تلبية من لا يتمكن منها
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لا خلاف في عدم
انعقاد الإحرام إلّا بالتلبية أو ما يقوم مقامها في حجّ التمتّع و
الإفراد وعمرتهما، ومن
شروط التلبية التلفّظ بالصيغة المخصوصة المأثورة للمتمكّن منها أو التلفّظ بما يقوم مقامها، و
تلبية من لا يتمكن منها يأتي البحث عنها فيما يلي.
يجب على
الصبي المميّز الإتيان بالتلبية إذا تمكّن منها، وكذلك سائر ما يتمكّن منه من الأعمال، وما يعجز عن
الإتيان به يتولّاه
الولي من تلبية أو
طواف أو
سعي أو غير ذلك
بلا
خلاف فيه.
ويدلّ عليه بعض الروايات
:
منها: صحيح
ابن الحجّاج ، قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام وكنّا تلك السنة مجاورين وأردنا
الإحرام يوم التروية ، فقلت: إنّ معنا مولوداً صبياً، فقال: «مُروا امّه فلتأت حميدة فلتسألها كيف تفعل بصبيانها» ؟
قال: فأتتها فسألتها، فقالت لها: إذا كان يوم التروية فجرّدوه وغسّلوه كما يجرّد المحرم ثمّ أحرموا عنه، ثمّ قفوا به في المواقف، وإذا كان
يوم النحر فارموا عنه واحلقوا رأسه، ثمّ زوروا به البيت، ثمّ مُروا الخادم أن يطوف به بالبيت وبين
الصفا والمروة ، وإذا لم يكن الهدي فليصم عنه وليّه إذا كان متمتّعاً.
ومنها: صحيح
زرارة عنه عليه السلام: «إذا حجّ الرجل بابنه وهو صغير فإنّه يأمره أن يلبي ويفرض الحجّ، فإن لم يحسن أن يلبّي لبّوا عنه، ويطاف به ويصلّى عنه».
ذهب
الفقهاء إلى أنّ
المغمى عليه يلبّي عنه غيره، والمسألة مبنيّة على انعقاد الإحرام لذوي
الأعذار المتعذّر عليهم
إنشاء الإحرام لمرض واغماء ونحوهما، أو أنّه لا ينعقد عنه لزوال عقله؟
اختار عدّة من الفقهاء- كما تقدّم- أنّه إذا كان مغمى عليه ناب عنه غيره، فحال الإحرام حال الطواف في الوجوب عليه بنفسه أوّلًا، ثمّ
الإطافة به، ثمّ الطواف عنه، فيلبّي عنه غيره.
واستدل له بمرسل
جميل : في مريض أغمي عليه فلم يعقل حتى أتى الوقت، فقال عليه السلام: «يحرم عنه رجل».
والظاهر أنّ المراد أنّه يحرمه رجل ويجنّبه محرّمات الإحرام، إلّا أنّه ينوب عنه في
التلبية ، ومقتضى هذا القول عدم وجوب العود إلى
الميقات بعد
إفاقته وإن كان ممكناً.
ورُدّ بضعف الرواية
بالإرسال ، وعدم
الجابر لها،
مضافاً إلى أنّ ظاهرها
النيابة عنه.
ومن هنا أنكر الحلّي ذلك
فذهب إلى عدم صحّة هذا الإحرام؛ لأنّ
الإغماء أسقط عنه النسك فلا ينعقد بلا إحرام للمغمى عليه لكي يصحّ أن يلبّى عنه. وبناءً عليه إذا أفاق وجب عليه الرجوع إلى الميقات للإحرام منه على تفصيل سيأتي.
لو لم يتمكّن المحرم من التلبية باللفظ الصحيح فهل تجزي
الترجمة ، أو يكتفى بالملحون، أو يجمع بينهما وبين
الاستنابة ؟
۱- ذهب
ابن سعيد الحلّي إلى وجوب الاستنابة عنه، حيث قال: «من لم يتأت له التلبية لبّى عنه غيره»،
وهو يشمل
الأخرس و
الأعجمي الذي لا يقدر على
أداء التلبية صحيحة.
ومال إلى ذلك الشهيد في
الدروس بقوله: «ففي ترجمتها نظر، وروي أنّ غيره يلبّي عنه».
۲- صرّح
السيد العاملي بوجوب الترجمة فقال: «ولو تعذّر على الأعجمي التلبية فالظاهر وجوب الترجمة، وقال في الدروس: وروي أنّ غيره يلبّي عنه»،
وهذا ما يمكن
استفادته أيضاً من مفهوم كلام
العلّامة الحلّي ، فقد صرّح بعدم جواز التلبية بغير
العربية مع
القدرة .
۳- لم يستبعد
الفاضل الهندي دعوى وجوب الجمع بين الترجمة والاستنابة؛ لكون الترجمة كإشارة الأخرس وأوضح، ولكون النيابة ممّا تقبلها أفعال الحجّ،
إضافة إلى أنّ
براءة الذمّة بها.
واحتاط بالجمع أيضاً
المحقّق النراقي .
۴- وصرّح
المحقّق النجفي بأنّه «لا يبعد القول بوجوب ما استطاع من التلبية وإلّا اجتزى بالترجمة التي هي أولى من
إشارة الأخرس، ويحتمل الاستنابة عملًا بخبر زرارة، ولعلّه إلى ذلك أو إلى سقوطها عنه يرجع ما في
التذكرة والمنتهى من أنّها لا تجوز بغير العربية مع القدرة».
وذهب
الإمام الخميني إلى أنّ الأحوط مع عدم التمكّن من الصحيح- ولو تلقيناً- الجمع بين إتيانها بأيّ نحوٍ أمكنه وبين ترجمتها بلغته، وإن كان الأولى مع ذلك الاستنابة أيضاً.
۵- وذهب عدّة من الفقهاء كالسيد اليزدي وأكثر المعلّقين على العروة إلى أنّ
الأحوط الجمع بينها؛
نظراً إلى أنّ مقتضى
قاعدة الميسور الاجتزاء بالملحون، ومقتضى خبر زرارة- الذي ورد فيه: أنّ رجلًا قدم حاجّاً لا يحسن أن يلبّي فاستفتي له أبو عبد اللَّه عليه السلام، «فأمر له أن يلبّى عنه»
- لزوم الاستنابة عنه،
وهي إنّما تجوز في صورة عدم
إمكان التلبية مباشرة، ومع التمكّن من الصحيح مباشرة ولو بالترجمة لا ينتقل
التكليف إلى الاستنابة، مضافاً إلى أنّه موافق
للاشتغال أيضاً فمقتضى الجمع بين الأدلّة هو الاتيان بالملحون والترجمة والاستنابة.
ونوقش فيه: بأنّ خبر زرارة إن كان صحيح السند فلا حاجة حينئذٍ إلى القاعدة، بل تتعيّن الاستنابة، وإن كان ضعيفاً فلا موجب للاستنابة، وأمّا قاعدة الميسور فالبحث فيها مبنائي، فذهب
السيد الخوئي إلى أنّها غير تامة، ولا يمكن
إثبات حكم من الأحكام الشرعية بها.
و
قاعدة الاشتغال لا موضوع لها في المقام؛ لأنّه من الشكّ في التكليف.
۶- يظهر من السيدين الحكيم والخوئي الاجتزاء بالملحون وعدم
إجزاء الترجمة،
كما احتمل السيد الخوئي سقوط الحجّ عنه في تلك السنة حتى يتعلّم، فيجب عليه من قابل إذا لم يقدر على الإتيان بالتلبية ولو ملحوناً، مستدلّاً عليه أوّلًا: بمعتبرة
مسعدة بن صدقة ، قال: سمعت
جعفر بن محمّد يقول: «إنّك قد ترى من المحرم من العجم لا يراد منه ما يراد من العالم الفصيح، وكذلك الأخرس في
القراءة في
الصلاة و
التشهد ، وما أشبه ذلك، فهذا بمنزلة العجم، والمحرم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلم الفصيح...»،
فإنّ المستفاد منها عدم
الاكتفاء بالترجمة عند العجز عن الصحيح، وأنّه يجب على كل مكلّف الإتيان بالقراءة أو التلبية بالعربية من دون وصول النوبة إلى الترجمة مع التمكّن من العربية، فيجب عليه الإتيان بالعربية قدر الإمكان ولو بالملحون؛ لأنّ المراد من العربي:
العارف باللغة، ولا يراد من العجم فيها من لا يتمكّن من أداء الكلمات على النهج الصحيح، وحينئذٍ فلا تسقط عنه القراءة أو التلبية بمجرّد عجزه عن أداء الكلمات صحيحاً؛ إذ لا يراد منه ما يراد من العالم
الفصيح العارف باللغة العربية، فالملحون يقوم مقام الصحيح.
وثانياً: بما ورد في تكليف الأخرس، كرواية
السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «تلبية الأخرس وتشهّده وقراءته
القرآن في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه»،
فإنّ المستفاد منها عدم جواز الاستنابة بالعجز عن أداء الكلمات، فإذا ثبت جواز الاكتفاء بالمقدار الممكن في الأخرس- ولو بتحريك لسانه- ثبت في غيره أيضاً، إذ لا يحتمل سقوط الحجّ أو سقوط التلبية عنه، والمفروض أنّه لا دليل على الاستنابة، فالمأمور بالتلبية نفس الأخرس أو العاجز عن أداء الكلمات الصحيحة، فينتقل الواجب إلى الملحون، فالاكتفاء بالملحون هو
الأقوى ، وإن كان الجمع بينه وبين الاستنابة أحوط.
هذا مع تمكّن الشخص من أداء الكلمات بالعربية ولو ملحوناً، وأمّا لو فرض عدم التمكّن حتى من الملحون دار
الأمر بين الترجمة والاستنابة. وقد يشكل بأنّ هذا الشخص لم يجب عليه الحجّ؛ لأنّه معذور عن أدائه فكيف تجب عليه الترجمة أو الاستنابة مع أنّهما فرع وجوب الحجّ عليه؟ ولذا عليه أن ينتظر إلى العام القابل لكي يتعلّم أداء الكلمات صحيحاً.
وأمّا اللاحن من
أهل اللسان الذي لا يقدر على التلبية صحيحة، بأن يبدّل الحروف أو يغيّر
الإعراب ، فيظهر ممّا تقدّم مع حذف الترجمة من وظيفته، فإمّا يجب عليه ما استطاع، أو هو مع الاستنابة.
المشهور
انعقاد الإحرام للأخرس، لكنّه بحاجة- مضافاً إلى عقد قلبه بها- إلى مبرز، وهو تحريك لسانه والإشارة
بإصبعه ،
ولكن صرّح بعضهم بكفاية أحدهما.
وأمّا الدليل على لزوم عقد قلبه بالتلبية، فلأنّ تحريك اللّسان أو الإشارة لا يتميّز كونه تلبية، ولا يتحقّق مسمّاها بدون عقد القلب؛ إذ المراد منه تحريكه بعنوان
الحكاية عمّا يحكيه لفظ التلبية لا مجرّد التحريك أو الإشارة،
ولعلّه لذا لم يذكره الأكثر،
ولم يرد في الخبر أيضاً.
وقال
الشهيد الأوّل : «الأخرس يعقد قلبه بها ويحرّك لسانه ويشير بإصبعه».
ولكن هل يكفي ذلك في الانعقاد أو تجب عليه- مضافاً إلى ما تقدّم- الاستنابة؟
المحكي عن
ابن الجنيد لزوم الجمع حيث قال: «يجزيه تحريك لسانه مع عقده إيّاها بقلبه- ثمّ قال-: ويلبّي عن الصبي والأخرس وعن المغمى عليه»،
ويظهر منه وجوب الاستنابة للأخرس،
وجعله في
الرياض أحوط.
ويدلّ عليه خبر زرارة: أنّ رجلًا قدم حاجّاً لا يحسن أن يلبّي، فاستفتي له أبو عبد اللَّه عليه السلام، فأمر أن يلبّى عنه.
هذا، مضافاً إلى أنّ أفعال الحجّ والعمرة تقبل النيابة ولا تبرأ الذمّة عنها يقيناً ما لم يوقعها بنفسه أو بنائبه، وكما يجب تحريك لسانه يجب عليه التلفّظ بها، فيوقع الأوّل بنفسه، والثاني بنائبه.
ثمّ إنّ الفاضل الهندي ذكر بعد ما تقدّم من
الاستدلال بأنّه «لا دلالة لكلامه ولا للخبر على الاجتزاء بالتلبية عنه، وعدم وجوب الإشارة ليخالف الخبر الأوّل وعمل
الأصحاب به، بل الأولى الجمع بين الأمرين».
ونوقش فيه: أوّلًا: في سند الرواية. وثانياً: في
الدلالة بمخالفتها لما عليه الأصحاب ولما سيأتي من خبر السكوني الذي هو المعوّل عليه عندهم هنا وفي الصلاة. وثالثاً: بكونها قضية في واقعة، فيحتمل الورود في غير المسألة، بل الظاهر منها ورودها في الأعجمي الذي يمكنه التكلّم لكنّه لا يحسن العربية، والأخرس غير قادر لا أنّه غير محسن لها.
ويحتمل أيضاً أن تكون الإشارة للأخرس الذي يعرف التلبية والنيابة عن
الأصم الأبكم الذي لا يسمعها ولا يعرفها، فلا يمكنه الإشارة،
ولعلّ هذا هو مراد ابن الجنيد.
ولذا ذهب عدّة من الفقهاء إلى كفاية ذلك وعدم إجزاء الاستنابة؛ لتمكّنه من الإتيان بها على الهيئة الواجبة عليه بالمباشرة، ولا يسقط الميسور بالمعسور،
مضافاً إلى ما ورد في كفاية تلبية الأخرس بتحريك اللسان والإشارة
كرواية السكوني عن جعفر بن محمّد عليه السلام أنّ
عليّاً عليه السلام قال: «تلبية الأخرس وتشهّده وقراءة القرآن في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه».
وهذا ما صرّح به كثير من الفقهاء، وذهب إليه عدّة من المعاصرين
كالسيد اليزدي حيث قال: «الأخرس يشير إليها بإصبعه مع تحريك لسانه، والأولى أن يجمع بينهما وبين الاستنابة»،
ووافقه المعلّقون على
العروة .
الموسوعة الفقهية، ج۶،ص۴۱۲-۴۱۸.