى غيرها، وأمّا إذا أحرم من المحاذاة رأساً فلا يشمله المنع.
ولكنه اختار جواز الإحرام من محاذاة
مسجد الشجرة فقط؛ دون محاذاة غيرها من المواقيت تبعاً لما ذكره
السيد الحكيم قدس سره من: «إنّ الرواية (رواية ابن سنان) قد اشتملت على قيود متعدّدة في كلام
الإمام عليه السلام، منها:
الإقامة بالمدينة شهراً. ومنها: أنّه كان يريد الحجّ في هذه الإقامة. ودعوى فهم المثالية بعيدة في القيود المذكورة في شرط القضيّة الشرطية. نعم، لو كانت مذكورة في كلام السائل أمكن دعوى ذلك».
وأضاف عليه السيد الخوئي قدس سره: «بل يمكن أن يقال: بأنّ حذاء مسجد الشجرة له خصوصية، وهي أنّ السنّة في الإحرام منه أن يفرض الحجّ في المسجد ويؤخّر
التلبية إلى البيداء، وهذه الخصوصية غير ثابتةٍ لسائر المواقيت. فلا يبعد أن يكون
الاكتفاء بالمحاذاة إنّما هو لخصوصية لمسجد الشجرة، فلا يمكن التعدّي إلى غيره ولا إلى غير الخصوصيات المذكورة في النصّ».
وبناءً على القول بجواز الإحرام من المحاذاة، لو حاذى ميقاتين في الطريق فهل يجوز أن يحرم من محاذاة أبعدهما عن مكّة أو لا بد وأن يحرم من أقربهما؟ اختلفت كلمات الفقهاء في ذلك على أقوال فظاهر كلمات بعض المتقدّمين، وصريح بعض آخر منهم من لزوم الإحرام من أقرب المواقيت إلى المحرم الذي هو أبعد المواقيت عن مكّة غالباً.
وقال
العلّامة الحلّي : «يحرم بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب، والأولى أن يكون إحرامه بحذو الأبعد من المواقيت من مكّة، فإن كان بين ميقاتين متساويين في القرب إليه أحرم من حذو أيّهما شاء».
وهو مختار
السيد الطباطبائي و
المحقّق النجفي و
السيد اليزدي وأكثر من تأخّر عنه.
واستدلّ له بأنّه يجب قطع المسافة من الميقات إلى مكّة محرماً،
وأيضاً بصحيحي ابن سنان السابقين، فإنّ مقتضاهما محاذاة أبعد الميقاتين عن مكّة إذا كان في طريق يحاذي اثنين،
هذا مضافاً إلى الاحتياط وتحصيل
البراءة اليقينية.
وذكر بعض الفقهاء أنّ مقتضى الاحتياط الإحرام من محاذي أوّلهما ثمّ تجديد نية الإحرام من محاذي آخرهما.
وصريح بعض الفقهاء الإحرام من محاذاة أقرب المواقيت إلى مكّة وحكاه المحقّق عن بعض الفقهاء.
واختاره العلّامة في
القواعد ، قال: «من حجّ على ميقات وجب أن يحرم منه وإن لم يكن من أهله، ولو لم يؤدّ الطريق إليه أحرم عند محاذاة أقرب المواقيت إلى مكّة، وكذا من حجّ في البحر»،
وهو أيضاً ظاهر
المحقّق الثاني .
واستدلّ له بأنّ ما يعلم بوجوب قطعه محرماً هذه المسافة فقط لا أكثر؛ لأنّه المتّفق عليه، فلا يجوز لأحد قطعها إلّا إذا كان محرماً من أيّ جهة دخل، و
الأصل البراءة عن الزائد أي الإحرام من محاذاة الأبعد.
هذا مضافاً إلى أنّه الموضع المتّفق عليه من مخالفة الأصل، وهو عدم جواز الإحرام من غير الميقات.
ولم يتعرّض الفقهاء القدماء لكيفيّة تحقّق المحاذاة للميقات إلّا ما ورد في كلمات
الشهيد الثاني : «هي مسامتته
بالإضافة إلى قاصد مكّة عرفاً».
وذكر السيد اليزدي أنّ لتحقّق المحاذاة طريقين، فقال: «تتحقّق المحاذاة بأن يصل في طريقه إلى مكّة إلى موضع يكون بينه وبين مكّة باب، وهي بين ذلك الميقات ومكّة بالخط المستقيم، وبوجهٍ آخر أن يكون الخط من موقفه إلى الميقات أقصر الخطوط في ذلك الطريق».
وأورد عليه بعض الفقهاء بعدم
اتّحاد هذين الوجهين من الناحية العملية، مضافاً إلى عدم صحّتهما. أمّا عدم الاتّحاد فلأنّ الطريق إذا كان يمرّ خلف الميقات بمسافة معيّنة ثمّ يبعد عنه- حينما يكون عن يمينه أو يساره- يكون أقصر الخط خلفه، مع أنّه أكثر من المسافة التي تكون بين الميقات ومكّة، والشخص حينئذٍ لا يكون محاذياً له، بل يكون خلفه.
وأمّا عدم صحّة الوجه الأوّل فلأنّ النسبة المذكورة ربما تكون ثابتة في موارد كثيرة، ومع ذلك لا تصدق على ذلك الموقف المحاذاة، كما إذا رسمنا دائرة من الميقات وجعلنا مركزها مكّة، فإنّ قاصد مكّة إن وقف في نصف
الدائرة الواقع قبال الميقات فإنّه يعدّ مواجهاً للميقات لا محاذياً له، مع أنّ المسافة بين الموقف ومكّة بمقدار ما بين مكّة والميقات، وإن وقف في النصف الذي وقع فيه الميقات وكان موقفه- مثلًا- على رأس أول ربع الدائرة، كما لو بعد عن الميقات بتسعين درجة، ففي مثله لا تتحقّق المحاذاة بل يكون الميقات خارجاً عن يمينه أو يساره.
وأمّا عدم صحّة الوجه الثاني فلأنّا لو فرضنا أنّه توجّه إلى مكّة من موقفه الواقع على الخط
المحيط للدائرة على درجة خمس وأربعين من الدائرة بالنسبة إلى الميقات، يتشكّل بذلك مثلّثاً بين مكّة والموقف والميقات، ولا ريب أنّ الخط المار من وسط الضلع الواقع بين مكّة والموقف أقصر الخطوط إلى الميقات من الخط المار من الموقف إلى الميقات، مع أنّه خارج عن المحاذاة؛
لاستلزامه الانحراف عن الميقات يميناً أو شمالًا.
وذكر بعض المعلّقين على العروة لبيان الضابط في المحاذاة؛ أن يكون الميقات عن يمين الشخص أو يساره بالخط المستقيم حينما يكون مواجهاً
لمكّة المكرّمة .
وقد يستدلّ له أيضاً بصحيحة عبد اللَّه بن سنان المتقدّمة، فإنّ قوله عليه السلام فيها «فليكن إحرامه من مسيرة ستّة أميال، فيكون حذاء الشجرة من البيداء» ظاهرها في أنّ مسيرة ستّة أميال من المدينة إلى سمت مسجد الشجرة وجهتها- مع أنّ مسافة المدينة إلى المسجد هي هذا المقدار- محقّقة للمحاذاة، فلا محالة يقع البيداء عن يمين المسجد أو يساره.
ويستلزم الضابط المذكور أمرين:
الأوّل: عدم تحقّق المحاذاة في أكثر من تسعين درجة من الموقف الواقع على محيط الدائرة من جانب يمين الميقات أو شماله؛ لعدم
إمكان المواجهة في غير ذلك مع مكّة، و
استقبالها مع كون الميقات عن يمينه أو شماله بالخط
المستقيم . الثاني: أنّ الطريق كلّما كان أبعد من الميقات فمحلّ المحاذاة أقرب إلى مكّة، والمسافة الواقعة بينهما أقصر من المسافة بين الميقات ومكّة.
وصرّح بعض الفقهاء بأنّ المدار في تحقّق المحاذاة على
الصدق العرفي لا الدقّة العقلية، وعليه فالمحاذاة العرفية وإن كانت أوسع من المحاذاة العقلية من جهة عدم لزوم وقوع الميقات عن يمين الشخص أو يساره بالخط المستقيم بالدقّة العقلية، إلّا أنّها أضيق منها من جهة أنّ المحاذاة لا تصدق عرفاً إذا كان الموقف بعيداً عن الميقات عرفاً. قال السيد اليزدي- بعد ما تقدّم ذكره عنه-: «إنّ المدار على صدق المحاذاة عرفاً، فلا يكفي إذا كان بعيداً عنه، فيعتبر فيها
المسامتة ».
وقال: «نعم، يكفي الصدق العرفي في جميع ذلك، ولا يعتبر الدقّة العقلية في شيء منه، وكما تتسع القبلة بزيادة البعد ولا تدور على الخط والنقطة، فكذا محاذاة الميقات أيضاً».
ثمّ ذكر أنّه بناءً عليه لا بدّ وأن لا يكون البعد بين الميقات وما يحاذيه مفرطاً يخلّ بصدق
التحاذي عرفاً، ومع البعد المفرط فالأحوط أن يحرم من الميقات إن أمكن، وإلّا فمن ذلك الموضع بعد نذره، ويجدّد التلبية قبل دخول الحرم أيضاً على الأحوط. والدليل عليه أنّ المحاذاة- كسائر المفاهيم العرفية- إذا وردت في لسان
الشارع موضوعاً أو حكماً، فالمراد منها المفهوم العرفي.
وهذا لا يصدق مع البعد المفرط بين الميقات ومحلّ المحاذاة. وممّا يعضد ما ذكر وجوب إحرام
أهل العراق وغيرهم من
وادي العقيق ، مع محاذاتهم- على الظاهر لمسجد الشجرة- قبل وادي العقيق، وليس ذلك إلّا لعدم
الاعتناء بالمحاذاة إذا كانت عن بُعد، وكذا أهل
المغرب و
الشام عند مجيئهم إلى
الجحفة ، فإنّهم يحاذون مسجد الشجرة قبل الجحفة.
وقد يقال إنّ المستفاد من الصحيحة الثانية لابن سنان- المتقدّمة- حدّ معيّن لذلك، وهو لزوم الإحرام من ستّة أميال من الميقات، ومقتضاه أنّه إذا بلغ السير سبعة أميال أو أكثر لا يجوز له الإحرام ولو كان محاذياً، كما إذا سار سبعة أميال بالخط غير المستقيم؛ لأنّ المتفاهم من قوله عليه السلام: «فإذا كان حذاء الشجرة والبيداء مسيرة ستّة أميال فليحرم منها» أنّ للسير بمقدار ستّة أميال خصوصية وموضوعية في الحكم. ولكنّ المستفاد من الصحيحة الاولى له أنّ العبرة بمطلق المحاذاة؛ لقوله عليه السلام: «فليكن إحرامه من مسيرة ستّة أميال، فيكون حذاء الشجرة من البيداء»؛ فإنّ المراد بذلك أنّه إذا سار ستّة أميال فليحرم؛ لمحاذاته الشجرة، فيظهر من ذلك أنّ العبرة بالمحاذاة، وإنّما ذكر التحديد بالسير بمقدار ستّة أميال؛ لأنّه على نحو القضية الشخصية الخارجية، ومن باب
انطباق الكلّي على أحد المصاديق.
ولعلّ وجهه أنّ السير المتعارف في ذلك الزمان كان بالخط المستقيم بمقدار ستّة أميال، فالمستفاد حينئذٍ من الصحيحة أنّه لا عبرة بمسيرة ستّة أميال، بل العبرة بالمحاذاة وإن كان السير أكثر من تلك كسبعة أميال أو ثمانية ونحو ذلك ممّا لا يمنع من رؤية المحاذي له فيما إذا لم يكن مانع وحاجز على سطح
الأرض . نعم، لا عبرة بالمسافة البعيدة كعشرين فرسخاً أو أكثر أو أقل.
ثمّ إنّ هذه الطرق تشترك في كون مدار المحاذاة على تساوي نسبة الموقف والميقات إلى مكّة في الجملة، بينما قال
المحقّق العراقي : إنّه يفهم من صحيحة ابن سنان كون مدار المحاذاة على تساوي نسبة الموقف والميقات بالإضافة إلى المدينة التي هي المخرج، وربما يقتضي ذلك
اختلاف نسبتهما إلى مكّة جزماً.
وذكر غير واحد من الفقهاء أنّه لا فرق في جواز الإحرام من المحاذاة بين
البرّ والبحر،
بل نسب ذلك إلى المشهور،
بل قد يظهر من بعضهم
عدم الخلاف في ذلك إلّا من الحلّي حيث قال: «ميقات أهل مصر ومن صعد البحر جدّة».
وأورد عليه العلّامة الحلّي وغيره
بأنّ الموضع الذي ذكره إن كان يحاذي أحد المواقيت صحّ، وإلّا فلا؛ لعدم وجود شيء من ذلك في الأخبار، فإنّ الوارد في ميقات أهل
مصر الجحفة، ولأهل السند ميقات أهل
البصرة ، فقد ورد عن
علي بن جعفر في الصحيح عن
أخيه موسى عليه السلام أنّه قال: سألته عن إحرام أهل
الكوفة ، وأهل
خراسان وما يليهم، وأهل الشام ومصر من أين هو؟ فقال: «... وأهل الشام ومصر من الجحفة، وأهل اليمن من
يلملم ، وأهل
السند من البصرة، يعني من ميقات أهل البصرة».
بل ذكر بعض الفقهاء المتأخّرين أنّ جدّة ليست محاذية لأحد من المواقيت. قال
المحقّق النائيني : «الظاهر أنّ الموضع الذي يخبر قيّم السفن بأنّه يحاذي يلملم في البحر بين
قمران و
جدّة وإن كان محاذياً له، لكنّه واقع هناك في نفس جهة
القبلة لا على يمين من يستقبلها أو شماله، ومستقبل القبلة ثمّة يستقبل يلملم أيضاً من جهة واحدة بتفاوت يسير لا يضرّ باستقبال القبلة، فمحاذاة يلملم هناك بعينها عبارة اخرى عن
استقبال القبلة ...
وبالجملة: فتقدّم المكان المزبور على الميقات ظاهر، ولا يجوز الإحرام منه بل ولا من جدّة أيضاً إلّا بنذر ونحوه، وإلّا فالظاهر أنّ موضع المحاذاة إنّما هو بين مكّة وجدّة، والمعروف أنّه حدّة- بالحاء المهملة- وكونها أقرب إلى مكّة بكثيرٍ هو الذي يقتضيه بعدها المفرط عن يلملم...لكنّه لا يخلو مع ذلك عن شوائب
الإشكال ، فلو لم يتيسّر المرور على نفس الميقات فالأحوط هو الإحرام من جدّة بعد نذره ثمّ تجديد التلبية في حدّة، وكذا عند الدخول في الحرم».
وكذا قال
السيد الحكيم : «الإشكال فيه من وجهين: أحدهما: أنّ من ركب البحر يحاذي الجحفة إذا كان وارداً من المغرب؛ لأنّها- كما قيل- قرب رابغ، تبعد عن البحر ستّة أميال أو ميلين- على اختلاف- فيكون الراكب في السفن عند توجّهه من رابغ إلى جدّة محاذياً لها، فيجب إحرامه منها قبل جدّة. وإذا كان وارداً من جهة
اليمن كان محاذياً ليلملم عند وصوله إلى الموضع الذي بين قمران وجدّة، فيكون إحرامه هناك كما عليه عمل
الإمامية في الأزمنة الماضية... لكن عرفت الإشكال في ذلك، فإنّ الواصل إلى ذلك المكان إذا توجّه إلى مكّة المكرّمة تكون يلملم بينه وبين مكّة، فيكون مواجهاً لها، لا أنّها عن يمينه أو يساره، كما عرفت أنّه معنى المحاذاة. ومثله الواصل إلى قرب رابغ في البحر، فإنّ الجحفة لا تكون عن يساره إذا توجّه إلى مكّة.
نعم، الواصل إلى الموضع الأوّل في البحر تكون يلملم عن يمينه بلحاظ طريق السفر، وكذا الواصل إلى قرب رابغ تكون الجحفة عن يساره بلحاظ طريق السفر، لكن لا اعتبار بذلك. واجيب عن هذا
الاعتراض بأنّ الملاك في باب المحاذاة هو مجرّد كون المحاذي واقعاً عن يمين الميقات أو يساره في طريق السفر الذي ينتهي إلى مكّة، ويكون المراد الوصول إليها، وهذا لا يفرق فيه بين تحقّق المواجهة المذكورة وعدمه. وبعبارة اخرى: الملاك من ناحية هو الميقات، وكون المحاذاة من جهة اليمين أو اليسار، ومن ناحية اخرى هو طريق السفر الذي يريد طيّه، والمفروض تحقّق المحاذاة من هذه الناحية، فالظاهر صحّة ما استمر العمل عليه من الإحرام في البحر قبل الوصول إلى جدّة من المحاذاة.
وثاني الاشكالين: أنّ جدّة ليست من المواقيت لا نصّاً ولا فتوى، ومحاذاتها ليلملم مشكل من وجهين: أحدهما: ما عرفت من أنّه لا دليل على اعتبار المحاذاة مع البعد. وثانيهما: أنّ الظاهر أنّ يلملم واقعة في جنوب مكّة، وجدّة واقعة في شرق مكّة، فلا تكون محاذية لها، ومن ذلك يشكل البناء على محاذاتها للجحفة لما بينهما من البعد الكثير. نعم، مقتضى بعض الخارطات المصوّرة للحجاز أنّ الواصل إلى قريب جدّة من البحر يكون محاذياً للجحفة على بُعد منها.فإن قلنا بصحّة المحاذاة على بُعد لم يبعد وجوب الإحرام من ذلك الموضع المحاذي قبل جدّة، ولكن عرفت الإشكال فيه».
ولكن قال بعض الفقهاء أنّ النقطة المحاذية للجحفة واقعة في
الجنوب الشرقي من جدّة.
ثمّ إنّ ظاهر بعض الفقهاء كفاية المحاذاة من فوق المواقيت أيضاً، قال
كاشف الغطاء : «إنّ المواقيت بأسرها عبارة عمّا يساوي الأسماء من تخوم
الأرض إلى عنان
السماء ».
وبناءً عليه، فحصول المحاذاة بل الوقوع في الميقات من فوقه واضح، ولذا قال بعض الفقهاء المعاصرين بكفاية الإحرام في الطائرة من فوق الميقات إذا أحرز موضعه وتمكّن من الإحرام فيها؛
وذلك لشمول الأدلّة لذلك، ولا وجه
لانصراف الأدلّة إلى طريق الأرض، وذكر طريق الأرض إنّما هو من باب المثال لا الخصوصية،
وإن ذكر في مناسكه أنّ المحاذاة متعذّرة في
الطائرة ،
قال: «يشكل
الاكتفاء بالمحاذاة من فوق، كالحاصل لمن ركب الطائرة لو فرض
إمكان الإحرام مع حفظ المحاذاة فيها، فلا يترك الاحتياط بعدم الاكتفاء بها».
ثمّ انّه قد اختلفت كلمات الفقهاء في كفاية
الظن بالمحاذاة أو لزوم اعتبار العلم بها:
فقد صرّح غير واحد من الفقهاء، منهم كالشيخ الطوسي والعلّامة الحلّي
بكفاية الظن بحصول المحاذاة، وظاهرهم الاكتفاء به ولو مع إمكان تحقّق العلم.
واستدلّ له بالأصل، ولزوم
الحرج لو قلنا باعتبار العلم، و
انسباق إرادة الظن في أمثال ذلك.
ونوقش فيه بعدم لزوم الحرج في تحصيل العلم بالمحاذاة، والانسباق غير ظاهر، بل خلاف ظاهر أدلّة لزوم الإحرام من الميقات أو محاذيه، فيجب تحصيل العلم بالفراغ عن التكليف المعلوم
اشتغال الذمّة به كما صرّح به أكثر المتأخرين.
وفصّل السيد اليزدي بين صورة إمكان حصول العلم وبين عدم إمكانه حيث قال: «واللازم حصول العلم بالمحاذاة إن أمكن، وإلّا فالظن الحاصل من قول
أهل الخبرة ».
ونوقش بأنّ قول أهل الخبرة إن كان حجّة ومعتبراً شرعاً جاز الاكتفاء به
ابتداءً حتى مع إمكان تحصيل العلم وإلّا لم يجز الاكتفاء به حتى مع عدم إمكان تحصيل العلم.
وناقش المحقّق النائيني في حجّية قول
الجغرافيين بأنّه لا دليل على اعتبار قولهم وإن كان ممّا يوثق بصحّته؛ وذلك لأنّهم لم يعرفوا حقيقة المحاذاة المعتبرة في الشريعة.
واشترط
المحقّق العراقي تحقّق شرائط البيّنة في الظن الحاصل من قول أهل الخبرة.
وظاهر جملة من الفقهاء جواز الأخذ بقول أهل
الاطّلاع مع حصول الظن فضلًا عن الوثوق، بل بقول أهل الخبرة وتعيينهم بالقواعد العلمية مع حصول الظن منه.
قال
السيد الگلبايگاني : «نعم، لو سأل أهل الخبرة عن ذلك وأخبروه بالمحاذاة لا يبعد كونه حجّة مطلقاً حتّى فيما إذا لم يحصل منه العلم أو الظنّ، كما في رواية
معاوية بن عمّار عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «يجزيك إذا لم تعرف
العقيق أن تسأل الناس و
الأعراب عن ذلك»؛
لوضوح أنّ الأخذ بقول أهل الخبرة والاطّلاع في مثل تلك الموارد كان معمولًا بين الناس، وعليه
السيرة المستمرة، كما في الأخذ بالأمارات وقول ذي اليد، لكنّ الاحتياط مع هذا كلّه تحصيل العلم بالحذاء إن أمكن، أو الأخذ بقولهم فيما إذا أفاد الظن، وإن كان الظاهر من الرواية كفاية قولهم مطلقاً».
ثمّ إنّه إذا لم يتمكّن من تحصيل العلم ولا الظن المعتبر- أي الحجة- على المحاذاة وجب عليه الذهاب إلى ميقات آخر أو ميقات أهمّ- على الخلاف المتقدّم فيه- أو ينذر الإحرام من أوّل موضع
احتمال المحاذاة، فإن كان قبل المحاذي صحّ إحرامه بالنذر، وإن كان محاذياً واقعاً صحّ ولو لم يتعلق به النذر، ويمكن أن يحرم احتياطاً من أوّل موضع احتمال المحاذاة ويستمر في النية و
التلبية إلى آخر مواضعه، وبذلك يحرز وقوع الإحرام محاذياً للميقات.
والإشكال عليه: بأنّه يلزم من ذلك الإحرام قبل الميقات وهو لا يجوز.
واجيب عنه: بأنّ حرمة الإحرام قبل الميقات تشريعية لا ذاتية فلا مانع من
الإتيان به رجاءً واحتياطاً؛ لأنّ الحرمة التشريعية لا تنافي الإتيان على نحو الاحتياط والرجاء.
قال المحقّق النائيني: «لو علم بالمحاذاة قبل دخول الحرم، لكن لا يعلم الموضع المحاذي له، فإن حصل له
الاطمئنان من أخبار العارفين بهذه المواضع جاز له
التعويل عليه، وإلّا فالأحوط أن يحرم من ميقات أهله إن أمكنه، وإلّا فمن ميقات آخر. ولو لم يتمكّن من المرور بميقات أصلًا، فالأحوط أن ينذر الإحرام من الموضع الّذي يقطع بعدم المحاذاة قبله، ثمّ الإحرام منه، بل لا يبعد كفاية ذلك عن المرور بالميقات والإحرام منه حتّى مع التمكّن أيضاً وإن كان هو الأحوط. ولو لم يتمكّن من نذر الإحرام على الوجه المذكور أو فاته موقعه فالأحوط أن يلبس ثوبي الإحرام أوّل ما يحتمل فيه المحاذاة، ويكرّر التلبية ناوياً بها الإحرام فيما يحاذي الميقات».
ثمّ إنّه لو تبيّن بعد ذلك تقدّم الإحرام على المحاذاة أو تأخّره عنه فهل يصحّ إحرامه ويجب عليه
الإتمام أم لا؟ الظاهر أنّه لا إشكال في أنّه لو تبيّن تقدّمه قبل تجاوز محلّ المحاذاة أعاد كما صرّح به الشهيدان وغيرهما.
واستدلّ له بتبيّن
بطلان الإحرام لكونه قبل الميقات والمحاذي له، ولا أثر لقيام الحجّة عنده؛
لارتفاع حجّيتها
بانكشاف الخلاف وفعلية التكليف عليه بالإحرام من المحاذي- الذي لم يتجاوزه بعد بحسب الفرض من عمله طبق الحجّة و
الحكم الظاهري - وما جاء به كان قبل وقت العمل فلا مجال للاجتزاء به حتى على القول بإجزاء الحكم الظاهري فضلًا عمّا هو الصحيح من عدم
الإجزاء .
أمّا لو انكشف الخلاف بعد التجاوز عن المحاذي، وعلم أنّ إحرامه كان قبل المحاذي، فإنّ ظاهر
إطلاق الدروس و
المسالك الإعادة لو ظهر التقدّم،
قال الشهيد: «يكفي الظن، فلو تبيّن تقدّمه أعاد»، وظاهر
المدارك التوقّف في المسألة.
ولكن تمسّك المحقّق النجفي بإطلاق قاعدة الإجزاء، واستشكل بذلك على الشهيد، فقال: «بل لا يبعد
الاجتزاء به لو تبيّن فساد ظنّه؛ لقاعدة الإجزاء. نعم، لو تبيّن فساد ظنّه بتقدّم الإحرام على محلّ المحاذاة، وكان لم يتجاوزه أعاد. لكن أطلق في الدروس والمسالك الإعادة لو ظهر التقدّم، وعدمها لو ظهر التأخّر، وهو مشكل إن لم ينزّل على ما ذكرناه؛ لإطلاق قاعدة الإجزاء».
بينما صريح كلام السيد اليزدي عدم الإجزاء حيث قال: «إن تبيّن كونه قبله وقد تجاوز، أو تبيّن كونه بعده، فإن أمكن العود والتجديد تعيّن وإلّا فيكفي في الصورة الثانية، ويجدّد في الاولى في مكانه، والأولى
التجديد مطلقاً»،
وهو مختار المعلّقين على العروة أيضاً؛
وذلك
لبطلان الإحرام الأول؛ لوقوعه قبل المحاذاة، فلا بدّ من العود مع الإمكان وتجديده مع عدم
الإمكان بناءً على أنّه حكم من تجاوز ولا يمكنه العود كما تقدّم، وما ذكر من قاعدة الإجزاء قد عرفت عدم صحتها كبرىً وصغرى.
ولو تبيّن أنّ إحرامه كان بعد تجاوز المحاذاة، فقد أطلق غير واحد من الفقهاء إجزاءه من دون حاجة للرجوع إلى الميقات أو التجديد، قال العلّامة الحلّي: «لو أحرم بغلبة الظن بالمحاذاة، ثمّ علم أنّه قد جاوز ما يحاذيه من الميقات غير محرم،
الأقرب عدم وجوب الرجوع؛ لأنّه فعل ما كلّف به من
اتباع الظنّ، فكان مجزئاً».
وقال
الشهيد الأوّل : «لو تبيّن تأخّره فالظاهر الإجزاء، ولا دم عليه».
وقال الشهيد الثاني: «لو ظهر التأخّر، وأنّه لم يكن محرماً عند محاذاته، فالأقوى عدم وجوب الرجوع؛ لأنّه متعبّد بظنّه»،
ولم يستبعده المحقّق النجفي.
واستدلّ له بقاعدة الإجزاء
والحرج.
أمّا الإجزاء فقد عرفت أنّ الصحيح عدم إجزاء الحكم الظاهري خصوصاً مع إمكان العود والتدارك، وأمّا الحرج فقد تقدّم أنّه لا حرج مع إمكان العود أو الذهاب إلى أحد المواقيت. نعم، مع عدم إمكان ذلك يكون حكمه حكم من تجاوز الميقات أو محاذيه نسياناً، فإنّ العالم أو من له الحجّة على المحاذاة يكون معذوراً كالناسي في تجاوزه، فيصحّ منه إحرامه بعد الميقات إذا لم يتمكّن من العود.
ومن هنا ذهب السيد اليزدي إلى الاكتفاء بإحرامه في هذه الصورة وإن حكم فيها أيضاً
بأولوية التجديد للإحرام في مكانه كما مرّ في عبارته.
وقد نوقش ما اختاره السيد اليزدي من الاكتفاء بالإحرام في الصورة الثانية بأنّه على إطلاقه غير تام، بل لا بدّ من التفصيل بين ما إذا لم يكن قادراً وقت الإحرام على الرجوع واقعاً، فتكون وظيفته الواقعية حال الإحرام عقده من هذا المكان؛ لعدم قدرته على العود واقعاً، فيصحّ إحرامه؛ لكونه قد أتى بوظيفته، ولا حاجة إلى التجديد، وبين ما إذا كان يمكنه الرجوع حال الإحرام وإن تعذّر عليه فعلًا حين
الالتفات وانكشاف الخلاف، فإنّه لا بدّ من تجديد الإحرام من هذا المكان، ولا يكتفي بالإحرام الأول؛ لأنّ الإحرام من غير الميقات إنّما يجوز لمن لا يتمكّن من الرجوع والوصول إلى الميقات، وهذا العنوان غير صادق على هذا الشخص حال الإحرام.
الموسوعة الفقهية، ج۶، ص۴۶۰-۴۷۵.