الإنفاق
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو مصدر أنفق، يقال: أنفق الرجل، إذا افتقر وذهب ماله، يستعمل لفظ الإنفاق في كلمات
الفقهاء بمعنى صرف المال، بغضّ النظر عن حكمه والضوابط المأخوذة فيه، فكلّ صرف للمال يكون إنفاقاً له، في الحلال كان ذلك الصرف أم في الحرام، واجباً كان أم مستحبّاً، خاصّاً كان هذا المال أو من الأموال العامّة، على جهة خاصّة كان الصرف أو كان على عموم الناس.
إنفاق: مصدر أنفق، يقال: أنفق الرجل، إذا افتقر وذهب ماله، ومنه: قوله تعالى: «إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ»،
وهو من نفق بمعنى نفد، يقال: نفق الزاد ينفق نفقاً، أي نفد.
وإنفاق المال صرفه، ومنه: قوله سبحانه وتعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ»
أي أنفقوا في
سبيل الله وأطعموا وتصدّقوا، والنفقة: ما انفق، والجمع نفاق.
يستعمل لفظ الإنفاق في كلمات
الفقهاء بمعنى صرف المال، بغضّ النظر عن حكمه والضوابط المأخوذة فيه، فكلّ صرف للمال يكون إنفاقاً له، في الحلال كان ذلك الصرف أم في الحرام، واجباً كان أم مستحبّاً، خاصّاً كان هذا المال أو من الأموال العامّة، على جهة خاصّة كان الصرف أو كان على عموم الناس.
نعم، الأغلب
استعماله في صرف المال على من تجب
النفقة عليهم من النفس والزوجة والأقارب والمملوك.
اسم مصدر من الإنفاق، وهو- لغة-
الإخراج ، وشرعاً: ما يلزم المرء صرفه لمن عليه مؤونته من زوجته أو قنّه أو دابّته. وكذا ما يفرض للزوجة على زوجها من مال للطعام والكساء والسكنى و
الحضانة ونحوها.
والفرق بينهما أنّ الإنفاق
إعطاء المال والنفقة اسم لما ينفقه.
وهو إعطاء الطعام لمن يتناوله، وهو أخصّ مطلقاً من الإنفاق.
وهي المال الذي يخرجه
الإنسان على وجه القربة،
والإنفاق هو إخراج المال عن الملك،
والفرق بينهما أنّ الإنفاق أعمّ من
الصدقة مطلقاً.
يختلف حكم الإنفاق باختلاف موارده، فقد يكون واجباً كما في الإنفاق على واجبي النفقة، وقد يكون محرّماً كما في إنفاق المال في المحرمات والآثام، وكذا قد يتّصف بالاستحباب والكراهة و
الإباحة كما ستقرأ، وتفصيل ذلك فيما يلي:
قد يكون الإنفاق واجباً على المكلّف بلحاظ نفسه والحفاظ عليها، وقد يكون واجباً عليه بلحاظ زوجته وحقّها من النفقة، أو بلحاظ
الأقارب - كالأب والامّ والأولاد- إذا كانوا معسرين، أو بلحاظ ما يملك من الرقيق والحيوان. وقد يجب الإنفاق بلحاظ الوظيفة والتكليف المالي الشرعي،
كأداء الزكاة و
الخمس والنذور، وما يجب عليه من الإنفاق ضمن التكاليف الشرعيّة، كنفقة الحجّ و
الاضحيّة الواجبة ونحوها. وأحياناً قد يجب الإنفاق بعنوان آخر غير ما تقدّم من العناوين، كما هو في حفظ النفس المحترمة من الهلاك والتلف، وهذا من الواجبات الكفائيّة التي تجب على آحاد الناس من القادرين على الإنفاق مع تعرّض النفس المحترمة لخطر الهلاك. ويسقط هذا الوجوب عن الباقين بقيام بعض المكلّفين به.
والكلام في الإنفاق الواجب يقع ضمن العناوين التالية:
لا إشكال في وجوب إنفاق الإنسان على نفسه لأجل حفظها من الضرر أو التلف، بل يعتبر هذا الإنفاق مقدّماً على سائر وجوه الإنفاق الاخرى؛
لاهتمام الشارع بحفظ النفس. قال
الشهيد الثاني : «إذا اجتمع على الشخص الواحد محتاجون يلزمه الإنفاق عليهم، فإن وفى ماله أو كسبه بنفقتهم فعليه نفقة الجميع، وإن لم يفِ بالكلّ ابتدأ بنفقة نفسه؛ لأنّ نفقته مقدّمة على جميع الحقوق من الديون وغيرها من أموال المعاوضات».
وقال
المحقّق النجفي : «نفقة النفس مقدّمة على نفقة الزوجة عند
التعارض بلا خلاف ولا إشكال؛
لأهمّية النفس عند الشارع».
يجب الإنفاق على الزوجة والأقارب كما تقدّم، وذكر الفقهاء أنّه لا فرق في
استحقاق الزوجة للنفقة بين كونها مسلمة أو ذمّية، و
حرّة أو
أمة .
كما ذكروا أنّ المراد من
الأقارب الذين تجب نفقتهم هم:
الأبوان والأولاد،
كما أنّ المعروف بينهم دخول الأجداد والجدّات في الوالدين؛ لصدق العنوان عليهم، وأولاد الأولاد في الأولاد لنفس السبب.
وتعرّض الفقهاء أيضاً في الإنفاق الواجب لنفقة المملوك من الإنسان والحيوان.
وتفصيل ذلك مقداراً وشروطاً وأحكاماً وغير ذلك في مصطلح (نفقة).
من الإنفاق الواجب ما يؤدّيه المكلّف ويدفعه من أموال كحقّ أوجبته الشريعة في بعض أمواله ليصرف للفقراء والمحتاجين وفي سبيل اللَّه، وغير ذلك من المصارف كالزكاة والخمس والكفّارات وغير ذلك من الضرائب الشرعيّة، سواء كان ذلك على نحو
الإلزام أم
الاستحباب ، طبق الضوابط والشرائط التي أخذها الشارع في ذلك. والتفصيل في محلّه.
وكذا ما يجب على المكلّف من الإنفاقات ضمن التكليف الشرعي كوجوب الإنفاق لتحصيل المقدّمة لأداء التكليف، مثل: شراء الماء للوضوء مع القدرة عليه، أو ما يبذله من مال في نفقة الحجّ وتحصيل
الراحلة والزاد والوصول إلى المواقيت والمشاعر المقدّسة، وغير ذلك.
صرّح الفقهاء بوجوب
إنقاذ النفس المحترمة من الهلاك وحفظها عن التلف إذا تعرّضت إلى ما يسبّب لها ذلك،
كما إذا تعرّضت للهلاك بسبب الجوع أو العطش، فيجب على من يملك الطعام أو الماء دفعه إلى المضطرّ لسدّ حاجته ورفع اضطراره وإنقاذه من الهلاك، إذا لم يكن هو مضطرّاً إليه. وقيل في وجهه: إنّ
الامتناع عنه بمثابة
الإعانة على قتل
المسلم ، وقد ورد عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء
يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة اللَّه».
وهذا الوجوب على الكفاية يسقط عن الباقين إذا قام البعض به، ويصير عينيّاً مع
الانحصار . ونقل عن البعض القول بعدم الوجوب.
واستدلّ له بوجوه:
منها:
أصالة عدم وجوب الإنفاق. ومنها: عدم كون الامتناع عن الإنفاق لإنقاذ النفس المحترمة عن التلف إعانة على القتل. ومنها: عدم وجوب حفظ نفس الغير مطلقاً.
وأجاب المحقّق النجفي بأنّ وجوب حفظ النفس المحترمة من الامور المفروغ عنها، حيث قال: «لا يخفى عليك ما في ذلك كلّه؛ ضرورة المفروغيّة عن وجوب حفظ نفس
المؤمن المحترمة، وربّما يشهد لذلك ما تقدّم في النفقات التي أوجبوها على الناس كفاية على العاجز، مضافاً إلى النصوص الدالّة على المواساة وغيرها، بل لعلّه من الامور التي استغنت بضرورتها عن الدليل المخصوص».
نعم، قد يأتي الكلام- على القول بوجوب الإنفاق لإنقاذ النفس المحترمة- في أنّ هذا الإنفاق هل هو مجّاني أم يكون مقابلًا بعوض تشتغل به ذمّة المنفق عليه؟ وهذا بحث في الحكم الوضعي لهذا النوع من الإنفاق، بمعنى أنّ المنفق عليه هل يكون ضامناً للمال الذي أكله اضطراراً أو للمال الذي انفق عليه لأجل إنقاذ حياته؟ وقد يفصّل القول في ذلك بين من يكون قادراً على دفع الثمن أو غير قادر، وتمام الكلام في هذا البحث تقدّم في محلّه.
الكلام في الإنفاق على
الأمانة يأتي ضمن عدّة فروض، بعد الفراغ من وجوب حفظها مطلقاً، سواء كانت من ذوات الأنفس المحترمة أم لا، وسواء كانت على وجه
الأمانة المالكيّة أم
الأمانة الشرعيّة ، وهي كالتالي:
أ- أن يكون مالك الأمانة مستعدّاً لدفع نفقتها، فلا كلام في هذه الصورة، بل يؤخذ منه مقدار ما ينفق عليها
الأمين أو غيره، وهذا إنّما يتصور في الأمانة المالكيّة.
ب- أن يكون هناك متبرّع يتعهّد بدفع نفقة الأمانة، فهنا كالأوّل لا كلام في أنّه يؤخذ من المتبرّع مقدار ما ينفق على الأمانة.
ج- أن يمتنع مالك الأمانة عن الإنفاق مع عدم
إمكان جبره أو يتعذّر الوصول إليه أو تكون الأمانة شرعية ولم يكن متبرّع في البين، فهنا يجب الإنفاق على الأمانة، والمخاطب بالإنفاق في هذه الحال قد يكون نفس الأمين، كما في الرهن، فقد تجب نفقة الرهن على المرتهن مع الرجوع، وقد يظهر من بعضهم تقييده بعدم التمكّن من الحاكم، وإلّا وجب الرجوع إليه و
الاستئذان منه.
هذا في الأمانة المالكية كالرهن، وأمّا في الأمانة الشرعية كاللقيط فمع عدم المال له وعدم المتبرّع ينفق عليه من بيت المال، ومع عدمه يكون واجباً على المسلمين وجوباً كفائياً. قال المحقّق النجفي: «وإذا وجد الملتقط سلطاناً ينفق عليه استعان به وجوباً مع عدم مال للّقيط ولا متبرّع بلا خلاف أجده فيه بين القدماء والمتأخّرين- إلى أن قال-: فإلّا يكن سلطان كذلك ولم يوجد من ينفق عليه من الزكاة أو ما اعدّ لمثله، أو ما كان يصحّ صرفه فيه استعان بالمسلمين الذين منهم
الملتقط بلا خلاف أجده فيه أيضاً».
ويختلف الحكم في الرجوع على المالك بما انفق على الأمانة، حيث قيّد بعضهم جواز الرجوع
بالإشهاد على الإنفاق. قال
الشهيد الأوّل : «ونفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، فإن أنفق تبرّعاً فلا رجوع، وإن كان بإذن الراهن أو الحاكم عند تعذّره أو أشهد عند تعذّر الحاكم رجع بها على الراهن».
وقد منع ذلك لتعسّره أو تعذّره، فالأمين مصدّق بمقدار ما أنفقه، وفي دعوى نيّة الرجوع.
وتفصيل الكلام فيها في محلّه.
لا خلاف بين الفقهاء في وجوب ردّ الغاصب العين المغصوبة ما دامت باقية، بل هو ممّا أجمعوا عليه.
وهذا يستلزم حفظها من التلف، فإذا استلزم الحفظ الإنفاق عليها وجب ذلك على الغاصب. ومن الواضح أنّ جميع ما ينفقه الغاصب على المغصوب يدفعه من كيسه، وليس له الرجوع على المالك؛ وذلك لأنّ يد الغاصب يد عدوانيّة فتكون ضامنة للعين المغصوبة بمقتضى قاعدة اليد.
ويمكن أن يستدلّ عليه بقول
الإمام الصادق عليه السلام في صحيحة أبي ولّاد الحنّاط عندما سأله عمّا أنفق على الدابّة التي اكتراها وخالف في ركوبها أكثر ممّا اتّفق عليه، حيث قال: فقلت: جعلت فداك، قد علفته بدراهم، فلي عليه علفه؟ فقال: «لا؛ لأنّك غاصب...»،
وتمام الكلام وتفصيله في مصطلح (غصب).
أكّد الشارع المقدّس تأكيداً شديداً على الإنفاق في سبيل اللَّه، حيث جاءت آيات كثيرة في فضل الإنفاق في سبيل اللَّه: منها: قوله سبحانه وتعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».
ومنها: قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِنَ
الْأَرْضِ ».
ومنها: قوله تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».
وجاء في السنّة الكثير في الحثّ على الصدقة والإنفاق في سبيل اللَّه وفضله وما للمنفق في سبيل اللَّه تعالى من
أجر : منها: ما رواه
سماعة بن مهران عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «ثلاث من أتى اللَّه بواحدة منهنّ أوجب اللَّه له الجنّة: الإنفاق من
الإقتار ...».
ومنها: رواية
إسماعيل بن أبي زياد عنه عليه السلام أيضاً قال: «قال
رسول صلى الله عليه وآله وسلم : الأيدي ثلاثة: سائلة ومنفقة...».
ومنها: رواية
حسين بن أبتر عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «يا حسين، أنفق وأيقن بالخلف من اللَّه، فإنّه لم يبخل عبد ولا أمة بنفقة فيما يُرضي اللَّه إلّاأنفق أضعافها فيما يسخط اللَّه عزّوجلّ».
ومنها: ما رواه
معاوية بن وهب عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «من يضمن أربعة بأربعة أبيات في الجنّة: أنفق ولا تخف فقراً، وأنصف الناس من نفسك، وأفشِ السلام على العالم، واترك
المراء وإن كنت محقّاً».
ومنها: ما رواه
معاوية بن عمّار ، قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «كان في وصيّة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم
لأمير المؤمنين عليه السلام : ... وأمّا الصدقة فجهدك جهدك حتى تقول: قد أسرفت، ولم تسرف».
ومنها: رواية
سالم بن أبي حفصة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه يقول: ما من شيء إلّاوقد وكّلت به من يقبضه غيري، إلّا الصدقة فإنّي أتلقّفها بيدي تلقّفاً، حتى أنّ الرجل ليتصدّق بالتمرة أو بشقّ تمرة فاربّيها له كما يُربّي الرجل فلوه وفصيله، فيأتي يوم القيامة وهو مثل احد وأعظم من احد».
وعلى أيّة حال، فالحديث حول الإنفاق المستحبّ يقع في عدّة نقاط نذكرها- إجمالًا- فيما يلي:
بيّنت الشريعة المقدّسة وجوه الإنفاق المستحبّ التي يتعلّق بعضها بنفس المنفق، ويتعلّق الآخر بالإنفاق على الآخرين، وهي ما يلي:
حثّت الشريعة على الإنفاق فيما يصلح
البدن ويزيّنه. ومن هذا القبيل الإنفاق في الطيب، فقد رواه
إسحاق الطويل العطّار عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يُنفق في الطيب أكثر ممّا يُنفق في
الطعام ».
وما رواه
محمّد بن الوليد الكرماني ، قال: قلت
لأبي جعفر الثاني عليه السلام : ما تقول في المسك؟ فقال: «إنّ أبي أمر فعمل له مسك في بان (البان: دهن طيب يوخذ من حب شجر البان وهو شجر معتدل القوام ورقه لين كورق الصفصاف. ) بسبعمئة درهم...».
ومنه أيضاً: الإنفاق في
الخضاب والزينة، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «نفقة درهم في الخضاب أفضل من نفقة درهم في سبيل اللَّه...».
والذي يظهر من هذه الروايات شدّة التأكيد على الإنفاق فيما يطيّب البدن ويصلحه، بل يظهر منها أنّه لا
إسراف في ذلك، بل ذلك ما ورد صريحاً في قول الإمام الصادق عليه السلام: «... ليس فيما أصلح البدن إسراف...».
وقد وردت في هذا الباب روايات كثيرة عن
أهل البيت عليهم السلام ، كرواية
ابن أبي يعفور عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: ما من نفقة أحبّ إلى اللَّه عزّوجلّ من نفقة قصد، ويبغض الإسراف إلّا في الحجّ والعمرة...».
ولا شكّ في أنّ المراد في الحج والعمرة المستحبّين أو في الواجب لكن يستحبّ الإنفاق زائداً على النفقة الواجبة وإلّا فهو واجب.
وهذا أيضاً ممّا تضافرت فيه الروايات عن أهل البيت عليهم السلام، ففي رواية
أبان عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: «من أتى قبر أبي عبد اللَّه عليه السلام فقد وصل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ووصلنا وحرمت غيبته، وحرم لحمه على النار، وأعطاه اللَّه بكلّ درهم أنفقه عشرة آلاف مدينة له في كتاب محفوظ، وكان اللَّه له من وراء حوائجه...».
وفي حديث
هشام بن سالم عنه عليه السلام أيضاً: أنّ رجلًا قال له: هل يزار والدك؟ قال: «نعم، ويُصلّى عنده...»، قال: فما للمنفق في خروجه إليه والمنفق عنده؟ قال: «الدرهم بألف درهم».
فقد ورد في رواية: سُئل أمير المؤمنين عليه السلام عن النفقة في الجهاد إذا لزم أو استحبّ، فقال: «أمّا إذا لزم الجهاد بأن لا يكون بإزاء الكافرين من ينوب عن سائر المسلمين فالنفقة هناك الدرهم بسبعمئة ألف، فأمّا المستحبّ الذي هو قصد الرجل وقد ناب عليه من سبعة واستغنى عنه، فالدرهم بسبعمئة حسنة، كلّ حسنة خيرٌ من الدنيا وما فيها مئة ألف مرّة».
وفي رواية الإمام عن
علي عليه السلام : «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا علي، النفقة على الخيل المرتبطة في سبيل اللَّه هي النفقة التي قال اللَّه تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً»
».
لا تجب النفقة على غير العمودين من
الأرحام ولكن تستحبّ؛ لأنّها من
صلة الرحم المندوب إليها في الشريعة، وصلة الرحم تتحقّق بغير المال، وتتحقّق به، بل ربما قيل بأنّ القدر المخرج عن
اسم القطيعة واجب،
والأخبار في فضل الصدقة على الرحم أكثر من أن تحصى:
منها: ما ورد أنّه سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أيّ الصدقة أفضل؟ فقال: «على ذي الرحم
الكاشح (الكاشِح: الذي يضمر لك العداوة. )
».
ومنها: ما رواه جابر عن
الإمام الباقر عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: من وصل قريباً بحجّة أو عمرة كتب اللَّه له حجّتين وعمرتين، وكذلك من حمل عن حميم يضاعف اللَّه له الأجر ضعفين».
قال المحقّق النجفي: «وتستحبّ العطيّة لذي الرحم وإن لم يكن فقيراً بلا خلاف ولا إشكال في شيء من ذلك، وتتأكّد في الوالد والولد اللذين هم أولى من غيرهم من الأرحام؛ لأنّها من صلة الرحم المعلوم ندبها كتاباً وسنّة وإجماعاً، بل لعلّه من الضروري».
وذهب بعضهم إلى وجوبها بالمال إذا كان محتاجاً لا تندفع حاجته إلّابه وكان تركها موجباً لدخوله في القطيعة.
قال
الشهيد الثاني : «إنّما تستحبّ عطيّة الرحم حيث لا يكون محتاجاً إليها بحيث لا تندفع حاجته بدونها، وإلّا وجبت كفايةً إن تحقّقت صلة الرحم بدونها، وإلّا وجبت عيناً؛ لأنّ صلة الرحم واجبة عيناً على رحمه، وليس المراد منها مجرّد
الاجتماع البدني، بل ما تصدق معه الصلة عرفاً، وقد يتوقّف ذلك على المعونة بالمال حيث يكون الرحم محتاجاً والآخر غنيّاً لا يضرّه بذل ذلك القدر الموصول به».
وقال
السيّد اليزدي : «تستحبّ العطيّة للأرحام خصوصاً الأولاد؛ لأنّها من صلة الرحم المستحبّ بالإجماع والأخبار، بل قد تجب كما إذا كان الرحم محتاجاً، وكان تركها موجباً لدخوله في عنوان قطع الرحم».
يستحبّ الإنفاق في قضاء حوائج المؤمنين وبرّهم، وقد وردت في ذلك أخبار كثيرة:
منها: ما رواه
عبد اللَّه بن سليمان النوفلي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «يا عبد اللَّه... وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أغاث لهفاناً من المؤمنين أغاثه اللَّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، وآمنه يوم الفزع الأكبر وآمنه من سوء المنقلب، ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى اللَّه له حوائج كثيرة من إحداها الجنّة، ومن كسا أخاه المؤمن من عري كساه اللَّه من سندس الجنّة واستبرقها وحريرها، ولم يزل يخوض في رضوان اللَّه ما دام على المكسوّ منها سلك، ومن أطعم أخاه من جوع أطعمه اللَّه من طيّبات الجنّة، ومن سقاه من ظمأ سقاه اللَّه من
الرحيق المختوم ريّه...»
.
ومن أفضل هذا الإنفاق الإنفاق على ذرّية النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: أنا شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاؤوا بذنوب
أهل الدنيا: رجل نصر ذرّيتي، ورجل بذل ماله لذرّيتي عند الضيق، ورجل أحبّ ذرّيتي باللسان والقلب، ورجل سعى في حوائج ذرّيتي إذا طردوا أو شرّدوا».
كما ورد الحثّ أيضاً- مضافاً إلى ما تقدّم- على الإنفاق في وجوه
البرّ الاخرى للإخوان كالهدية و
الهبة والوقف على المؤمنين ونحو ذلك.
ففي الهدية ورد عن
السكوني عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «نعم الشيء الهدية أمام الحاجة»، وقال: «تهادوا تحابّوا، فإنّ
الهدية تذهب بالضغائن».
وغير ذلك من الروايات.
من الشرائط المأخوذة في الإنفاقات المستحبّة ما يلي:
قال اللَّه تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».
وجاء في معنى الآية أنّه تعالى يحذّر المؤمنين من أن يقرنوا صدقاتهم التي يؤدّونها بما يبطلها ويحبط أجرها، ومثّل بالمرائي، فهو يبطل إنفاقه ويحبط أجره بهذا الإنفاق الذي لا يريد به رضى اللَّه تعالى ولا ثواب الآخرة. وقد اعتبر الفقهاء في الصدقة قصد القربة؛ لقول الإمام الصادق عليه السلام: «لا صدقة ولا عتق إلّاما
اريد به وجه اللَّه عزّوجلّ».
فلو نوى المتصدّق بفعله
الرياء بطل؛ للأخبار الدالّة على أنّ الرياء يوجب
بطلان العمل الذي يعتبر فيه قصد القربة،
فإنّ العمدة في قبول العمل بعد رعاية أركانه وأجزائه النيّة الخالصة، كما قال اللَّه تعالى: «فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً».
وقد قيل بأنّ المراد بالنيّة الصادقة والخالصة
انبعاث القلب نحو الطاعة غير ملحوظ فيه شيء سوى وجه اللَّه سبحانه، فمن يتصدّق بحضور الناس لغرض الثواب والثناء معاً بحيث لو كان منفرداً لم يبعثه مجرّد الثواب على الإنفاق والصدقة وإن كان يعلم من نفسه أنّه لولا الرغبة في الثواب لم يبعثه مجرّد الرياء على الإعطاء،
فهذا
الأمر يخلّ بصدق النيّة.
وقد صرّح البعض بأنّ الأخبار التي وردت في الرياء محمولة على ما إذا لم يرد به إلّا الخلق، وأمّا ما ورد في الشركة فهو محمول على ما إذا كان قصد الرياء مساوياً لقصد الثواب أو أغلب منه، أمّا إذا كان ضعيفاً
بالإضافة إليه فلا يحبط بالكلّية ثواب الصدقة وسائر الأعمال.
وكذا إذا اقترن الإنفاق بالمنّ و
الأذى فإنّه يؤدّي إلى
إحباط العمل وعدم الأجر عليه؛ ولذلك عبّرت عنه الآية بالبطلان.
والمنّ: أن يرى المعطي نفسه محسناً، والأذى: التعيير والتوبيخ والقول السيّء والعبوس و
الاستخدام وهتك الستر و
الاستخفاف ، وسببه
استكثار العطاء والتكبّر على القابض الناشئان من الجهل برجحان رضى اللَّه تعالى على القدر الخسيس الذي أعطاه، ونسيان فضل الفقير في
إيصال المعطي إلى الثواب و
الإنجاء عن العقاب، فلابدّ من
الاجتناب عن المنّ والأذى و
إيقاع الفعل خالصاً لوجه اللَّه الكريم.
في الوقت الذي حثّ الشارع المقدّس على الإنفاق في وجوه البرّ والخير وندب إليه، نرى أنّه نهى عن الإسراف نهياً شديداً، وذمّ المسرفين، حيث قال تعالى: «وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَايُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»،
فيقع الكلام في شمول هذا النهي الإسراف في الإنفاق المندوب وعدمه: ففي بعض آيات الكتاب الكريم نرى أنّه تعالى جعل عدم الإسراف في الإنفاق من علائم
عباد الرحمن ، فقال: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً»،
وقوله: «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَايُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».
وذكر المفسّرون أنّ المراد من الحقّ هنا الصدقة المستحبّة لا الواجبة؛ لأنّ الواجبة محدّدة ومعيّنة، وليس في دفع المعيّن إسراف.
وكذا في الأخبار، كخبر
ابن أبي نصر عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن قول اللَّه تعالى «وَآتُوا...» قال: «كان أبي يقول: من الإسراف في الحصاد والجذاذ أن يصدّق الرجل بكفّيه جميعاً، وكان
أبي إذا حضر شيئاً من هذا فرأى أحداً من غلمانه يتصدّق بكفّيه صاح به: إعط بيد واحدة، القبضة بعد القبضة، والضغث (الضغث: قبضة حشيش مختلط رطبها بيابسها. )
بعد الضغث من السنبل».
فالذي يظهر من هذه النصوص أنّ الإسراف منهيّ عنه حتى في العطاء والإنفاق المندوب إليه في الشريعة. من هنا ذهب بعضهم إلى صدق الإسراف في وجوه البرّ والصدقة المستحبّة، فإذا بلغ الإنفاق المستحبّ وصرف المال المستحبّ إلى الحدّ الذي يعتبره العرف العام إسرافاً يجب الكفّ عنه.
وقد يستدلّ ببعض الأخبار الواردة عن المعصومين عليهم السلام في تأييد هذا الاتّجاه:
منها: ما رواه
عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام في قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً»
فبسط كفّه وفرّق أصابعه وحناها شيئاً... وقال: «القوام ما يخرج من بين الأصابع ويبقى في الراحة منه شيء».
ومنها: قول الإمام الصادق عليه السلام أيضاً في صحيح
الوليد بن صبيح حيث تصدّق على ثلاثة من السؤّال ثمّ ردّ الرابع وقال: «أنّ رجلًا كان له مال يبلغ ثلاثين أو أربعين ألف درهم، ثمّ شاء أن لا يُبقي منها إلّا وضعها في حقّ لفعل، فيبقى لا مال له فيكون من الثلاثة الذين يردّ دعاؤهم»، قلت: من هم؟ قال: «أحدهم رجل كان له مال فأنفقه في وجهه، ثمّ قال: يا ربّ، ارزقني، فيقال له: ألم أجعل لك سبيلًا إلى طلب الرزق؟!».
ومنها: خبر ابن أبي نصر عن أبي عبد اللَّه عليه السلام المتقدّم. وفي قبال هذا هناك اتّجاه يذهب إلى عدم صدق الإسراف مهما بلغ صرف المال في وجهه.
قال الشهيد الثاني- في مقام تعريف السفيه وأنّه من يصرف ماله في الأغراض غير الصحيحة-: «وأمّا صرفه في وجوه الخير كالصدقات وبناء المساجد والمدارس و
إقراء الضيف، فإن كان لائقاً به عادة لم يكن سفيهاً قطعاً، وإن زاد على ذلك فالمشهور أنّه كذلك؛ إذ لا سرف في الخير، كما لا خير في السرف».
وقال
السيّد الخوئي في مقام بيان المؤونة المستثناة من الخمس: «فلو صرف أحد جميع وارداته بعد
إعاشة نفسه وعائلته في سبيل اللَّه ذخراً لآخرته ولينتفع به بعد موته كان ذلك من الصرف في المؤونة؛
لاحتياج الكلّ إلى الجنّة، ولا يُعدّ ذلك من
الإسراف أو
التبذير بوجه بعد أمر الشارع المقدّس بذلك، وكيف يعدّ الصرف في الصدقة أو العمرة ولو في كلّ شهر، أو زيارة (الإمام)
الحسين عليه السلام كلّ ليلة جمعة أو في زياراته المخصوصة من التفريط والخروج عن الشأن بعد حثّ الشريعة المقدّسة المسلمين عليها حثّاً بليغاً؟!».
وقد تقدّم ذكر بعض الروايات التي تؤيّد هذا الاتّجاه، منها: رواية معاوية ابن عمّار، قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «كان في وصية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: «... وأمّا الصدقة فجهدك جهدك حتى تقول: قد أسرفت ولم تسرف».
والحاصل: أنّ آيات الكتاب الكريم وأخبار المعصومين عليهم السلام في الإنفاق المستحبّ وصرف المال في وجوه البرّ مختلفة، فهناك آيات تؤكّد على
الإيثار كقوله تعالى: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»،
وقد مدح اللَّه تعالى أهل البيت عليهم السلام في سورة الدهر حينما آثروا
المسكين واليتيم و
الأسير على أنفسهم مع كونهم صائمين وفي أشدّ الحاجة إلى الطعام.
ففي التفاسير أنّ عليّاً عليه السلام استقرض من يهودي ثلاثة أصوع من الشعير وطحنت
فاطمة عليها السلام كلّ ليلة صاعاً وخبزت خمسة أقراص بعددهم، فأنفقوها وما ذاقوا إلّا الماء في ثلاث ليال، وفي النهار كانوا صائمين، فنزلت فيهم الآيات الكريمة من سورة الدهر بما فيها من المدح العظيم من اللَّه لما صنعوا.
وقال
الشيخ الطبرسي : «وهي (أي الآيات) جارية في كلّ مؤمن فعل ذلك للَّه عزّوجلّ».
ومن جهة اخرى تؤكّد بعض الآيات على فضل
الاقتصاد في الإنفاق وتحثّ عليه، كقوله تعالى: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً».
وذكر
العلّامة الحلّي بأنّها صريحة في النهي عن صرف المال في وجوه الخيرات والصدقات على حدّ يتجاوز حاله.
وقال
المحقّق الأردبيلي ردّاً على قول العلّامة في
التذكرة : «ودليله ليس بتام، على أنّه لو كان الدليل تامّاً لدلّ على كون مثل ذلك إسرافاً بالنسبة إلى كلّ أحد، فيمكن كونه خاصّاً به عليه السلام في ذلك الوقت ونحوه، وإلّا يلزم المنع من الإيثار الذي دلّت على ذلك الأخبار والآيات».
وقد يقال بأنّ الإسراف لا يصدق بلحاظ نفس الإنفاق، بل بلحاظ كيفيته أو مزاحماته، كما إذا كان الأجدر والأولى حفظ المال لغرض شرعي أهم وأولى، فتوصيف الإنفاق بالإسراف ليس بلحاظ نفسه، بل بلحاظ خصوصياته ومزاجاته ونحو ذلك، فلا تعارض بين الآيات والروايات من هذه الناحية.
قد يكون الإنفاق محرّماً، وذلك إذا كان مورده أو مصدر المال أو الصفة التي عليها محظوراً عند الشارع، وهي جهات متعدّدة:
۱- اتّصافه بما هو محظور وحرام- تجاوز الحدّ في الإنفاق- بنحو يوجب
إفساد المال وتضييعه من دون غرض عقلائي، وهو ممّا لا إشكال في حرمته، بل ادّعي
الإجماع عليها، بل والضرورة من المذهب أو الدين.
وقد استدلّ على حرمة الإسراف والتبذير بآيات من
الكتاب الكريم ، كقوله تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»،
وقوله تعالى: «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ».
وتقدّم أنّ اللَّه تعالى ذكر في سورة الفرقان من علامات عباد الرحمن عدم الإسراف حتى في الإنفاق المطلوب، وهو قوله تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً»،
والقوام: هو العدل الذي هو الوسط، ومعنى الإسراف في صرف المال هو مجاوزة الحدّ فيه. وقد تقدّم نقل بعض الأخبار الناهية عنه، ونضيف إليها هنا رواية
داود الرقّي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إنّ القصد أمر يحبّه اللَّه عزّوجلّ، وإنّ السرف أمر يبغضه اللَّه عزّوجلّ، حتى طرحك النواة فإنّها تصلح لشيء، وحتى صبّك فضل شرابك».
ورواية
مسعدة بن صدقة عنه عليه السلام أيضاً حيث جاء فيها: «... ورجل رزقه (عزّوجلّ) مالًا كثيراً فأنفقه، ثمّ أقبل يدعو... فيقول اللَّه عزّوجلّ: ألم أرزقك رزقاً واسعاً فهلّا اقتصدت فيه كما أمرتك، ولم تسرف وقد نهيتك عن الإسراف؟».
وبعض هذه الأخبار وإن لم يفد أزيد من المرجوحيّة وحسن الترك، إلّاأنّ الذي يدلّ على الحرمة هو النهي الصريح الوارد في الآيات العديدة وفي بعض الأخبار، والتصريح ببغضه سبحانه له في بعض آخر، وقد عدّه بعض الفقهاء من الكبائر.
قال
المحقّق النراقي في بيان المراد من الإسراف في المال: «إنّ مقتضى كلام اللغويين والمفسّرين أنّ الإسراف في المال والإنفاق إمّا مجاوزة الحدّ مطلقاً، أو المجاوزة الخاصّة، أي الإنفاق في المعصية. وظهر أيضاً أنّه لا شكّ في كون الثاني إسرافاً، إمّا لخصوصيّة، أو لكونه فرداً منه، وادّعى العلّامة في التذكرة الإجماع على كونه من الإسراف، وظاهره إجماع الامّة».
۲- الإنفاق في المعاصي والمحرّمات التي نهى اللَّه سبحانه عنها كشرب الخمور، والإنفاق على
آلات اللهو و
القمار ونحو ذلك، أو إنفاق المال لصالح أعداء الدين أو تقويتهم، أو لتشجيع
الباطل وهجاء المؤمنين وغيره، قال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ».
ومن هذا القبيل أيضاً إعطاء الرشوة في الحكم، ولعلّ حرمة الرشوة من أبده ضروريات الدين ومجمع عليها بين المسلمين.
ويدلّ عليها من الكتاب الكريم قوله تعالى: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»،
فالآية الكريمة تضع العمل بمجموعه- ومنه تقديم
الرشوة - مورد
التشنيع و
الإنكار .
والتفصيل في محلّه.
والظاهر أنّ
السحت هو كلّ ما لا يحلّ كسبه، كما يظهر من كلمات اللغويين،
فلا يطلق إلّاعلى ما انتقل إلى
الإنسان على وجه محرّم، فيشمل كلّ ما يؤخذ بالبيوع و
الإجارات الفاسدة وغيرهما، خصوصاً مال المقامرة والربا. وتدلّ عليه الروايات:
منها: صحيح
محمّد بن يحيى ، قال: كتب
محمّد بن الحسن إلى
أبي محمّد الحسن العسكري عليه السلام ... فوقّع عليه السلام: «لا خير في شيء أصله حرام، ولا يحلّ استعماله»،
ومنها: مرسلة
ابن أبي عمير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: في قول اللَّه عزّوجلّ: «وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً»،
قال: «إن كانت أعمالهم لأشدّ بياضاً من القباطي، (
القباطي : ثياب بيض رقاق من كتّان، تعمل بمصر. )
فيقول اللَّه عزّوجلّ لها: كوني هباءً، وذلك أنّهم كانوا إذا شرع لهم الحرام أخذوه».
ومنها: رواية
داود الصرمي ، قال: قال أبو الحسن عليه السلام: «يا داود، إنّ الحرام لا ينمي، وإن نما لم يبارك له فيه، وما أنفقه لم يؤجر عليه، وما خلّفه كان زاده إلى النار».
۴- الإنفاق من مال الغير من دون رضاه؛ لأنّ التصرّف في مال الغير من دون رضاه محرّم تكليفاً. ولا فرق بين أن يكون صاحب المال قريباً من المتصرّف أو أجنبيّاً، حتى الوالد بالنسبة إلى الإنفاق من مال ولده وإن ورد في بعض الأخبار ما يدلّ على الجواز، كما في صحيح
سعيد بن يسار ، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: الرجل يحجّ من مال ابنه وهو صغير؟ قال: «نعم، يحجّ منه حجّة الإسلام»، قلت: وينفق منه؟ قال: «نعم»، ثمّ قال: «إنّ مال الولد لوالده، إنّ رجلًا اختصم هو ووالده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقضى أنّ المال والولد للوالد».
وأفتى بعضهم بجوازه،
إلّاأنّ المشهور ضعّفه، وأفتوا بعدم الجواز؛
للأصل، أي القاعدة المستفادة من العمومات الدالّة على عدم جواز تصرّف أحد في مال غيره إلّا بإذنه ،
وطيب نفسه،
و
قاعدة السلطنة المستفادة من قوله عليه السلام: «الناس مسلّطون على أموالهم».
وغير ذلك من العمومات الشاملة للوالد والولد. وكذا الأخبار الخاصّة الواردة في منع تصرّف الوالد في مال ولده إلّامع الحاجة، أو مع الضرورة، أو
الاضطرار من غير سرف ولا تبذير.
وبذلك تكون الأخبار الدالّة على جواز أخذ الوالد من مال ولده وتصرّفه فيه ساقطة عن الحجّية. وتفصيل ذلك في محالّه من مصطلح (أب، ابن).
ومن موارد ومصاديق الإنفاق من مال الغير بغير رضاه الإنفاق من المال المغصوب، وهو المال الذي يستولي عليه من لا يملكه بغير
إذن من المالك أو الشارع، مهما كانت أسباب
الاستيلاء من سرقة أو نهب أو خيانة وغيرها. فلا يجوز الإنفاق من المال المغصوب حتى لو كان في الحجّ والعمرة أو الصدقة وغيرها من القربات، فقد روى
أبان بن عثمان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «أربعة لا يجزن في أربعة: الخيانة والغلول والسرقة والربا، لا يجزن في حجّ ولا عمرة ولا جهاد ولا صدقة»،
مضافاً إلى العمومات التي تشمل المال المغصوب، كقول
صاحب الزمان عليه السلام : «لا يحلّ لأحدٍ أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه».
الموسوعة الفقهية، ج۱۸، ص۲۹۳-۳۱۲.