الإرادة (الفقهيّة)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هي
القصد والمشيئة وتأتي بمعنى عقد
النفس على
قضية معينة.
تأتي الإرادة في
اللغة بمعانٍ متعددة هي:
المشيئة،
يقال: أراد
الشيء:شاءه.
وفرّق بعض بينهما بأنّ الإرادة أخصّ من المشيئة؛ لأنّ المشيئة
ابتداء العزم، فإنّك ربّما شئت شيئاً ولا تريده؛
لمانع عقلي أو
شرعي.
وقد استعمل
الفقهاء لفظ الإرادة تارة في
المعنى اللغوي، وهو المشيئة. واخرى:بمعنى
قصد المعنى. وثالثة: بمعنى
الرضا وطيب النفس. ورابعة: بمعنى
النيّة والداعي. وخامسة: بمعنى
الاختيار والسلطنة حسب اختلاف مواطن
البحث الفقهي والاصولي والكلامي، إلّا أنّ هذا ليس من جهة
اصطلاح خاص من قبلهم في ذلك.
هناك العديد من الألفاظ التي لها نحو شبه بمصطلح الإرادة، نذكرها فيما يلي، مشيرين إلى وجه
التشابه والافتراق بينها وبين
المصطلح الأصلي:
وقد عرّفت- كما تقدّم- بالإرادة؛ لاتّفاقهما في
رجحان جانب
المراد على غيره. لكن فرّق بينهما تارة بأنّ الإرادة تكون لما يتراخى
وقته ولما لا يتراخى، والمشيئة لما لم يتراخَ وقته فقط.
واخرى بأنّ الإرادة أخصّ من المشيئة؛
لأنّ المشيئة ابتداء العزم على الفعل، نسبتها إلى الإرادة نسبة
الضعف إلى
القوّة،
والظنّ إلى
الجزم، وأمّا الإرادة فمتى حصلت صدر الفعل لا محالة.
وثالثة بأنّ المشيئة من اللَّه تقتضي وجود الشيء، والإرادة منه لا تقتضي وجود المراد لا محالة.
ولعلّ
الوجه فيه أنّ الإرادة لا تختصّ بفعل المريد بخلاف المشيئة.
ورابعة بأنّ المشيئة قبل الإرادة؛
إذ المشيئة بالنسبة إلينا هي
الميل الأوّل بعد حصول
العلم بالشيء، والإرادة هي الميل الثاني
القريب بعد أن تنشطت
النفس إلى فعله، وصمّمت على
إيجاده.
وخامسة بأنّ المشيئة في أصل اللغة الإيجاد، والإرادة
طلب الشيء.
تقدّم تعريف الإرادة بهما؛ لاتّفاقهما معها في ميل النفس
واشتياقها إلى المراد.
لكن فرّق بين الإرادة
والمحبّة بأنّ المحبّة أخصّ من الإرادة
وأبلغ منها؛ لأنّها إرادة ما تراه أو تظنّه خيراً؛ ولذلك تكون على ثلاثة أوجه: محبّة
لذّة، ومحبّة
نفع، ومحبّة
فضل.
فهي تتعلّق
بالأعيان لصفاتها، والإرادة تتعلّق بها لا لذلك.
ولذلك فكلّ محبّة إرادة، وليس كلّ إرادة محبّة،
بل قيل بعدم تعلّق الإرادة بالأعيان أصلًا.
وقيل: المحبّة ليست من
جنس الإرادة؛ لأنّها من جنس ميل الطبع، والإرادة من جنس
الابتغاء والطلب.
وفرّق بينها وبين
الرغبة بأنّ ضدّ الرغبة
الرهبة، وضدّ الإرادة بهذا المعنى
الكراهة.
وبأنّ الرغبة السعة في الإرادة،
فالإرادة أعمّ منها، وبأنّ الرغبة من
مبادئ الإرادة، والإرادة
متأخّرة عنها.
لكنّ
المقصود بالإرادة حينئذٍ قد يكون معناها الآخر أي العزم أو إعمال
السلطنة.
وهو ابتغاء الشيء
أو
محاولة وجوده،
فهو يلتقي مع الإرادة في كونه
ابتغاءً للشيء، ويختلف عنها في أنّ الإرادة ابتغاء نفسي، إمّا بمعنى الحبّ والشوق، أو بمعنى العزم والقصد وإعمال السلطنة، والأوّل ليس بفعل، بل انفعال نفساني، والثاني وإن كان فعلًا لكنّه
فعل نفساني أيضاً، بخلاف الطلب الذي هو
فعل خارجي معناه
السعي نحو المقصود، والإرادة من مبادئه.
كما فرّق بينهما بأنّ الإرادة قد تكون
مضمرة لا ظاهرة، والطلب لا يكون إلّا لما بدا بفعل أو قول.
وهو
التوجّه والاعتزام،
ويستعمل في
الذهن ويراد به طلب المعنى، وفي
الخارج ويراد به طلب
المكان والشيء، فيوافق الإرادة من هذه
الجهة، ولذلك قيل في تعريفه: هو عبارة عن الإرادة
المنبعثة عن تصوّر
الغاية المرتّبة على الفعل الداعية إلى فعله.
لكن فرّق بينهما:
تارة بأنّ القصد إرادة الفعل حال إيجاده فقط، فإذا تقدّمت الإرادة الفعل بأوقات لم يسمَّ قصداً، فلا يقال: قصدت أن أزورك
غداً.
لكن أنكر بعض
اعتبار المقارنة في القصد.
واخرى بأنّ قصد
القاصد يختصّ بفعله دون فعل غيره بخلاف الإرادة؛ فإنّها لا تختصّ بأيٍّ منهما.
لكن لعلّ المراد منها حينئذٍ الإرادة بمعنى الحبّ، فإنّها لا تختصّ بفعل القاصد أو غيره.
وثالثة بأنّ القصد يتعلّق بالأعيان دون الإرادة، فلا تتعلّق بها؛ إذ تقول: قصدتُ زيداً، ولا تقول: أردته إلّا بنحو من
العناية.
عرّف
العزم بأنّه إرادة يقطع بها المريد رؤيته في
الإقدام على الفعل أو
الإحجام عنه،
ففرقه عن الإرادة في أنّها
مطلقة، وهو إرادة بعد تردّد.
لكن أنكر بعض فقهائنا ذلك،
وأنّها لا تختصّ بفعل المريد، بخلاف العزم الذي يختصّ بفعل العازم.
كما فرّق بينهما بأنّ الإرادة مرتبة دون
الهمّ والعزم، والعزم فوقها، حيث ذكر أنّ الدواعي على مراتب:
السانح، ثمّ
الخاطر، ثمّ
الفكر، ثمّ الإرادة، ثمّ الهمّ، ثمّ العزم.
ويظهر من بعض فقهائنا أنّ الإرادة
مرحلة تأتي بعد العزم لا أنّها هو،
وهذا اصطلاح آخر غير ما ذكر.
وهي لغة بمعنى القصد والعزم،
فتلتقي مع الإرادة من هذه الجهة. ولكن قد تطلق النيّة على الداعي
والغاية، أو وجه العمل، فتختلف عن الإرادة.
ومعناه
الاصطفاء والانتخاب،
وهو يلازم الإرادة. وقد يطلق في كلمات الفقهاء على الإرادة. لكن فرّق بينهما بأنّ الاختيار إرادة الشيء
بدلًا من غيره ولا يكون مع
خطورالمختار وغيره
بالبال ويكون إرادة للفعل لم يخطر بالبال غيره، وأصل الاختيار
الخير، فالمختار هو المريد لخير الشيئين في
الحقيقة أو خير الشيئين عند نفسه من غير إلجاء
واضطرار، ولو اضطرّ
الإنسان إلى إرادة شيء لم يسمّى مختاراً له؛ لأنّ الاختيار خلاف الاضطرار.
وهو
الرغبة، وطيب النفس بالفعل
الصادر من
الغير. وقد يطلق على الإرادة.
قال
السيد المرتضى: «
الرضا: إرادة لم يلجأ إليها صاحبها يتابعها وقوع مرادها».
وقال
السيد الخوئي: «إنّ المراد من الرضا المذكور في
الآية أي قوله تعالى «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»
... هو طيب النفس لا الرضا بمعنى القصد والإرادة أو الملازم لهما، فإنّ ما هو شرط
لصحة التجارة هو الأوّل، أمّا الثاني فإنّه مقوّم
للعقد».
والفرق بين الرضا والإرادة أنّ إرادة
الطاعة تكون قبلها والرضا بها يكون بعدها أو معها، فليس الرضا من الإرادة في شيء.
تتعلّق بالإرادة بحوث متنوعة وعديدة في كل من
علم الأصول والفقه.
أمّا في علم الاصول فقد وقع
البحث فيه عن الإرادة في مواطن عديدة، كما أنّه قسّمت الإرادة في كل موطن منها بتقسيمات مختلفة ترتبط بذلك
الموطن وذلك البحث، نشير إلى أهمّها فيما يلي:
۱- فبمناسبة البحث عن
دلالات الألفاظ وظواهر ا
لخطابات الشرعية وقع البحث عن أقسام الإرادة بمعنى قصد المعنى من اللفظ، وبلحاظها قسّمت إلى
الإرادة الاستعمالية وهي قصد إخطار ما يدلّ عليه اللفظ بالوضع أو
بالقرينة إلى ذهن
السامع،
والإرادة الجدّية وهي قصد ما يكشف عنه اللفظ من المراد النهائي من قصد
الإخبار والحكاية أو
الإنشاء. وقد وقع البحث في علم الاصول عن تفاصيل كلّ قسم وأحكامه واختلاف أحواله وحالات
التعارض بين تلك الأحوال. كما وقع البحث عند الاصوليّين في تبعيّة
الدلالة للإرادة وعدمها.
۲- وبمناسبة البحث عن شرائط
التكليف والطلب وقع البحث عن
دور الإرادة بمعنى الاختيار على الفعل
والترك في صحة تكليف
العباد ودور الاختيار في
الأحكام العقلية العملية (التحسين والتقبيح العقليّين). كما وقع البحث عن حقيقة الإرادة بمعنى الاختيار، وهو البحث المعروف
بالجبر والاختيار في
علم الكلام.
۳- وبمناسبة البحث عن
الأمر مادّة وصيغة ودلالتهما على الطلب وقع البحث عن الإرادة وفرقها عن الطلب، وقسّمت الإرادة بمعنى الطلب إلى
إرادة تشريعية وهي الطلب من الغير،
وإرادة تكوينيّة وهي طلب المريد لفعل نفسه.
۴- وبمناسبة البحث عن وجوب مقدمة
الواجب وعدمه وقع البحث عن الملازمة بين إرادة شيء وإرادة مقدّماته، وقسّمت الإرادة بمعنى المشيئة أو الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك
العضلات إلى الإرادة النفسية، والإرادة الغيريّة أو
التبعيّة، وأحكام كلّ منها.
۵- وبمناسبة البحث عن وجوب
المركبات الشرعية وقع البحث عن تقسيم الإرادة إلى الاستقلالية، والضمنية، وأحكام كلّ منها.
۶- وبمناسبة البحث عن إطلاق الأمر بلحاظ متعلّقه المقتضي للتوصّلية وقع البحث عن إمكان أخذ الإرادة بمعنى قصد الأمر في متعلّق الأمر وعدمه، وإمكان تعلّق الإرادة بالإرادة وعدمه.
۷- وبمناسبة البحث عن
الواجب المطلق والواجب المشروط وقع البحث عن إمكان الاشتراط في الإرادة وعدمه، فقسّمت الإرادة إلى المطلقة والمشروطة، والمعنى المعقول للإرادة المشروطة. إلى غير ذلك من البحوث الاصولية المتعلّقة بالإرادة، والتي يطلب تفصيلها من علم الاصول.
وأمّا في الفقه فقد وقع البحث فيه عن الإرادة ضمن أبواب مختلفة، نشير إلى أهمّها:
۱- ففي أبواب
العقود والإيقاعات يبحث عن شرطية الإرادة بمعنى القصد أو
الالتزام بالمضمون المعاملي في صحّة
المعاملة بل انعقادها، كما أنّه قسّمت إلى الإرادة الظاهرة وهي إنشاء العقد أو
الإيقاع وإبرازه، والإرادة الباطنة وهي الالتزام أو القصد الجدّي لمضمون العقد أو الإيقاع.
كما وقع البحث عمّن له أهليّة الإرادة ومن يكون
مسلوب الإرادة،
كالصبيّ والمجنون.
كما وقع البحث عن حكم
الترديد أو
الإبهام أو
التعليق في الإرادة والقصد المعاملي وبتبعيّة العقود للقصود، أي إرادة المتعاقدين وقصدهما.
۲- وبمناسبة البحث عن شروط صحة العقود والإيقاعات وقع البحث عن شرطيّة الإرادة فيها بمعنى طيب النفس وعدم الإكراه، فلا تصحّ المعاملة إذا وقعت عن إكراه. وهذا معنى آخر للإرادة غير
القصد أو
المشيئة.
۳- وفي
العبادات يقع البحث عن شرطية الإرادة بمعنى قصد الفعل العبادي وشرطية
قصد القربة بمعنى الداعي الالهي أو قصد
الامتثال، وهو معنى ثالث للإرادة غير المعنيين المتقدّمين، فلا تصحّ العبادة بدون إرادة
الفعل العبادي أو بدون قصد القربة.
۴- ويبحث في
أبواب الخلل والمبطلات للعبادات عن اشتراط وقوع الفعل المبطل عن إرادة بمعنى اختيار أو توجّه، فلا يكون
السهو أو
النسيان، بل والجهل في بعض الحالات مبطلًا للعبادة، ولا موجباً لترتّب
القضاء أو
الكفّارة، وهذا أيضاً معنى آخر أوسع من القصد.
۵- وفي شرائط التكليف يبحث عن اشتراط الإرادة بمعنى الاختيار
والقدرة على الفعل والترك في صحّة التكليف، فلا تكليف للعاجز. وكذلك يقع البحث عن شرطية الاختيارية في صحّة الامتثال، فلا يجتزئ بالفعل الصادر عن اضطرار كحركة يد
المرتعش.
۶- وفي بحث
الجريمة والعقوبة يبحث عن شرطية الإرادة بمعنى الاختيار وركنيّته في
المسئولية وتحقّق الجريمة وفي ترتّب
العقوبة، فلا مسئوليّة ولا عقوبة على العمل الصادر من دون اختيار. وتفصيل كلّ هذه البحوث يطلب من محالّها.
الموسوعة الفقهية ج۸، ص۳۴۰-۳۴۶.